شرح ديوان المتنبي
شرح ديوان المتنبي
اصناف
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
سيرة المتنبي
ترجمة المتنبي
شراح المتنبي
قافية الهمزة
قافية الباء
قافية التاء
قافية الجيم
قافية الحاء
نامعلوم صفحہ
قافية الدال
قافية الذال
قافية الراء
قافية الزاي
قافية السين
قافية الشين
قافية الضاد
قافية حرف العين
قافية الفاء
قافية القاف
نامعلوم صفحہ
قافية الكاف
قافية اللام
قافية الميم
قافية النون
قافية الهاء
قافية الياء
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
سيرة المتنبي
ترجمة المتنبي
نامعلوم صفحہ
شراح المتنبي
قافية الهمزة
قافية الباء
قافية التاء
قافية الجيم
قافية الحاء
قافية الدال
قافية الذال
قافية الراء
قافية الزاي
نامعلوم صفحہ
قافية السين
قافية الشين
قافية الضاد
قافية حرف العين
قافية الفاء
قافية القاف
قافية الكاف
قافية اللام
قافية الميم
قافية النون
نامعلوم صفحہ
قافية الهاء
قافية الياء
شرح ديوان المتنبي
شرح ديوان المتنبي
تأليف
عبد الرحمن البرقوقي
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد: فهذا شرح ديوان المتنبي
نامعلوم صفحہ
1
أخرجه بعد شرحي ديوان حسان الذي أخرجته في العام الماضي، ورآه القراء وعرفوا من مقدمته ما كابدت فيه، وفي الحق: إني لم أعان في المتنبي ما عانيت في حسان - على بعد ما بينهما - وذلك أن المتنبي رب المعاني الدقاق - كما قال - فللذهن في شعره جولان، وما دام هناك ذهن يلفف، وذوق يستدق، وملكة بيانية، وبصر بمذاهب الشعر: أمكن إدراك ما يترامى إليه مثل المتنبي، ولو بشيء من الجهد اللذ، والتعب المريح، ذلك إلى أن المتنبي مخدوم، وشروحه متوافرة، ومادته زاخرة، فكان شرحه لذلك يكاد يكون هينا لينا، لا إرهاق فيه لخاطر، ولا إعنات لروية.
وهنا قد يبدو لك أن تقول: وإذا كان المتنبي مخدوما وشروحه متوافرة - كما تزعم - فعلام هذا الشرح، وما حاجتنا إليه؟ فعلى رسلك يا هذا. فالمتنبي وإن كانت شروحه كثيرة إلا أنها كثرة قلة؛ ذلك أن المتنبي وإن كان من حسن حظه أن شرحه وعلق عليه، ونقده وتعصب له وعليه، نيف وخمسون أديبا، بيد أن المتداول من شروحه إنما هو العكبري والواحدي واليازجي حسب. أما الواحدي: فلأنه لم يطبع إلا في أوربة وفي الهند فقط، كانت لذلك نسخة قليلة التداول في أيدي الناطقين بالضاد لندرته وغلاء ثمنه، ومن ثم كان في حكم غير المتداول. ثم هو - الواحدي - ومثله العكبري كلاهما موضوع ذلك الوضع الخلق البالي العقيم - بعثرة الأبيات وإثبات البيت ثم شرحه، وهكذا دواليك - وضع لا يتفق ومزاج هذا الجيل، ولا سيما من يبتغي حفظ الديوان واستظهاره، هذا إلى التحريف الكثير الذي ألم بالواحدي والعكبري معا، وهنا لا يسع المرء إلا أن يأسف كل الأسف وتتقطع نفسه حسرات جراء ذلك الداء الخبيث العياء الذي ألم - ولا يزال يلم - بالمطبوعات العربية - داء التصحيف والتحريف - حتى لا يكاد يسلم منه كتاب عربي، فذهب بجمال التواليف وشوه خلقها، وصار بها إلى حيث تنبو عنها الأحداق، وتتجافى عن قراءتها الأذواق، ويتخاذل الذهن، ويتراجع الفكر، ولست أدري: ما مصدر هذا الداء، ولا من تقع عليه تبعة هذا الجرم: هل هو الناسخ؟ - بل الماسخ - [ولقد حاولت - أخيرا - أن أنسخ رسالة في سرقات المتنبي بدار الكتب المصرية، وكلفت أحد الناسخين في تلك الدار بنسخها، ولما أتم نقل الكراسة الأولى ذهبت إليه وأخذنا نقابل ما نسخ على الأصل، فوجدت الأصل لا يكاد يوجد فيه بيت صحيح، ووجدت ما نسخ منه ضغثا على إبالة ... فما كان إلا أن انصرفت نفسي عن المسألة برمتها] ... أم هو الطابع وجهله وتهاونه؟!
ولقد لقيت الألاقي في تصحيح «بروفات» - أو تجارب - المتنبي، ومن قبله حسان، حتى لا أكون مغاليا إذا قلت: إن الجهد الذي يبذل في سبيل التأليف أهون على المرء من الجهد الذي يقاسى في سبيل التصحيح.
وتصور مقدار ما يعرو الإنسان من المضض والامتعاض حين يرى الكتاب - بعد هذا العناء الذي يبذل في التصحيح - لم يسلم من الأغاليط، ولا تنس أن المؤلف قد لا يفطن إلى الخطإ المطبعي أثناء التصحيح ويمر به مرا، وعذره في ذلك واضح: وهو أنه إنما يقرأ ما في ذهنه، لا ما هو بين عينيه، ومن هنا كان له - للمؤلف - هو الآخر نصيب من هذا الخطأ وإن كان عذره في ذلك قائما ...
