Sharh Al-Wasatiyyah - Yusuf Al-Ghafis
شرح الواسطية - يوسف الغفيص
اصناف
مسألة قتل المسلم لنفسه
أشكل على قوم من أهل العلم ما ورد في قاتل نفسه من النص، فإن النبي ﷺ قال كما في الصحيحين: (من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا) فصار بعض المتأخرين يقولون: إن قتل النفس عمدًا يستلزم الخلود في النار، وصار بعضهم يتوقف في من قتل نفسه عمدًا، هل يخلد في النار، أم أن مآله إلى الجنة.
أما الذين يقولون: إنه يخلد في النار، فهم لا يحققون هذا مع قاعدتهم المعروفة في أهل الكبائر عند سواد أهل السنة والجماعة؛ بل عامة المسلمين أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار.
لكن الذي ينبغي أن ينبه إليه وهو الذي وقع فيه بعض أهل العلم حتى من المعاصرين: أنهم توقفوا في من قتل نفسه: هل يخلد في النار، أم أن مآله إلى الجنة.
فقالوا: الله أعلم، هذه مسألة مشكلة، الأصول تقول: إنه كأهل الكبائر، والنص يقول: (خالدًا مخلدًا فيها أبدًا).
وهنا قاعدة فاضلة، وقد ذكرها الله ﷾ في القرآن وهي من باب أولى فيما أشكل من أحرف السنة، مع أن القرآن من جهة الثبوت قطعي، بخلاف السنة، فإن منها ما هو قطعي الثبوت، ومنها ما هو ظني، والظن يتردد إلى درجات كثيرة.
الله ﷾ يقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران:٧] فدل هذا على أن في القرآن محكمًا ومتشابهًا.
والوارد من أحاديث النبي ﵌ قد يكون فيه بعض المتشابه، وسبب التشابه هنا قد يكون جهة الثبوت، وهذا هو الغالب، ولهذا ليس هناك نص من السنة انضبطت صحته عن الرسول ﷺ يخالف نصًا صريحًا في كتاب الله أو يخالف قاعدة.
وقاعدة: أن أهل الكبائر تحت مشيئة الله، وأن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، من القواعد القطعية في القرآن والسنة.
فقد تكون هناك بعض النصوص المشكلة؛ لكن إذا تأملت فيها وجدت أنها ليست قطعية الثبوت.
فهل يقال فيها بالرد؟
الجواب: لا يلزم أن يقال فيها بالرد والتكذيب، كما يسلكه بعض المتكلمين، أن ما خالف القطعي من الظني يكذبونه ويردونه، أي: يبطلون صحته، ثم هم في تحديد القطعي على إشكال، فهم يختلفون حتى في تحديدهم لِمَا هو قطعي.
فإن المنهج المعتدل عند السلف: أنهم لا يبطلونه ردًا، ولكنهم يفسرونه على معنىً يناسب القاعدة القطعية.
فكل ما كان من الأحرف مشتبه الثبوت لا يلزم ردُّه؛ لكن لا يصح أن يفسر بما يعارض القطعي.
فهذا الحديث الذي ثبت في البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة فيه قوله: (خالدًا مخلدًا فيها أبدًا) يعارض بظاهره القاعدة التي تنص على أنه لا يخلد في النار إلا الكفار.
وعلى هذا نقول: لا يمكن أن يكون هذا الحديث على المعنى المتبادر، وهذا أجود من أن نقول: لا يمكن أن يكون الحديث على ظاهره؛ لأنه ربما كان هناك فساد في ذوق اللغة عند أكثر المتأخرين، وعصرنا داخل في هذا الإشكال.
فإذا أردت أن تفسر الحديث أو القرآن تفسيرًا لغويًا فلا تعتبر الكلمة المفردة، وجمهور التفسير اللغوي للقرآن والسنة لا يعتمد على الكلمات المفردة، وإنما يعتمد على السياقات.
العرب كانوا يتذوقون اللغة، ولاسيما الجاهليين منهم.
