ولكن حديث جيدنز عن الرأسمالية يتسم بالتردد، ويتراوح ما بين التأييد والمناهضة والدعوة إلى إصلاحها. ولعل هذا صدى لحالة الشك العميقة في نفسه والتي صرح بها مرارا خاصة عند النظر إلى المستقبل. مثال ذلك أنه في الإجابة عن سؤال دولة الرفاه المقترحة قال: «الأشكال التقليدية غير مقبولة ولا صالحة .. وليست عندي إجابة بسيطة عن سؤالك هذا؛ لأننا جميعا مشغولون بالبحث عن الإجابة في هذه اللحظة.»
ويسأل في المدخل «بعيدا عن اليسار واليمين»: إذا كانت الاشتراكية وهنت وضعفت، هل معنى هذا أن يهيمن النظام الرأسمالي من دون تحديات؟ ويجيب: «لا أظن ذلك؛ إذ إن الأسواق الرأسمالية الطليقة التي لا يكبح جماحها شيء لا تزال تفرز نتائج مدمرة .. ويظل نقدها أمرا مهما.» ويقول في كتاب «تجليات الحداثة»: «لا تزال الرأسمالية يقينا نظاما طبقيا. وأن صراع الحركات العمالية لا يزال وثيق الصلة بما يمكن أن نسميه «ما بعد الرأسمالية». ولكن يجب ألا ينحصر تفكيرنا في الحركة العمالية وحدها كقوة دينامية في الحداثة.» «ص 158-162». ويقول في معرض حوار معه: «لا أزال أعتقد أن الرأسمالية حياتها محدودة متناهية، هذا على الرغم من أنه ليس بوسع أحد أن يرى بديلا عن الرأسمالية أو عن مجتمع السوق الآن. لا أحد في حدود علمي لديه بديل متماسك. هذه ليست ذروة التاريخ، ولا يمكن أن تكون نهاية التاريخ: أن نعيش في عالم يهيمن عليه التقلب الاقتصادي وبورصة سوق الأوراق المالية، لا يمكن في رأيي أن يكون النهاية المرغوبة للحياة. لا بد من أن هناك سبلا ممكنة لكي نعيش حياة تنأى بنفسها عن هذا .. لم يعد هناك أي نقد اشتراكي للرأسمالية، ولكن لا يزال علينا أن ننظر للرأسمالية نظرة ناقدة.»
ويوجز تصوره عن مشروعه الفكري «الطريق الثالث» في إجابته عن سؤال: ما الذي يميز الطريق الثالث عن الطرق السياسية الأخرى؟ إذ قال: «تعترف سياسة الطريق الثالث بأن القضايا التي تتجاوز حدود التقسيم بين يمين ويسار في السياسة أكبر مما كان في السابق. إنها تعمل في عالم أصبحت فيه آراء اليسار القديم بالية، وآراء اليمين الجديد قاصرة ومتناقضة .. وقاعدة الوسط لم تعد ساحة للتوافق بينهما. وإنما ساحة لقوة سياسية جديدة .. توصف بالوسط النشط الراديكالي.»
ويضيف قائلا: «وحري ألا نخلط «الطريق الثالث» بالاستخدامات الأخرى السابقة؛ إذ تشير سياسة الطريق الثالث إلى إطار للتفكير وإلى صوغ سياسة هدفها ملاءمة الديمقراطية الاشتراكية مع عالم تغير تغيرا أساسيا على مدى العشرين أو الثلاثين عاما الأخيرة. إنه الطريق الثالث، بمعنى أنه محاولة لتجاوز كل من الأسلوب القديم للديمقراطية الاشتراكية، وأيضا الليبرالية الجديدة .. إنه استجابة جديدة برجماتية إزاء القضايا السياسية اليوم.»
وهكذا يظل كتاب «بعيدا عن اليمين واليسار» وكتاب «الطريق الثالث» وغيرهما من كتب أنطوني جيدنز تنويعات على لحن واحد ضمن مشروع فكري أو محاولة اجتهادية وليست بنية لنظرية متكاملة. إنها جميعا تدخل ضمن ما قاله جيدنز نفسه: «محاولة لاستحداث فلسفة سياسية ليسار الوسط، بحيث تتجاوب مع التغيرات الكبرى والجارية التي تغير العالم.» ويمثل الطريق الثالث، كما يرى البعض، ظاهرة مصاحبة أو عرضية في سياق تاريخي معين وقابل للتغيير وفي إطار الحوار الجاد المتاسا لنهج عمل وبنية نظرية نسقية تخرج بالإنسانية - مع اعتبارات ظروف الزمان والمكان - من عالم الشواش الفكري السائد.
وإذا كان يحدثنا جيدنز عن الثقة النشطة وعن العنصر الإنساني الإيجابي الفاعل والمحب للمخاطرة وعن ديمقراطية الحوار؛ فطبيعي أن يتجلى هذا بوضوح في مجال الفكر الاجتماعي السياسي. وطبيعي أيضا، وقد أكد جيدنز صراع المصالح، أن تتباين تيارات الفكر وينشأ يمين ويسار يتجاوزان السابق من حيث الفكر والقضايا وأسلوب العمل، ويستوعبان عالمنا الجديد: يمينا ويسارا بفكر جديد ومنهج عمل جديد لقضايا جديدة، ويتصفان بالاستجابية الفورية التي يحدثنا عنها جيدنز، استجابية فورية إزاء واقع عالمي سريع التغيير يستلزم أعلى قدر من الدينامية في الفعل وفي الفكر، وأوسع نطاق من التعاون داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات.
معنى هذا أن يكون فكر جيدنز شرارة لانطلاق فكر إنساني تنويري جديد للشمال وللجنوب بعيدا عن تراث المركزية الغربية.
ليس بالبلاغة وحدها تبنى الحضارات
اعتدنا منذ قرون أن نردد عبارة: الإنسان حيوان عاقل؛ أي إن الجوهر المميز للإنسان هو العقل أو الفكر أو المنطق واللغة. وجرفنا هذا الفهم إلى الشكل الظاهري دون تحليل للنشوء التطويري للعقل؛ وارتباطه الوثيق بالفعل - العمل المجتمعي - الذي هو أيضا فعل مجتمعي له نشوءه التاريخي التكويني .. ونجد من المجتمعات من منها أقرت ثنائية الفعل/الفكر؛ بينما أخرى، ونحن منهم، اعتمدنا اللغة/الكلام أو البلاغة خاصيتنا المميزة على المجتمعات الأخرى. وساد قديما تقسيم الناس إلى قسمين: «العاملون بالمخ/الفكر وهم النخبة؛ والعاملون اليدويون وهم العامة والمسحوقون أو المنبوذون ..» وسادت ثقافة تعظيم الفكر واحتقار الفعل والعمل كأن لا علاقة بين الاثنين.
ونلمس هذا في ثقافتنا الحياتية حيث الاعتقاد بأن نطق اسم الشيء يعنى وجوده، ونعرف اسم الشيء وصفاته نظريا بينما لا نعايشه أو نعامله. وتعج ثقافتنا بأسماء مجردة نعاملها كأنها موجودات حقيقية فاعلة.
نامعلوم صفحہ