شرح الحموية لابن تيمية - الراجحي
شرح الحموية لابن تيمية - الراجحي
اصناف
شرح الحموية لابن تيمية [١]
من عقيدة السلف الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، ومن ذلك الإيمان بصفة الاستواء لله تعالى، فهذه الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة، وقد خالف هذه العقيدة كثير من أهل البدع، وادعوا أن مذهبهم أحكم من مذهب السلف، والصواب أن مذهب السلف أعلم وأحكم وأسلم.
1 / 1
سائل من بلدة حماة الشام يسأل ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: [سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية وذلك في سنة ثمان وتسعين وستمائة، وجرى بسبب هذا الجواب أمور ومحن، وهو جواب عظيم النفع جدًا].
يسمى جواب هذا
السؤال
الحموية؛ لأن السائل من بلدة حماة الشام.
[فقال السائل: ما قولكم في آيات الصفات كقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت:١١]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأحاديث الصفات كقوله ﷺ: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)، وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار)، إلى غير ذلك من الأحاديث.
وما قالت العلماء؟ وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى] قوله: إن شاء الله، من باب الخبر؛ لأن الدعاء لا يستثنى فيه، كما في الحديث: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له)، وجاء في الحديث الآخر: (لا بأس طهور إن شاء الله)؛ لأن هذا من باب الخبر.
1 / 2
مقدمة لابن تيمية بين يدي جوابه على السائل
[فأجاب: الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله ﷺ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيًا إليه بإذنه، وسراجًا منيرًا، وأمره أن يقول: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:١٠٨]، فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله والى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر أنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسًا مشتبهًا، فلم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.
فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادًا وقولًا؟].
لأن باب الأسماء والصفات هو أصل الدين.
1 / 3
تعليمه ﷺ لأمته كل شيء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المحال أيضًا أن يكون النبي ﷺ قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة] أي: حتى أحكام الاستنجاء وكيفية إزالة النجاسة، فكيف يعلمهم ذلك، ولا يعلمهم باب أصل الدين، وباب الأسماء والصفات، وهذا فيه رد على أهل البدع الذين يتأولون بعقولهم وينفون الصفات، ويقولون: إن هذا متروك للعقول: وهذا محال؛ لأن الرسول قد علم أمته كل شيء حتى أحكام الاستنجاء حتى الخراءة، قال بعضهم لـ سلمان: علمكم نبيكم كل شيء، قال: نعم، علمنا نبينا كل شيء حتى أحكام الاستنجاء، والوضوء.
فلا يمكن أن يعلمهم أحكام الاستنجاء، وأحكام غسل النجاسة، ولا يعلمهم أصل الدين! لا يمكن هذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المحال أيضًا أن يكون النبي ﷺ قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال فيما صح عنه أيضًا: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم).
وقال أبو ذر ﵁: لقد توفي رسول الله ﷺ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا، وقال عمر بن الخطاب ﵁: (قام فينا رسول الله مقامًا فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) رواه البخاري.
محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين].
قوله: وإن دقت أن يترك تعليمه أي: وإن كان شيئًا صغيرًا، أو شيئًا قليلًا.
وقوله: يقولونه بألسنتهم أي: يقولون مثلًا: إن الله استوى على العرش، والله سميع بصير، والله عليم حكيم، ويعتقدون هذا بقلوبهم، فلا يمكن أن يترك هذا الأمر -الذي يقوله إنسان بلسانه ويعتقده بقلبه- إلى العقول.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول ﷺ على غاية التمام].
أي: باب أصول الدين، ومنه الأسماء والصفات.
1 / 4
استحالة كون أصحاب القرون المفضلة يجهلون تلك الأمور أو يتكلمون فيها بغير الحق
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه، ثم من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيهم رسول ﷺ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق، وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع].
أي: إما كونهم يجهلون باب أصل الدين، أو يتكلمون فيه بغير الحق، وهذا ممتنع، ومن الممتنع أيضًا أن يكون الرسول ﷺ لم يبين أصل الدين، وإذا كان ممتنعًا فممتنع كذلك أن تكون خير الأمة وأفضل الأمة، وهم القرون المفضلة بعده ﷺ لم يحكموا هذا الأصل، أو جهلوه، أو تكلموا فيه بغير الحق؛ لأن النبي ﷺ يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فلابد أن يحكموا هذا الباب، ويتكلموا فيه بالحق.
وعلى هذا تكون أقوال أهل البدع الذين جاءوا بعد تلك القرون المفضلة، كلها أقوال باطلة ومردودة، ومناقضة لما عليه السلف الصالح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أما الأول فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته.
وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر].
وهذا الكلام مقدمة عظيمة للمؤلف ﵀.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي].
قوله: المقتضي أي: الموجب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع من أبلد الخلق، وأشدهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع من أولئك؟!].
أي: إن كونهم لا يتكلمون بهذا الدين، ولا يحكمون أصل الدين، ولا يعرفونه، ولا يتكلمون به، هذا مستحيل، والأمر الثاني أنه يستحيل أيضًا أن يتكلموا بغير الحق، إذ يستحيل ألا يفهموا أصل الدين ولا يحكموه ولا يتكلموا به، ولا يتكلم فيه إلا المتأخرون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق، أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم.
ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضًا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء -ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها-: من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم].
الخالفون: هم الخلف المتأخرون، الذين جاءوا بعد السلف الصالح.
وهذه مقالة معروفة عن أهل البدع، وهي أن طريقة السلف أسلم والخلف أعلم وأحكم، وهذا باطل، فالسلف أسلم وأعلم وأحكم، والخلف ليس عندهم شيء من العلم والحكمة، وإنما هم على جهل واعتماد على العقول والآراء وزبالة الأذهان ومحادثة الأفكار، فطريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم.
1 / 5
ضلال المبتدعة بتفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن هؤلاء المبتدعة، الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة:٧٨]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات.
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة].
إذًا: فالسبب أنهم قرروا في أنفسهم أن النصوص لا تدل على الصفات، فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:٥٤]، لا يدل على صفة الاستواء، وقوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [التحريم:٢]، لا يدل على صفة العلم والحكمة، هذا هو قصدهم، فلما قرروا هذا الأمر صاروا تجاه نصوص الصفات بين أمرين: الأمر الأول: أن يصرفوها إلى معان ابتدعوها من عند أنفسهم: يقولون: استوى معناها: استولى.
والأمر الثاني: التصوير، يقولون: نصورها ولا ندري ما معناها، مع أننا نجزم بأنها لا تدل على إثبات الصفات، فهم بين طريقة التصوير وبين طريقة التأويل والتحريف، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة، التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف- فصار هذا الباطل مركبًا من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات].
قوله: بالسمع أي: بالأدلة السمعية، كفروا بالنصوص واعتمدوا على عقولهم الفاسدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه.
فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله].
أي: ظنوا أن السلف قوم سذج، لا يفهمون إلا مجرد التلاوة فقط، وليس عندهم عقول يفهمون بها النصوص ويعرفون بها اللغة، بل يؤمنون بمجرد اللفظ، فلهذا قالوا: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وعندهم أن طريقة السلف هي التفويض، وطريقة الخلف هي التحريف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون لاسيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كف حائر على ذقن أو قارعًا سن نادم وأقروا على نفوسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر:١٠]، وأقرأ في النفي: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:١١٠]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي].
هذا كله من كلام الرازي، وانظر السير والفتاوى وطبقات الشافعية، وفيه زيادة، ثم قال: وأقول من صميم القلب، من داخل الروح: إني مقر بأن كل ما هو الأكمل الأفضل الأعظم الأجل فهو لك، وكل ما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه.
يقول شيخ الإسلام تعليقًا على عبارته التي جاءت في النص: [وهو صادق فيما أخبر به، أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفة، سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلًا ولا يروي غليلًا، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره!] انتهى من منهاج السنة.
[ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وهأنذا أموت على عقيدة أمي].
هذه مقالة أبي محمد الجويني وهو من الأشاعرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكًا عند الموت أصحاب الكلام].
أشار شيخ الإسلام في موضع إلى أن قائل هذا الكلام هو أبو حمزة الغزالي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضولون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان.
من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة].
وبه قاموا: أي عملوا بالكتاب وتلوه ونفذوه، وطبع الكتاب بهم، والكتاب قام بهم بمدحهم والثناء عليهم، وبهم نطق أي: بفضلهم، وبه نطقوا أي: تلوه وعملوا به.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلًا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.
ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لاسيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم، أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!].
1 / 6
سبب هذه المقدمة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما قدمت هذه المقدمة؛ لأن من استقرت هذه المقدمة عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدًا ﷺ من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة، وليس غرضي واحدًا معينًا، وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء].
المقصود وصف النوع، وليس الأشخاص بعينهم.
1 / 7
إثبات صفة العلو لله ﷿
1 / 8
صفة العلو في كتاب الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله ﷺ من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله ﷾ فوق كل شيء، وهو على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:١٠]، ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران:٥٥]].
يصعد أي: يرفع، والرفع يكون من أسفل إلى أعلى، والصعود يكون من أسفل إلى أعلى، فدل على ثبوت العلو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ﴾ [الملك:١٦]، ﴿أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ [الملك:١٧]].
ومن في السماء: أي في العلو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء:١٥٨]، ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج:٤]].
الشيخ: والعروج يكون من أسفل إلى أعلى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السجدة:٥]، ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل:٥٠]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:٥٤]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [يونس:٣]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الرعد:٢]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الفرقان:٥٩]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [السجدة:٤]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الحديد:٤]، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]، ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ [غافر:٣٦ - ٣٧]، ﴿تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت:٤٢]، ﴿مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الأنعام:١١٤] إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة].
والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، فدل على أن الله في العلو.
1 / 9
صفة العلو في سنة رسول الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بكلفة، مثل قصة معراج رسول الله ﷺ إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقول الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: (فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم)].
والعروج يكون من أسفل إلى أعلى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح في حديث الخوارج: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء؟!).
