الجزء الأول
إهداء الكتاب
مقدمة
كلمة الأميرة
السيدة خديجة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
السيدة عائشة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
العباسة بنت المهدي
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الملكة عصمة الدين شجرة الدر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الثاني
كلمة
سيدة النساء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تاج الرجال
الفصل الأول
الخنساء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
أميرة المؤمنين زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الأميرة صبيحة ملكة قرطبة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الخاتمة
الجزء الأول
إهداء الكتاب
مقدمة
كلمة الأميرة
السيدة خديجة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
السيدة عائشة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
العباسة بنت المهدي
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الملكة عصمة الدين شجرة الدر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الثاني
كلمة
سيدة النساء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تاج الرجال
الفصل الأول
الخنساء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
أميرة المؤمنين زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الأميرة صبيحة ملكة قرطبة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الخاتمة
شهيرات النساء في العالم الإسلامي
شهيرات النساء في العالم الإسلامي
تأليف
قدرية حسين
ترجمة
عبد العزيز أمين الخانجي
الجزء الأول
إهداء الكتاب
إلى حضرة صاحب العزة شريف بك صبري مدير عموم البلديات
مولاي
هذا كتاب جمع حوادث بعض الشهيرات من نساء السلف مما جادت به قريحة صاحبة السمو الأميرة الجليلة قدرية حسين، وفقني الله إلى إتمام تعريبه ونشره في عهد إدارتكم ورعايتكم لقسم البلديات الذي شرفتني الأيام بأن أكون عاملا من عماله وجنديا من جنوده، فكان من الحق أن أتشرف بإهدائه إلى مقامكم الكريم، لا مزدلفا ولا راغبا في نوال أو عطاء، وإنما مدفوعا بعاملي التقدير والإخلاص.
المعرب
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الهادي إلى سواء القصد، وباسم أنبيائه المرسلين والهداة المخلصين وطلاب الاستقلال والحرية المجاهدين في كل عصر ومصر، أتقدم إلى قراء العربية في مصرنا المحبوبة وفي الأمصار العربية الأخرى بهذا الكتاب الذي وفقني الله إلى تعريبه، وأنا قبل كل شيء لا أجد مناصا من الاعتراف بتشجيع المشجعين من أبناء قومي عندما أقدمت على ترجمة رسائل الأميرة قدرية حسين، أمد الله حياتها ومتع العالم الشرقي بثمار أفكارها، ولولا ثقتي بتقديرهم لمجهود هذا العاجز الضعيف وعطفهم عليه في جميع ما ترجمه لما أقدمت على هذا العمل الذي أظنني دونه.
وما أظنني في حاجة إلى أن أعرف قراء هذا الكتاب عن مؤلفته وسابق جهودها وفضلها، فما هي بالسيدة المجهولة عندهم، وتاريخ حياتها الأدبية معلوم مشهور لدى الناس أجمعين.
الأميرة قدرية حسين كاتبة تتمشى في كتابتها مع روح العصر، مع كثير من التربية الدينية الشرقية، وهي تشترك في مجهوداتها مع روح الديمقراطية الإسلامية الحديثة، يتبين ذلك من خواطرها ومن مقالاتها ورسالاتها التي كان لقراء العربية نصيب وافر مما عربته لهم، وهي تكتب باللغتين اللتين تحسنهما: التركية والفرنسية، وتكاد لا تعلن عما تكتب إلا إذا تنبه له بعض الأدباء.
ويقضي علي واجب الأدب أن أذكر أن المرحوم ولي الدين بك يكن كان في مقدمة الذين تنبهوا إلى رسائلها القيمة، فعرب لها كتاب خواطرها «نه لرم» وأسماء «ما هو وما هي»، غير أنه لم يطبع، وكنت إذ ذاك ملازما للخزانة الزكية، أمد الله في حياة صاحبها أستاذي البحاثة سعادة أحمد زكي باشا، فعثرت بين نفائسها على طائفة صالحة من كتب سمو الأميرة، وبادرت إلى تعريب خواطرها دون أن أعرف أن المرحوم ولي الدين بك يكن سبقني إلى ذلك.
وقد كان سعادة زكي باشا من أول المشجعين لي على المضي في تعريب كتب الأميرة رغبة في نشر مآثر الأمراء والأميرات من البيت الملكي الكريم، وإننا لنسجل هنا بيد الفخار والإعجاب خطبته التي ألقاها على أعضاء المجمع العلمي المصري في شهر رجب عام 1340 الموافق مارس 1922، فإنها خير كلمة نصدر بها مثل هذا الكتاب وسيراها القارئ بعد كلمة الأميرة، وفقنا الله جميعا إلى ما فيه خير البلاد.
