وكان البارون جالسا في زاوية مطرقا إلى الأرض واجما وبقربه المسيو «ب» يسعى بأن ينهض عزيمته ويقوي همته، بينما كان يخفي في قلبه ما كان هو عليه من الكآبة.
وفي قرنة أخرى من الدار كانت السيدة «ب» وابنتها «سوسنة» تذرفان الدموع مدرارة، فسمعت وقتئذ طرقات الساعة الاثنتا عشرة فكان لها دوي موجع في قلوب أهل الدار، أما البارون «دي لينس» فكان يعدها كدقات جرس الحزن في يوم وفاة بعض الأحباب كأنها تنذر بخيبة آماله ونهاية ما تخيله لحياته من العز والسعادة.
6
لو دخلت أيها القارئ اللبيب بعد ثمانية أيام مضت على ما سردنا من الأخبار في بعض مخادع دار القنصل «ب» لرأيت كهلا جالسا تلوح على وجهه أمارات الحزن وملامح الكآبة، وما ذاك سوى البارون «دي لينس» بيد أن ما جرى لخطيبته أثر في مزاجه فتحسبه وهو في ريعان شبابه كأنه أربى على الخمسين من عمره.
أما الحجرة التي يسكنها البارون فهي غرفة خطيبته «وردة»، فمنافذها المقفلة التي لا يدخلها إلا نور طفيف جعلتها أشبه بغرفة تعرض بها الموتى، فهذه الحجرة كانت بقيت على حالتها من النظام والترتيب كما كانت في عشية يوم العرس، فكان كل شيء في موضعه حيث تركته الفتاة بعد دخولها على المدعوين، وكان فراشها ذاته في حالته من التجعد لم تمسه يد لتهندمه، وكذا بقيت الوسادة والمصدغة وبقرب الفراش صوانة فيها خفان وقفافيز ومبذلة وردية اللون.
هذا وإن القنصل مع كل آل بيته من الحشم والخدم كانوا في مدة هذا الأسبوع بذلوا الجد والجهد ليقفوا للفتاة الضائعة على خبر في البلدة أو أرباضها فلم يجدهم ذلك نفعا، وكان كل من يسمع بهذه القصة الغريبة لا يشك في أن الابنة التجأت إلى الانتحار، وكان الناس يسندون قولهم هذا إلى ما كتبته «وردة» في بطاقة وداعها أن من يطلبها لا يجد لها أثرا ولا خبرا.
وكان في ثاني يوم فقد الفتاة قد رست صباحا في الميناء سفينة روسية متهيئة لأن تقلع عند الظهر فطلب القنصل من إدارة المراكب الروسية لعله تكون الابنة قد ركبت السفينة، لكنهم بعد التفتيش أجاب العمال أن المطلوبة ليست من عداد الركاب.
ولم يسه أهل الصبية أن يرسلوا إلى مدن سورية والأساكل عدة تلغرافات للاستعلام عن الأمر، فكانت الأجوبة كلها بلا فائدة، فكف القنصل عن البحث؛ لئلا يطلع على سر ما أفظع يجعل حياته وحياة ذويه أمر من الحنظل، أما القواسون والخدم فكانوا يطلقون لألسنتهم كل عنان فيخترعون قصصا أغرب من أحاديث خرافة.
وكان البارون «دي لينس» طلب أن يسلم إلى يده مفتاح غرفة خطيبته؛ ليكون هذا المسكن ذكرا وسلوانا له في بلائه؛ ولذلك كان أبقى كل الأثاث على حاله ساعة غابت الفتاة عن نظره، فكان كل يوم ينفرد معتزلا في هذه الغرفة لتقر عينه بما يراه من بقايا ذكرها لعله يجد شرحا لهذا السر المكنون، فكان قلبه يلقي السؤال على كل هذه الذخائر ليطلع بها على حقيقة الأمر، فما كانت تحير سؤالا، كما لم ينل القنصل وزوجته جوابا عن ابنتهما بعد الإصفاء في السؤال.
ولسائل أن يسأل: و«سوسنة» ماذا كان من أمرها، وعندها كان نصف الخبر؟
نامعلوم صفحہ