وإذا أطلق لفظ (السماء) كان المراد به: العلو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع)، قال ﷺ: (إذا اشتكى أحد منكم، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء) وذكره.
وقوله في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه)، رواه أحمد أبو داود وغيرهما.
وهذا الحديث مع أنه قد رواه أهل السنن، كـ أبي داود وابن ماجة والترمذي وغيرهم، وهو مروي من طريقين مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، وقد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه: ألا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولًا إلى النبي ﷺ].
أي: إن هذا أن الحديث وإن كان فيه ضعف إلا أنه مروي من طريقين يشد بعضهما بعضًا، فيكون حسنًا لغيره، وله أيضًا شواهد كثيرة من الكتاب والسنة؛ لأن بعض الناس يطعن في حديث الأوعال.
ولو فرضنا أنهم طعنوا فيه، أو أنه لم يصح فنصوص العلو كما قال ابن القيم: تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف، ومع ذلك فله طريقان وله شواهد كثيرة من الكتاب والسنة كثيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الصحيح للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة)].
دل على السؤال عن الله بأين، وأين إنما يسأل بها عن المكان، ولما قالت: في السماء، أقرها على ذلك، ولهذا فإن أهل البدع يجلبون بخيلهم ورجلهم على كلمة أين، ويقولون: هذا خطأ من الجارية، والرسول ﷺ أقرها على الخطأ مراعاة لعقلها، وخاطبها على مقدار عقلها؛ لأنها لن تفطن لكلامه.
يقولون: لأن السؤال عنه بأين معناه: أنه في مكان، وإذا كان في مكان يكون محدودًا متحيزًا، وهذا كفر عند أهل البدع، ومن قال: إن الله في السماء كفروه، وإذا رفعت أصبعك إلى السماء قطعها الجهمي؛ لأنه يقول: هذا تنقص لله.
فهم يخطئون الجارية، ويقولون: إن الرسول ﷺ أقرها على جواب فاسد، وسألها سؤالًا فاسدًا؛ وذلك مراعاة لعقلها، فهكذا اتهموا النبي ﷺ! فمقصود الرسول ﷺ -كما يزعمون- بقوله: (أين الله؟) أي: من الله، فخاطبها على مقدار عقلها.
والرسول كان أفصح الناس فهل من المعقول أنه لم يستطع أن يقول: من الله؟ أو لم يفرق بين (من) المكونة من حرفين وبين (أين) المكونة من ثلاثة أحرف؟ ولكن لما أرادوا الفرار قالوا: لا يسأل عن الله بكلمة أين.
وهذا حديث ثابت في صحيح مسلم، لكن غلبة الهوى، ومتابعة أهل البدع والضلال حملهم على هذا.
هذا يخشى أن يكون كفرًا، لكن قد يقال: إنهم متأولون، وقد كفر الجهمية بعض أهل العلم كما ذكر ابن القيم، والمعتزلة كفرهم أيضًا جمع من أهل العلم، ومن العلماء من قال: إنهم مبتدعة متأولون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الصحيح: (أن الله لما خلق الخلق كتب فى كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبى)].
فدل على أن الله ﷿ فوق العرش.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله فى حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله) إسناده على شرط الصحيحين.
وقول عبد الله بن رواحة ﵁، الذى أنشده للنبي ﷺ، وأقره عليه.
شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا].
فأثبت أن الله فوق العرش، وأقره النبي ﷺ على ذلك.
أورد هذه الأبيات ابن عبد البر في الاستيعاب وقال: وقصته مع زوجته حين وقع على أمته مشهورة، رويناها من وجوه صحاح، ورواه الدارمي في الرد على الجهمية وابن عساكر في تهذيب دمشق، والذهبي في السير وفي العلو، وقال: روي من وجوه مرسلة، منها: يحيى بن أيوب المصري قال: حدثنا عمارة بن غزية عن قدامة بن محمد بن إبراهيم الحطابي فذكره، فالمعروف أنه منقطع.
وقصته مع زوجته ذكرها ابن قدامة في العلو، وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية، وشرح العقيدة الطحاوية، وروى القصة الدارقطني في سننه، مع اختلاف الأبيات، فمجمل قصته مع زوجته (أنه كان لـ عبد الله ﵁ جارية، فأبصرته زوجته يومًا وقد خلا بها، فقالت: لقد اخترت أمتك على حرتك! فأنكر ذلك، قالت: إن كنت صادقًا فاقرأ آية من القرآن، وكانت تعلم أن الجنب لا يقرأ القرآن على هذه الحالة، قال: فأسمعها البيت الأول من الأبيات الواردة في النص، وكانت لا تعرف القرآن، فظنت أن ما قرأه قرآنًا، قالت: فزدني آية، فقال: وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة كرام ملائكة الإله مقربينا.
فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري، فأخبر الرسول ﷺ بذلك، فضحك من صنيعه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي ﷺ هو وغيره من شعره فاستحسنه، وقال: (آمن شعره وكفر قلبه).
مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرًا بالبناء العالي الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريرًا شرجعًا ما يناله بصر العين يرى دونه الملائك صورًا].
فقوله: شرجعًا أي: مرتفعًا.
ورد هذا الأثر في البداية والنهاية، والتهذيب.
