Sharh Luma'at al-I'tiqad - Yusuf al-Ghafis
شرح لمعة الاعتقاد - يوسف الغفيص
اصناف
مسميات الإيمان في الكتاب والسنة
قال الموفق ﵀: [قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة:٥] فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة كله من الدين].
قد يقول قائل: إن هذه الآية ليس فيها ذكر لاسم الإيمان، وإنما فيها ذكر لاسم الدين.
قيل: هذه الآية كثر استدلال السلف بها على مسمى الإيمان؛ وذلك من جهة أن الدين إذا أطلق يراد به الإيمان، ومن الممتنع أن يكون الدين تمامه ليس بتمام الإيمان.
وهذه الآية إنما ذكروها؛ لأن فيها ذكرًا لإخلاص القلب، وذكرًا للأعمال الظاهرة والباطنة، ومن هنا يقال: إن استدلال السلف ﵏ -في سائر مسائل أصول الدين عامة، وفي هذا الأصل بوجه خاص -هو من باب التنوع في الاستدلال؛ ولهذا فإن ذكر اسم الإيمان في الكتاب والسنة هو ذكر متعدد من جهة السياقات ومرادات المعاني.
قال شيخ الإسلام ﵀: "الاسم الواحد يثبت وينفى بحسب السياق المقارن له، قال: والإيمان استعمل مطلقًا واستعمل مقيدًا".
مثلًا: قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون:١] وبعدها أوصاف ظاهرة وباطنة، كما وصف الله المؤمنين في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال:٢] وهذا عمل القلب، ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا﴾ [الأنفال:٢] أي: زادتهم تصديقًا في القلب، وزادتهم إيمانًا في أعمالهم أيضًا، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:٢] وهذا في القلب ..
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [الأنفال:٣] وهذه هي أعمال الجوارح.
إذًا: قد يذكر الله الإيمان ويدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والأقوال الظاهرة والباطنة، وهذا الإيمان المطلق في كتاب الله هو الإيمان الواجب.
وأحيانًا يذكر اسم الإيمان على التصديق اللازم للدخول في الدين، وإن كان صاحبه مقصرًا في الزكاة أو الصلاة أو في كثير من الواجبات، ومع ذلك يذكر هذا الاسم؛ كقوله تعالى في كفارة القتل: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء:٩٢] ولا يراد بالرقبة المؤمنة هنا الذي ذكره الله في أول سورة (المؤمنون)، أنه لا بد أن يكون خاشعًا، معرضًا عن الجهل
إلخ.
ولو كان المعتَق فاسقًا فإنه يصح عتقه بالإجماع، مع أن الله يقول: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: محققة لأصل الإيمان، وإن كانت قد تكون مقصرةً في واجباته التي لا تخالف أو لا تسقط أصلًا.
وهذه قاعدة مهمة في معرفة الأسماء؛ لأن غلط الغالطين حتى من أهل السنة المتأخرين والمعاصرين في مسائل التكفير وغيرها، تراهم يجدون استعمالًا في كتاب الله فيجعلونه مطردًا عامًا، مع أن ثمة استعمالات في القرآن قد تعارض هذا الاستعمال في الظاهر، والصواب: أنه ليس بين القرآن تعارض أبدًا، ولا يمكن أن يكون ذلك؛ لأن الله يقول: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:٨٢] فيمتنع أن يكون فيه اختلاف وهو كلامه ﷾.
كما أنك تجد ذلك في كلام الرسول ﷺ، ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (قسم النبي ﷺ قسمًا -أي: مالًا- فقلت: يا رسول الله! أعط فلانًا فإنه مؤمن قال: أو مسلم.
أقولها ثلاثًا ويردها علي ثلاثًا: أو مسلم، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار) فالنبي ﷺ منع سعدًا أن يسمي هذا الرجل مؤمنًا، مع أن الرجل عنده أصل الإيمان، وإلا لما زكاه سعد.
وفي قصة الجارية حين قال لها النبي ﷺ: (أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها فإنها مؤمنة) فالنبي ﷺ سمى الجارية مؤمنة، مع أن الجارية إنما أجابت جوابين: أن الله في السماء، وأن محمدًا رسول الله، والرجل الذي زكاه سعد يؤمن بأن الله في السماء، وأن محمدًا رسول الله، ولو كان لا يؤمن برسول الله ولا يؤمن بأن الله في السماء، فلا يجوز أن يسمى مسلمًا.
إذًا: الذي جعل الرسول ﵊ يمنع سعدًا من إطلاق اسم الإيمان على هذا الرجل، وقد أعطاه الجارية، يقال: إن إيمانها أقل من إيمان الرجل الذي ذكره سعد، فإن ظاهر الحال أن هذا الرجل كان من القاصدين إلى الخير والمعروفين به حتى زكاه سعد ولم يزك غيره، ولأن المقام في قصة سعد مقام ثناء ومدح، وإذا ذكر الثناء والمدح فلا يُثنى ولا يمدح إلا من بان استمامه لواجبات الإيمان، وإذا ذكر مقام الأحكام الدنيوية كالعتق والميراث والولاية ونحو ذلك فإن ذلك الشخص يسمى مؤمنًا.
