شرح الإلمام بأحاديث الأحكام
تأليف
الإمام المجتهد ابن دقيق العيد
أبي الفتح تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري المصري (٦٢٥ هـ - ٧٠٢ هـ)
«يطبع لأول مرة كاملا محققا على ثلاث نسخ خطية»
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد خلوف العبد الله
دار النوادر
نامعلوم صفحہ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
شَرْحُ الإلْمَامِ
مقدمة / 3
جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة
الطَّبْعَةُ الأُولَى
مِن إِصْدَارَاتِ
وَزَارَة الشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالأَوْقَافِ وَالدَّعْوَةَ وَالإِرْشَادِ
المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
الطَّبْعَةُ الثَّانِيَة
مِنْ إِصْدَارَاتِ
دَارُ النَّوَادِرِ
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
دَارُ النَّوَادِرِ
لصاحبها ومديرها العام
نُورِ الدِّين طَالِب
سوريا - دمَشق - ص. ب: ٢٤٣٠٦
لبنان - بيروت - ص. ب: ٥١٨٠/ ١٤
هاتف: ٠٠٩٦٣١١٢٢٢٧٠٠١ - فاكس: ٠٠٩٦٣١١٢٢٢٧٠١١
www.daralnawader.com
مقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، وسيئات أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أمّا بعد:
فإن كتاب "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للإمام المجتهد المجدِّد ابن دقيق العيد ﵀ لا نظير له في الكتب المصنَّفة في الأحكام الجامعة بين الحلال والحرام، حتى قال عنه: أنا جازم أنه ما وُضِعَ في هذا الفنِّ مثلُه (١).
وهو القائل أيضًا: ما وقفتُ على كتاب من كتب الحديث وعلومه المتعلقة به، سُبِقْتُ بتأليفه وانتهى إليَّ، إلَّا وأودعتُ منه فائدةً
_________
(١) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: ٥٧٥).
مقدمة / 5
في هذا الكتاب (١).
ولذا قال عنه شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: هو كتاب الإسلام، وقال: ما عَمِلَ أحدٌ مثلَه، ولا الحافظُ الضِّياءُ، ولا جدِّي أبو البركات (٢).
ثم إنَّه ﵀ قد اختصرَ كتابَه هذا، لَمَّا رأى استخشانَ بعضِ أهل عصره لإطالته، فصنف "الإلمام بأحاديث الأحكام"، وهو من أجلِّ كتابٍ وُضِع في أحاديث الأحكام، يحفظُه المبتدئ المستفيدُ، ويناظِرُ فيه الفقيهُ المفيدُ (٣)، ومن فَهِمَ مغزاه، شدَّ عليه يدَ الضِّنانة، وأنزله من قلبه وتعظيمهِ الأعزَّين مكانًا ومكانة (٤).
وقد شرطَ فيه مؤلِّفُه أن لا يوردَ إلا حديثَ من وثَّقه إمام من مزكِّي رواة الأخبار، وكان صحيحًا على طريقة بعض أهل الحديث الحفَّاظ، أو أئمة الفقه النظَّار (٥).
ثم إنه ﵀ قد شرح هذا الكتاب؛ أعني "الإلمام" شرحًا عظيمًا (٦)، وصل فيه إلى نهاية باب صفة الوضوء، أتى فيه
_________
(١) انظر: "مقدمة الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" (١/ ٥٢) نقلًا عن "ملء العيبة" لابن رُشيد (٣/ ٢٦٠).
(٢) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: ٥٧٥ - ٥٧٦).
(٣) انظر: "الاهتمام بتلخيص الإلمام" لقطب الدين الحلبي (ص: ٥).
(٤) انظر: "مقدمة هذا الشرح" (١/ ٢٥).
(٥) انظر: "مقدمة هذا الشرح" (١/ ٢٦).
(٦) انظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (٤/ ١٤٨٢).