والظاهر من قوله: (آمن شعره وكفر قلبه) أن أمية لم يؤمن، والحديث بهذا اللفظ رواه ابن عبد البر في التمهيد، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والقرطبي في التفسير، والحافظ في الفتح، وسكت عنه، وابن كثير في التفسير، وفي البداية والنهاية، وقال عقبه: لا أعرفه والله أعلم.
وذكره العجلوني في كشف الخفا، وقال: قال المناوي: وسند الحديث ضعيف، والحديث له شاهد في الصحيحين عن أبي هريرة ﵁ قال: (قال النبي ﷺ: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) رواه البخاري ومسلم].
فالظاهر أن أمية كاد أن يسلم لكنه ما أسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الذي في السنن: (إن الله حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا)].
وهذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجة، وابن أبي شيبة، وابن حبان، والحافظ في المستدرك، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والبغوي في شرح السنة، وابن عدي في الكامل، والخطيب في تاريخ بغداد، وقال عنه الحافظ في الفتح: سنده جيد، وصححه الألباني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب)، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، التي تورث علمًا يقينيًا من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول ﷺ المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين].
أي أن هذه النصوص من الكتاب والسنة تفيد العلم واليقين بأن الله تعالى في السماء، كما تفيد المسلم اعتقادًا وتيقنًا أن الله تعالى في العلو، إلا من اجتالتهم الشياطين عن فطرتهم وأفسدتها بسبب انحرافهم فلا عبرة بهم.
وكما ذكر ابن القيم أن النصوص كثيرة لا حصر لها، بحيث تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف.
1 / 10
طريقة السلف في إثبات صفة العلو، وذكر شبهات المبتدعة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئات أو ألوفًا.
ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ﷺ، ولا عن أحد من سلف الأمة -لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة الدين الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف- حرف واحد يخالف ذلك لا نصًا ولا ظاهرًا، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه بذاته في كل مكان، ولا إن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها].
وكل هذه الأقوال لأهل الكلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله ﵁ (أن النبي ﷺ لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول الله ﷺ، جعل يقول: ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إليهم، ويقول: اللهم فاشهد، غير مرة)، وأمثال ذلك كثير.
فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصًا وإما ظاهرًا، فكيف يجوز على الله ثم على رسوله ﷺ، ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائمًا بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق؟ ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصًا ولا ظاهرًا، حتى يجيء أنباط الفرس والروم، وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة، التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها!].
أي أنه من المستحيل وغير الممكن على الله ورسوله ثم على سلف الأمة أن يتكلموا بخلاف الحق، أو يكتمونه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصًا أو ظاهرًا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضررًا محضًا في أصل الدين].
إن العقيدة الصحيحة عند هؤلاء الخالفين من أهل البدع: أن ظواهر النصوص كفر، فقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:٥٤]، الذي يأخذ بظاهره ويقول: إن الله استوى على العرش في الحقيقة، فقد كفر عندهم، بل يجب أن تتأول هذه النصوص، وأنها وكلت إلى العقول، وأن الواجب تأويلها على ما يليق بالله بزعمهم، فيقولون: معنى (استوى): استولى.
فالمؤلف رحمه الله تعالى يقول: إذا كان لا يعتمد على نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف في بيان العقيدة الصحيحة، كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أحسن، فعلى كلام هؤلاء: أن نصوص الكتاب والسنة لا تزيد الناس إلا ضلال؛ لأنها تكلفهم تأويلها! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله ﷿، وما يستحقه من الصفات نفيًا وإثباتًا، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم، فما وجدتموه مستحقًا له من الصفات، فصفوه به].
أي: بعقولكم وآرائكم الفاسدة.
ولكن العقول متضاربة، فعقل هذا يخالف هذا، وعقل هذا يخالف هذا، فلا يوجد عقل يعتمد عليه.
نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقًا له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجودًا في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقًا له في عقولكم، فلا تصفوه به].
اهتموا بالأدب واللغة العربية، وبثوا فيها السموم، وأدخلوا فيها الإلحاد والحداثة، وهذه قلة في الأدب، وهذا حسن السقاف جهمي يدعو إلى طريقة الجهمية على طريقته، وهو موجود الآن في الشام، وله مؤلفات في الدعوة إلى الضلال والإلحاد، ويقول: إن الإمام أحمد مؤول، وإن من أثبت العلو فهو على مذهب فرعون! نعوذ بالله.
1 / 11
شرح الحموية لابن تيمية [٢]
قدرات عقل الإنسان محدودة فلا يمكن أن يدرك كل شيء على حقيقته، فصفات الله تعالى يجب على الإنسان أن يؤمن بها كما جاءت، فإن حكم فيها عقله فإنه سوف يضل ويقع في البدعة وربما في الكفر، وليس معنى ذلك أن يفوض معناها، بل المعنى أن يفوض كيفيتها إلى الله ولا يقحم عقله في التفكير في الكيفية، فكثير من أهل البدع كان سبب ضلالهم أنهم أعملوا عقولهم في التفكير في ذات الله وكيفية صفاته.
