أو سيادة وهيمنة الإمبراطورية الرومانية؛ إذ يكفي أن يقول: «إني من مواطني روما»؛ أي أنا صاحب السيادة والحماية . وهذا هو عين شعور الأمريكي.
وتواتر الحديث بعد مقال «هنري لوس» عن القرن الأمريكي. وتغير في توافق مع تغير واقع الأحداث وميزان القوة في العالم؛ إذ نجد أخيرا أحاديث في صيغة تساؤل: هل من قرن أمريكي ثان؟ تعبيرا عن التفاؤل حينا وعن الشك حينا آخر. وارتفعت صيغة التفاؤل خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك رابطة الدول الاشتراكية. ونجد آخرين يحدثوننا صراحة عن «نهاية القرن الأمريكي». بل إن بعض القوى والمراكز الأمريكية خاصة الأقليات الذين عانوا من قهر وبطش السلطات الحاكمة ويقدمون أنفسهم وحياتهم الاجتماعية دليلا على زيف الشعارات الأمريكية؛ إذ يكتب هؤلاء، ومن بينهم الهنود أو السود الأمريكيون دراسات ومقالات بل ويعقدون الندوات تحت عنوان «قرن من العار
A Century Of Dishonor » ولكن ثمة أسئلة: متى بدأ القرن الأمريكي؟ وهل من نهاية له؟ ومتى بدأت النهاية؟ أو كيف ستكون هذه النهاية؟
أحسب أن القرن الأمريكي بدأ بعد أن أجهز الشمال الصناعي الأمريكي على الجنوب الزراعي فيما عرف باسم الحرب الأهلية 1861-1865م. انتفض المارد وتطلع في نهم إلى الخارج .. بداية الطريق. ولكن بأي لسان ومن وراء أي قناع يتحدث إلى العالم؟ شأن جميع القوى الطامعة تشرع في غزواتها تحت اسم رسالة جديدة إلى الإنسان والإنسانية. وهنا كان الحديث عن «العالم الحر». وجرت تسمية الهيمنة على الجنوب اسم «تحرير العبيد» والإعلان عن التزام «العالم الحر» الجديد بأن «الناس جميعا سواسية» على نحو ما أعلن أبراهام لنكولن.
ويمكن القول بعبارة أخرى أن الولايات المتحدة بدأت أولى خطواتها على طريق زعامة العالم، ومن ثم مطلع القرن الأمريكي مع بداية أفول عصر السلم البريطاني وبداية تخلف بريطانيا أو تراجعها مع بداية الكساد العظيم عام 1873م كما أوضح أندريه جوندر فرانك في كتابه «الشرق يصعد ثانية» ترجمة شوقي جلال؛ إذ في هذه الفترة انتزعت ألمانيا وأمريكا الشمالية من بريطانيا موقعها المتميز ومصدر كبريائها. والمعروف أن الولايات المتحدة كانت عام 1860م تحتل المركز الرابع من حيث الإنتاج العالمي. وقبل نهاية القرن أو في عام 1894م أضحت الدولة الأولى في العالم من حيث حجم الإنتاج.
وتجلت مشاعر الزعامة العالمية أو الطموح إليها على ألسنة الزعماء والمفكرين والأدباء. ويكفي أن نشير إلى أن الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت «1858-1911م» يصرح عند ضم قناة بنما إلى الولايات المتحدة «إن الولايات المتحدة إذ تضم قناة بنما إليها إنما تأخذ طريقها الصاعد كقوة عظمى» وهو القائل أيضا: «أمركة العالم قدر ومصير أمتنا.» (انظر، شوقي جلال، العقل الأمريكي يفكر، دار مدبولي للنشر.)
وبدأت الولايات المتحدة خلال هذه الحقبة تبحث لنفسها عن فكر جديد يعبر عن أصحاب السيادة في الاقتصاد وفي السياسة وفي المجتمع، ويعبر عن أساليب الحكم وكفالة الأمن والاستقرار لصالحهم، ثم يعبر بعد ذلك عن مضمون الرسالة ذات الحدين إلى العالم والتي حملت بعد ذلك العبارة المجازية العصا والجزرة الأمريكيتين.
شهدت الفترة من 1860 إلى 1890م مراجعة عنيفة لطابع الحياة الأمريكية والتماس فكر جديد. ويعتبر الربع الأخير من القرن ال 19 بداية العصر الذهبي للفكر الأمريكي النزاع إلى الهيمنة على صعيد عالمي. ظهر مفكرون اقتصاديون من أمثال هنري كاري، وفرنسيس إيه ووكر، وأدوين لورنس جودكين. وأكد هؤلاء مبدأ حرية الإنسان من حيث كونه حيوانا سياسيا واقتصاديا، وأن المال معيار القيمة، والهيمنة أو الاحتكار الهدف الأسمى. ونجد من بينهم من عبر عن ذلك بقوله: «إذا قلت المنافسة هي حياة التجارة فأنت تردد حكمة عفا عليها الزمن.» وساد الولايات المتحدة قول مأثور: «كل ما يحقق الكسب حتى وإن كان النهب فهو موضع تقدير.» ويتسق هذا مع قول ألكسندر هاملتون: «النجاح لا يعرف الأخلاق». وتضخمت مشاعر الذات الأمريكية العنصرية قرينة مشاعر الطمع. ويتجلى هذا في قول السيناتور ألبرت بيفريدج «نحن أنجلو ساكسون، يتعين علينا أن نلتزم بما يفرضه علينا دمنا ونحتل أسواقا جديدة، بل وأراضي جديدة.»
وعبر الأدب عن حقبة الصعود إلى منبر الزعامة العالمية. ونقرأ كمثال على لسان الروائي الأمريكي هيرمان ميلفيل «1819-1891م»: «نحن رواد العالم وطلائعه، اختارنا الرب .. والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير .. بات لزاما على أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة .. نحن الطليعة ننتقل إلى البرية لنقدم ما لم يقدمه الأوائل ..»
وتشكلت نواد من المفكرين الساعين للوفاء بمتطلبات المرحلة وتقديم أيديولوجيا أو قناع فكري للرسالة الأمريكية إلى العالم. ولعل أبرز هذه النوادي ما عرف باسم النادي الميتافيزيقي «1871-1874م». ضم النادي عددا من أهم أعلام الفكر الفلسفي الأمريكي الجديد. نذكر من بينهم أولا «جون فايسك» المؤرخ الذي عبر عن الحلم الأمريكي العظيم في قصة خيالية؛ إذ حدثنا عن رؤيته ورؤياه للمجتمع الأمريكي العظيم الذي يمتد في تواضع من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، بل ويتجاوز هذه الحدود إلى ما بين الأفلاك.
نامعلوم صفحہ