فكونك تحس ذوق اللغة ليس أمرًا سهلًا، ولا يتحقق ذلك من خلال نظرك في قاموس أو في معجم أو ما إلى ذلك، فإن اللغة لسان، وليست علمًا يُتَعَلم، ولهذا ما كان علمًا محددًا أمكنك أن تكتبه، بخلاف الشيء إذا ما كان ذوقًا، إذ ليس له نظام يستطيع أحد ضبطه.
صحيح أن علماء اللغة وضعوا القواميس ودرسوا البلاغة وما إلى ذلك؛ لكن بقي أن اللغة أُفُقُها أُفُقٌ واسع.
فأولًاَ: هل قوله (خالدًا مخلدًا فيها أبدًا) يلزم من لغة العرب التأبيد المذكور في حق الكفار؟
فأقول: إذا كان النبي ﵌ قد قال هذا الحرف وهو: (خالدًا مخلدًا فيها أبدًا) فإننا نعلم أن اللغة لا تستلزم ما يتبادر إلى الأذهان من التأبيد؛ إذ لو كانت اللغة تستلزم هذا المعنى للزم من ذلك أن النبي يريد هذا المعنى، وهو أن من قتل نفسه يحبط عمله، ولو كان مؤمنًا برًا صالحًا صائمًا قائمًا، لكنه تضايق من مشكلة في الدنيا، فتعجل وقتل نفسه.
والخلاصة أنه ليس لدينا إلا أحد فرضين:
إما أن تكون هذه الكلمة (أبدًا) لم يقلها الرسول ﵊، وهذه طريقة قد ذكرها الإمام الترمذي، والحديث وإن كان في البخاري ومسلم، إلا أن لدينا قاعدة مهمة وهي: (أن ما خالف قطعيًا من نص صريح أو قاعدة محكمة قد يُتَرَدَّد في ثبوته)، وهذا يُتَرَدَّد في ثبوته، ولو كان في البخاري ومسلم.
وقد يقول قائل: كيف يصح ذلك وقد قال الإمام ابن تيمية وغيره: (إن ما اتفق عليه الشيخان فهو متفق عليه بين أهل الحديث)؟
فأقول: هذه القاعدة قد تصح وقد لا تصح، وكذلك نحن لم نتردد في صحة الحديث، فالحديث لا شك أنه ثابت، إنما ترددنا في قوله: (أبدًا).
فـ الترمذي وجماعة يقولون: إن هذه الرواية وهم.
وفي ظني أن هذا قريب، ولا سيما أن هذا الحديث في رواية البخاري ومسلم مداره على الأعمش، فلم يذكر هذه اللفظة إلا الأعمش في روايته، وقد رواه غيره ولم يذكروا هذه اللفظة، فهي لفظة غريبة من جهة علم الحديث، ولَمَّا كان هذا اللفظ غريبًا مداره على رجل واحد -وإن كان إمامًا إلا أنه من المدلسين، وإن احتمل الأئمة تدليسه- كان مما لا يجوز أن تعارض به أصول شرعية مطردة وقواعد سلفية قاطعة، خاصة أن أئمة السلف قرروا قاعدة أهل الكبائر ولم يستثنوا شيئًا، ولم يعلق إمام من أئمة السلف من أهل القرون الثلاثة الفاضلة على هذا الحديث بما تبادر عند المتأخرين من أن معناه تأبيد القاتل لنفسه كالكافر في نار جهنم.
إذًا: إما أن هذا الحرف وهم، فلا إشكال، وإما أن يكون هذا الحرف ثابتًا في نفس الأمر وقد قاله الرسول ﵊، فنعلم أن اللغة لا تستلزم ذلك؛ لأن القواعد المحكمة قاطعة في هذا السياق، ولا يجوز أن يتردد في كون مَن قتل نفسه متعمدًا من المسلمين الذين مآلهم إلى الجنة، وإن لحقهم الوعيد.
8 / 12