مقدمة / 6
بالعجائب الدالة على سَعَة دائرته في العلوم، خصوصًا في الاستنباط، كما قال الحافظُ ابنُ حجر (١).
وقيمة هذا الكتاب "شرح الإلمام بأحاديث الأحكام" تتجلَّى لمُطالعه حالما ينظر فيه، فقد أسفر فيه المؤلف عن نكت وفوائد بديعة.
وأورد فيه من النوادر والمباحث الدقيقة ما يأخذ بالألباب.
وأوضح فيه منهجًا سليمًا قويًا في كيفية الاستدلال والاستنباط من السنة والكتاب.
وأبرز فيه من التقريرات والتوجيهات الأصولية ما انفرد به عن نظرائه، وفاق كثيرًا من قرنائه.
وأفصح فيه عن كثير من العلوم الخادمة لفهم النصوص الشرعية؛ كعلوم العربية، والمباحث المنطقية والأصولية، والقواعد العقلية.
ومن هنا قال الحافظ قطب الدين الحلبي: إنه لم يتكلم على الحديث من عهد الصحابة إلى زماننا مثل ابن دقيق العيد، ومن أراد معرفة ذلك، فعليه بالنظر في القطعة التي شرح فيها "الإلمام"، فإن جملة ما فيها: أنه أورد حديثَ البراءِ بن عازب: "أمرنا رسولُ الله صلى عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع"، واشتمل على أربع مئة فائدة (٢).
_________
(١) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (٥/ ٣٤٨).
(٢) انظر: "رفع الإصر عن قضاة مصر" لابن حجر (ص: ٣٩٥).
مقدمة / 7
إن كتابًا أَرْبت مواردُه على المئتين والثلاثين من أمهات كتب الإسلام، أعتمد مؤلفُه عليها في أواخر القرن السابع الهجري، لجديرٌ بالوقوف عليه.
وإن كتابًا قاربت فوائدهُ الثلاثةَ آلافِ فائدة ومسألة من شرح سبعة وخمسين حديثًا، لحقيق أن يُنْظَر في ما حواه، وأن يُنْعَمَ النظرُ في فحواه.
هذا وقد منَّ الله عليَّ بتحقيق هذا السفر الجليل، والاضطلاع بأعباء تصحيح نصوصه وتقويمها، وتخريج أحاديثه وآثاره وأشعاره وغيرها مما تراه في منهج التحقيق، ثم إني قدَّمت للكتاب بفصلين، اشتمل أولهما على ترجمة الإمام ابن دقيق العيد ﵀، وكان الآخر لدراسة الكتاب، وفي كل واحد منهما مباحث وفوائد متنوعة.
ويعلم الله، كم قد تحمَّلتُ، في هذه الأوقات التي كنت أعمل فيها في هذا الكتاب، شغلًا وهمًّا، ودينًا وغُرمًا، وظلمًا وهضمًا. ولكن أسأل الله أن ينفع بعملي هذا، ويثيبني به في الآخرة، فمنه سبحائه أستمدُّ العَون، ومن الخسارة فيما أرجِّي ربحَه أسألُهُ الصَّون، ولا حول ولا قوة إلا به.
ولا بد في الختام من التوجُّه بالشُّكْر والامتنان إلى كل من كان له يد في إخرأج هذا الكتاب إلى عالم المطبوع، وأخصُّ بالذِّكر منهم:
- فضيلة الشيخ المحقق المدقق نور الدِّين طالب، الذي أتحفني بتصوير النسخة الخطية لمكتبة كوبريلي، وأمدَّني بالمراجع والمصادر المخطوطة والنادرة المتوفرة لديه، كما كان له الفضلُ في بعث الهمة على إنجاز هذا العمل وإخراجِه على نحوٍ مرضيٍّ.
مقدمة / 8
- فضيلة الشيخ المفيد المجيد عبد الباري بن حمَّاد الأنصاري، الذي تفضَّل بتصوير النسختين الخطيتين لدار الكتب المصرية والمكتبة البديعية.
