واعتقدت فرانسي أن الغدارة تشبه إصبعا غريبة ضخمة تشير إلى الموت وتأمره بالمجيء عدوا، وشعرت بالسعادة حين وضع أبوها الغدارة تحت الوسادة بعيدا عن الأعين.
وبقيت الغدارة تحت وسادة جوني شهرا دون أن يمسها أحد، ولم تقع أية حادثة اغتصاب للبنات في الحي من بعد، وخيل للقوم أن الشيطان قد ولى عنهم، وبدأت أعصاب الأمهات المشدودة ترتخي وتهدأ، لكن القليلات منهن أمثال كاتي دأبن على مراقبة الباب ومدخل البيت، حين يعرفن أن موعد رجوع الأطفال من المدرسة قد حل، وكان من عادة القاتل أن يتربص لضحاياه في مداخل البيوت المظلمة، ووجدت كاتي أن الحرص لن يكلفها شيئا.
ولما أخلد معظم الناس إلى الطمأنينة والأمان، ضرب الرجل المنحرف ضربة أخرى.
كانت كاتي في عصر يوم من الأيام تنظف ردهات البيت الثاني بعيدا عن بيتها، حين سمعت أصوات الأطفال في الشارع، فعرفت أن المدرسة قد انصرفت، وتساءلت: أمن الضروري أن تعود إلى بيتها وتنتظر فرانسي في مدخل البيت، كما كانت تفعل منذ حادث القتل؟ وكانت فرانسي قد أوشكت على الرابعة عشرة، وبلغت من العمر ما يؤهلها لرعاية نفسها، كما أن القاتل عادة يهاجم البنات الصغيرات، في سن السادسة أو السابعة، وربما قبض عليه في حي آخر ووضع في أمان في السجن ... ولكن ... وترددت قليلا ثم قررت أن تعود إلى البيت؛ إنها تحتاج إلى قطعة جديدة من الصابون خلال تلك الساعة، وسوف تضرب عصفورين بحجر واحد إذا ذهبت إلى البيت الآن.
ونظرت في طول الشارع وعرضه وشعرت بالقلق؛ إذ لم تر فرانسي وسط الأطفال، ثم تذكرت أن فرانسي تذهب إلى مدرسة بعيدة وترجع متأخرة بعض الوقت، وقررت كاتي حين وصلت إلى شقتها أن تسخن القهوة وتشرب منها فنجانا، فتكون فرانسي قد وصلت إلى البيت وتهدأ نفسها، وذهبت إلى حجرة النوم لترى هل الغدارة لا تزال في مكانها تحت الوسادة، وكانت بطبيعة الحال هناك، واتهمت نفسها بالبله ببحثها عنها، وشربت القهوة وأخذت قطعة الصابون الأصفر، وتهيأت للعودة إلى عملها.
ووصلت فرانسي إلى بيتها في وقتها المعتاد، وفتحت باب المدخل وحملقت في طول الممر الضيق وعرضه، ولما لم تر شيئا أغلقت الباب الخشبي الثقيل خلفها، فأظلم الممر تماما، وسارت في الممر القصير متجهة إلى السلم، وبينما هي تضع قدمها على أول درجة رأته أمامها ...
وخطا إلى الأمام خارجا من فجوة تحت السلم لها مدخل إلى مخزن المؤن، وسار في هدوء ولكنه كان يثب في خطواته، وهو نحيل ضئيل الجسم يرتدي حلة داكنة مهلهلة ليس لها بنيقة، وقميصها مفتوح، وشعره الكث الغزير ينمو على جبينه ويكاد يصل إلى حاجبيه، وأنفه مقوس وفمه رفيع كأنه خط معقوف، ورأت فرانسي بالرغم من غبشة الظلام أن نظرات عينيه كانت مخضلة، وتقدمت خطوة أخرى، ثم تحجرت قدماها حين رأته أكثر وضوحا، ولم تقو على أن ترفعهما لتخطو الخطوة التالية، وتشبثت يداها بحاجز السلم، وحاولت أن تصرخ وتنادي أمها، لكن حلقها غص فلم تخرج منه إلا أنفاسها، وكان ما اعتراها أشبه بحلم مفزع، تحاول أن تصرخ لكنها لا تستطيع أن تخرج صوتا، ولم تستطع أن تتحرك! نعم لم تستطع أن تتحرك! وآلمتها يداها من القبض على حاجز السلم، وها هو ذا الرجل يتجه الآن إليها وهي لا تستطيع أن تجري! نعم لا تستطيع أن تجري! وقالت مبتهلة: يا إلهي! هلا أقبل أحد من السكان فأنقذني!
وفي تلك اللحظة كانت كاتي تهبط السلم في هدوء، وفي يدها قطعة الصابون الأصفر، ونظرت إلى أسفل حين وصلت إلى الدرجة العليا من آخر قلبة في السلم، ورأت الرجل متجها إلى فرانسي، وأبصرت فرانسي متجمدة على حاجز السلم وقد شلت حركتها، ولم تصدر كاتي أي صوت، ولم يرها أحد منهما، واستدارت في هدوء وجرت صاعدة قلبة السلم إلى شقتها، وكانت يداها ثابتتين حين أخذت المفتاح من تحت الحصيرة وفتحت الباب، وقضت بعض اللحظات الثمينة غير واعية تماما بما تفعل، وهي تضع قطعة الصابون الأصفر على غطاء حوض الغسيل، وأخذت الغدارة من تحت الوسادة ووضعتها تحت «مريلتها» وهي مصوبة، وارتعشت يدها في تلك اللحظة، فوضعت يدها الأخرى تحت «مريلتها»، وأسندت الغدارة بكلتا يديها، وجرت هابطة السلم وهي تحمل الغدارة على هذا النحو.
ووصل القاتل إلى أسفل السلم ولف حوله، ثم قفز الدرجتين وألقى ذراعه في حركة سريعة كالهر حول رقبة فرانسي، وضغط براحته على فمها ليحول بينها وبين الصراخ، ووضع ذراعه الأخرى حول خصرها وحاول أن يخلص يديها من حاجز السلم.
وسمع صوت، فنظرت فرانسي إلى أعلى ورأت أمها تجري هابطة تلك القلبة الأخيرة من السلم، وكانت كاتي تجري وهي تتعثر، وقد عجزت عن أن تحتفظ بتوازنها كاملا؛ لأن يديها الاثنتين كانتا تحت «المريلة» قابضتين على الغدارة، ورآها الرجل، ولم يستطع أن يتبين أنها تحمل غدارة، وأرخى قبضته في تردد وتراجع إلى الوراء هابطا الدرجتين، شاخصا بعينيه المخضلتين إلى كاتي، ووقفت فرانسي ويدها لا تزال تمسك بحاجز السلم في شدة، ولا تستطيع أن تفتح أصابع يدها، وهبط الرجل الدرجتين وأسند ظهره إلى الحائط، وبدأ يزحف متجها إلى باب مخزن المؤن، وتوقفت كاتي وركعت على درجة من درجات السلم، ودفعت «مريلتها» بما تحتها بين عمودي الحاجز وحملقت فيه ثم شدت الزناد.
نامعلوم صفحہ