القاهرة، في 11 ربيع الأول سنة 1343
عبد العزيز أمين الخانجي
كلمة الأميرة
اجتمعنا معشر أهل التوحيد تحت اللواء المحمدي المبارك، نازلين عند قوله - عز وجل:
إنما المؤمنون إخوة ، فرفعنا ستور الجنسية وأزلنا حوائل القومية، فأصبحنا جميعا منذ ذلك اليوم بنعمة الله إخوانا، أسرة واحدة، تجمعهم فكرة واحدة، فما أجمل هذا النداء الإلهي الذي ضمن لنا السلام والوئام.
أميزنا عند الله أكثرنا استقامة لقوله الجليل:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، فيا لله من جمال هذا الدستور الذي يغري الأمة بمكارم الأخلاق!
البلاد الآهلة بالإسلام هي وطننا الديني، والعلم الأخضر ذو الهلال والنجوم الثلاث هو لواؤنا الملي، لنا ماض مجيد ينحدر حتى أعماق أربعة عشر عصرا، ولنا تاريخ مملوء بالعظائم، وقد كانت لنا حضارة تزري بحضارة الرومان، ولنا ذكريات طيبة تبعث في النفس الطمأنينة، مضت علينا أيام رأينا فيها شمس المعارف تشرق في ديارنا، فأبصرنا بنور العلم ما حولنا ووقفنا بقدرة الفن على كل حال وشأن لنا، فيا للسعادة!
لم نثبت في موقفنا، لم نتمسك بأهداب العلم، تلك فرصة سنحت لم نقتنصها، فيا للحسرة!
غربت شمس المعارف في شرقنا وبزغت في غربهم، فأمسينا في ظلام دامس وعشيت أبصارنا عن ماضينا حتى كدنا ننسى تاريخنا المجيد، فيا للأسف!
تعكس مرآة ماضينا صورا شتى لرجال التاريخ ولعظائم الأعمال عندنا كما تشهد بذلك الآثار الباقية في أيدينا مما هو محفوظ في مكاتب الشرق والغرب؛ فالأسفار مشحونة بذكر عظمائنا وحوادث أيامهم ووقائع أزمانهم، وفي نشر تلك الوقائع وعرضها على أنظار القوم عظة بالغة وعبرة فائقة، يرينا كيف كان حالنا وما صرنا إليه في يومنا!
لا أريد لقومي أن ينظروا إلى الغرب نظرة سطحية تريهم الأشياء على غير حقيقتها كمن يرى الأشباح البعيدة عنه على غير حجمها الطبيعي، لا أرى لقومي أن يروا في الغرب كل شيء مستسلمين إليه في كل شأن، بل أردت أن أذكرهم بمجدهم السالف وعظمتهم الماضية وأن يعتقدوا بأن حق تحصيل العلوم لا يسقط بمضي الزمن، أردت لهم كل ذلك ليتشبهوا بعظماء الرجال من ماضيهم الزاهي المشرق، فإنهم بذلك يجلون أنفسهم ويرفعون من قدر ذواتهم ويتذوقون معنى الحياة.
بهذا الدافع الإنساني قام في ذهني أن أجمع حوادث الشهيرات من نساء السلف وتراجم أحوالهن، مستعينة على ذلك بالمآخذ المهمة والمراجع الموثوق بها، فأوصلني البحث إلى تراجم أحوال الكثيرات من النساء ممن اشتهرن بالفضل والكمال في أصقاع مختلفة من البلدان الإسلامية، سواء من العرب أم من الترك أو الهند أو جاوة أو العجم إلى غير ذلك.
لا بد للإنسان أن يجني ثمار ما يبذره من بذور الخير إن قليلا وإن كثيرا، وقد يصل إلى ما يريد بالجد والسعي. بهذه الروح، داومت تتبعاتي وأبحاثي حتى صيرني البحث والاستقراء إلى وقائع ذات بال لنساء كن مثال الفضيلة، جديرات بالتقدير، لعبن أدوارا هامة في التاريخ الإسلامي، وسيكون هذا الجزء - هو أول الأجزاء - بمثابة مقدمة مباركة للأجزاء الأخرى التي عزمت على إصدارها، اثنتان من بطلات هذا الجزء من أمهات المؤمنين وهما: والدتانا السيدتان خديجة الكبرى وعائشة الصديقة، رضي الله عنهما، زوجتا الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فخر الكائنات، توجت بهما هذا الجزء تبركا وتيمنا بسيرتهما الطاهرة؛ ولأن لهما حق التقدم على غيرهما من كل الوجوه.