- الإخوة الأفاضل الذين كانوا لي خير معين - بعد الله ﷿ في إخراج هذا الكتاب، من العمل معي في النسخ والمقابلة والتصحيح والفهرسة والتنضيد والإخراج، وأخصُّ بالذكر منهم الإخوة: إدريس أبيدمي، ومحمد عبد الحليم بعاج، وجمعة الرحيم.
أسأل الله - إن كان لي من حظٍّ في هذا الكتاب عنده - أن يضربَ لكلِّ واحد من هؤلاء المشايخ الأماثل والإخوة الأفاضل بسهمٍ فيه، وأن يشركوني في أجرِ نشرِ هذا العلم وتبليغِه، إنه سبحانه وليُّ ذلك، وهو حسبنا ونعمَ الوكيل.
وكتبه
أَبُو عَبْدِ الله
محمّد خلّوف العبْدالله
حَامِدًا للهِ تَعَالَى عَلَى أَفْضَالِهِ
وَمُصَلِّيًا وَمُسَلِّمًا عَلَى نَبِيِّه وَآلِهِ
وَمُتَرَضيًا عَن صَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ
مقدمة / 9
الفصل الأوّل
تَرْجَمَةُ الإِمَامِ ابْن دَقيق العِيدِ
مقدمة / 11
المبحث الأَوَّل
* اسمه ونسبه وولادته:
هو الإمام، المجدد، المجتهد، شيخ الإسلام، محمد بن علي ابن وهب بن مطيع بن أبي طاعة المنفلوطي القوصي (١) الثَّبَجِي (٢) المصري المالكي الشافعي، تقي الدين أبو الفتح ابن القاضي الإمام أبي الحسن القشيري، من ذرية بهز بن حكيم القشيري ﵁ (٣)، المشهور ب: ابن دقيق العيد (٤).
ولد في شعبان سنة (٦٢٥ هـ)، في ينبع على ساحل البحر الأحمر، عندما كان والدُه متوجهًا من قُوص إلى مكةَ للحج.
_________
(١) نسبة إلى مدينة قوص من مدن الصعيد في جنوب مصر.
(٢) الثَّبَجي: بمثلثة ثم موحدة مفتوحتين. قال العراقي في "شرح الألفية المسماة بالتبصرة والتذكرة" (١/ ٢٨١ - ٢٨٢) شارحًا قوله: "استشكل الثبجي". قال: المعني بقولي: "استشكل الثبجي": هو ابن دقيق العيد، وربما كان يكتب هذه النسبة في خطه؛ لأنه ولد بثبج البحر بساحل ينبُع من الحجاز، ومنه الحديث الصحيح: "يركبون ثبج هذا البحر"؛ أي: ظهره، وقيل: وسطه، انتهى. وكذا قال الأُدفُوي في "الطالع السعيد" (ص: ٥٧٠) أنه رآه بخطه: الثبجي.
(٣) قال الذهبي في "المعجم المختص" (ص: ١٦٩): فيما بلغنا. وقال الحافظ في "الدرر الكامنة" (٥/ ٣٥٠): ويُذْكَر ذلك.
(٤) قال الأُدفُوي في "الطالع السعيد" (ص: ٤٣٥) في ترجمة والد الإمام ابن دقيق: الشيخ مجد الدين علي: وسبب تسمية جده - يعني: مطيعًا -: دقيق العيد: أنه كان عليه يوم عيد طيلسان شديد البياض، فقال بعضهم: كأنه دقيق العيد، فلقب به ﵀.
مقدمة / 13
* نشأته وطلبه للعلم:
نشأ الإمام ابن دقيق العيد في أسرة علمية، مشهورة بالتدين والصلاح؛ فأبوه الشيخ مجد الدين أبو الحسن علي، جمع بين العلم والعمل والعبادة والورع والتقوى والزَّهَادة والإحسان إلى الخلائق مع اختلافهم، وبذل المجهود في اجتماع قلوبهم وائتلافهم، وقد ارتحل إليه الناس من سائر الأقطار، وقصدوه من كل النواحي والأمصارِ (١).
