شرح الوصية الكبرى لابن تيمية - الراجحي
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية - الراجحي
اصناف
نصيحة لطلاب العلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [من أحمد بن تيمية عفا الله عنه إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي ﵀ ومن نحا نحوهم وفقهم الله لسلوك سبيله وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله ﷺ، وجعلهم معتصمين بحبله المتين مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله ﷺ من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنا نحمد الله إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم ﷺ وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عندهم درجة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله، وجعلهم أمة وسطًا أي: عدلًا وخيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، وهداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم].
أحمد الله ﷾ أن وفقنا لدراسة هذه الرسالة القيمة للإمام العلامة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني وأسأله ﷾ أن يجعل مجلسنا هذا مجلس علم وخير تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).
وإني أبشركم أيها الإخوان! وأهنئكم بهذا الخير العظيم، حيث وفقكم الله ﷾ بسلوك سبيل العلم، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)، وقال ربنا ﷾: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر:٩]، وقال سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:١١].
فهنيئًا لكم حيث سلكتم سبيل العلم وأسأل الله ﷾ أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصوابًا على هدي نبيه محمد ﷺ، فإن طلب العلم وسلوك سبيل العلم من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا فإنه يجب على العبد أن يخلص في طلبه للعلم، وأن يكون قصده بذلك وجه الله والدار الآخرة لا رياء ولا سمعة ولا مالًا ولا جاهًا ولا منصبًا.
بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، ولهذا قيل للإمام أحمد ﵀: كيف يخلص طلبه للعلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل:٧٨]، فطالب العلم إذا أخلص عمله لله فهو على خير عظيم، ولهذا قال العلماء: إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة، أي: أنه لو تعارض طلب العلم مع أداء النوافل كنوافل الصلاة مثل: صلاة الليل أو صلاة الضحى أو الصيام مثل صيام الإثنين والخميس وأيام البيض فإنه يقدم طلب العلم؛ لأنه أفضل منها.
وما ذاك إلا لأن المسلم حينما يطلب العلم فإنه يتبصر ويتفقه في دينه فيعلم الحلال والحرام، وإذا تعلم صار ذلك طريقًا إلى العمل فينقذ نفسه وغيره من الجهل، وهذا من علامة إرادة الله بعبده خيرًا، كونه يوجهه إلى طلب العلم ويفقهه في الدين كما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان ﵁ أن النبي ﷺ قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وأنا قاسم والله المعطي).
فهذا الحديث الشريف الذي رواه الشيخان له منطوق ومفهوم، منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد الله به خيرًا، ومفهومه: أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرًا.
وقد تكاثرت النصوص في فضل العلم وطلبه، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري ﵁ أن النبي ﷺ قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
وثبت في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم فيحفونهم)، وثبت أيضًا: أن الله تعالى يغفر لأهل الذكر وأهل العلم في مقدمة أهل الذكر، وأنه يأتي إليهم من ليس منهم فتشمله الرحمة فيقول الرب سبحانه: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وثبت أيضًا: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، فهنيئًا لكم حيث وجهكم الله هذه الوجهة الشريفة فأقبلتم على طلب العلم.
وإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷿، وإخلاص العمل لله والصدق مع الله في إخلاصكم لله في طلبكم للعلم، وعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص في طلب العلم، فيتعلم ويسلك المسالك المتنوعة لطلب العلم من حضور الحلقات في المساجد والدروس العلمية، والالتحاق بالجامعات والكليات والمدارس والمعاهد العلمية، وحضور المحاضرات والندوات، وسماع البرامج المفيدة في إذاعة القرآن وغيرها، وسماع الأشرطة المفيدة النافعة، والقراءة في كتب أهل العلم القديمة والحديثة.
وعلى طالب العلم أن يتحرى قراءة كتب أهل العلم الذين هم على عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وليحذر من القراءة في كتب أهل البدع والضلال.
ومن سبل العلم أيضًا سؤال العلماء والاتصال بهم والأخذ عنهم، وعلى طالب العلم أن يعمل بعلمه، فإن عمله بالعلم يجعله من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم، فمن الله عليهم بالعلم والعمل، وكذلك يكون سببًا لحفظه وبقائه كما قيل: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل فعلى طالب العلم أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة أخلاق أهل العلم، ويحذر من الانحراف والزيغ في معتقده أو في عمله أو مشابهة أهل البدع والضلال، وأن يكون قدوة حسنة في اعتقاده، وفي عمله، وفي أخلاقه، وفي معاملته مع الناس، وأن يقتدي بالعلماء الربانيين كالصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة الأعلام كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية صاحب هذه الرسالة العظيمة، وغيره من أهل العلم كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب.
1 / 3