مصطلح الشريعة والحقيقة عند الصوفية
يوجد هذا الاختلاط الذي دخل على كثير من الخاصة في مصطلح متداول في كلام كثير من خاصتهم، وهو ما يسمى بالشريعة والحقيقة، حتى أدى الأمر عند جملة منهم إلى الفصل بين الشريعة وبين الحقيقة.
ولذلك غلب شهود مقام الربوبية -وهذا عند كثير من خاصة الصوفية حتى بعض المقاربين للسنة كـ الهروي صاحب المنازل- عن شهود مقام الألوهية؛ فـ الهروي يقول: "إن العارف والمحقق -أي من وصل إلى الحقيقة- لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة"، وليس معناه أنه يقول: يفعل الحرام ولا يبالي، لكن يقول: إن مسألة الاستحسان للحسنة والسيئة يتجاوزها إلى مسألة الشهود لحقيقة الرب المدبر الذي العبد يتدبر ويتحرك من جهته.
ولهذا مالوا إلى مسألة عدم تعليل أحكام الشريعة، وهذا أصل نظري كان أصله من الجهمية، ثم دخل على كثير من متكلمة الصفاتية وكثير من المتصوفة، فهم يرون أن العلة في أفعال الرب ﷾ أنه يأمر بما يشاء لمحض المشيئة وليس لحكمة معينة، وينهى عباده عما يشاء لمحض المشيئة وليس لحكمة معينة، فجردوا فعله ﷾ عن الحكمة، وهذا من باب -في نظر الصوفية- أن هذا هو المقصود الإلهي الأول، أنه لتحقيق معنى العبودية تتبع المشيئة المطلقة، دون أن يشهد العابد والعارف -كما يقول الهروي - معنىً مناسبًا يقوده إلى القيام بهذا العمل، أو معنىً مناسبًا يقوده إلى ترك العمل، بل يكون المحرك لفعله هو مطابقة المشيئة المطلقة.
فالمقصود أن ترتيب منازل الشريعة ترسم عند كثير من الخاصة بما سموه: مصطلح الشريعة والحقيقة، وجعلوا العارف هو من وصل إلى مقام الحقيقة، وجعلوا للحقيقة منازل، ثم تختلف درجاتهم في منازل الحقيقة بحسب الطبقات، فمنهم مقتصد ومنهم فوق ذلك، ومنهم من يكون غاليًا في تفسيره للحقيقة.
فالتفريق بين مسألة الشريعة والحقيقة من الاجتهاد الذي دخل عليهم في ترتيب منازل الشريعة، وهذه الصورة من الاجتهاد تختلف بوجه مع الأصل الثالث من أصول الوسطية، ولذلك قلنا: إن الفقه المعتبر عند المتقدمين هو التفريق بين الأصول والفروع.
فإن من منازل الشريعة الصحيحة: أن للشريعة أصولًا وفروعًا، وقد تقدم أنه لا إشكال في هذا المصطلح، فإن توحيد الله وما إلى ذلك يسمى أصولًا، وهذا لا أحد يجادل فيه إلا ربما ناقص العقل والتفكير، لكن الذي قد يتردد فيه بعض الناس عند كلمة الأصول هو: ماذا يقابلها؟
ففي كلام الأئمة من السلف يكثر ذكر مسألة أصول الدين ..
أصول السنة ..
أصول الإيمان ..
فكلمة الأصول مستفيضة في كلام أئمة الشريعة.
إنما الذي لم يستفض هو مصطلح التقابل: أصول وفروع، وإن كان بعضهم كـ أبي عبيد القاسم بن سلام قد صرح به، وكذلك الشافعي، ثم لما انتظمت الاصطلاحات نبه الإمام ابن تيمية إلى الغلط الذي دخل في تفسير هذا المصطلح.
إذا: ً فقه الأصول والفروع وفقه المحكم والمتشابه هذا هو المنهج الذي تنضبط به منازل الشريعة: أن يفرق العابد والعارف والسالك بين العبادات والسلوك الأصول وبين العبادات والسلوك الفروع، كما قال الشارع ﵊: (أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، مع أن إماطة الأذى عبادة وقربة إلى الله ﷾ إذا وقعت على جهة التقرب، ومع ذلك ليست هي كالصلاة، وصلاة الضحى ليست كالصلواتالخمس، بل إن الشارع فضل بين بعض الصلوات بعضها على بعض، فذكر نصوصًا في بعضها لم تذكر في غيرها، وكذلك النوافل، فراتبة الفجر هي أجل الرواتب ..
وهلم جرا.
فهذا فقه بين في الشريعة، كان الصحابة يفقهونه فقهًا ظاهرًا بينًا لا جدال فيه.
إذًا: الصورة الثالثة من صور الاجتهاد المخالف للشريعة التي دخلت على كثير من خاصتهم هي اجتهادهم في ترتيب منازل الشريعة على غير ما مضت به النصوص، وانتظم هذا في مصطلح الشريعة والحقيقة، وهذا يختلف بوجهٍ -قد يكون هذا الوجه مقتصدًا، أي: ليس مطردًا، وقد يكون فوق ذلك، وقد يكون غاليًا- مع الأصل الثالث من أصول الوسطية الشرعية، وهو فقه الفرق بين الأصول والفروع والمحكم والمتشابه.
ونتج عن ذلك أن اشتغل كثير من هؤلاء بأوجه من العمل أقل ما يقال فيه: إنه متشابه، فاشتغلوا به عن المحكم، فضلًا عن العمل المبتدع في الإسلام الذي هو أوجه من الغلو، فهذا شأن ابتلي به كثير منهم، وإن كان لم يطرد عند أئمتهم العارفين من السابقين الذين كانوا على قصد من السنة والجماعة، وكثير من هؤلاء قد يكون سماه الناس صوفيًا وهو لم يتسم بذلك، إلى غير تلك التعليقات والتقييدات التي سبق أن أشرت إليها.
فهذه النظرية التي دخلت على الصورة الثالثة من صور الاجتهاد -وهي مسألة الشريعة والحقيقة- أدت عند الغلاة إلى الفصل بين الشريعة وبين الحقيقة، حتى صار المقصود عند الغلاة منهم هو الوصول إلى الحقيقة وليس إلى تحقيق أو إلى رتبة الشريعة.
5 / 10