أقول: إن عيب الواحدي والعكبري هو ما ذكرت: وضع لا يتفق وروح العصر، وتحريف كثير شائع في الكتابين، ذلك إلى هفوات تلحق كلا على حدته، وقصور أو تقصير أو إقصار يلم بساحته؛ فإذا أردت أن تجتزئ بالعكبري - مثلا - وتستغني به عن غيره فإنه لا يغني كل الغناء، وكذلك الواحدي، ويزيد الواحدي على العكبري أنه لا يحفل بتفسير المفردات ولا بالإعراب، وبأنه لا يفسر كثيرا من الأبيات، فكأنه موضوع للمنتهين، ولذلك لا يؤاتي الشادين. أما اليازجي أو اليازجيان - الشيخ ناصيف وابنه الشيخ إبراهيم - فهما - على فضلهما الذي لا ينكر، وعلى ما طنطن به الثاني في ذيل الشرح، مما قد يخرج منه القارئ وهو مفعم يقينا بأن هذا الشرح هو سيد الشروح، وهو وحده الشرح الذي طبق المفصل وأصاب مقطع الحق وأوفى على الغاية، أقول: إنهما - على الرغم من ذلك - يصدق عليهما قول الواحدي في ابن جني: وأما ابن جني فإنه من الكبار في صنعة الإعراب والتصريف، والمحسنين في كل واحد منهما بالتصنيف، غير أنه إذا تكلم في المعاني تبلد حماره، ولج به عثاره ... نعم، وحسبك أن ترجع إلى ما قالاه - أي اليازجيان - في شرح هذا البيت على انسجامه ووضوحه وروعته:
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب
فكل بعيد الهم فيها معذب
قالا: يذم الدنيا. يعني أنها دار شقاء حتى إن من لا هم له لا يخلو فيها من العذاب، فما الظن بصاحب الهموم؟! ولست أدري: كيف لم يفطنا إلى معنى هذا البيت وهو من الوضوح والجلاء، كما ترى؟ ... على أنهما - في شرحهما عامة، لا في شرح هذا البيت - لم يحيدا عن الواحدي والعكبري قيد أنملة؛ فهما عمدتاهما، وعليهما معولهما، فإذا هما حاولا أن يتفصيا منهما، ويستقلا بالشرح دونهما، ويأتيا بشيء من عندهما: زلت قدماهما، وكبا جواداهما، أو تبلد حماراهما، ووقعا في مثل ما وقعا في هذا البيت ...
ذلك: إلى أن القسم الذي تولى شرحه الشيخ ناصيف قصر فيه ومرض ولم يتعرض لشرح المعاني، وإنما اقتصر على شرح المفردات، وإلى أنهما - اليازجيين - تركا كثيرا من شعر المتنبي الذي يريان فيه خمشا لوجه الأدب، وإلى أنهما لم يتعرضا لسرقات المتنبي وذكر الأشباه والنظائر أصلا، وهذه مزية من المزايا قد وفيناها حقها في هذا الشرح ...
نامعلوم صفحہ
على أنا لا نبخس الناس أشياءهم، ولا ننكر خصائص الطبائع البشرية وما قد يعروها الخطرة بعد الخطرة: من الفتور والانتكاس، وانغلاق الذهن، وتبلد الحس، وإظلام البصيرة، وغئور الروح، وخمود الذكاء، حتى لقد يخفى أحيانا على العليم الألمعي وجه الصواب وهو منه على حبل الذراع وطرف الثمام - كما يقولون - فيعتسف الطريق، ويتخبط تخبط العشواء ...
وهذا ابن جني - الإمام العالم المجتهد الثبت الثقة، بل فيلسوف اللغة العربية، العليم بخصائصها، الطب البصير بدقائقها - تراه في شرحه على المتنبي على الرغم من ذلك، ومن أنه كان معاصرا للمتنبي - متعصبا له محاميا عنه، وكان إذا سأل المتنبي سائل عن معنى بيت من أبياته يقول: اسألوا الشارح - يعني ابن جني - وكان ابن جني يراجع المتنبي في كثير من شعره ويستوضحه المعنى الذي يغزوه، وبرغم ذلك تراه في كثير من المواضع - كما قال الواحدي - وقد تبلد حماره، ولج به عثاره.
وهكذا تتبعت جميع من تعرض للمتنبي بالشرح أو النقد - كابن فورجه، والعروضي، والتبريزي، وابن وكيع، وابن القطاع، وابن الأفليلى - فوجدت لهم جميعا بجانب حسناتهم سيئات، وإلى سدادهم زلات وهفوات.
وهذا حقا من غريب طبائع البشر؛ فسبحان من تفرد بالكمال!
ولقد وجدت ذلك من نفسي؛ مع أن الطريق معبد، والمادة متوافرة؛ فقد أكون - في بعض الأوقات - مستجما، نشيطا، مهزوزا، مرهف الطبع، مصقول الذهن، صافي الحس، منبسط النفس؛ فأشرح ما أشرح - من قوافي المتنبي - فآتي بما أرضى به عن نفسي، ويعروني له من الطرب ما يستخفني، وأكون في أوقات أخرى منقبض النفس، مظلم الحس، مغلق الذهن، فدما، بليدا، لا أكاد أذهن شيئا، وأكون مضطرا إلى العمل؛ فأشرح - وأنا على هذه الحال - بعض الأبيات، ثم أعود في وقت أكون فيه على جمام من نفسي إلى ما شرحت، وأنظر ماذا قلت، فأدهش: كيف يصدر هذا من رجل له بقية من فهم؟ وأتهم نفسي، حتى لا أكاد أصدق أن شيئا من هذا ند به القلم ...