الثالثة: بنت خليفة وأخت خليفة، وأعني بها العباسة بنت المنصور وأخت الرشيد. والرابعة: أول ملكة في الإسلام، وأعني بها الملكة المصرية شجرة الدر، تلك التي قرئ اسمها على المنابر في خطب صلوات الجمعة؛ فهذا الأثر الذي شرعت في إنجازه مدفوعة بعامل الخير قد تم لغاية حميدة، وما أطلبه من الجزاء أن يكون له بعض الأثر في نفس أمتي. ومن الله التوفيق.
صفحة من مظاهر العبقرية1 العلمية في مصر
بقلم أحمد زكي باشا
لما كنت من أعضاء العائلة المصرية الكبرى ومن أعضاء هذا المجمع العلمي المصري الجليل؛ فإنني بهذين الوصفين أشعر في هذه الساعة بارتياح يخالج نفسي وبابتهاج يتملك وجداني، هاتان العاطفتان تدفعان بي إلى تحية وتهنئة الأمراء الصميمين الذين تحدوهم عبقريتهم إلى استخدام ما آتاهم الله من وسائل شخصية، وإلى استثمار مواهبهم الخاصة ليجعلوا أنفسهم أيضا من أمراء العلم والعرفان.
لا جرم أنهم، إذا سلكوا هذه الجادة، يعيدون لنا تلك السيرة المجيدة التي امتاز بها الشرق في عصره الذهبي، ويكون من ورائها أكبر الخيرات وأعم البركات لذياكم الشرق في إبان نهضته الحاضرة.
نعم، فقد امتازت دول العرب والإسلام بطابع خاص، وهو أن الخلفاء والملوك وأركان بيوتاتهم وأمراء حكوماتهم كانوا أولا وقبل كل شيء من الشعراء المجيدين، وثانيا وعلى الأخص من العلماء المبرزين والفنانين المبدعين، ومنهم فوق ذلك من يزداد ارتفاعه في بعض الأحيان بتنازله لممارسة الصنائع اليدوية حتى يحذقها ويبرع فيها. هكذا ارتقت طبقات الأمم الإسلامية في مختلف الديار والبقاع حتى وصلت إلى المثل الأعلى الذي يحدثنا عنه التاريخ بما فيه من العجب العجاب، ولو شئت أن أسرد بعض الأسماء التي تتوارد على صدري وتتجارى في خاطري لطال المقال وضاق المجال ولرأيتم المطربات المرقصات مما طلبه لنا سادات الشرق في أيام عزه واستقلاله بأمره من مجالي المفاخر وغرر الآثار، بيد أن المقام لا يحتمل الجولان في هذا الميدان؛ لذلك سأثب أمامكم وثبة بعيدة المدى بحيث تترك ورائي تسعة قرون كوامل، وأقف بكم لحظة واحدة في دائرة مدينة واحدة هي هذه المدينة الجميلة التي ازدهرت فيها الحضارة العربية على عهد الفاطميين وبني أيوب والمماليك والخديويين، فأبعث بتحية ممزوجة بخالص الاحترام والإجلال إلى روح السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري؛ تحية يرسلها أحد الأحياء الآن إلى رجل فارق الدنيا منذ نيف وأربعة قرون، تحية تحدوني إليها في هذا المقام ثلاثة عوامل من الاعتبارات، في كل منها عبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فأما أولها: فلأن السلطان الغوري قد أحسن إلى القاهرة بإقامة أثر مجيد له مكانة فاخرة بين العمائر الأثرية الوطنية، بل هو بمثابة الدرة اليتيمة في فن العمارة العربية البديع، بل هو محراب لشتيت الفنون الجميلة في الإسلام، ذلك المحراب هي المدرسة المعروفة الآن بقبة الغوري، وهو الذي انتهت إلى القرار فيه خزانتي الزكية التي جمعت فيها طائفة كبيرة مما أنتجته العقول والقرائح في مضمار الآداب العربية وحضارة الإسلام، تلك الخزانة التي وفقني الله لوقفها على أبناء وطني وطلاب العلم أيا كانوا، وأصبحت لا نصيب لي فيها سوى ما يكون لأي فرد من أبناء الأمة المصرية وخادمي المعارف على الإطلاق، وكان الفضل في الوصول بها في خاتمة المطاف إلى هذا المحراب لصاحبي الدولة رشدي باشا وعدلي باشا، هنالك ألقت عصاها واستقر بها النوى، وأصبحت - والحمد لله - في أمان من عادية الزمان وعبث الإنسان.
جلالة الملك فؤاد الأول: صاحب الفضل الأكبر على النهضة العلمية الحديثة في مصر.