أما أمُّه: فهي بنت الشيخ الصالح تقي الدين مظفر بن عبد الله المشهور بالمقترَح.
قال الأُدفُوي: فأصلاه كريمان، وأبواه عظيمان.
وقد ذكر والدُه: أنه أخذه عند ولادته وطاف به الكعبة، وجعل يدعو الله أن يجعلَه عالمًا عاملًا.
فابتدأ الشيخ بقراءة القرآن العظيم، حتى حصل منه على حظٍّ جسيم، ونشأ بقوص على حالة واحدة من الصمت والاشتغال بالعلوم، ولزوم الصيانة والديانة، فاشتغل بالفقه على مذهب الإمامين مالك والشافعي على والده، وكان قد اشتغل بمذهب الشافعي أيضًا على تلميذ والده الشيخ بهاء الدين هبة الله القِفْطي، وكان يقول: البهاء مُعلِّمي.
_________
(١) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: ٤٢٤)، و"مرآة الجنان" لليافعي (٤/ ١٦٦)، وكان قد توفي ﵀ سنة (٦٦٧ هـ).
مقدمة / 14
وقرأ الأصول على والده، ثم سمع بمصر والشام والحجاز، على تحرٍّ في ذلك واحتراز، فرحل إلى القاهرة فقرأ على شيخ الإسلام العز ابن عبد السلام، وقرأ العربية على الشيخ شرف الدين محمد بن أبي الفضل المُرْسِي، وغيره.
ثم ارتحل في طلب الحديث إلى دمشق والإسكندرية وغيرهما، وسمع الحديث من والده، والشيخ الحافظ عبد العظيم المنذري، وأبي العباس أحمد بن عبد الدائم بن نِعْمة المقدسي، والحافظ أبي علي الحسن بن محمد البكري، وخلائق.
ثم درَّس بالمدرسة الفاضلية، والمدرسة المجاورة للشافعي، والكاملية، والصالحية بالقاهرة، ودرَّس بقوص بدار الحديث ببيت له.
وقد اشتُهِر اسمُه في حياة مشايخه، وشاع ذكرُه، وتخرَّج به أئمة، وسمع منه الخلق الكثير، والجم الغفير مع قلة تحديثه ﵀.
* * *
مقدمة / 15
المبحث الثَّاني صفاته وأخلاقه
قال ابن سيِّد الناس: ولم يزل حافظًا للسانه، مقبلًا على شأنه، وقف نفسَه على العلوم وقَصَرَها، ولو شاء العادُّ أن يَعُدَّ كلماتهِ لحصرها، وله مع ذلك في الأدب باع وِساع، وكرم طباع، لم يخلُ بعضُها من حسن انطباع، حتى لقد كان محمودُ الكاتب، المحمود في تلك المذاهب، المشهود له بالتقدم فيما يشاء من الإنشاء على أهل المشارق والمغارب، يقول: "لم تر عيني آدبَ منه" (١).
وكان يقول ﵀: "ما تكلَّمتُ كلمةً، ولا فعلتُ فعلًا، إلا وأعددت له جوابًا بين يدي الله ﷿" (٢).
وكان ﵀ يسهر ليله في العلم والعبادة؛ قرأ الشيخ ليلة، فقرأ إلى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١]، فما زال يكررها إلى مطلع الفجر (٣).
وقال الصاحب شرف الدين محمد بن الصاحب زين الدين أحمد: كان ابن دقيق يقيم في منزلنا بمصر في غالب الأوقات، فكنَّا
_________
(١) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: ٥٧٠).
(٢) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (٩/ ٢١٢).
(٣) انظر: "الطالع السعيد" (ص: ٥٧٩).