ثم لا تنس اختلاف القرائح والأفهام والنزعات، وأن هذا ينزع في تفكيره نزعة لغوية، وذاك نزعة نحوية، وذلك نزعة فلسفية منطقية، وآخر قد تأثر بالأدب والفن وحسن التخيل، وأن هذا أصح تمييزا من ذاك، وأنفذ بصيرة، وأبعد مدارك، وأصفى نفسا، وألطف حسا، وأكثر ألمعية، إذا أذنت أذناه شيئا شاءهما ذهنه. فإذا هم أراغوا تأويل بيت من أبيات المعاني الدقاق: تشعبت آراؤهم، وذهب كل في تأويله مذهبا قد يباين مذهب الآخر، تبعا لتباين قرائحهم ومحصولاتهم، كما قال المتنبي:
ولكن تأخذ الآذان منه
على قدر القرائح والعلوم
وإليك شيئا يحور إليه سر هذا التباين الذي نرى بين الشراح في تأويلاتهم لمثل شعر أبي الطيب. ذلك أن المتنبي كان رجلا ماكرا باقعة داهية، فكان من دهائه يعمد إلى بعض المعاني التي سبق إليها، فيحاول أن يبعد بها عن أصلها ويعميها على الناظر فيها ويريغها ويديرها عن ذلك حتى لا يفطن إلى أن غيره أبو عذر هذا المعنى، فيلجأ إلى التعمية والجمجمة والتعقيد والإبهام؛ لأن تلك طريقته - كما سنبينه - فيجيء البيت متنافر اللحمة متناثر التعبير، لا يشف ظاهره عن باطنه، ولا يتجاوب أوله وآخره، حتى لكأنه ضرب من الرقى، فيظن بعض الشراح أن هناك معنى دقيقا عميقا فيكد ذهنه، ويجهد فكره، ويسافر في طلب المعنى أميالا، وهو لا يفوت أطراف بنانه، وينضي إليه رواحل ذهنه وهو على حبل ذراعه، فيعتسف ويشتط وينحرف عن جادة الصواب، كما قال المتنبي:
أبلغ ما يطلب النجاح به الط
نامعلوم صفحہ
بع وعند التعمق الزلل
وهاك شيئا يرجع إليه ذلك التعقيد الذي نراه في بعض شعر المتنبي. هو أن أبا الطيب له حساد كثيرون من أهل الفضل ومن فحولة الشعراء وأعيان البيان يتعثر بهم على أبواب سيف الدولة في حلب، وتقع عينه عليهم أنى ذهب - في الشام وفي مصر وفي بغداد وفي فارس - وكانوا له بالمرصاد يتلمسون له الهفوة والمأخذ. وكان كثير ممن يمدحهم كذلك شعراء أدباء - وناهيك بسيف الدولة وابن العميد - فكان لذلك كله - يحتشد لكثير من قصائده ويتعمل لها، ويتنطس في ألفاظه ومعانيه، ويحتفل، ويمعن في الاحتفال إلى ما وراء طبعه؛ فيجيء بعض نظمه كزا جافا معقدا حرم طلاوة الطبع ورونقه، وفقد نصف الجمال الشعري.
وهنا لا نرى مندوحة من أن نعرض لشيء لم يفطن إليه أحد، أو فطنوا إليه ولم يصفوه، أو وصفوه ولكن لم يصفوه الوصف الذي هو به أليق، ذلك أن المتنبي - للأسباب التي أسلفناها، ولسبب آخر سنبينه - تراه في أكثر شعره ينقصه التعبير الشعري، ويظهر لك ذلك إذا أنت وازنت بينه وبين إمامه في الصنعة والاحتفال بالمعنى - وهو أبو تمام.
وإني لأذكر كلمة لأحد نقدة العرب وهي: «إنما حبيب أبو تمام كالقاضي العدل: يضع اللفظ موضعها، ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر، والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع: يتحرى في كلامه، ويتحرج خوفا على دينه، وأبو الطيب كالملك الجبار: يأخذ ما حوله قهرا وعنوة، كالشجاع الجريء: يهجم ما يريده، ولا يبالي ما لقي ولا حيث وقع.» ا.ه.
فأنت إذا نظرت إلى أبي تمام تجد الفحولة والجزالة والقوة، وترى المعاني الدقاق وترى الصنعة - من الجناس والمطابقة وما إليهما - وترى - مع ذلك كله - التعبير الشعري؛ أي ترى النصاعة والإشراق، ووضوح المعالم، واطراد النظام، وتساوق الأغراض، وإحكام الأداء، والروعة، والجمال، والروح القوي الذي يطالعك من بين فقره، ومن هنا يفضل أبو تمام أبا الطيب.
قال ابن الأثير: «وهؤلاء الثلاثة - أبو تمام، والبحتري، والمتنبي - هم لات الشعر، وعزاه، ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء.
أما أبو تمام: فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه، أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام، فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلم، ففوق كل ذي علم عليم.
وأما أبو عبادة البحتري: فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال: «أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري.» ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
وأما أبو الطيب المتنبي: فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولا لست فيه متأثما، ولا منه متلثما: وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسانه، ما أدى إليه عيانه، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
لا تطلبن كريما بعد رؤيته
نامعلوم صفحہ
إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقساما خمسة: خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها، وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها؛ فإنها هي التي ألبسته لباس الملام، وجعلت عرضه غرضا لسهام الأقوام.» ا.ه. كلام ابن الأثير.
وقد آن لنا أن نقول: إن هذا الذي يعاب على أبي الطيب ويظن أنه يتخونه ويشينه: هو على الحقيقة سر من أسرار شاعريته؛ لأن مرجعه التوليد الذي لا يؤتاه إلا الشاعر المطلق، فالكلام إنما هو من الكلام وإنما يستحق الشاعر هذا اللقب بالتوليد، وبطريقته في التوليد تقوم طريقته في الشعر؛ فمن ثم يختلف الشعراء، ويمتاز واحد من واحد، وتبين طريقة من طريقة وإن تواردوا جميعا على معنى واحد يأخذه الآخر منهم عن الأول.