هذا، وقد كان الغوري الذي بلغ الثمانين من رجالات العلم والأدب، نعم، كان من أهل الدراية والعرفان بكل معنى الكلمة وبكل ما ينطوي تحت هذا الوصف من المرامي والمقاصد؛ ذلك أنني منذ عشر من السنين أسعدني الحظ فاكتشفت لهذا السلطان المصري تأليفا في النسب النبوي الشريف، مرتبا على أسلوب فني بديع ومرقوما بطريقة هي آية في حسن الصنعة والجمال، عثرت عليه في الخزانة الشاهانية العثمانية بسراي طوب قبو بالقسطنطينية، فسارعت لنقله بالتصوير الشمسي، ولا تزال زجاجاته السلبية محفوظة بخزانتي الزكية ومعها صورة السيف الذي كان يتقلده السلطان الشجاع وهو غير المحفوظ بدار الآثار العربية.
نعم، إن هذا التأليف الصغير لا يكفي للإشاعة بذكر الرجل وجعله في مصاف العلماء ولا للتنويه به وإطراء عمله في ندوة مثل المجمع العلمي المصري، لولا أنه أنشأ في القاهرة أيضا مجمعا علميا كان نسيج وحده وفريدا في نوعه، ولا يزال كذلك على ما أظن، لقد كان ذلك المجمع متنقلا؛ فيعقد جلساته تارة في القصر وتارات في المدينة، أعني في إحدى القاعات المفتخرة التي كانت تزدان بها القصور السلطانية في قلعة الجبل أو في الساحات المقصورة على مدارسة العلم بهذا المسجد أو بذياك الجامع بين أرجاء القاهرة، وكان الغوري - سقى الله عهده وطيب ثراه - يشترك في الجلسات بصفة عضو بسيط من أعضاء ذلك المجمع العلمي المصري البحت المحت المحض، ويساجل زملاءه من علماء الأمة ورجالاتها في المناقشات ويبادلهم الآراء في مختلف المسائل والمعضلات، إنني لا ألقي الكلام على عواهنه ولا أرسله جزافا، بل ها هي محاضر ذلك المجمع شاهد عدل على صدق ما أقول، فقد نقلتها بالتصوير الشمسي بالطريقة الإيجابية في جزأين ضخمين أحضرتهما إلى دار الكتب، وهي تحدث الباحث والمسترشد بما كان للبراعة المصرية من الخطر العظيم قبيل انطفاء نبراسها ودخولها في خبر كان.
محمد علي الكبير: مجدد مصر الحديثة ومعيد الحياة إليها.
ذلك أن الجد العاثر قضى بأن يكون السلطان الغوري - رحمه الله - آخر ممثل للاستقلال المصري؛ إذ بعد سقوط دولته «التي انقرضت معها تلك الإمبراطورية العظمى التي شادها المماليك الأمجاد» خيم الظلام على مصر وعلى ساكني مصر، فتوالى على بلادنا بحور مثلث من الجهالة والانحطاط والانحلال مدة ثلاثة قرون طوال، فقد خسرنا كل شيء: المكانة السياسية، والرخاء المتجري والوحدة القومية، انطمست معالم العلم ومعاهد الأدب ورسوم الفنون ودور الصناعات؛ فلقد سبى الفاتح العثماني جميع علمائنا وفنانينا وكتابنا وشعرائنا وصناعنا وأعياننا وكل من كانت حيثيته ظاهرة وشخصيته بارزة من بياض الناس، وقادهم وراءه إلى القسطنطينية في أغلال الأسر وقيود الاستعباد.
مصاب لو حل بأمة أخرى لبادت أو كادت، ولكن الروح المصرية، روح الفراعنة، روح العرب لم تمت ، وهي لن تموت! نعم قد تولاها فتور أعقبه همود فخمود فجمود؛ ففي ثنايا هذا السبات العميق الطويل، كانت السريرة القومية يعتريها شيء من التشنج فتنتفض حينا من الدهر فتتنبه ثم تتيقظ، يدب فيها شيء من عوامل الحياة أو شيء يقرب من مظاهر الحياة، ولكن إلى أمد قصير، ثم تعود إلى الرقود؛ فقد يتاح لمصر من الطواغيت - وهم لعمري قليل - من يمنحه الله شيئا من الفطانة والرصانة فيعملون على إذكاء القريحة المصرية، حينئذ نرى النيل وواديه يستنيران بشعلة ضئيلة من النور أو قبس خفاق من النار، ولكن هذا اللهيب لا يلبث أن يعتوره الانطفاء، وإن كان على كل حال يبعث وميضا من البوارق النورانية في تلك الليلة الليلاء التي دامت ثلاثة قرون، فنرى في خلالها مشاهد وقتية تتجلى فيها اليقظة القومية.