مقدمة / 16
نراه في الليل إمَّا مصليًا، وإما يمشي في جوانب البيت، وهو مفكر إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر صلى الصبح، ثم اضطجع إلى ضحوة.
قال الصاحب: وسمعت الشيخ الإمام شهاب الدين القَرافي المالكي يقول: أقام الشيخ تقي الدين أربعين سنة لا ينام الليل، إلا أنه كان إذا صلى الصبح اضطجع على جنبه إلى حيث يتضحَّى النَّهار (١).
وكان ﵀ عديمَ البطش، قليلَ المقايلة على الإساءة، وله في ذلك أخبار.
وكان يحاسب نفسَه على الكلام، ويأخذ عليها بالمَلاَم، لكنه تولى القضاء في آخر عمره، وذاق من حلوِّه ومُرِّه، على أنه عزل نفسه مرةً بعد مرة، وتنصَّل منه كَرَّة بعد كرة.
وله في القضاء آثار حسنة، منها انتزاعُ أوقافٍ كانت أُخذت وأقتُطِعت، ومنها أن القضاة كان يُخْلَع عليهم الحرير، فخُلِع على الشيخ الصوف فاستمر، وكان يكتب إلى النواب يُذكِّرهم ويحذِّرهم (٢).
وكان ﵀ كريمًا جوادًا سخيًا، ومن طريف ما يحكى في ذلك: ما ذكره محمد بن الحواسيني الفَرضِي القوصي، وكان من طلبة
_________
(١) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (٥/ ٣٥١).
(٢) انظر: "الطالع السعيد" (ص: ٥٩٦ - ٥٩٧)، و"رفع الإصر" لابن حجر (ص: ٣٩٦).
مقدمة / 17
الحديث، وأقام بالقاهرة مدة في زمن الشيخ، قال: كان الشيخ يعطيني في كل وقت شيئًا، فأصبحت يومًا مُفلسًا، فكتبت ورقة وأرسلتها إليه وفيها: "المملوك محمد القوصي أصبح مضرورًا"، فكتب لي بشيء، ثم ثاني يوم كتبت: "المملوك ابن الحواسيني"، فكتب لي بشيء، ثم ثالث يوم كتبت: "المملوك محمد"، فطلبني وقال لي: من هو ابن الحواسيني؟ فقلت: المملوك، قال: ومن هو القوصي؟ قلت: المملوك، قال: تدلِّس عليَّ تدليسَ المحدثين؟! قلت: الضرورة. فتبسم وكتب لي (١).
وكان الشيخ يقول: ضابطُ ما يُطلبُ مِنِّي أنْ يجوزَ شرعًا، ثم لا أبخل (٢).
وكان ﵀ متحرّزًا جدًا في أمر النجاسة، مشدِّدًا على نفسه، وله في ذلك حكاياتٌ ووقائعُ عجيبة (٣).
_________
(١) المرجع السابق، (ص: ٥٧٦ - ٥٧٧).
(٢) المرجع السابق، (ص: ٥٧٧).
(٣) قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (٤/ ١٤٨٢): وكان في أمر الطهارة والمياه في نهاية الوسوسة ﵁.
وقال الصفدي في "الوافي بالوفيات" (٤/ ١٣٨): قد قهره الوسواسُ في أمر المياه والنجاسة، وله في ذلك حكايات ووقائع عجيبة.