ولقد يأتي مائة شاعر بالمعنى الذي لا يختلف في الطبيعة ولا في السياق ولا في الفهم، فيديرونه في مائة بيت تكون في مائة ديوان، ومع ذلك ترى أحوالهم فيه متباينة، وصناعتهم في أخذه مختلفة، وتراهم قد تناولوه بوجوه كثيرة تحقق فيه عمل أمزجتهم، وتلقي عليه اختلاف أزمانهم، وتجري به في طرق حوادثهم، كأنه مع كل منهم قد ولد ونشأ
2
فهو مع هذا قوي، ومع الآخر جبار، ومع الثالث ضعيف، ومع رابع متهالك، وتارة بدين، وأخرى هزيل، وثالثة بينهما، وهكذا، ولولا ذلك لم يكن الكلام إلا تكرارا، وبطل فيه عمل العقل، وأصبح رثا باليا، وذهب مع الذاهبين الأولين، ولم يبق فيه لشاعر إلا إقامة الوزن، ولو كان هذا لنسخ لقب الشاعر من الأرض، ولم تعد للبيان صناعة، ولا بقيت في القرائح مادة إلهية من الإلهام.
وشأن المتنبي كالشأن في نوابغ الدنيا: فالشاعر النابغة لا يمهر بإرادته، ولا ينبغ بأن يخلق في نفسه مادة ليست فيها، وإنما هو يولد مهيئا بقوى لا تكون إلا فيه وفي أمثاله، وهو زائد بها على غيره ممن لم يرزق النبوغ - كما يزيد الجوهر على الحجر أو الفولاذ على الحديد، أو الذهب على النحاس - ثم تتفاوت هذه القوى في النوابغ ؛ فتتنوع وتتباين، وتعمل فيها أحوالهم وأزمانهم وحوادثهم، ومن ثم يجتمع لكل منهم شخصية، ويستقل منها بطريقة ومذهب؛ فإذا تناول معنى من المعاني تناوله على طريقته: فإما حذف منه، وإما زاد فيه، وإما غيره وقلبه، وإما صب على حذوه معنى جديدا يلم به أو يشبهه، أو لا يكون فيه إلا أنه جاء على طريقه حسب. فكثيرا ما يقرأ النابغة كلاما لغيره، أو يتأمل خاطرا، أو يشهد أمرا؛ فإذا كل ذلك قد أوحي إليه وانعكس على مرآة ذهنه بمعان مبتكرة طريفة لا تشبه ما كان بسبيله وجها من الشبه - لا قريبا ولا بعيدا - وليس فيها إلا أنها جاءت من ذلك الطريق، وهو بعد لم يتعمل لها ولم يتكلف ولم يصنع شيئا، وإنما هو تلقى من ذهنه وتلقى ذهنه من قوة لا يدري ما هي ولا أين هي؟
وكما يختار النبي يختار النابغة - وليس كل الناس أنبياء، ولا كلهم نوابغ - ولا يصنع النبي أكثر من أن يتلقى عن الوحي، وكذلك يتلقى النابغة عن البصيرة، وهي تكون فيه هو وحده بمقام الملك من الملائكة أو الشيطان من الشياطين، على حين تكون في سواه بمقام الإنسان من الناس، فالرجل الذكي أشبه بإنسانين: أحدهما هو، والآخر بصيرته، وهو بذلك أقوى من غيره، ولكن النابغة - وبصيرته أشبه بإنسان وملك، أو إنسان وشيطان - فهو دائما أقوى من القوة، وهو دائما متصل بشيء فوق الإنسانية.
نامعلوم صفحہ
وإذا تقرر هذا: فليس للنابغة اختيار فيما يأتي به، وليس عليه إلا أن يأخذ ما يؤتاه كما يتهيأ له على طريقته، ومن هنا ترى المتنبي يأتي أحيانا بالتعقيد المستكره واللفظ المتكلف، وتراه يتعسف ويتخبط ويسف، ومع ذلك لا ينفي مثل هذا من شعره ولا يحذفه، وهو قادر على أن يغنى عنه وليس في حاجة إليه، ولكنه بعض طريقته التي انطبع عليها، فلا يستطيع حين يجيئه الرديء أن يجعله جيدا، وليس إلا أن يأخذه كما هو؛ لأنه هو الذي انبثق له عن الجيد، كما تضرم النار من مادة، فإذا هي شعل ودخان، ثم تضرمها من مادة أخرى فإذا هي لهب صاف يتألق؛ ولو أنك أردتها من المادة الأولى كما تجيء من الثانية لأطفأتها وذهب دخانها ونارها معا.
