وليس من شك في أن أم خالد أذعنت لأمر الشيخ طائعة، وفي أن خالدا أنفذ أمر الشيخ راضيا مغتبطا، ولكن ليس من شك أيضا في أن أم خالد لم تكد ترى نفيسة حتى ارتاعت والتاع قلبها التياعا شديدا، ولولا أنها كانت قوية النفس حازمة ضابطة لأمرها، لأظهرت من روعها ولوعتها ما كان خليقا أن يؤذي الفتاة وأمها ويلغي أمر الشيخ إلغاء، ولكنها حزمت أمرها وكظمت غيظها وأوت بعد قليل إلى غرفتها، فبكت ما شاء الله أن تبكي، واستقبلت زوجها كأسوأ ما يستقبل الزوج، وقالت له في نفسه وفي شيخه أسوأ ما كان يمكن أن يقال. ولكن زوجها لقى هذا كله باسما يتلو الآية:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة
فإذا أحفظته استحال ابتسامه ضحكا، وقال: ناقصات عقل ودين. ولكنها أكثرت عليه حتى ضاق بها آخر الأمر، ولا سيما حين زعمت له أنه لا يزوج ابنه طاعة للشيخ ولا إذعانا لإرادة الله، وإنما هو أمر دبر بليل. هو لا يزوج ابنه من ابنة صاحبه، وإنما يزوج نفسه من ثروة صاحبه، فهو يضحي بهذين البائسين؛ ليشارك في هذه الثروة الضخمة والمال العريض. هنالك نهض علي في تؤدة، واستقبل امرأته في هدوء وقال لها في صوت يريد أن يرتفع، ولكن صاحبه يكرهه على الانخفاض: تخيري، فإما أن يعقد هذا الزواج، وإما أن تفصم عقدة الزواج بينك وبيني، فأقسم لنعودن إلى مدينتنا أربعة، أو لتعودن إلى أهلك وحيدة.
سمعت أما خالد هذا النذير، فوجمت له وجوما طويلا، والغريب أنها جعلت تلتمس عند عينيها الدموع، فلا تسعفانها بشيء، وتلتمس عند قلبها الثورة، فلا يسعفها بشيء، وتلتمس عند لسانها كلمة ترد بها على زوجها بعض ما قال، فلا يسعفها بشيء، فلما طال عليها ذلك نهضت لتصلح من شأنها، وانصرف عنها زوجها، ثم عاد إليها بعد ساعة فرآها كعهده بها هادئة حازمة، في وجهها ابتسامة ضئيلة حزينة، قال علي لامرأته متضاحكا: أرضيت؟ قالت: لقد سمعت أبي دائما يقول كلما لقى مكروها من الأمر: رضينا بقضاء الله وقدره، ولكن ثق بأنك ستندم على ما أنت مقدم عليه من الأمر، وبأنك إن أتممت هذا الزواج لم تزد على أن تغرس في دارك شجرة البؤس.
الفصل الرابع
ولم تحاول أم خالد أن تصرف ابنها عن هذا الزواج، ولا أن تنفره منه. وما كان لها أن تفعل، فطاعة الزوج واجبة، وطاعة الآباء بر بهم، وقد أطاعت زوجها كارهة، فما ينبغي لها أن تثير ابنها على أبيه، ولا أن تغريه بالعقوق. على أنها نصحت لابنها آخر الأمر، فلم تبالغ في الثناء على خطيبته، ولم تزعم له أنها رائعة الحسن بارعة الجمال، وإنما كانت تتحدث إليه بأن الشباب لا ينبغي أن يلتمسوا عند أزواجهم جمالا ولا حسنا؛ فإن الجمال فتنة والحسن محنة، ويوشك الذي يلتمس الحسن والجمال عند زوجه أن يعرض نفسه لكثير من المكروه، إنما يلتمس الشاب عند امرأته قرينة تؤنس وحدته، وأما ترزقه الولد، ومدبرة لبيته ومربية لبنيه. والواقع من الأمر أن ابنها كان يسمع لها معرضا عن أكثر ما كانت تقول؛ فهو لم يكن يفكر في جمال ولا في حسن، ولم يكن يحفل بالولد ولا بتدبير أمر المنزل، ولم يكن يشفق من وحدة ولا يبتغي أنيسا، وإنما كان يطيع أمر الشيخ ليس غير، وقد أمره الشيخ أن يتزوج فهو يتزوج، فأما ما بعد ذلك فله وقته وإبانه.
