183

Sharh Bab Tawhid Al-Uloohiyah min Fatawa Ibn Taymiyyah

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية

اصناف

بيان الله تعالى للتوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به
قال رحمه الله تعالى: [وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم مواد الإشراك به؛ حتى لا يخاف أحد غير الله، ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عليه، وقال تعالى: ﴿فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [المائدة:٤٤]، ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ [آل عمران:١٧٥]، أي: يخوفكم أولياءه ﴿فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:١٧٥]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء:٧٧]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [التوبة:١٨]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور:٥٢].
فبين أن الطاعة لله ورسوله، وأما الخشية فلله وحده].
هذه أمثلة لقاعدة عظيمة، وهي: أن الأصل في الطاعة والاتباع طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ بناء على أمر؛ لأن هذه الأمور متعلقة بالشرع، أي: أن الطاعة واتباع الأوامر واجتناب النواهي متعلقة بالشرع، فكل ما تعلق بالشرع فلابد من طاعة الله، ثم طاعة رسوله ﷺ؛ لأن الله أمر بذلك.
أما ما يتعلق بالخشية والإنابة والتوبة والعبادة ونحو ذلك فإنها عبادة، والعبادة لا تجوز إلا لله ﷿.
إذًا: فالمشروع فيما يتعلق بالطاعة: أن يطاع الله ويطاع الرسول ﷺ طاعة لله سبحانه، والمشروع فيما كان من أمور العبادة ألا يعبد إلا الله.
ولذلك الخلط بين هذه الأمور جعل كثير من أهل البدع يقعون في الشرك؛ لأنهم جعلوا مسلك الخشية والإنابة بالنسبة لمسألة الطاعة والاتباع، فصاروا يخشون الرسول ﷺ وينيبون إليه، ويخشون الأولياء وينيبون إليهم، زاعمين أن هذا من طاعة الله، وأن الله أمر بذلك، وما عرفوا أن أمر الله متعلق بالشرع فقط لا بالعبادة، وشيء يتعلق بالشرائع تشريع، وأما ما يتعلق بالعبادة فالرسول ﷺ يطاع فيما شرعه من العبادات، بل ويأبى أن يتوجه إليه بالعبادة نفسها، فهو مشرع عن الله لا ينطق عن الهوى ﷺ، لكن لا تصرف العبادة له ولا لغيره.
إذًا: أنواع العبادة، كالخشية والإنابة والرجاء والخوف وجميع أعمال القلوب لا يتوجه بها إلا إلى الله ﷿، أما الشرائع، أعني: الأوامر والنواهي، فيطاع فيها الله ويطاع فيها الرسول ﷺ تبعًا لطاعة الله، وأيضًا يطاع أولي الأمر والراسخون في العلم -الذين هم ورثة الأنبياء- الذين يقولون بالحق وبه يعدلون.
قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة:٥٩]، ونظيره قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:١٧٣]].
مسألة الرضا والطاعة في الشرع جعلوها لله تعالى، ثم لرسوله ﷺ، ومسألة الرضا بمعنى الاتباع والامتثال والطاعة، كما أنها لله ﷿ فقد أمر أن تكون لرسوله ﷺ ولأولي الأمر، لكن لما جاءت في مسألة الخشية والتخويف قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فما توجهوا إلا إلى الله ﷿.
قال رحمه الله تعالى: [وقد كان النبي ﷺ يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك، إذ هذا تحقيق قولنا: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف، حتى قال لهم: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد)، وقال له رجل: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده)، وقال: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال لـ ابن عباس ﵄: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو جهدت أن تضرك لم تضرك إلا بشيء كتبه الله عليك)، وقال أيضًا: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا:

16 / 6