وهذا سر لم يتنبه إليه أحد ممن كتبوا عن المتنبي، فاشدد يدك عليه، وادرس المتنبي على هذه الطريقة، فستجده نابغة في جيده ورديئه، وستجده لا يستطيع غير المستطاع، وستجد طريقته كأنما فرضت عليه فرضا؛ لأنه كذلك ألهم، وعلى ذلك ركب طبعه، وكان ظلامه ظلاما؛ لتسطع فيه النجوم. •••
أما الإفاضة في ترجمة المتنبي ونشأته وأخلاقه وما إلى ذلك، فلا يأتي أحد بجديد ... وقد أصبح المتنبي - دون غيره من شعراء العربية - كأنه في غير حاجة إلى الترجمة؛ إذ هو كالقطعة من تاريخ الأدب، فالكلام عنه متداول مشهور، وهذا بعض ما اختص به؛ فقد تحتاج مع شعر كل شاعر إلى ترجمته، ولكنك لا تحتاج من أبي الطيب إلا إلى شعره، وترى شعره ترجمة روحه، ولذلك اجتزأنا في هذه الكلمة بيان سره الشعري، ثم أنت - بعد ذلك - في حقيقة الرجل؛ أي شعره وشرح شعره الذي نقدمه إليك ... •••
وبعد؛ فأما هذا الشرح فلا يلقين في روعك أنه بدع في الشروح، وأنه شيء مبتكر جديد، وهل غادر الشراح من متردم؟ وإنما كل مزية هذا الشرح أنه تلاقت فيه كل الشروح بعد شيء من التهذيب والتنقيح والتحوير، أو بعد أن خلصت من عكرها خلاص الخمر من نسج الفدام - كما يقول أبو الطيب - وبذلك توافر فيه ما لم يتوافر لأي شرح من شروح المتنبي على حدته، فليس يغني عنه شرح، ولكنه هو - بحمد الله - يغني عن سائر الشروح؛ فهو كما يقول أبو الطيب:
يدل بمعنى واحد كل فاخر
وقد جمع الرحمن فيه المعانيا
عبد الرحمن البرقوقي
12 جمادى الأولى 1349ه
5 أكتوبر سنة 1930م
هوامش
نامعلوم صفحہ
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله «أما بعد» فلما أمضيت النية - سنة 1349ه/سنة 1930م - على أن أضع شرحا على ديوان أبي الطيب المتنبي، وأخذت في معالجة هذا العمل، وكان الناشر إذ ذاك يحفزني حفزا، ولا يكاد يبلعني ريقي، وكان يتناول مني «أصول» هذا الشرح دراكا «أولا بأول» ويقدمه إلى المطبعة نيئا لم تنضجه نار التثبت والروية، وأخيرا تمثل بالطبع ولم يمض على وضعه وطبعه أكثر من عشرة أشهر، لما حدث هذا طفقت أقلب النظر في هذا الكتاب وأعيد الكرة، الخطرة بعد الخطرة، وكلما أنعمت النظر في الشرح بدا لي ما يسوء ويكمد، ويحز في الكبد، من أخطاء مطبعية، وتقصير في شرح بعض الأبيات، وهنيات من هذا القبيل، شأن كل عمل لم يتريث فيه، ولم يوف حقه من الأناة والتحقيق ... فلم يك مني إلا أن صححت النسخة التي بين يدي، وتناولتها بالتنقيح والتهذيب، والحذف والزيادة، وتداركت جميع المآخذ، حتى إذا قدر لهذا الشرح أن يعاد طبعه، طبع على هذه النسخة.
وما زلت على هذه الحال مستعصما بالصبر حتى نفدت نسخ هذه «الطبعة»، ولم يك بد من إعادة طبع هذا الديوان، فكانت فرصة جميلة مؤاتية أحيت ميت الأمل، وحفزتني إلى استئناف العمل، فكان أن وجهت عزيمتي إلى التوسع في هذا الشرح وجعله شرحا وافيا من كل نواحيه، شرحا أورد فيه جميع تفاسير الشراح، وأقوال النقاد، وأستوعب مزايا كل الشروح، وليس ذلك أثرة مني واستبدادا بالمتنبي، ولكنه حب الكمال، وما يسمونه المثل الأعلى ... فلقد رأيت بعض الشراح قد اختصر الطريق، واكتفى بتفسير الكلمات اللغوية، وبعضهم قد جعل وكده الإعراب وما يتعلق بالأبيات من جهة النحو والتصريف، وآخرين قصروا عنايتهم على إيراد السرقات والأشباه والنظائر. بيد أن هذه الأشباه - ومثلها الشواهد النحوية التي أوردها العكبري، ومن قبله الإمامان: أبو الفتح بن جني، والواحدي - تحتاج هي الأخرى إلى الشرح والتفسير ... ورأيت في بعض عبارات القدامى من الشراح غموضا يجمل أن يوضح أو يستبدل به غيره، مما يوائم أذهان هذا الجيل ... فكان كل أولئك مما حفزني إلى الاحتفال والاحتشاد لهذا الشرح ... فكان أن أوردت فيه جميع تفاسير الشراح - من متقدمين ومتأخرين - وأقوال نقدة المتنبي - من متعصبين له ومتعصبين عليه - وأكثرت من إيراد الشواهد، والأشباه والنظائر، وشرحت ما غمض من هذه الشواهد والأشباه ، ومن عبارات الشراح، فضلا عن تصحيح الأخطاء التي ألمت بالشرح الأول، حتى أربى هذا الشرح على الشروح كلها مجتمعة، وحتى صار هذا الشرح شرحا للمتنبي، وشرحا لشروح المتنبي ...
على أنني لا أدعي أن الكمال الذي نشدت قد تحقق، وحسبي أني لم آل جهدا، ولم أدخر وسعا، وإن كان جهد المقل، وغاية المستطيع، ورحم الله العماد الأصفهاني حين يقول: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل ... وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر. «وأما بعد» فلمناسبة هذا الشرح الجديد، والاحتشاد فيه، والعمل على جعله مغنيا عما عداه: رأيت أن أتبسط شيئا في سيرة المتنبي - ولا سيما ما كان منها عونا على معرفة المناسبات والظروف التي قيلت فيها قوافيه - وكذلك رأيت أن أترجم شراح المتنبي ممن ورد ذكرهم في هذا الشرح، وإتماما للفائدة جمعت أمثال المتنبي وحكمه وألحقتها بهذه الكلمة.
وإنما نترامى بهذا كله إلى أن يكون هذا الكتاب - ديوان المتنبي وشرحه ومقدماته - كفيلا بتحقيق كل ما يصبو إليه دارس شعر المتنبي.
وإني أسأله - سبحانه - أن يهبه من السلامة ما يحقق له رضا المنصفين، ويضفي عليه من القبول ما يعم به انتفاع المتأدبين، إنه سبحانه بذلك كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الرحمن البرقوقي
1357ه/سنة 1938م
سيرة المتنبي
نامعلوم صفحہ
نسبه
هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار الجعفي الكندي الكوفي، أو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي ... إلخ، كما روى الخطيب وابن خلكان، وروى بعض المؤرخين: أحمد بن محمد ... إلخ.
وجعفي جد المتنبي:
1
هو جعفي بن سعد العشيرة من مذحج من كهلان من قحطان، وكندة التي ينسب إليها، محلة بالكوفة، وليست كندة القبيلة كما ظن بعضهم خطأ.