2 / 1
فريقان حكموا عقولهم في صفات الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هم ههنا فريقان، أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه، -ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه- وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافًا أكثر من جميع من على وجه الأرض فانفوه].
الشيخ: أي: أن الذين نفوا الصفات حكموا عقولهم، وقالوا: ننظر في عقولنا في قول الله ﷿: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:٥٤] فإذا كان العقل يرى أن هذه الصفة تصلح أن تثبت لله نثبتها، وإذا كان يرى أنها لا تصلح وأن فيها تنقص من الله، وأن فيه مشابهة للمخلوق، فالواجب نفيها عن الله تعالى، ولهذا فإنهم يقولون: إن الاستواء فيه مشابهة للمخلوق، ويلزم منه أن يكون الله محدودًا متحيزًا، فلهذا نفوه بعقولهم.
إذًا: فالعقول متضاربة، فأي عقل يرجع إليه؟ ثم لماذا أنزل الله علينا الكتاب؟ وما الفائدة منه إذا كنا لا نعمل به، فنقول في قول الله ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:٥٤]: إن العقل يقول: لا يصح أن يوصف الله بالاستواء؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ثم هم ههنا فريقان أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه -ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه- وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون مضطربون اختلافًا أكثر من جميع من على وجه الأرض فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكورًا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام].
الشيخ: هذا حال أهل الكلام فأكثرهم ينفون ما تثبته عقولهم، وبعضهم يقول: إن ما نفاه العقل يجب نفيه، وبعضهم يتوقف، فيقول في (استوى): لم يستو، بل نتوقف فيه.
فإن قيل: وماذا نعمل بالنصوص؟ قالوا: نحرفها، ونخرجها على وجوه اللغة الشاذة الغربية، ونحملها على معانيها البعيدة المحتملة، ونفسرها بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لكن لتجهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين].
الشيخ: أي: أن المتكلمين بين أحد أمرين: إما محرفين أو مؤلين، فبعضهم يحرف ويقول: إن استوى معناه: استولى؛ لأن الاستواء لا يليق بالله؛ لأنه يلزم منه أن يكون محدودًا متحيزًا، وأن يكون مشابهًا للمخلوق فننفيه، ونقول: إن معنى استوى: استولى.
فيجاب عليهم بأن الاستيلاء الذي فررتم إليه كذلك فيه مشابهة للمخلوق، ويلزم محذور آخر، هو أنه كان مغلوبًا ثم غلب.
هذا المعنى، المعنى الثاني: السكوت عن معناه، فبعضهم ذهب إلى التفويض -وهو الإيمان باللفظ والسكوت عن المعنى وتفويض المعنى إلى الله- فيقول: لا أدري ما معنى استوى، فأفوض معناها إلى الله.
فكأن الألف والسين والتاء والواو والألف حروف أعجمية لا يفهم معناها.
ولذلك قال بعض العلماء: المفوضة شر من المعطلة، فهم إما أن ينفوا الصفات ويعطلوها ويحرفوها ويفسروها بتفسيرات باطلة، أو يفوضوا المعنى إلى الله ويكتفوا بالإيمان بالله، فهم بين هذين النقيصتين وهذين الداءين، وهذين الباطلين، إما تحريف وإما تفويض.
وهذا هو الذي يذكره النووي في شرح صحيح مسلم وغيره، حيث يقول: للعلماء في صفات الله طريقان: طريقة السلف وهي الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى، والطريقة الثانية: طريقة الخلف، وهي التأويل.
ولا يذكرون منهج السلف الصالح وهو إثبات الألفاظ والمعاني وتفويض الكيفية إلى الله.
والتفويض: هو الإيمان باللفظ والسكوت عن المعنى، مع الجزم بأن الصفات منفية عن الله وأهل التفويض يقولون: نؤمن باللفظ، ولكن المعنى لا نجده بل نفوضه إلى الله، مع الجزم بأن الصفات منفية غير مرادة، وغير ثابتة، لما فيها من التنقص من الله ﷿ بزعمهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزومًا لا محيد عنه ومضمونه: أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول ﷺ معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثلما كانوا عليه في الجاهيلة وإلى مثلما يتحاكموا إليه من لا يؤمن بالأنبياء، كالبراهمة والفلاسفة وهم المشركون والمجوس وبعض الصابئين.
وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت، يريدون إن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم.
وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله ﷾: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [النساء:٦٠ - ٦٢].
فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول -والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته- أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علمًا وعملًا بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقيلة والنقلية.
ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تقلدوا أكثرها عن طواغيت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم، مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه قلوبهم، قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥]، ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:٢١٣].
ولازم هذه المقالة: ألا يكون الكتاب هدى للناس ولا بيانًا ولا شفاء لما في الصدور ولا نورًا، ولا مردًا عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون: أنه الحق الذي يجب اعتقاده، لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصًا ولا ظاهرًا، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥].
وبالاضطرار يعلم كل عاقل، أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السموات ونحو ذلك بقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥]، قد أبعد النجعة، وهو إما ملغز أو مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين].