على هذا المنوال ازدانت القاهرة بالجامع البديع الذي شيده محمد بك أبو الذهب بالقرب من الأزهر ووضع فيه خزانة كتب حافلة قد أخنى عليها الدهر فتفرقت شذر مذر، وذهبت بها العوادي فلم يبق لها أثر، اللهم إلا مجموعة الخشيبات التي لم يكن في الإمكان اختلاسها إلا بعد تفكيكها بحيث لا تعود منها فائدة لغاصب أو مسترق. وبهذه المثابة تجلت اليقظة الوطنية في مصر مرة أخرى وأخيرة في أيام الأمير رضوان الكبير صاحب القصبة المعروفة باسمه إلى هذا العهد، وهي التي لا تزال الخيام والستور تصنع فيها على الطراز العربي الآخذ بالأبصار، ذلك الأمير - رضي الله عنه - كان ممن يجلون الأدب وأهله ويعرفون قيمة العلم ويغدقون النعم على أربابه؛ فقامت سوق المعارف في حكومته ثم انقضت بعد ذهابه إلى ربه موفور الحسنات، راضيا عنه.
هاتان هما البارقتان الوحيدتان اللتان أذكرهما الآن في خلال ذلك الرقاد الطويل، وفيما خلاهما توالى ديجور الظلام الكافر.
لاح نجم جديد فاستضاءت به الآفاق وانتعشت بمرآه الأرواح والأبصار، ظهر محمد علي الكبير، هو أحق إنسان بأن يوصف بأنه مجدد مصر الحديثة ومعيد الحياة إليها، إذا ذكرنا اسمه خطر على البال توا اسم أحمد بن طولون واسم يوسف صلاح الدين: ثالوث مجيد كان له الفضل وإليه يرجع الفخار من إقالة مصر الإسلامية من عثرتها، لم يكن محمد علي إلا رجل عمل مع أمية لازمته إلى ما قبل وفاته بقليل من الأعوام؛ فهو الذي زين مصر منذ مائة وأربعين من السنين بتلكم المعاهد العلمية التي قضى الجد العاثر بأن يصبح أكثرها الآن وهو في حيز العدم، وا أسفاه!
نعم، لم يكن محمد علي من لفيف العلماء ولكنه أحسن إلى مصر بما هو خير وبما هو أكثر مما أتحفها به من سبقه على الأريكة من الملوك العلماء؛ كان - سقى الله عهده - يقرب أبناء مصر ويخصهم بكرامته ورعايته ويغدق عليهم العطايا والإنعامات، كان يتعهد بنفسه تربية القريحة المصرية ويستثير النبوغ الوطني، نعم، كان يستثير النبوغ الوطني؛ فمن ذلك أنه كان دائما يختار رجلا من أبناء البلاد لوظيفته ويضع واحدا منهم بجانب أستاذ من كبار الأساتذة الذين يستقدمهم من الخارج لبث العلوم الحديثة والمعارف العصرية على ضفاف النيل، ثم يخايل لأولئك المعيدين بما يعده لهم من لوائح الكرامة الموفورة والحظوظ الممتعة أو من وسائل التنكر والإرهاب؛ لكي يخلفوا بحق واستحقاق أولئك الأساتذة الأغراب الذين قد أغراهم بالهيل والهيلمان إلى الوفود على ساحته، ولكن إلى زمن موقوت وإلى ميعاد معين معلوم، فكان بهذا الأسلوب ذي الحدين أكبر معوان على تقدم التعليم الأهلي وباللغة العربية، والشواهد حاضرة في الأذهان فلا حاجة للإطالة بذكرها.
إنني أكرر القول وأعيده بأن محمد علي لم يكن من العلماء، لكنه أنجب لمصر بطلا قوميا تباهي به الأمم وتثبت لهم أنها أهل لإحراز المعالي في جميع ميادين الحياة الحرة، وأعني به القائد الأكبر الأفخر إبراهيم باشا الذي طبقت شهرته الآفاق، والذي فاق أبونا رفاعة بك رافع في مدح أبيه الأمجد حيث قال:
في كفه سيفان سيف عناية
والشهم إبراهيم سيف ثاني
نحن لا يعنينا الآن الإشارة إلى ما جناه إبراهيم من ثمر الوقائع اليانع بالنصر من ورق الحديد الأخضر، وإنما نذكر ما يناسب موضوعنا من أن هذا الجندي الباسل كان أيضا في طليعة كتيبة العلماء المحققين، وأنه كان من أفرادها المستنيرين الذين دلههم حب الكتب والغرام بها؛ فلقد جمع في أسفاره الكثيرة شيئا كثيرا من الأسفار النفيسة عربية وتركية وفارسية، وكان على كل سرخد كل واحد من هؤلاء المحابيب هذه العبارة: «ملك ولي النعم الحاج إبراهيم باشا، سرعسكر إلخ، أو والي جدة إلخ»، أو غير ذلك من الألقاب، بحسب المناصب والأوقات، لكن الجد العاثر والحماقة قضيا بأن ورثته المباشرين آثروا أن يحتفظوا بما خلفه من الفدادين وأن يتخلصوا بثمن بخس دراهم معدودة من تلك الكنوز التي أثرتها القرائح والأفهام، فتفرقت هذه المجموعة النفيسة شذر مذر، بل طارت على أجنة الرياح الأربع.