وكان والد المتنبي يعرف بعبدان السقاء، يسقي الماء لأهل المحلة، أما جدته لأمه فهي همدانية صحيحة النسب، وكانت من صلحاء النساء الكوفيات، وكان جيرانهم بالكوفة من أشراف العلويين، وكان لأبي الطيب منهم خلصاء وأصدقاء.
ولم يذكر المتنبي في شعره نسبه أو قبيلته، ولا أشار إلى والده أو جده، وإنما ذكر جدته لأمه، وكان يدعوها والدته، في أشعار منها:
أمنسي الكون وحضرموتا
ووالدتي وكندة والسبيعا
وقد روى الخطيب عن علي بن المحسن عن أبيه قال: «وسألت المتنبي عن نسبه فما اعترف لي به، وقال: أنا رجل أخبط القبائل وأطوي البوادي وحدي، ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينه وبين القبيلة التي أنتسب إليها، وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لساني.»
نامعلوم صفحہ
على أن المتنبي قد دافع عن نسبه هذا، في القصيدة التي مطلعها:
لا تحسبوا ربعكم ولا طلله
أول حي فراقكم قتله
وإن يكن لم يذكره، وإنما أشاد بآباء له عظام، في قصيدته هذه، وفي مواضع أخرى من شعره، دون أن يذكر رحله أو عشيرته أو قبيلته.
ولم يكن المتنبي يعنى بأن يعرف عنه إلا أنه المتنبي، لا يفخر بقبيلة، إنما تفخر به القبيلة التي هو منها، قال في إحدى قصائد الصبا:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وقال في رثاء جدته لأمه:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونك لي أما
نامعلوم صفحہ
ويقول بعض مؤرخي الأدب العربي: إن بعض شعر المتنبي قد يدل على عصبية يمانية، فأكثر ممدوحيه في أيامه الأولى من قبائل يمانية، مدح شجاع بن محمد الأزدي، وعلى بن أحمد الطائي، وغيرهم، ومدح التنوخيين في اللاذقية، وقال للحسين بن إسحاق التنوخي يمدحه - بعد أن هجاه بعض الناس ونسب الهجاء إلى المتنبي:
أبت لك ذمي نخوة يمنية
ونفس بها في مأزق أبدا ترمي
على أن ذلك الذي يكتم نسبه عن الناس فينسى الناس ذلك النسب، والذي يختلف المؤرخون في تسمية آبائه، ليس ذا نسب نابه على كل حال، ثم إن خلط كندة التي ولد بها المتنبي، بكندة القبيلة، شيء يحقق خمول نسب شاعرنا الكبير وتفاهته، وهو - على الرغم من كل أولئك - عربي قح، عريق في عروبته، فلا يعيبه أن كان من بيت فقير.
أسرته
ولقد اتفقت روايات المؤرخين على أن أبا المتنبي كان سقاء، وقد هجاه ابن لنكك البصري لما سمع بقدومه بغداد راجعا من مصر فقال:
لكن بغداد جاء الغيث ساكنها
نعالهم في قفا السقاء تزدحم
وقال شاعر آخر:
أي فضل لشاعر يطلب الفض
نامعلوم صفحہ
ل من الناس بكرة وعشيا
عاش حينا يبيع في الكوفة الما
ء وحينا يبيع ماء المحيا
وروي أن والد المتنبي سافر به إلى الشام، وتنقل به بين حضرها وباديتها ومدرها ووبرها، وردده في القبائل.
على أن الثابت الذي ينطق بأن والد المتنبي لم يكن رجلا نابه الشأن - كما يرجح الرواة - أنه مات فما رثاه ولده بكلمة واحدة.
أما والدة المتنبي، فلم يذكر الرواة عنها شيئا، ويرجح أنها ماتت في حداثته قبل سفره إلى الشام، وأما جدته لأمه فقد تقدم ذكرها، وهي التي تفردت من بين أسرته جميعا برثائه لها واحترامه الفخم. قال إبان اعتقاله:
بيدي أيها الأمير الأريب
لا لشيء إلا لأني غريب
ولأم لها إذا ذكرتني
دم قلب في دمع عين يذوب
نامعلوم صفحہ
وتلك هي جدته التي أخبرنا في شعره - كما أخبرنا الرواة - أنها ماتت فرحا بكتاب جاءها منه بعد غيبة طويلة مؤيسة، وإنك لواجد أثرها البليغ في حياته وسيرته، ولامس ثورة نفسه وحزنه عليها في قصيدته التي مطلعها:
ألا لا أري الأحداث مدحا ولا ذما
فما بطشها جهلا ولا كفها حلما
وأجمع رواة أخبار المتنبي على أن مولده كان في محلة كندة، إحدى محلات الكوفة، سنة ثلاث وثلاثمائة من الهجرة، وهذا هو كل ما نعرفه من أخبار نشأته الأولى اللهم إلا النزر الذي لا ينقع غلة، جاء في الإيضاح أنه «اختلف إلى كتاب فيه أولاد أشراف العلويين، فكان يتعلم دروس العربية شعرا ولغة وإعرابا» وكان - إلى جانب ذلك - يختلف إلى الوراقين ليفيد من كتبهم، وقد تميز منذ الطفولة بالذكاء وقوة الحفظ، واشتهر بحبه للعلم والأدب، وقد لزم الأدباء والعلماء، وأكثر ملازمة الوراقين فكان علمه من دفاترهم.
ومما يستطرف هنا ما ذكره بعض الرواة عن قوة الحفظ في المتنبي، وهي أن أحد الوراقين أخبره أن أبا الطيب كان عنده يوما، فجاءه رجل بكتاب نحو من ثلاثين ورقة لييعه، فأخذ أبو الطيب الكتاب وأقبل يراجع صفحاته، فلما مل صاحب الكتاب ذلك استعجله قائلا: يا هذا لقد عطلتني عن بيعه، فإن كنت تبغي حفظه في هذه الفترة القصيرة، فذلك بعيد عليك. قال المتنبي: فإن كنت حفظته فما لي عليك؟ قال الرجل: أعطيكه. قال الوراق: فأمسكت الكتاب أراجع صفحاته والغلام يتلو ما به حتى انتهى إلى آخره، ثم استلبه فجعله في كمه ومضى لشأنه.