الشيخ: استدلالهم بقول الله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥] فإنهم يريدون به أن الله ليس فوق العرش؛ لأنه لو صار فوق العرش لصار مشابهًا لأحد من الناس، وصار شيئًا على محسوس، ومشابهًا للمخلوق الذي يكون محدودًا على محدود، فيزعمون أن الله إما أن يكون في كل مكان، أو يكون لا داخل العالم ولا خارجه نعوذ بالله.
ولا شك أن الاستدلال بمثل هذا من أبطل الباطل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرًا لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمى وضلالة.
يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول ﷺ -يومًا من الدهر- ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه.
2 / 2
نشأة الفرق وصفات الفرقة الناجية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الرسول ﷺ قد أخبر أن أمته ستفترق ثلاثًا وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله)، وروي عنه ﷺ أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هو من كان على مثلما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد، فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم].
الشيخ: وفي نسخة: فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن.
أي: إن الرسول ﷺ لم يقل: من تمسك بالقرآن فهو ضال، وإنما قال في وصف الفرقة الناجية: (من كان على مثلما أنا عليه وأصحابي).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد، فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين.
ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين].
2 / 3
أول من تكلم في نفي الصفات
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه].
الشيخ: إذًا: فالذي ابتدع عقيدة نفي الصفات: المخترع والمبتدع الجعد بن درهم، والذي نشرها وأظهرها وتوسع فيها: الجهم، فنسبت إليه ولم تنسب إلى الجعد فالأصل أن يقال: الجعدية نسبة للجعد لا الجهمية؛ لأن الجعد هو أول من اخترعها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي ﷺ، وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود، والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك القبط الكفار، والنجاشي ملك الحبشة النصارى، فهو اسم جنس لا اسم علم].
الشيخ: فيكون الجعد أخذ أصل مقالته عن اليهود والنصارى والوثنين والصابئة عباد الكواكب، فسندها اتصل إليهم.
وقوله: فهو اسم جنس، أي: أن النجاشي والنمرود وكسرى أسماء أجناس وليست علمًا على أشخاص، ففرعون جنس لمن ملك مصر، ومن ملك اليمن يقال له تبع، ومن ملك الحبشة يقال له: النجاشي، ومن ملك الروم يقال له: قيصر، من ملك الفرس يقال له: كسرى.
2 / 4
الصابئة وعلماؤهم ومن أخذ من مذهبهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكانت الصابئة إلا قليلًا منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم: الفلاسفة، وإن كان الصابئي قد لا يكون مشركًا، بل مؤمنًا بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:٦٢]، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [المائدة:٦٩]، لكن كثيرًا منهم أو أكثرهم كانوا كفارًا أو مشركين، كما أن كثير من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفارًا أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفارًا مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل إليهم].
الشيخ: وهذا هو هذا مذهب الصابئة، وهو أنهم يصفون الله بصفات سلبية أو إضافية أو مركبة، والصفات السلبية بالنفي، ليس بجوهر كقولهم: ولا جسم ولا عرض ولا كذا، وليس له كذا، والإضافية هي الأمور المضافة إلى بعضها والتي لا يعقل معناها إلا مع غيرها، كقولهم في الله: هو مبدأ لهذه الكثرة، وعلة لحركة الفلك، هذه أمور متضايفه لا تثبت وجود الله إلا من جهة كونه محرك لهذا الفلك، بالإضافة إلى الفلك، أو لهذه الكثرة، والمركبة من النفي ومن الإضافة، وهذا هو مذهب الفلاسفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكون الجعد أخذها عن الصابئة الفلاسفة].
الشيخ: يصلح أن نقول الصابئة هم فلاسفة، لكن الفلاسفة هم علماء الصابئة، والصابئة عامتهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضًا].
الشيخ: المعلم الأول هو أرسطو، وهو أول من شاع القول بقدم العالم من الفلاسفة المشائين، ثم جاء المعلم الثاني: أبو نصر الفارابي من رؤساء اليونان، ثم المعلم الثالث: أبو علي بن سيناء، والثلاثة كلهم ملاحدة، وابن سيناء هو الذي حاول أن يقرب الفلسفة من الإسلام، وهو في محاولته الشديدة لم يصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضًا فيما ذكره الإمام أحمد وغيره، لما ناظر السمنة بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات].
الشيخ: السمنة: طائفة من فلاسفة الهند لا يؤمنون إلا بالحسيات، ناظروا الجهم وقالوا له: إلهك هذا الذي تعبد، هل رأيته، قال: لا، قالوا: هل سمعته بإذنك، قال: لا، قالوا: هل شممته بأنفك؟ قال: لا، قالوا: هل ذقته بلسانك؟ قال: لا، قالوا: هل جسسته بيدك؟ قالوا: لا، قال: إذًا هو معدوم، فشك في ربه، وترك الصلاة أربعين يومًا، ثم نقش الشيطان في ذهنه، إثبات وجود في الذهن، فأثبت وجودًا لربه، ونفى عنه جميع الأسماء والصفات.
وأما القول بقدم العالم فهو كفر، ومعناه: أنه ليس له موجب، وهو إنكار لوجود الله، ومضمونه أن هذا العالم ليس له خالق، وليس بمخلوق.