القائد الأكبر الأفخر إبراهيم باشا.
تلك الجناية تجددت مع الأسف مرة ثانية في حضن القاهرة منذ خمس عشرة سنة تقريبا على أثر وفاة المأسوف على شبابه الأمير محمد إبراهيم.
وقد لاذت طائفة من كل هاتين المجموعتين بدار الكتب السلطانية في القاهرة وبالمكتبة البلدية في الإسكندرية، ودخل بعضها في حرز صاحب هذه الصحيفة وفي أمان صاحبه المفضال وصديقه الجليل أحمد تيمور باشا، وذهب الكثير إلى الخارج جريا على السنة التعيسة التي قضى بها الجد العاثر على ما كان في مصر المستقلة من خزائن الكتب العامة والخاصة، وما كان أكثرهما!
إن الفتح العثماني والحملة الفرنسوية التي أعقبته بعد قرنين تقريبا قد جرد كل منهما مصرنا الأسيفة من كنوزها العلمية التي لا تقوم بثمن، ثم تلاهما دور الأوروبيين والأمريكيين فاستنزفوا ولا يزالون يستنزفون إلى أوطانهم - وحكومتنا لاهية - معظم ما قد بقي مختفيا أو متخلفا بوطننا من تلك الثروة العقلية الأهلية، ليس في قوانيننا ما يحول دون استمرار هذا التيار الجارف، لقد حان والله الوقت لإيقافه بأن ينتهي الأمر بدولتنا المصرية - ولو بعد خراب البصرة - لحماية الثمالة الضئيلة التي قد تبرز من مكامنها حينا فحينا، كما فعلت بطائر الأيبيس (أبو قردان) على الأقل، لقد حان والله الوقت لقيام حكومتنا الأهلية بما يلزم من وسائل التشجيع لحفظ الحثالة المصرية لمصر كما تعمل حكومات القوم في أوروبا للاحتفاظ بالزائد والفائض. لقد حان الوقت والله لأن تستمع حكومتنا الوطنية لمن يناديها فتحتذي مثال فرنسا وإنجلترة وبلجيكا وإيطاليا في إصدار تشريع خاص بهذا المعنى يمتنع معه أو يتعذر خروج هذه الكنوز إلى ما وراء البحار، هل من سميع؟ أم هل تذهب هذه الصرخة بلا صدى في الوادي، ويصح عليها قول المعري: ولكن لا حياة لمن تنادي؟
صاحب السمو الملكي الأمير عمر طوسون.
صحيح أنه قد فات الأوان ولكني أتمثل بقول الفرنسيين الذي معناه: إن «الإمهال خير من الإهمال»، فلعل حكومتنا الأهلية تنتهي فتبتدي في أن تقتدي بما فعله الأمجاد من نسل إبراهيم البطل الوطني الذين عادوا لجمع الكتب القيمة ثم لم يكتفوا بذلك، بل هؤلاء نحن نراهم تدرعوا بالعلم وأصبحوا لا يتهيبون منازلة الأقران في ميدان العرفان، وها بعضهم يعرضون بضاعتهم ورشحات أقلامهم وعصير عقولهم على رءوس الأشهاد دون أن يقعد بهم خوف التباحث والانتقاد، وأمامنا المثل الباهر في هذه الحفلة الزهراء، هذا المثل يذكرنا بما رأيناه في ساحة الجمعية الجغرافية الخديوية منذ عشر سنوات؛ فقد قام فيها الأمير إبراهيم حسن فألقى بالإنكليزية والفرنسية خطبة ممتعة جامعة عن رحلته في جزيرة سرنديب (وأخشى أن أقول سيلان في الظروف الحاضرة).
صاحب العظمة السلطان حسين الأول.
واذكر عمه ولا تنسه: فلقد أقام الأمير إبراهيم حلمي أكبر وأفخر أثر لمصر والسودان، ذينك التوءمين اللذين لا يفترقان ولا ينفصلان، بل تلك الوحدة هي كما يقال في عرف القضاء «وولاة لا تتجزأ»؛ إذ أتحف العلم بكتابه الوافي بذكر جميع المؤلفات التي تكلمت بكل لغات الأرض عن وادي النيل من منبعه إلى مصبه، وهذا القاموس يقع في جزأين ضخمين باللغة الإنكليزية.
