عدم الإنكار على المتمذهبين وغير المتمذهبين
كما أنه يراعى الشيخ الألباني وطريقته ينبغي أن يراعى مئات من الأئمة درجوا على التمذهب، وفي المقابل لا ضرر ولا ضرار، أي: لا يزاد ويغلط الشيخ ﵀ بأنه خرج عن المذاهب الأربعة كما يقوله بعض المتمذهبين؛ حيث يقولون: إن من أخطائه أنه لم ينتسب إلى واحد من المذاهب الأربعة ..
ومن قال: إنه يجب على المسلم أن ينتسب إلى واحد من المذاهب الأربعة؟! بل إن من المسائل المختلف فيها: هل يلزم العوام هذا الانتساب أو لا يلزمهم، فضلًا عن الأكابر كالشيخ ﵀؟! بل إن من فضائله أنه قرر الدلائل وقرر ما اعتقده وذهب إليه في مسائل الفقه من ظاهر السنة والكتاب .. إلخ.
ومما يقرب هذه المسألة للفهم: أن هناك أصولًا أو كلمات -وهذا يرجع بنا إلى مسألة تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم- سلفية، إما قالها أئمة سلفيون قدماء، أو قالها أئمة محققون في السنة كـ ابن تيمية ﵀، لكنها تحتاج إلى فقه، وأضرب لذلك مثلًا شائعًا:
يقول ابن تيمية ﵀: "ما انعقد سببُ فعله زمن النبي ﷺ ثم لم يفعله، ففعله بعده من البدع والمحدثات .. " فهذه كلمة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، وذكرها الشاطبي أيضًا في تقريره لمسألة السنة والبدعة.
فماذا نقول عن هذه الكلمة؟ هل هي صحيحة أو خطأ؟
كمقدمات في المسائل المجملة المحتملة الصادرة من أرباب العلم المعتبرين: نقول: صحيحة، وهذه ليست قضية مشكلة، لكن المشكل هو فقهها.
فهذه كلمةٌ صحيحة من شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن يأتي أحيانًا بعض الترتيب لها عند بعض الشيوخ، وأحيانًا يرون أن هذا الترتيب لزومي.
مثلًا: وضع مكان للنساء في المساجد، يقولون: لقد انعقد سببه زمن النبي ﷺ، فقد كان النساء يصلين مع رسول الله ﷺ أكثر مما يصلين اليوم، ولا سيما في بعض الأمصار، كما في حديث عائشة ﵂ في البخاري وغيره: (كان نساء المسلمات يشهدنّ صلاة الفجر مع رسول الله ﷺ.
فهل جعل النبي ﷺ مكانًا مختصًا بهن؟ أو هل وضع جريدًا من النخل أو رواقًا ساترًا؟
الجواب: لا.
لم يضع شيئًا.
فقالوا: إن سبب الفتنة بالنساء موجود في الرجال، سواء كانوا صحابة أو غير صحابة، وإن كان الصحابة -لا شك- أزكى وأطهر وأبعد عن الفتنة وعن النظر إلى النساء، لكن أيضًا كان يحضر الصلاة أحيانًا حُدثاء عهد، وأعراب، وكان يحضر الصلاة من هم من أهل النفاق، والمرأة في الإسلام -حتى في زمن الصحابة- مأمورة بالحجاب، وهو لم يقل لها: لا تتحجبي أمام الورعين من الصحابة.
المهم: أن النبي ﷺ لم يفعله، فيأتي بعض الفقهاء اليوم ممن يأخذ كلام شيخ الإسلام ﵀ بترتيب لزومي، فيقول على قاعدة شيخ الإسلام: إن وضع مكان في هذا العصر للنساء بدعة.
ويأتي بمثل هذه التراتيب المتكلف فيها ..
وهذا ليس بصحيح.
أنا أقول: الإمام ابن تيمية ﵀ الذي قال هذه الكلمة له مسائل في الفتاوى أذكر جملةً منها:
حكم استخدام السبحة للتسبيح، لقد انعقد سبب التسبيح في زمن النبي ﷺ، لكنه كان يسبح بأصابعه أو بأنامله، وكان من الممكن أن تستعمل مثل هذه الأدوات، كالأحجار أو الخرز أو غيرها، ومع ذلك لم يفعل ﷺ ذلك، فعلى هذه القاعدة أن التسبيح بالسبحة بدعة، ومع ذلك عندما سئل الإمام ابن تيمية عن مسألة التسبيح بالسبحة، قال: "إن التسبيح بها إذا لم يكن على قصد الرياء أو هجران ما جاءت به السنة من الأصابع والأنامل، فالتسبيح بها حسن".
فهو لم يقل: جائز، بل قال: حسن، بشرط ألا يكون رياءً ولا يكون هجرانًا لفعل النبي ﷺ.
إذًا: أين كلامه السابق، وتطبيق هذه القاعدة؟
لا يمكن أن يكون شيخ الإسلام متناقضًا في تقريره.
وأشد من هذا: حكم تلقين الميت في قبره: هذه المسألة من المسائل التي أغلقها الشارع إغلاقًا شديدًا، فهي مبنية على قاعدة سد الذرائع، وهي كذلك ليس له أصل، وزيادة على ذلك هي مسألة مخالفة للعقل؛ لأن الملكين حين يقولان للميت: من ربُك؟ وما دينُك؟ هل القضية قضية أنه يسمع أحدًا فيقلده؟ لا.
قد يكون هذا الميت يقول هذه الكلمة وفصيحًا فيها، لكنه إذا لم يكن مؤمنًا حقًا يعاي عنها في مقام الابتلاء والفتنة.
إذًا: التلقين مخالف حتى لمبادئ العقل، ومقاصد الشارع من الافتتان الذي يقع في القبر، ومع ذلك لما سُئِلَ ابن تيمية عنها قال: "وهذه المسألة فيها للفقهاء ثلاثة أقوال: منهم من استحبها، ومنهم من أجازها، ومنهم من نهى عنها إما نهي تنزيه أو نهي تحريم.
قال: وقد كان واثلة بن الأسقع يرخص في هذا، قال: والصحيح أنها جائزة، وإذا قيل فالنهي عنها فهي مكروهة وليست بمحرمة".
ثم قال: "ومع هذا فإنه ينبغي ترك ذلك، وليس هذا من السنن الواردة عن النبي ﷺ ".
إذًا: هو أبعد المسألة عن البدع والتحريم، فقد قال: إنها جائزةٌ، ثم رجع وقال: وإذا نهي عنها فهذا نهي كراهة، وإن كانت مع ذلك ليست من السنة، ولا ينبغي أن يصار إليها ... إلخ، وكان من المفترض على القاعدة السابقة: أن يقول: هذا بدعة أو من المحدثات.
وهناك أمثلة أخرى لـ شيخ الإسلام في هذا لا يتسع المقام لذكرها.
والقصد من هذا أن جملته السابقة لما قال: "ما انعقد سببه ... ".
هي جملة مجملة ينبغي أن تنزل تنزيلًا مناسبًا للنصوص، أما أن تجعل كقاعدة -إن صح التعبير- رياضية مطردة، وتُبدَّع كثير من الأقوال والأفعال على هذه الطريقة ..
فهذا فيه تكلف، فإن شيخ الإسلام قد خالف هذا الافتراض أو هذا الفهم في كلامه نفسه، ولا يمكن أن يكون متناقضًا في تقريره للأصول والتفريع عليها.
2 / 8