وقال التجيبي في "مستفاد الرحلة" (ص: ١٧): وكان ﵀ قد التزم التشديد والتضييق على نفسه في العبادات، وبالغ في ذلك، حتى ربما أفضى به الأمر إلى وسواس يعتريه في خاصَّةِ نفسه، لا يفتي به الناس، فتلحقه منه =
مقدمة / 18
وكان ﵀ عزيزَ النفس، خفيفَ الروح، لطيفًا، على نسك وورع، ودين متَّبع، ينشد الشعر والزَّجَل والمُوشَّح، وكان يستحسن ذلك، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
بحسبك أنِّي لا أرى لك عائبًا ... سوى حاسدٍ والحاسدون كثير
_________
= مشقةٌ عظيمة. قال تلميذُه قطب الدين الحلبي - فيما نقله عنه الذهبي في "التذكرة" (٤/ ١٤٨٣) -: وبلغني أن جده لأمه الشيخ الإمام المحقق تقي الدين بن المقترَح كان يشدد في الطهارة ويبالغ، انتهى.
قلت: هذا ما ذكره من ترجم للإمام ابن دقيق العيد، وكذا قال غيرهم ممن ترجم له، وأنا أذكر هاهنا فائدة جليلة تمُتُّ بصلة وثيقة إلى ما نحن فيه، نقلتها من فوائد الشيخ ابن دقيق في كتابنا هذا، وهي التفرقة بين الورع والوسوسة.
قال ﵀ (٤/ ٢٠٤ - ٢٠٥): والفرق بين الوسواس والورع دقيق عَسِر، فالمتساهل يجعل بعضَ الورعِ وسواسًا، والمشدِّد يجعل بعض الوسواس ورعًا، والصراط المستقيم دَحضٌ مَزِلَّة.
ومما ينبغي أن يفرق به بينهما: أن كل ما رجع إلى الأصول الشرعية فليس بوسواسٍ، ولا أريد الأدلة الشرعية البعيدة العموم، انتهى.
وعندما تكلم ﵀ في قاعدة الاقتصاد في المصالح والطاعات، قال أثناء كلام له (٥/ ٩٣): وهاهنا أمر دقيق عسِر في العلم به وفي العمل في مواضع: منها الفرق بين الورع والوسواس، فإن الوسواس مذموم، والورع محمود، وآخر كل مرتبة تلي الأخرى، وأول الأخرى تلي آخر الأولى.
ثم قال: فهذا هو العَسِر في معرفة التوسط علمًا وعملًا، حيث تتقارب المراتب، فأما إذا تباعدت، فلا إشكال، انتهى.
قلت: ليُتأَملْ كلام الإمام ابن دقيق ﵀ الذي ذكرتُه، مع ما قيل من أمر تشدده ووسوسته، وأن يزان ما قيل عنه في هذا الباب بقسطاس مستقيم، والله أعلم بحقيقة الحال، وإليه سبحانه المرجع والمآل.
مقدمة / 19
المبحث الثَّالث
* علم الإمام ابن دقيق ﵀:
تفرد الإمام ابن دقيق العيد في علوم كثيرة، فكان حافظًا مُكْثرًا، إلا أن الرواية عَسُرت عليه لقلة تحديثه، فإنه كان شديدَ التحرِّي في ذلك (١)، وكان خبيرًا بصناعة الحديث، وهو إمام الدنيا في فقه الحديث والاستنباط (٢).
قال الذهبي: أربعة تعاصروا: التقي ابن دقيق العيد، والشرف الدمياطي، والتقي ابن تيمية، والجمال المزي، قال الذهبي: أعلمهم بعلل الحديث والاستنباط ابن دقيق العيد، وأعلمهم بالأنساب الدمياطي، وأحفظهم للمتون ابن تيمية، وأعلمهم بالرجال المزي (٣).
وكان ﵀ يحقق المذهبين المالكي والشافعي تحقيقًا عظيمًا، وله اليد الطولى في الفروع والأصول، وفي تصانيفه من الفروع الغريبة والوجوه والأقاويل ما ليس في كثير من المبسوطات، ولا يعرفه كثيرٌ من النَّقَلة (٤)، وكان لا يسلك المِراء في بحثه، بل يتكلم
_________
(١) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (٩/ ٢١٢).
(٢) المرجع السابق، (٩/ ٢٤٤).