صاحب السمو الأمير الجليل محمد علي.
وأين الجنس اللطيف؟ أليس له أثر جميل في هذا المعترك الذي تدور عليه حياة الأمم الناهضة؟ إن الأميرات المصريات يشاركن إخوانهن في هذه النهضة الشريفة التي ترمي إلى تجديد الحياة العلمية في مصر العزيزة على كل من الصنفين، يحلو لي، ورب البيت، أن أعطر هذا النادي بذكرى الاسم المحبوب لدى جميع القلوب، الذي له في كل النفوس مهابة ووقار، لقد أسميت بهذا الوصف سيدتي الأميرة «قدرية حسين، مد الله في حياتها»: فقد جادت قريحتها الوقادة وانبعثت نفسها الممتلئة حنانا على الشرق وأهله بكثير من المصنفات، وكلها - والحق يقال - آية في بابها، يعرف ذلك ويشهد بصحته الكثيرون الذين قرءوا ما دبجه يراعها بالتركية والفرنسية، ولقد كان لقراء العربية نصيب من التمتع بهذا السحر الحلال؛ فقد ظهر في عالم المطبوعات ترجمة بعض الشيء من هذه الآثار على يد صديقي وزميلنا الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق وعلى يد تلميذي النجيب عبد العزيز الخانجي أفندي.
صاحب السمو الملكي الأمير يوسف كمال الدين.
هذا، ولست أراني مفتئتا على ما امتاز به من التواضع رجلان من رجالات مصر المعدودين قد شرفا هذه الحفلة الجامعة. إن الأمير الكبير محمد علي قد أتحف الآداب العربية بأربعة من مؤلفاته التي ضمنها أسفاره في مشارق الأرض ومغاربها، كتبها بقلم لا تستهويه أساليب التصنع والصناعة، بل جعلها كمرآة صادقة لما دار في خلده وتملك نفسه وطرق وجدانه، فجاءت تناجي القارئ بغير واسطة وتجعله شريك الأمير الكاتب في حله وترحاله كأننا نشهد معه ما وقع عليه نظره ونتأثر بنفس ما تأثر به لبه، وفي خلال ذلك روحه تشاطر روحنا في كل سطر مما خطه يراعه، ذلك لعمري لأنه يكتب عن الشعور الذاتي والإحساس الشخصي وليس بناقل ولا بمترجم عن غيره؛ لأن ذلك الغير يكون أكثر علما وأبعد نظرا، ولكن له نفسانية وله مزاج يخالفان ما عليه القارئ الذي يخاطبه ممن كان صنوه في اللغة والوطن والمشاعر والعواطف. ولقد طبع الأمير رحلاته طبعا ملوكيا ووزعها بسخاء على أصدقائه والمعجبين به، وهم - والحمد لله - كثيرون، وها هو قد ناب بقلمه السيال وقلبه الفياض عن سميه الأفخم وجده الأفخر.
تلك الخطة الحميدة قد سلك سبيلها القويم الأمير الجليل صاحب الأيادي البيض على الفنون الجميلة العربية ونصيرها الأكبر في مصر؛ فقد تولى الأمير يوسف كمال طبع ما خطه يراعه بالعربية أيضا عن حوادث رحلته في كتاب لم يسعدني الحظ بالاطلاع عليه، ولكنه ابتدع طريقة جديدة جميلة في إسداء الإحسان إلى المحاويج من قومه، فأهدى الأربعمائة نسخة كلها إلى ملجأ الحرية، ذلك المعهد الخيري النابت الذي لم نصل رحمه نحن معاشر المصريين، مما يضمن له القيام بالمهمة الإنسانية التي أخذها على عاتقه لإيواء نفر من بني وطننا قد مسهم الضر وساورتهم البأساء، وسيبيع الملجأ هذه النسخ وينتفع بثمنها كله لتخفيف بعض الآلام عن الإنسانية المعذبة، وحينئذ يتاح للجمهور أن يعرف مزايا الأمير الكاتب بعد أن سمع بمهارته في مصايده الملوكية، وبعد أن استظهر فضائله الجمة على الفنون.
سعادة العالم البحاثة الأستاذ أحمد زكي باشا.
