والمعروف من سيرة وليام بعد سنة (1591) قليل بالقياس إلى أخبار نظرائه وإن لم يكن أقل من أخبار معاصريه، ولكن هذا القليل كاف للعلم بنجاحه وارتفاع شأنه، وانصراف همته إلى تعزيز مكانته في المجتمع ورد المفقود من تراث أهله في قريته، فحصل على حلة من حلل التشريف «الرسمية» تخوله التلقب بلقب السيد أو الجنتلمان، وسجل أداء الرسوم لهذه الحلة في شهر أكتوبر سنة (1596)، وشارك في مسارح العاصمة مع انتمائه إلى فرقة لسيستر إلى آخر أيامه في التمثيل، وحاول جهده أن يستعيد حصص الأرض التي ضاعت من أسرته بالرهن أو البيع، واستعاد منها ما ارتضى مالكوها أن يبيعوه، واقتنى البيوت والأكواخ لسكنه وسكن أقربائه، واشترى في سنة 1602 مائة وسبعة وعشرين فدانا في ستراتفورد القديمة، ثم عاد إلى مسقط رأسه ليقيم فيه سنة 1611، وبقي ثمة إلى أن أدركته الوفاة سنة 1616 في الثانية والخمسين من عمره، لا يفارق بلدته إلا لينظر في بعض أعماله بالعاصمة، ثم يكر إليها راجعا متزودا له ولأقربائه فيها بما تتطلبه حياة المستورين من أهل الريف.
وفي أوائل سنة 1616 أحس الشاعر بدنو أجله؛ فكتب وصيته في شهر يناير من تلك السنة ونقحها في الخامس والعشرين من شهر مارس قبل وفاته بأقل من شهر، وأوصى فيها بحصص مقدرة من المال والأرض والعقار وبقايا الأثاث والعتاد لزوجته ومن بقي من ذريته بقيد الحياة، وهن: سوسن بنته الكبرى، وجوديث بنته الصغرى، وحفيدته اليصابات. لأن ابنه الوحيد «هامنت» كان قد مات صغيرا سنة 1596 في الحادية عشرة من عمره؛ وأوصى ببعض الهبات والهدايا لفقراء القرية ولأفراد من مساعديه وصحبه، ولم يذكر شيئا في الوصية عن حصصه في المسرحين اللذين كان شريكا فيهما إلى ما بعد سفره من لندن، كأنه كان قد باع ما يملكه في غير قريته حين شعر باقتراب أجله.
ومات في الثالث والعشرين من شهر أبريل، أي في نفس اليوم الذي ولد فيه، وأعد قبيل وفاته أسطرا من الشعر أوصى بكتابتها على ضريحه في مقبرة الكنيسة، فحواها التذكير بحرمة العظام المطوية في رجامها، ودعاء بالبركة لمن يرعاها وباللعنة لمن يحركها من مكانها.
وقد كتبت الأسطر المنظومة بلغة ساذجة تشبه لغة العامة، واستدل بعض المتأخرين بهذه السذاجة على أن الأسطر المنظومة وأشعار الروايات والدواوين لم يكتبا بقلم واحد، ولكن الأسطر - ولا شك - كانت مكتوبة باللغة الشائعة في القبريات التي تعودها أبناء الريف، ولم يكن من السائغ أن تكتب بالأسلوب الفخم الذي يتخيره الشعراء لمنظوماتهم الأديبة.
ونسي أناس آخرون من الشراح والمعقبين زمان الشاعر ومكانه في موطنه، فوهموا أنه كتب تلك القبرية لأنه توقع أن تحتفي الأمة بذكراه وتنقل رفاته إلى المكان الذي جعلوه بعد ذلك مثوى للعلية من النوابغ والعظماء في كنيسة وستمنستر، ولكن القبرية تفهم على وجهها الصحيح من حيث الأسلوب والمعنى إذا فهمت على أنها «وصية محلية» يقرأها أبناء تلك الجيرة ممن يطيفون بالمقبرة ويباشرون دفن موتاهم بين جدرانها، وقد زار ستراتفورد قبل نهاية القرن السابع عشر (1694) أديب من خريجي أكسفورد يسمى وليام هول، فقال في رسالة كتبها إلى صديق: «إنني ذهبت في اليوم التالي لزيارة رفات شكسبير العظيم المدفون في الكنيسة، فقرأت الأسطر التي أمر في حياته بحفرها على شاهد قبره، وفيها من قلة الدلائل على العلم ما قد يبين عن قلته في غيرها لولا أنها تنطوي على شيء يحتاج إلى تعقيب، فإن في الكنيسة موضعا يطلقون عليه اسم (منزل العظام) ويودعونه بقايا العظام المستخرجة من حفائر المقبرة، وهي من الكثرة بحيث تملأ المركبات الكثيرة، وقد أراد الشاعر أن تترك عظامه آمنة في مثواها؛ فلعن من ينبش عنها ترابها، ووجه الخطاب إلى عمال الكنيسة وخدمتها، وهم على الأغلب الأعم شرذمة من أجهل الناس ...» •••
وليست هذه الصفحة الأخيرة بالصفحة الوحيدة التي نفهمها حق فهمها حين نفهم وليام شكسبير في قريته وبين آله وعشيرته؛ فإن السيرة كلها صفحات لا نفهم سطورها ولا ما بين سطورها بمعزل عن بيئة القرية وما احتوته من بيئة الأسرة بين جوانبها.
فينبغي أن نحضر في أخلادنا أن وليام شكسبير - في أخلاقه وعاداته - وريث أسرة ريفية حريصة جد الحرص على السمت والسمعة وكرامة الجاه على سنة أهل الريف في عصره، وأنه كان بين إخوته سليل جيل قصير الأعمار يندر بين رجاله خاصة من كان يناهز سن الشيخوخة أو يقارب الستين.
ويغنينا إحضار هذه الصفة في أخلادنا عن أسئلة كثيرة سألها المترجمون والشراح، ونظروا فيها إلى سيرته العالمية دون أن يرجعوا بها إلى سيرته في أسرته وقريته؛ فضلوا عن جوابها في متاهة الظنون، وإن جوابها لعلى منال اليد منهم لو التفتوا إليه.
لماذا هاجر من قريته؟ ولماذا توارى عن الأعين والأسماع ست سنوات أو سبعا بعد هذه الهجرة؟ لماذا كف عن الكتابة بعد الأربعين بقليل؟ لماذا ترك لندن وانزوى في قريته ولما يجاوز الخامسة والأربعين؟ من أين جاءه العلم بمراسم الشريعة وإجراءات الدعاوى ومصطلحات المحاكم والقضاة؟ ومن أين جاءه العلم برياضة الصيد وطبائع الحيوان؟
أسئلة لا يسألها من عرفه متصلا بمسقط رأسه مشاركا لآله وعشيرته في عاداته وشمائله ومعايير السمعة والشرف في نظره.
نامعلوم صفحہ