وروي أن المتنبي صحب الأعراب في البادية فعاد إلى الكوفة عربيا صرفا، أما مدة إقامته فيها فهي أكثر من سنتين، قال العلوي: إنه أقام في البادية سنين، وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أنه أقام فيها سنتين، ويرجح أن مغادرة المتنبي إلى البادية كانت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، حينما أغار القرامطة على الكوفة، ويرجح كذلك أنه غادر الكوفة مرة أخرى سنة خمس عشرة وثلاثمائة عندما عاود القرامطة الغارة وهزموا جيش الخلافة، وقد كان لذلك أثر بين في نفس المتنبي فاض في بعض أحاديثه وأشعاره.
وقد رحل المتنبي بعد ذلك إلى بغداد. جاء في «الصبح المنبي»: أن أبا الطيب قال: «وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد.» وإنه وإن لم يذكر المؤرخون موعد ذهابه إلى بغداد، فمن الراجح أنه ذهب إليها سنة تسع عشرة وثلاثمائة فقد جاء في النجوم الزاهرة في حوادث تلك السنة: أن القرامطة أغاروا على الكوفة فرحل أهلها إلى بغداد. فليس بعيدا أن تكون هجرة المتنبي إلى بغداد مع الراحلين إليها من أهل الكوفة، ومن المحتمل أيضا أن يكون المتنبي قد ذهب إلى بغداد قبل ذلك مرة أو مرات.
ويبين - بعد ذلك - من سيرة المتنبي، ومن روايات المؤرخين، أن ثقافة الشاعر العربي لم تكن جماع ما تلقاه في كتاب الكوفة، وما أفاده من مصاحبة الأعراب في البادية، وما تعلمه في بغداد فحسب؛ بل لقد زاد على ذلك أنه هاجر إلى العلماء وصاحبهم، فدرس على السكري ونفطويه وابن دستويه، ولقي كذلك أبا بكر محمد بن دريد فقرأ عليه ولزمه، ولقي بعده من أصحابه أبا القاسم عمر بن سيف البغدادي، وأبا عمران موسى، وأنه «طلب الأدب وعلم العربية، ونظر في أيام الناس، وتعاطى قول الشعر من حداثته حتى بلغ الغاية التي فاق فيها أهل عصره، وطاول شعراء وقته.»
رحلته إلى الشام
وكانت رحلة أبي الطيب إلى الشام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، كما يقول المعري في رسالة الغفران، وفي دائرة المعارف الإسلامية: أنه رحل إلى بغداد سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم رحل بعد ذلك إلى الشام، ويقول بعض شراح الديوان: إن القصيدة التي مطلعها:
نامعلوم صفحہ
ذكر الصبا ومراتع الآرام
جلبت حمامي قبل يوم حمامي
نظمها الشاعر في رأس عين، وأرجأ قولها إلى أن لقي سيف الدولة بإنطاكية، ولا ريب أن مرور الشاعر برأس عين كان في إبان ذهابه إلى الشام، وقد كان ذلك سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة؛ فإن صح هذا، يكون المتنبي قد رحل إلى الشام وسنه ثماني عشرة سنة.
وقد وضع الواحدي في شرحه القصيدة التي أولها:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا
والبين جار على ضعفي وما عدلا
في القصائد الشامية؛ أي إنها وما بعدها إلى الكافوريات، قيلت في الشام، أما ما قبلها، فقيل في العراق، وليس ما قبلها بكثير.
ولم يبد شاعرنا الكبير حنانا إلى وطنه العراق، الذي سلخ فيه ثماني عشرة سنة من عمره، وإنما ذكره في بعض قصائده، وذكر أن وطن الإنسان هو الأرض التي حل فيها فلقي خيرا وصحابا، ويبدو أن وطنه ذلك قد نبا به، وضاق بآماله وأحلامه وطموحه.
ولم تكن رحلة المتنبي إلى الشام ومكثه به وقوله الشعر، إلا في طلب المجد والسؤدد ورفعة الشأن، ولا ندري أسافر إليها وحده، أم سافر في صحبة والده؟
وجدير بنا، قبل أن نمضي في ترجمة شاعرنا إبان إقامته في الشام، أن نلمع إلى الحالة السياسية بها في هذه الفترة؛ لما لها من أثر كبير في حياة الشاعر وسيرته.
نامعلوم صفحہ
فلقد كانت الشام - على عهد المتنبي - مقسمة بين الأخشيد وابن رائق، ثم بين الأخشيد وسيف الدولة، وقد استمرت المنازعات عليها منذ سنة ست عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر بالله العباسي، وقد ولى محمد بن طغج على الرملة، ثم أضاف إليه دمشق سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، وكانت حلب في أيدي ولاة يرسلون من بغداد، ثم ولي محمد بن طغج مصر أيضا ثم عزل عنها، وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة في عهد الراضي بالله العباسي عظم أمر ابن طغج، فأعيدت ولايته على مصر، وامتد سلطانه على الشام كلها، وخلع طاعة الخليفة؛ فأرسل إليه ابن رائق، فاستولى على الشام وولى ابن يزداد حلب، ثم دمشق، وكان الأخشيد قد استقر على الرملة، فسير جيشا يقوده كافور إلى الشام، فهزم ابن يزداد واستولى على حلب، ثم استقر سلطان الأخشيد على الشام كلها، وفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة استولى سيف الدولة على حلب، وبقي الأخشيديون في دمشق.
