وتكلمت ماري في ثبات: ومع كل ذلك يجب أن تفعلي ما ذكرت، إن أهلنا منذ آلاف السنين كانوا فلاحين يفلحون أرضا يملكها غيرهم، حدث ذلك في وطننا القديم، ولكننا هنا نقوم بعمل أفضل بأيدينا في المصنع، إن العامل منا له في كل يوم نصيب لا يخص رئيسه، وإنما يخصه هو نفسه، وهذا خير، ولكن امتلاك قطعة من الأرض أحسن، أجل قطعة من الأرض يرثها أولادنا؛ فيرفع هذا من شأننا على وجه هذه الأرض. - وكيف يتسنى لنا بحال أن نمتلك أرضا؟ أنا وجوني نعمل لنكسب القليل، بل أقل من القليل، ولا يكاد يتبقى لنا في بعض الأحيان بعد دفع الإيجار والتأمين شيء للطعام، فكيف نستطيع أن ندخر مالا ننفقه في شراء أرض؟ - خذي علبة لبن مركز ثم اغسليها جيدا. - علبة؟ - اقطعي الغطاء بعناية، واقطعي العلبة طولا بطول إصبعك، واجعلي القطعة عريضة على هذا النحو (ثم قاست بأصابعها مسافة عرضها بوصتان) اثني القطع إلى الخلف لتصبح العلبة أشبه ما تكون بنجم غير مستو، واصنعي فتحة في العلبة ثم ثبتيها بالمسامير في أظلم ركن من أركان مخزن المؤن في بيتك بدق مسمار في كل قطعة، وضعي كل يوم خمسة سنتات فيها، بعد ثلاث سنوات تتجمع لك ثروة صغيرة قدرها خمسون دولارا، خذي هذا المال واشتري به قطعة أرض في الريف، واحصلي على الوثائق التي تثبت أنها ملكك، وهكذا تصبحين من ملاك الأرض، فإن المرء إذا استطاع أن يمتلك أرضا فلن يعود أبدا من رقيق الأرض. - إن خمسة سنتات في اليوم تبدو شيئا قليلا، ولكن من أين لنا بها؟ إننا لا نجد كفايتنا من الطعام الآن، ولن يتأتى لنا ذلك في شهر آخر. - يجب أن تسعي إلى ذلك على الوجه الآتي: إنك تذهبين إلى بائع الخضر وتسألينه عن ثمن حزمة الجزر، فيقول لك الرجل: إن ثمنها ثلاثة بنسات، وهنالك ابحثي حتى يقع نظرك على حزمة أخرى ليست في نضارة الأولى أو حجمها، وقولي له: هل أشتري هذه الحزمة التالفة بسنتين، تكلمي بقوة وحزم تناليها بسنتين، فيتوافر لك بذلك بنس تدخرينه وتضعينه في العلبة التي تشبه النجم. وافرضي أن الشتاء قد حل، وأنك اشتريت كمية من الفحم نظير خمسة وعشرين سنتا، والجو بارد، فإنك تستطيعين أن تشعلي النار في المدفأة، ولكن صبرا! صبرا! أجل تحملي البرد ساعة، والتفي بوشاح، قولي لنفسك: إنني أتحمل البرد لأنني أدخر لأشتري الأرض، ولسوف توفر لك هذه الساعة فحما ثمنه ثلاثة سنتات، وهذه السنتات الثلاثة تضعينها في العلبة. ولا تشعلي المصباح حين تكونين وحدك بالمنزل، بل اجلسي في الظلام وعيشي في الأحلام فترة، ثم احسبي كم وفرت من الزيت وضعي قيمته بالبنسات في العلبة، فتزداد النقود، وسوف توفرين في يوم من الأيام خمسين دولارا، وتجدين في مكان ما فوق هذه الجزيرة الطويلة قطعة أرض تشترينها بهذا المال. - وهل يجدي هذا الادخار؟ - أقسم بمريم العذراء أنه يجدي. - لماذا إذن لم تدخري في حياتك مالا يكفي لأن تشتري أرضا؟ - لقد فعلت، حين نزلنا أول الأمر هذه البلاد، كانت لي علبة تشبه النجم، وسلخت من عمري عشر سنوات لأدخر تلك الخمسين دولارا الأولى، وجمعت النقود في يدي، وذهبت إلى رجل في المنطقة المجاورة، يقال عنه إنه أمين في تعامله مع هؤلاء الذين يشترون الأرض، وأراني قطعة جميلة من الأرض وقال لي بلغتي «هذه لك.» وأخذ مني المال وأعطاني ورقة لم أستطع أن أقرأها، ورأيت بعد ذلك رجالا يبنون بيتا لشخص آخر، فوق أرضي، وأطلعتهم على الورقة التي معي فضحكوا مني، وبدت في عيونهم نظرات رثاء لحالي، وتبين أن الأرض لم تكن ملكا للرجل بادئ ذي بدء حتى يبيعها! لقد كان ذلك ماذا تسمونه بالإنجليزية ... كان ذلك اختلاسا! - اختلاس؟ - إن أمثالنا من الناس الذين عرف عنهم أنهم سذج أغرار، جاءوا من الوطن القديم، كثيرا ما كان يبتز أموالهم مثل هؤلاء الناس؛ لأننا لا نستطيع أن نقرأ، ولكنك قد تعلمت، وعليك قبل كل شيء أن تقرئي في الورقة أن الأرض ملكك، وهنالك، وهناك فحسب يمكنك أن تدفعي ثمن الأرض. - ألم تدخري قط مرة أخرى يا أماه؟ - لقد فعلت، وبدأت من جديد مرة أخرى، وكان الأمر أكثر صعوبة في المرة الثانية لأنني أصبحت أما لأطفال كثيرين ، وادخرت المال، ولكن حين رحلنا عثر أبوك على العلبة وأخذ المال، ولم يكن خليقا بأن يشتري به أرضا، كان منصرفا دائما إلى هواية الطيور، فاشترى بالمال ديكا وعددا كبيرا من الدجاج، ووضعها في الفناء الخلفي.
