ولا مناص لك من أن ترتد طفلا لتعلم مبلغ ما تتحلى به نوافذ العرض بالمحال من روعة، وهي حافلة بالدمى والزلاقات وغير ذلك من اللعب، وأحست فرانسي إقبالها على تلك الروعة، وكانت فرحتها، حين يسمح لها بأن تنظر إلى اللعب من خلال النافذة الزجاجية، تكاد تداني فرحتها لو أنها امتلكت هذه اللعب حقا.
وما أعظم نشوتها حين دارت حول منعطف الشارع، ورأت محلا آخر قد امتلأ بلعب عيد الميلاد، وما أجمل النافذة وهي تتلألأ مشرقة بندف القطن، وقد نثرت عليها النجوم كالبساط المزوق، وكان في النافذة دمى لها شعور كالكتان، ودمى أخرى فضلتها فرانسي وكانت شعورها في لون القهوة الممزوجة بالكريمة، ووجوهها ملونة تلوينا متقنا غاية الإتقان، وتلبس ملابس لم ترها فرانسي في حياتها قط، وهذه الدمى صنعت واقفة في صناديق واهية من الورق المقوى، وقد اعتمدت على قطعة من الشريط تمر حول عنقها وكاحليها، كما تمر خلال ثقوب في ظهر الصندوق، وعيونها الزرقاء العميقة تحيطها رموش كثيفة، تحملق مصوبة نظراتها إلى قلب فتاة صغيرة مباشرة، والأيدي الرقيقة الشاحبة تمتد مبسوطة في ضراعة: أرجوك، هل تتفضلين وتكونين أمي؟
ولم تكن فرانسي قد امتلكت قط دمية، إلا تلك التي كانت طولها بوصتين وثمنها خمسة سنتات.
وما بالك بالزلاقات، يا لها من حلم سماوي راود الأطفال فتحقق، وكان الطفل منهم يحلم بزلاقة جديدة طليت عليها زهرة زرقاء شديدة الزرقة لها أوراق خضراء زاهية، والمزالق التي طليت باللون الأسود كخشب الأبنوس، وقضيب القيادة الناعم المصنوع من الخشب الصلب، وطلاء الورنيش اللامع يكسو كل قطعة، وما أروع الأسماء التي نقشت عليها: كم الزهرة، مانوليا، ملك الثلج، السمكة الطائرة! وقالت فرانسي بينها وبين نفسها: لو قدر لي أن أحصل على إحدى هذه الزلاقات، لما سألت الله شيئا آخر في حياتي.
وهناك زلاقات ذوات عجل صنعت من النيكل اللامع، ولها أشرطة من الجلد البني المتين وعجلات فضية متوثبة شدت للانزلاق، لا تحتاج إلى نفخة لتبدأ دورتها، وقد وضعت الواحدة فوق الأخرى، ونثرت عليها ندف ناصعة البياض من الثلج الصناعي، على مهد من القطن يشبه السحاب.
وهناك أشياء أخرى عجيبة لم تستطع فرانسي أن تستوعبها جميعا، ودار رأسها وزاغت عيناها من أثر كل ما رأت، أو نسجت من قصص حول اللعب المعروضة في نوافذ المحال.
وبدأت أشجار الشربين تظهر بالحي في الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد، وقد حزمت فروعها لترد ما انتشر من بهائها، ولعل ذلك لتيسير شحنها، وكان البائعون يؤجرون مكانا على منعطف الطريق أمام المحال ويمدون حبلا من عمود ليسندوا عليه الأشجار، وهم يسيرون طول اليوم رائحين غادين في ذلك الطريق ذي الجانب الواحد الحافل بالأشجار المسندة العطرة، ينفخون في أصابعهم المتصلبة الخالية من القفازات، وينظرون إلى هؤلاء الناس يقفون وقد راودهم أمل ضعيف فيهم، وطلب قليل من الناس أن تفرد لهم شجرة من تلك الأشجار ليوم عيد الميلاد، ووقف آخرون يقدرون الثمن ويفحصون الأشجار ويخمنون، ولكن أغلبهم أقبلوا ليلمسوا الأغصان وليقطفوا قبضة من إبر الشربين، إيمانا منهم بالخرافات ثم يجمعوها في أيديهم ويفركوها ليخرجوا عبيرها، وهب الهواء باردا ساكنا تفوح منه رائحة الصنوبر ورائحة اليوسفي، اللتان تنبعثان في المحال وقت عيد الميلاد فحسب، فيصبح الشارع الوضيع رائعا حقا إلى حين.
وفي هذا الحي تشيع عادة قاسية بالنسبة للأشجار التي لم تبع بعد، حين يقترب منتصف ليلة عيد الميلاد، وهناك قول بأنك إذا انتظرت حتى ذلك الوقت فإنك خليق بألا تشتري شجرة، وإنها سوف تلقى عليك إلقاء، وكان هذا القول صحيحا ينفذ حرفيا.
وقد تعود الأطفال أن يتجمعوا في مكان الأشجار التي لم تبع في منتصف ليلة عيد الميلاد المجيد، والرجل يلقي كل شجرة بدورها بادئا بأكبر شجرة، ويتطوع الأطفال بالوقوف في مواجهة الشجر الملقى، فإذا ثبت الطفل ولم يسقط تحت ثقل الشجرة تصبح من نصيبه، وإذا ما سقط فإنه يخسر فرصة الفوز بالشجرة، وكان أكثر الصبية صلابة هم الذين يختارون ليتحملوا عبء ثقل الأشجار الكبيرة التي تلقى، ويقف الآخرون في تحفز وفطنة حتى يلقى بشجرة يستطيعون أن يثبتوا لها، والأطفال الصغار ينتظرون الأشجار الضئيلة التي يبلغ طولها قدما، ويصرخون في فرح وسرور حين يظفرون بواحدة.
وفي ليلة عيد الميلاد حين كانت فرانسي في العاشرة من عمرها ونيلي في التاسعة، وافقت أمهما على أن تسمح لهما بالخروج وممارسة تجربتهما الأولى في الحصول على شجرة، وكانت فرانسي قد تخيرت شجرتها في باكورة ذلك اليوم، ووقفت بالقرب منها طول فترة العصر والمساء تصلي داعية ألا يشتريها أحد، وفرحت حين وجدت أنها لا تزال باقية حتى منتصف الليل، وهي أكبر شجرة في الحي وثمنها مرتفع جدا، فلم يستطع أن يشتريها أحد، وارتفاعها عشر أقدام، وقد جمعت أغصانها جمعا بحبل أبيض جديد، جعلها تنتهي برأس حاد عند القمة.
نامعلوم صفحہ