وقد مدح أبو الطيب من رجال هذه الوقائع مساور بن محمد الرومي، والحسين بن عبد الله بن طغج، وهو ابن أخي الأخشيد، وطاهر العلوي، قال في مساور القصيدتين اللتين مطلعاهما:
جللا كما بي فليك التبريح
أغذاء ذا الرشإ الأغن الشيح (و)
أمساور أم قرن شمس هذا
أم ليث غاب يقدم الأستاذا
ويعني الشاعر بلفظة «الأستاذ»: كافورا.
وكانت طريق أبي الطيب إلى الشام هي طريق الجزيرة، فمر برأس عين وانتهى إلى منبج، حيث أقام يمدح جماعة من رؤساء العرب، وأول قصائده الشامية في الديوان يمدح بها سعيد بن عبد الله الكلابي المنبجي - وهي القصيدة التي أشرنا إليها من قبل - ثم مدح الشاعر جماعة أخرى في منبج وطرابلس وغيرهما من بلاد الشام الشمالية.
ولا نحب أن نمضي قدما في سيرة الشاعر، دون أن نقف بحادثة ادعائه النبوة، وهي الحادثة التي أثرت أكبر التأثير في صوغ سيرته في كتب الأدب؛ لنعلم أحقا كان ذلك أم كذبا ؟ فإن كان كذبا فلماذا لقب بالمتنبي ؟ •••
لا جدال في أن أبا الطيب سجن بالشام في أيام شبابه، فقد أجمع على ذلك رواة سيرته جميعهم - كما أنبأ به في شعره - أما سبب سجنه فذلك ما اختلف فيه الرواة بعضهم مع بعض، وما اختلف فيه أبو الطيب، مع رواة سيرته، ويقول الخطيب البغدادي: إن أبا الطيب «لما خرج إلى كلب وأقام فيهم ادعى أنه علوي حسني، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي، إلى أن أشهد عليه بالشام بالكذب في الدعويين، وحبس دهرا طويلا، وأشرف على القتل، ثم استتيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلق.» ويقول أيضا رواية عن خلق يتحدثون: «إنه تنبأ في بادية السماوة ونواحيها إلى أن خرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية، فقاتله وأسره، وشرد من اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب، وحبسه في السجن حبسا طويلا فاعتل وكاد أن يتلف، حتى سئل في أمره؛ فاستتابه وكتب عليه وثيقة أشهد عليها فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام.»
نامعلوم صفحہ
ويروي المعري في رسالة الغفران: أنه لما حصل في بني عدي، وحاول أن يخرج فيهم، قالوا له - وقد تبينوا دعواه: ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل، وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل فتحيل، حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها، ومشت مشى الممسحة، وأنه ورد الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم.
وروى كذلك: أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام، فجرحته جرحا مفرطا، فتفل عليها أبو الطيب من ريقه وشد عليها، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياما وليالي، فقبل الكاتب ذلك وبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون فيه النبوة، ويقولون: إنه كمحيي الأموات.
وفي الصبح المنبي: أن أبا الطيب قدم اللاذقية بعد نيف وعشرين وثلاثمائة فأكرمه معاذ، ثم قال له: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير. فقال : ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل؛ ثم تلا عليه جملة من قرآنه - وهو مائة وأربع عشرة عبرة - ثم أراه معجزة، فمنع المطر عن بقعة وقف فيها، فأصاب المطر ما حولها ولم تصبها قطرة، فبايعه معاذ، وعمت بيعته كل مدينة في الشام، ثم إنه لما شاع ذكره، وخرج بأرض سلمية من عمل حمص قبض عليه ابن علي الهاشمي، وأمر النجار بأن يجعل في رجليه وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف، وقد كتب أبو الطيب من حبسه إلى الوالي:
بيدي أيها الأمير الأريب ... ... ... إلخ
تلك بعض الروايات التي ألصقت بأبي الطيب دعوى النبوة، وهي روايات واضحة الكذب واهية الأسانيد؛ فأما أولاها: فدعوى النبوة فيها مقحمة إقحاما تسبقها وتعقبها دعوى العلوية، فكأنما صح في ذهن جمهرة الرواة أنه تنبأ فجعلوا في رواياتهم مصداق ما سمعوه وصح في أذهانهم، وأما الثانية: فهي رواية عن خلق يتحدثون، وهذه مقطوع ببطلانها مقضي بكذبها، فأحاديث الخلق دائما مزوقة الجوانب موشاة الحواشي، بالكذب القصصي الشيق، واما رواية المعري: فهي حديث خرافة أيضا، لا تقرر شيئا، إلا أنه قام بالمعجزات وأن الناس صدقوا به، وذلك شيء بعيد الحدوث، بل مستحيله أيضا؛ فلو أن المتنبي تنبأ فعلا فمن المقطوع به أن أحدا من الناس لم يؤمن بنبوته، وأما رواية معاذ فناطقة بالكذب الصريح والتلفيق البين؛ لأن فيه قرآنا ومعجزات وتصديقا بدعوته، وحديثا مفككا يناقض أوله آخره.
والذي يسهل على التصديق ويدخل في نطاق الواقع من أيسر سبيل أن أبا الطيب لقب بالمتنبي؛ لبعض أبيات من شعره، ولتعاليه وتعاظمه، ففي الديوان قطعة جاء قبلها «وعذله أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي على ما كان قد شاهد من تهوره فقال:
أيا عبد الإله معاذ إني
خفي عنك في الهيجا مقامي»
وليس في هذه القطعة إلا المخاطرة ومصاولة الخطوب في سبيل ما يطمح إليه من المجد والسؤدد، وليس فيها ذكر لدعوى النبوة أو إشارة إلى خارق المعجزات التي حفلت بها الرواية السابقة.
ويقول الثعالبي: إنه بلغ من كبر نفسه وبعد همته أنه دعا قوما من رائشي نبله، على الحداثة في سنه، والغضاضة من عوده، وحين كاد يتم أمر دعوته، تأدى خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج، فأمر بحبسه وتقييده.
نامعلوم صفحہ