Sharh Fath al-Majid by al-Ghunayman
شرح فتح المجيد للغنيمان
اصناف
حق الله على العباد وحق العباد على الله
قال المصنف ﵀: [وعن معاذ بن جبل قال: (كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله: ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا، قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجاه في الصحيحين].
قال الشارح: [معاذ بن جبل ﵁ من علماء الصحابة وأفاضلهم وأكابرهم، ومن السابقين إلى الإسلام، وهو أنصاري من الخزرج، وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: أن الرسول ﷺ قال له: (يا معاذ! والله! إني لأحبك؛ فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء عن النبي ﷺ أنه قال: (إن معاذًا يحشر أمام العلماء برتوة)، والرتوة: إما أن تكون المكان المرتفع، أو أن يكون أمامهم بمسافة لفضله؛ لأنه جاء أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهذا أفضل العلم.
وهو الذي بعثه الرسول ﷺ في آخر حياته نائبا عنه في الدعوة والتبليغ والحكم والقضاء إلى اليمن، وقال له لما بعثه: (لعلك لا تراني بعد اليوم)؛ لأنه بعثه في السنة العاشرة للهجرة، فصار يبكي فقال: (لا تبك)، ثم ذهب وبقي في اليمن حتى توفي رسول الله ﷺ، ثم عاد في خلافة أبي بكر، وذهب للقتال في الشام، ومات في الشام].
سبق أن معاذًا ﵁ كان من أكابر صحابة رسول الله ﷺ وعلمائهم، وأنه أرسله الرسول ﷺ إلى اليمن في آخر حياته داعيًا ومبلغًا عنه حاكمًا، ثم إنه بقي في اليمن حتى توفي رسول الله ﷺ، وجاء في خلافة أبي بكر الصديق، ثم ذهب لقتال الروم فتوفي في الشام ﵁.
وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال له: (والله! إني لأحبك؛ فلا تدعنَ دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء أنه ﷺ قال: (معاذ يحشر أمام العلماء يوم القيامة برتوة)، يعني: بمرتفع أو بمسافة أمامهم، لما اختص به من علم الحلال والحرام، وهو ممن شهد بدرًا وما بعدها من مشاهد الإسلام مع رسول الله ﷺ، إلى غير ذلك مما جاء في فضله رضوان الله عليه.
وقوله هنا: (أتدري ما حق الله على العباد؟)، هذا سؤال من النبي ﷺ وجهه إليه، وهذه طريقة كان صلوات الله وسلامه عليه كثيرًا ما يخرج العلم بها؛ ليكون أدعى إلى قبوله والتنبه له؛ لأن الإنسان إذا سئل وهو لا يدري فإن نفسه تتطلع إلى قبول الجواب، ثم يكون متشوفًا له ومتشوقًا إليه، فيقبله أكثر، ويعلمه أكثر مما لو ألقي عليه إلقاءً، وهذا من حسن تعليم رسول الله ﷺ، وحسن تبليغه وطريقته في إيصال العلم إلى صحابته.
والدراية هي: المعرفة، فقوله: (أتدري؟) يعني: تعرف ما هو الحق الذي أوجبه الله على عباده؟ ثم إن قول معاذ ﵁: (الله ورسوله أعلم)، يدل على حسن الأدب من المتعلم، فإذا كان المتعلم لا يعلم ما سئل عنه فليكل علمه إلى عالمه، ولهذا قال: (الله ورسوله أعلم).
وهذا لا يلزم منه أن معاذًا ﵁ كان يجهل حق الله على عباده الذي هو التوحيد، ولكن المقام مقام تنزل الوحي، والرسول ﷺ ينزل إليه من الله ما يشاء الله جل وعلا أن يجعله حقًا زائدًا على الحق الذي يعلمه معاذ، فلهذا قال: (الله ورسوله أعلم).
وقوله في
الجواب
(حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)، هذا هو الحق الذي خلق الله جل وعلا الخلق له من الجن والإنس ليقوموا به ويلتزموه، وهو عبادته وحده وعدم الشرك.
والعبادة مأخوذة من الذل والخضوع، فهي غاية الحب في غاية الذل والخضوع، وإذا كان العبد محبًا الحب الذي هو الغاية وذالًا فهذه هي العبادة، فإنه لابد أن يفعل ما أمره به محبوبه ويمتثله ويجتنب ما نهاه عنه، مستلزمًا فعل الأمر وترك المنهي عنه.
وسبق أن العبادة في الشرع هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فتشمل أفعال القلب وأفعال الجوارح، وكذلك فعل اللسان.
وفعل الجوارح مثل: الصلاة والقيام والركوع والسجود، والبذل مثل الصدقة، وإزالة الأذى عن طرق المسلمين، وما أشبه ذلك.
والأقوال مثل: قراءة القرآن والذكر والدعاء، وفعل القلب مثل: خشية القلب وخوفه وحبه وما أشبه ذلك.
فكل فعل يتقرب به الإنسان جاءه عن طريق رسول الله ﷺ فهو عبادة، وكل فعل أمر الله جل وعلا به وحث عليه فإن فعله عبادة، وكذلك كل شيء أمر الله جل وعلا أن يترك ويجتنب فتركه واجتنابه خوفًا من الله عبادة، فصارت العبادة هي فعل الجوارح من الأيدي والجسد كله، ويشمل ذلك فعل اللسان من الأقوال: كالذكر والقراءة، وكذلك فعل القلب: من الإرادات والنيات والخوف والخشية وما أشبه ذلك، كل هذا داخل في العبادة.
فقوله: (يعبدوه) أي: يعبدونه بهذه الأفعال ويوحدونه، والعبادة مبنية على التذلل مع الحب والرجاء، فيعبد ربه ذالًا خاضعًا، ويرجو أن يثيبه على ذلك، والإسلام كله يدخل في العبادة، وهذا حق لازم يسأل عنه الإنسان إذا فرط فيه أو قصر فيه أو ترك منه شيئًا، فهذه هي العبادة التي أوجبها على عباده، ولهذا سماها الحق، والحق في اللغة هو: الشيء الذي يستقر ويثبت، ولهذا يقال: حق في المكان إذا استقر فيه وثبت، فهو أمر ثابت على العباد لله جل وعلا، يسألهم جل وعلا عنه إن تركوه أو فرطوا به.
ثم قال: (وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا)، وقال في حق الله: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا) K فبين أن العبادة تقتضي ترك الشرك، وأنها تكون فعلًا وتركًا، يعني: فعلًا للتوحيد وتركًا لضده، فإذا لم تكن كذلك فإنها غير معتبرة، ولا تكون عبادة شرعية، فالعبادة الشرعية لابد أن تكون فعلًا وتركًا، فيكون التعبد والتذلل لله بفعل أوامره، وكذلك بترك ما نهى الله عنه، وأعظم ما أمر الله جل وعلا به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك.
والشرك هو: أن يشرك في العبادة التي أمر أن تكون له، وأن يجعل معه فيها غيره، واقتصر على هذا لأن هذا في ضمنه.
ويجب الإقرار للرسول ﷺ بالرسالة، والالتزام بكل ما جاء به التزامًا تامًا، من فعل الصلوات وأداء الزكاة والصوم والحج وغير ذلك، فإنه إذا عبد وذل وخضع فلابد أن يفعل المأمور ويترك المنهي عنه ويجتنبه.
8 / 2