ولهذا فإن كل من كان مسلمًا حقًا فإنه لا بد أن يكون مؤمنًا، فإن الناس أحد ثلاثة: إما مؤمن ظاهرًا وباطنًا، وإما كافر ظاهرًا وباطنًا، وإما المنافق المسلم في الظاهر والكافر في الباطن، والله يقول: ﴿قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات:١٤] فهم إذا أسلموا حقًا لا بد أن يكون معهم أصل الإيمان؛ لأنهم إن عدموا الإيمان كفروا.
إذًا: لماذا قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات:١٤] وقال: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ [الحجرات:١٤]؟ لأن الأعراب قالوا هذا من باب التزكية، والثناء، والإيمان كتحقيق ليس سهلًا، ليس كل من قال الإسلام وصدق به يكون محققًا للإيمان، فإن الدين طبقات ودرجات؛ ولذلك فإن كل شخص من المسلمين مهما كثرت جرائره وكبائره وعظائمه مادام أن معه أصل التوحيد والإسلام يسمى مسلمًا، ويسمى فاسقًا لما معه من الفسق، وهل يسمى مؤمنًا أو لا يسمى؟
قيل: فيه تفصيل ففي مقام الدعوة والمخاطبة بالحق يسمى مسلمًا، وفي مقام أحكام الدنيا كالزواج والمواريث والعتاق ونحوها يسمى مؤمنًا، ولا غضاضة في ذلك؛ لأن معه أصل الإيمان، أما ما يقرره بعض متأخري أهل السنة حين يقولون: الفاسق صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنًا بحال ..
فهذا غلط، بل يجوز تسميته مؤمنًا في مقامات، ألا ترون أن الله يقول في القرآن: (يأيها الذين آمنوا) كثيرًا، يخاطب به سائر المسلمين من بر وفاجر، ولما ذكر الله الاصطفاء العام قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر:٣٢] المصطفون من هم؟ قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر:٣٢].
وعليه: إذا قيل: أصحاب الكبائر أيُّ الأسماء هي الأصل فيهم؟
نقول: العصاة من أهل الكبائر الأصل فيهم أنهم يسمون مسلمين، وهذا هو الغالب على المسلمين، وإلا يلزم على هذا أن يفسق جماهير المسلمين؛ لأنه لا يسلم أحد من ارتكاب كبيرة، ولذلك فإنما الله سمى عباده والذين يتبعون أنبياءه سماهم مسلمين كما قال تعالى: ﴿هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج:٧٨] فالإسلام هو اسم أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سواءً كانوا أهل كبائر أو غير أهل كبائر، ولكن إذا أريد ذكر كبيرته أو إسقاط ما أوجبت الشريعة إسقاطه كإسقاط ولاية بعض العصاة، قيل: هذا سقطت ولايته لكونه فاسقًا، وهو لا يتناسب أن تقول: سقطت ولايته لكونه مسلمًا؛ لأنه تضاد في الترتيب.
فإذًا: إذا أريد بيان ما عند الرجل من المعصية بأن اقتضت المصلحة والسياق ذلك سمي فاسقًا، وإذا اقتضت المصلحة والسياق في مقامٍ آخر سمي مؤمنًا؛ وإذا أريد الأصل العام في التسمية قيل: الأصل العام هو الإسلام، ولذلك ما يتداوله البعض كثيرًا: الفساق ..
والفساق، فهذا ليس عدلًا، ولا انضباطًا على السنن والآثار المذكورة في كتاب الله، وأنت لا ترى في كتاب الله ذكر الفسق في الغالب إلا ويراد به الكفر، وإن كان أحيانًا يستعمل في ما دون ذلك، كقوله: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ [الحجرات:٦] فسمي فاسقًا لأن المقام يستدعيه؛ ولهذا لو أن شخصًا كذب على شخص وأراد الآخر تنزيه نفسه أو تنزيه غيره عن هذا الكذب يقول لمن حدث بهذا الكلام: الذي جاءك بهذا الكلام رجل فاسق، وهذا المقام مناسب، أما أنه لا يُعرف إلا بهذا الاسم فهذا ليس بصحيح، بل العدل والسنة أنه يسمى مسلمًا؛ لأن هذا هو الأصل فيه؛ ولأن ما عنده من الحسنات أعظم مما عنده من السيئات قطعًا، ولأن حسنة التوحيد أجل من سائر ما عنده من السيئات والمعاصي.
فعليه: يكون اسم الإيمان يستعمل في مقام، والفسق في مقام، والإسلام في مقام هو الأصل فيه.
10 / 5