(٣) نقله السيوطي في "تدريب الراوي" (٢/ ٤٠٥) فقال: رأيت في "تذكرة" صاحبنا الحافظ جمال الدين سبط ابن حجر، فذكره.
(٤) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: ٥٨٠).
مقدمة / 20
كلماتٍ يسيرةً بسكينة ولا يُراجَع (١).
وكان ﵀ في نقده وتدقيقه لا يُوازى، حتى قال الشيخ صدر الدين بن الوكيل: إذا نَقَد وحرَّر فلا يوفيه أحد (٢). فإنه كان ﵀ صحيحَ الذهن، كما قال علاء الدين الباجي (٣).
وله - مع ذلك - النظم الفائق، المشتمل على المعنى البديع واللفظ الرائق، السهل الممتنع، والمنهج المستعذب المنبع، والذي يصبو إليه كلُّ فاضل، ويستحسنه كلُّ أديب كامل.
وله أيضًا نثر أحسن من الدرر، ونظم ابهج من عقود الجوهر، ولو لم يكن له إلا ما تضمنته خطبةُ "شرح الإلمام"، لشهد له من الأدب بأوفر الأقسام (٤).
قال الحافظ ابن حجر: ومما يدل على تقدم الشيخ تقي الدين في العلم: أن زكي الدين عبد العظيم بن أبي الأصبغ صاحبَ البديع، ذكره في كتابه فقال: ذكرت للفقيه الفاضل تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري - أبقاه الله تعالى -، وهو من الذكاء والمعرفة على حالة لا أعرف أحدًا في زمني عليها، وذكرت له عدة وجوه المبالغة فيها، وهي عشرة، ولم أذكرها مفصَّلة، وغِبتُ عنه قليلًا ثم اجتمعتُ به، فذكر لي أنه استنبط فيها أربعةً وعشرين وجهًا من المبالغة؛ يعني في قوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾،
_________
(١) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (٥/ ٣٤٩).
(٢) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: ٥٨١).
(٣) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(٤) المرجع السابق، (ص: ٥٨٧، ٥٨٩).
مقدمة / 21
فسألته أن يكتبَها لي، فكتبها لي بخطه، وسمعتُها منه بقراءتي، واعترفت له بالفضل في ذلك، انتهى. قال الحافظ: وقد عاش تقي الدين بعد ابن أبي الأصبغ زيادة على أربعين سنة (١).
وكان من العلم بحيث يقضى ... له من كل علم بالجميع
قلت: وهذا كلُّه - بعد توفيق الله - نِتاج هِمَّة قعَساء في إدامة المطالعة، والمثابرة والمصابرة في تحصيل العلم، حكى الشيخ زين عمر الدمشقي المعروف بابن الكِتَّاني قال: دخلت عليه بكرة يوم، فناولني مجلدة وقال: هذه طالعتُها في هذه الليلة التي مضت (٢).
قال الأُدفُوي: رأيت خزانة المدرسة "النجيبة" بقوص، فيها جملة كتب؛ من جملتها: "عيون الأدلة" لابن القصَّار في نحو من ثلاثين مجلدة، وعليها علامات له، وكذلك رأيت كتب المدرسة "السابقية"؛ رأيت على "السنن الكبير" للبيهقي فيها في كل مجلدة علامة، وفيها "تاريخ الخطيب" كذلك، و"معجم الطبراني الكبير"، و"البسيط" للواحدي، وغير ذلك (٣).
وأخبر الشيخ الفقيه سراج الدين الدَّندري: أنه لما ظهر "الشرح الكبير" - وهو فتح العزيز في شرح الوجيز - للرافعي، اشتراه بألف درهم، وصار يصلِّي الفرائضَ فقط، واشتغل بالمطالعة، إلى أن أنهاه مطالعة (٤).
_________
(١) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (٥/ ٣٥١ - ٣٥٢).
(٢) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: ٥٨٠).
(٣) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(٤) المرجع السابق، الموضع نفسه.
مقدمة / 22