وهذا هو الذي قاله أرسطو، وهو أول من قال بقدم العالم، وكان الفلاسفة قبله لا يقولون بذلك، بل يعظمون الشرائع، ويؤمنون بحدوث العالم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه أسانيد الجهم، ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالين، إما من الصابئين وإما من المشركين].
الشيخ: أي: إن الفلاسفة الضالين إما أن يكونوا من الصائبين، وإما أن يكونوا من المشركين.
2 / 5
الجهمية وبشر المريسي
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم، ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها: مقالة الجهمية؛ بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته].
الشيخ: فـ بشر المريسي تنسب إليه الطائفة المريسية، والطائفة المريسية هم جهمية، واشتهر المريسي بإظهار مقالة الجهمية، ونسبت إليه المريسية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمهم وتضليلهم].
الشيخ: ولهم مؤلفات في الرد عليهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه التأويلات الموجودة اليوم.
بأيدي الناس -مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس، ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي حسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم- هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضًا، ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي].
الشيخ: قوله: وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني: نسبة إلى قبيلة همدان، وهو عبد الجبار بن أحمد بن الخليل أبو الحسن الهمداني المشهور بالقاضي عبد الجبار من أئمة المعتزلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي، أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنف كتابًا سماه: رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افتراه على الله في التوحيد، حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين، الذين اتصلت إليهم من جهته وجهة غيره.
ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة في طريقهم، وضعف حجة من خالفهم.
ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم].
الشيخ: والمريسية جهمية، على مذهب الجهم، لكنهم نسبوا إلى المريسي؛ لأنه تزعم هذه الطائفة فنسبوا إليه وهم جهمية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسية، تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ولا حول ولا قوة إلا بالله، والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما نشير إشارة إلى مبادئ الأمور، والعاقل يسير فينظر].
الشيخ: وعلى هذا ذهب أكثر العلماء إلى تكفيرهم، ومنهم من بدعهم، ومن العلماء من كفر رؤساءهم وبدع عامتهم.
جاءوا في القرون المتأخرة على مذهب المريسية في القرن الثالث كلهم أنكر أسماء الله وصفاته، فكفرهم العلماء.
لكن المعين منهم لابد أن تقوم عليه الحجة.
وقوله: والفتوى لا تحتمل البسط، أي: الفتوى الحموية.
2 / 6
الكتب التي ألفت في مناظرة الجهمية والرد عليهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة، لا يمكن أن نذكر هنا إلا قليلًا منه، مثل كتاب السنن لللالكائي، والإبانة لـ ابن بطة، والسنة لـ أبي ذر الهروي، والأصول لـ أبي عمر الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي، وقبل ذلك السنة للطبراني، ولـ أبي الشيخ الأصبهاني، ولـ أبي عبد الله بن مندة، ولـ أبي أحمد العسال الأصبهاني].
الشيخ: لكل واحد من هؤلاء كتاب يسمى: السنة، أي: كتاب السنة لفلان، وكتاب السنة لفلان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقبل ذلك السنة للخلال والتوحيد لـ ابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن شريج، والرد على الجهمية للجماعة، وقبل ذلك السنة لـ عبد الله بن أحمد، والسنة لـ أبي بكر بن الأثرم، والسنة لـ حنبل وللمروزي ولـ أبي داود السجستاني، ولـ ابن أبي شيبة، والسنة لـ أبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب خلق أفعال العباد لـ أبي عبد الله البخاري، وكتاب الرد على الجهمية لـ عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، وكلام أبي العباس عبد العزيز المكي، صاحب الحيدة في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن حماد الخزاعي، وكلام غيرهم].
الشيخ: المؤلف ﵀ يرى أن كتاب الحيدة في الرد على الجهمية لـ عبد العزيز المكي ثابت؛ لأن بعض الناس تشكك في نسبة كتاب الحيدة لـ عبد العزيز بن المكي.
وهذا يدل على أن كثيرًا من العلماء ألفوا في الرد على هؤلاء البدع، وقد سرد المؤلف ﵀ كتبًا كثيرة منها.
والأئمة كلهم ردوا على الجهمية والمعطلة، فدل هذا على أن السلف أجمعوا على بطلان مذهبهم، وأنهم على الباطل.
أما نسبة كتاب الحيدة إلى المؤلف عبد العزيز المكي فليس موضع اتفاق، فـ الذهبي يشكك في نسبة الكتاب إليه ويقول: لم يصح إسناد كتاب الحيدة إليه، فكأنه وضع عليه والله أعلم.
ويوافقه على ذلك السبكي، بينما نجد الخطيب البغدادي وكذا ابن حجر نسبا الكتاب إليه، وجزما بذلك، وأيضًا: ابن العماد الحنبلي، كما أن الإمام ابن بطة ساق المناظرة بإسناده في كتابه الإبانة في الرد على الجهمية.
وقد نقل الشيخ من هذا الكتاب كثيرًا ونسبه إلى مؤلفه.
ولكن شيخ الإسلام، يرى صحة نسبته إليه، وهو حجة في هذا وإمام متقدم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم، وقبل هؤلاء عبد الله بن المبارك وأمثاله، وأشياء كثيرة، وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة، لكن لا يمكن ذكرها في فتوى، فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه، فإنه يسير.
وإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذًا عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل أن يأخذ سبل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، وأن يدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين].
2 / 7
شرح الحموية لابن تيمية [٣]
يعتقد أهل السنة والجماعة أنه يجب الإيمان بصفات الله ﷿ التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله ﷺ من غير تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل، وسبب ضلال بعض الفرق في باب الصفات هو قياسهم ما يكون للخلق على ما يكون للخالق، فأهل التأويل والتعطيل نفوا عن الله صفة الضحك أو اليد أو الوجه مثلًا؛ لاعتقادهم أنهم إن أثبتوا ذلك له فقد شبهوه بالمخلوق، والحق أن هذه الصفات ثابتة لله كما يليق بجلاله وكماله لا كما هي في المخلوقين.
3 / 1
القاعدة الصحيحة في باب الأسماء والصفات
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله ﷺ، وبما وصفه به السابقون الأولون، لا يتجاوز القرآن والحديث].
الشيخ: هذه هي القاعدة الأصل في باب الأسماء والصفات، وهي أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه، ونفاه عنه رسوله ﷺ.
فكل ما لم يذكر في كتاب الله أو في سنة رسوله من الأسماء والصفات لا يجوز إثباتها لله.
وقد سار السلف الصالح على هذا المنهج، وعلى هذه القاعدة في الأسماء والصفات، وهي أنه لا يثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله.
وأما الأشياء والألفاظ التي لم ترد في في الكتاب أو السنة لا نفيًا ولا إثباتًا فيتوقف عندها، كالجسم والحيز والعرض والجهة، وما أشبه ذلك، فإن هذه لا تثبت ولا تنفى، ومن أطلقها نفيًا أو إثباتًا فيستفصل ويسأل فإذا أراد معنى حق قبل، ويرد اللفظ، فإذا أطلق أن الله جسم، نقول: ما هو المراد بالجسم؟ فإن قال: إن المراد به حسن الصفات، قلنا: هذا حق، لكن لا تقل: إنه جسم، فإنه لم يرد في الكتاب والسنة، وإذا قال: ليس بجسم، قلنا: ما مرادك؟ فإن قال: مرادي أنه منزه عن النقائص والعيوب، قلنا: هذا حق، لكن لا تقل ليس بجسم.
وإذا قال: مرادي أنه ليس بجسم، وليس له صفات، قلنا: هذا باطل، اللفظ باطل والمعنى باطل وهكذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد ﵁: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله ﷺ، لا يتجاوز القرآن والحديث.
ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل].
الشيخ: أي: لا يحرفون اللفظ ولا المعنى، ولا يعطلون الصفات أو ينفونها، ولا يكيفون بأن يقولوا: إن الله تعالى على كيفية كذا، ولا يمثلونه بشيء من مخلوقاته، كما قال الله سبحانه عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعلم أنما وصف الله به من ذلك فهو حق، ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأنصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد].
الشيخ: وهذا هو الرسول ﵊، فهو أفصح الناس، وأما المبتدعة الذين يقولون: إن الرسول أراد معنى آخر، فهؤلاء يؤولون كلام رسول الله ﷺ ويحملونه على غير وجهه، فيقولون: إن الرسول أراد معنى آخر، فأراد من الناس أن يفهموا قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:٥٤] بمعنى آخر، والجواب عليهم بأن الرسول هو أفصح الخلق، فلو أراد المعنى الآخر لبين أن معنى استوى: استولى، أما قولكم أن الرسول أراد من الناس أن يتفهموا ويتأملوا ويخترعوا معاني أخرى، وأنه وكلهم إلى عقولهم فهو من أبطل الباطل، وكذلك من قال: أنا لا أعرف المعنى وإنما أفوض المعنى إلى الله، فقوله باطل أيضًا؛ لأن الله قال: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر:١٧]، ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء:٨٢]، ولم يقل: إلا آيات الصفات لا تتدبروها، فالمعاني معروفة، والألفاظ معروفة، وإنما الكيفية هي التي تفوض إلى الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما يتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة: فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم؛ ولافتقار المحدث إلى محدث، ولوجوب وجوده بنفسه ﷾.
ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ، فيعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العلى ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته.
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين والتمثيل والتعطيل، فمثلوا أولًا وعطلوا آخرًا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله ﷾.
فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا، وكل ذلك محال ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم.
أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهرًا أو عرضًا، وكلاهما محال؛ إذ لا يعقل موجود إلا هذان، أو قوله: إذا كان مستويًا على العرش وهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك؛ إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا فإن كليهما مثل وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين.
والقول الفاصل: هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي كعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها.
واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلًا لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير، ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج].
الشيخ: قوله: في أمر مريج، أي: في أمر مختلط، أما طريقة السلف فهي واضحة بينة لا إشكال فيها ولا غموض وهي: إثبات الأسماء والصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، وأهل البدع في ذلك في أمر مريج مختلط فهم متناقضون، غير متفقين على شيء.
3 / 2