وكان الفتى منذ هبط إلى القاهرة قليل العناية بالخطبة وأحاديثها، والزواج وما كان يعد له، منصرفا أشد الانصراف إلى هذه المساجد الكثيرة التي استقر فيها الأولياء وأهل البيت، يلم بأحدها فلا ينصرف عنه حتى يلم بأحدها الآخر، قارئا في هذا مصليا في ذاك مطوفا ومتمسحا على كل حال بما فيها من المشاهد والمقامات، مستمعا لما كان يلقى هنا وهناك من دروس التفسير والحديث ومن الوعظ والإرشاد، منتفعا بما كان يسمع، مدخرا في قلبه من هذا كله الأعاجيب، ولم يكن النهار يكفيه ليرضي حاجته من هذه الزيارات، فقد كان ينفق فيه شطرا من الليل، ولا يعود إلى أبويه إلا حين يهمان أن يأويا إلى غرفة نومهما، وقد خطر للفتى هذا الخاطر العجيب، وهو أن يختم القرآن في طائفة من هذه المساجد الكبرى، فختمه في مسجد سيدنا الحسين، ومسجد السيدة زينب، ومسجد الإمام الشافعي، ومسجد الإمام الليث. وكان واثقا بأن ذلك كله أدعى إلى أن يبارك الله في حفظه للقرآن، وكان يتحدث بهذا إلى أبيه فيرضى، ويتحدث به إلى أمه فتبتسم. على أنها تعلقت به ذات يوم وأرادته على أن يزيرها أهل البيت، فهي لم تستبشر بالهبوط إلى القاهرة حين أنبأها زوجها به؛ إلا لأنها ستزور فيها أهل البيت، ولكن الفتى لم يستجب لأمه، وإنما انصرف إلى زياراته الطويلة، وأحال أمه على ضيفها يزيرونها ما تشاء من مساجد الأولياء؛ فلم يكن يرضى عن زيارة النساء لهذه المساجد والمشاهد، ولم يكن يعجبه تشبثهن بالقبور وتمسحهن بالأضرحة وإلحاحهن على الأولياء فيما كن يطلبن إليهم من قضاء الآراب وتحقيق الآمال، إنما كان يسمو إلى بركة خير من هذا كله وأبقى. كانت فيه نزعة روحية تريد أن تمتاز، لولا أنه لم يتهيأ لهذا الامتياز بما ينبغي له من العلم والمعرفة، وكان يجد في سعيه وكده، ويتحدث إلى نفسه بأن يوما من الأيام قد يقبل يظهر فيه الشيخ على ما يبذل في سبيل العلم والمعرفة من جهد، فيلقي إليه بفضل من علمه اللدني الذي لا تسقط منه قطرة ضئيلة في قلب من القلوب إلا ملأته حكمة ونورا. وفي ذات يوم أو في ذات ليلة ألقى إليه أبوه هذه الكلمة التي لفتته إلى أنه لم يهبط إلى القاهرة لما هو فيه من سعي وجد، وإنما هبط إليها لشيء آخر. قال له أبوه: إذا كان الغد فلا تخرج حتى ألقاك. قال الفتى: ولماذا؟ قال علي: لأني في حاجة إليك. قال الفتى: إنك في حاجة إلي إذا صليت العصر، أليس كذلك؟ قال علي: بل أنا في حاجة إليك إذا صليت الصبح. ثم انصرف عنه إلى بعض الأمر. وكان علي قد قدر في نفسه أنه إذا لم يستوثق من ابنه أول النهار لم يظفر به إلا حين يتقدم الليل، فلما كان الغد صحب ابنه في زيارته لبعض المساجد، واستمع معه لبعض الدروس، وقرأ معه شيئا من القرآن، وعاد به إلى البيت بعد أن صليت الظهر، فلم يفارقه حتى تم عقد الزواج.