وقالت كاتي: يخيل إلي أنني أذكر ذلك الدجاج منذ عهد بعيد ... بعيد جدا. - وكان يقول: إن البيض سيجلب مالا كثيرا من بيعه في المنطقة المجاورة، إيه، ما أعظم الأحلام التي تراود الناس! وأقبلت من فوق السور في الليلة الأولى عشرون قطة تتضور جوعا، فقتلت وأكلت عددا كبيرا من الدجاج، وتسلق الإيطاليون السور في الليلة الثانية وسرقوا عددا أكبر، وجاء رجل الشرطة في اليوم الثالث، وقال إن القانون في بروكلين لا يسمح بإبقاء الدجاج في الفناء، وكان علينا أن ندفع له خمسة دولارات حتى لا يأخذ أباك إلى مركز الشرطة، وباع أبوك القلة الباقية من الدجاج، واشترى عصافير كناريا كان يستطيع أن يمتلكها آمنا لا يساوره خوف. وهكذا خسرت المال الذي ادخرته للمرة الثانية، ولكني أدخر مرة أخرى، من يدري فقد يأتي وقت ...
وجلست حينا صامتة ثم وقفت وطرحت وشاحها: إن الليل قد يرخي سدوله، والموعد الذي يعود فيه أبوك من عمله قد حان، فلترعك القديسة مريم أنت وطفلتك.
وأقبلت سيسي من عملها لا تلوي على شيء، حتى إنها لم تضيع وقتا في نفض مسحوق المطاط الرمادي من فوق عقدة شعرها، وانخرطت في نوبات هستيرية مختنقة فوق رأس الطفلة معلنة أنها أجمل طفلة في العالم، وظهر على جوني أمارات الشك في قولها؛ لأن الطفلة كانت تبدو في عينه زرقاء عجفاء حتى أحس بأنها لا شك مصابة بإحدى العلل، وغسلت سيسي الطفلة (ولا شك أنها قد استحمت عشر مرات في اليوم الأول) واندفعت خارجة إلى حانوت يبيع المشهيات، وأغرت الرجل بأن يفتح لها حسابا حتى يجيء يوم السبت الذي تتسلم فيه أجرها، واشترت مشهيات نظير دولارين: شرائح من اللسان، وحوت سليمان طهي على البخار، وشرائح بيضاء كالزبد من سمك الحنش المدخن، وكعكا طازجا هشا.
واشترت كيسا من الفحم، وجعلت النار تتأجج اشتعالا، وأحضرت صينية العشاء إلى كاتي ثم جلست هي وجوني في المطبخ وأكلا معا، وانتشرت في البيت رائحة الدفء والطعام الجيد، والمسحوق المعطر والرائحة القوية الشبيهة برائحة الحلوى التي تنبعث من قرص صلب كالطباشير، تضعه سيسي في قلب مزركش مطلي بالفضة له سلسلة تلتف حول عنقها.
وتأمل جوني سيسي وهو يدخن لفافته بعد العشاء، وتعجب من مقاييس الناس حين يطلقون على إخوانهم صفتي الصالح والطالح، فإذا نظرنا إلى سيسي مثلا، وجدناها طالحة، ولكنها في الوقت نفسه صالحة، كانت طالحة فيما يخص الرجال، ولكنها كانت صالحة لأنها أينما حلت تشيع الحياة والخير والحنان، وتفيض على الناس من مشاعرها وتبعث على المرح وتخلق جوا له عبير قوي، وتمنى أن تشبه ابنته الوحيدة سيسي بعض الشبه.
وبدا على وجه كاتي القلق حين أعلنت سيسي أنها ستبيت عندهم تلك الليلة، وقالت إنه لا يوجد عندهم سوى الفراش الوحيد الذي تتقاسمه هي وجوني، وصرحت سيسي بأنها قد لا تخشى شيئا من النوم مع جوني في فراش واحد.
وعبثت كاتي، وكانت تعلم أن سيسي تمزح بلا شك، ولكن سيسي كانت تتميز بشيء من الصدق واستقامة القول، فمضت تلقي عليها درسا، ولكن جوني حسم الموقف كله بقوله إن الأمر يقتضيه المضي إلى المدرسة.
ولم يأنس جوني في نفسه الشجاعة على أن ينبئ كاتي بأنهما فقدا وظيفتهما، وتصيد أخاه جورجي الذي كان يعمل تلك الليلة، ولحسن التوفيق أن القوم هناك كانوا يحتاجون إلى رجل للخدمة على الموائد ويغني بينها، وحصل جوني على الوظيفة ووعده بأخرى في الأسبوع المقبل، وهكذا عاد جوني إلى وظيفة النادل المغني، ولم يؤد عملا آخر منذ ذلك الحين.
ونامت سيسي مع كاتي في سريرها وظلتا تتكلمان معظم الليل، وحدثتهما كاتي عن قلقها على جوني وخوفها من المستقبل، وتكلمتا عن ماري روملي، وكيف كانت أما طيبة لإيفي وسيسي وكاتي، كما تكلمتا عن أبيهما توماس روملي، وقالت سيسي إنه كهل فاسد، فأخبرتها كاتي بأنها يجب أن تظهر له احتراما أكثر من ذلك ، فأردفت سيسي قائلة: أوه! تبا له!
نامعلوم صفحہ