وأدخل الفتى على زوجه بعد أيام، فلم ينكر شيئا ولم ينحرف عن شيء، وإنما سعد بامرأته السعادة كلها، واستيقن فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين ربه أن امرأته بارعة الحسن رائعة الجمال، خفيفة الروح، ساحرة الطرف، خلابة الحديث. وكان كثيرا ما يفزع إلى الله في أعقاب صلواته ضارعا إليه ألا يجعل امرأته فتنة له تصرفه عما كان يجد فيه من التقوى والتماس المعرفة. ومع ذلك فقد أنفقت أمه ليلة ساهرة مملوءة بالشقاء، ونهارا طويلا حافلا بالآلام؛ فقد كانت تخشى أن ينفر الفتى من زوجه متى رآها، وأن يزداد منها نفورا متى أشرقت الشمس على وجهها الدميم. وكانت تصور لنفسها ما سيجد ابنها من الوحشة وخيبة الأمل، فيتفطر قلبها حزنا، وكانت تصور لنفسها ما قد يظهره الفتى لامرأته البائسة وأبويها الخيرين من الاشمئزاز والنفور، فتمتلئ نفسها ذعرا، ولكنها رأت ابنها سعيدا موفورا، ورأت امرأته هانئة محبورة، فاطمأنت أول الأمر، ثم لم يلبث اطمئنانها أن استحال إلى شعور غريب، فيه شيء من خيبة الأمل في ابنها؛ فقد كانت تحسب أن له حظا من ذوق، وقد كانت تظن أن له نصيبا من نخوة، وقد كانت تقدر أنه سيثور غضبا لذوقه الذي امتهن، وحفاظا لنخوته التي لم يحفل بها أحد من مزوجيه، ولكنها ترى ابنها راضيا ناعم البال، كأنه الشاة تنعم بما يقدم إليها من علف فتمرح وتصيح، وهي لا تقدر أن السكين قد هيئ لذبحها في بعض المكان. ومهما يكن من شيء، فقد كظمت أم خالد حدة آلامها وخيبة آمالها، وصبرت على ما كانت ترى من سخرية زوجها بها، ومن نظراته تلك التي كان يلقيها إليها من وقت إلى وقت كلما رأى ابنه مسرورا محبورا، كأنه يقول لها: أرأيت أنك كنت واهمة كل الوهم؟! ألا تعرفين أن كرامة الشيخ لا يعجزها شيء؟! إنها تحول القبح جمالا، والدمامة حسنا، والبغض حبا، والنفور فتونا. كظمت أم خالد هذا كله في نفسها، ولكنها لم تكن من القوة وشدة الأيد بحيث تستطيع أن تحتمل بعض ما امتلأ به قلبها الضعيف، فلم تمض على زواج ابنها أيام حتى أحست شيئا من خمود، وحتى أبغضت القاهرة أشد البغض، ورغبت إلى زوجها في العودة إلى المدينة، فلما بلغت دارها أوت إلى غرفتها، وطالت إقامتها في هذه الغرفة، ولكنها لم تخرج منها إلا إلى القبر.
الفصل الخامس
وكان علي يحب امرأته أشد الحب، ويؤثرها أعظم الإيثار، لا يعدل برضاها شيئا، ولا يدخر في سبيله جهدا. ولم تعرف أم خالد أن زوجها قد خالف عن أمرها أو تنكر لها أو خيب لها أملا أثناء هذه الأعوام الطويلة التي قضتها عنده، بل لم تعرف منه إلا برا بها وعطفا عليها وفناء فيها. ولولا أن الشيخ أمر بهذا الزواج المشئوم لما صمم عليه ولا ألح فيه ولنزل في أمره عند إرادة امرأته، ولكنها عرفت حين تم هذا الزواج على كره منها أن هناك شخصا هو آثر منها في قلب علي وأكرم منها على نفسه وأحرى ألا ترد له كلمة.
نامعلوم صفحہ