إن كنت ألمعت بهذه الكلمات إلى هؤلاء الغر الميامين ونوهت بذكرى ذلك السلطان الجليل، أعني به السلطان الغوري - سقى الله عهده - فما ذلك إلا لأني أتخيل في حدود الأفق منظرا خصيبا بما فيه الخيرات والبركات كمثل ذلك السائح الذي أعياه السفر في قفر ليس له نهاية، حتى إذا خارت قواه وخانه الجلد وأخذ يستسلم للقدر الغاشم ويستعد للموت الزؤام، إذا به قد لمح على مد البصر روضة غناء، بل واحة فيحاء يكتنفها البخار ويعلوها الغمام فيسري في نفسه الأمل، تتجدد قواه، يعاوده شيء من الحياة، حينئذ تراه يضاعف المجهود كأنما نشط من عقال؛ فيهرع مهطعا ويهرول مسرعا وقد شدت أهدابه بالأجفان إلى ذلك المطمح الغالي، إلى الحياة! وإذا به وهو حافة الينبوع الصافي الزلال تظله الأشجار وتتساقط عليه الأثمار.
فأين نحن اليوم؟ - على مقربة من المرحلة التي سيعاودنا فيها ما كان لنا من الحرية والاستقلال.
هاكم أربعة قرون ونصف قرن بمثابة البرزخ بين الغوري الأخير وبين جلالة الملك فؤاد الأول، أربعة قرون ونصف قرن كانت بمثابة الهوة التي فحرتها يد الجد العاثر بين آخر سلطان لمصر المستقلة وبين السلطان الأول لعهد الاستقلال الذي ترنو إليه مصر وترجو أن تستعيده صحيحا صريحا وحقيقيا تاما.
إن مولانا جلالة الملك فؤاد الأول في سجل الاستقلال الجديد قد توافرت لديه الوسائل التي توطد دعائم المركز السياسي الجديد، تلك الوسائل هي الرجال النابغون من أمته المتفانون في الإخلاص لوطنهم، ولا ريب أن الذي بوأه الله مقعد ابن طولون وصلاح الدين والغوري ومحمد علي لم يهمل العنصر المستنير الفكر؛ لأن الدول الجديدة إنما تقوم بالرجال الأفذاذ، وسيرى بجانب أمته عناصر عالية في نفس بيته الكريم فيستفيد منها أجل الفوائد في العمل الذي نحن مقدمون على مواجهته.
فسلاما سلاما على هذا العهد الجديد الذي نرى فيه أمراء البيت الملكي واقفين بجانب أبناء الأمة وواضعين يدهم في أيديهم «ويد الله من فوقهم»؛ ليضمنوا الفوز الكامل للمطمح الذي ترمقه مصر الخالدة، وليوطدوا بهذا التعاون الخصيب قواعد الاستقلال العلمي والفكري في وقت واحد مع الاستقلال الاقتصادي والسياسي لتعود مصر إلى سيرتها الأولى على عهد الفراعنة والفاطميين والأيوبيين والمماليك الأمجاد. والسلام عليكم ورحمة الله.
السيدة خديجة
الفصل الأول
مسكين أنت أيها الشرق، إنك لمظلم الجوانب، قاتم النواحي في كل شأن من شئونك، تمر عليك الأعوام والأحقاب فتزداد حاجتك إلى النور.
أيليق بأهل التوحيد، بالقوم الذين يشع نور الإسلام من جوانب قلوبهم أن يطفئوا مصابيح العلم في ديارهم، أيحسن بهم أن يدعوا دورهم وربوعهم في ظلام دامس وأن يفرطوا فيما كان لهم من شرف الحال وجلال القدر؟
كان المنتظر منهم أن يزيدوا الشعلة الكامنة في نفوسهم ضراما لتشرق بأنوار العرفان وتسطع بأضواء العمران ولكن هيهات!
أضاعوا منزلتهم الأولى ومكانتهم السابقة في حلقات العلم وميادين الأخلاق.
كان لهم صرح ممرد من المجد والفخار، ولكنهم أهملوه ولم يعملوا على تثبيت دعائمه، بل أخذوا يهدمون بأيديهم صرح سعادتهم ثم بدءوا بعد ذلك يتقهقرون عن ميدان العمل والنشاط خطوة فخطوة.
أجل، لقد فقد الشرق شخصيته الأولى ونسي كيانه وماضيه فتدهور غافلا من مصيبة لأخرى، متسكعا في دياجير الظلام إلى أن هوى، فهوى مجد الإسلام على أثره في وهدة السقوط.
كان التدهور مدهشا خطيرا، ارتعدت له أعصابنا وتولتنا من أجله عوامل الارتباك، فتشتتت الآمال والرغبات وانقلبت المشاعر والتأثرات رأسا على عقب.
لا نرتقب اليوم مددا ، ولكننا لا نرضى أن نحيا بلا أمل، فأين نجد السلوى؟ وفي أي خزينة من خزائن الكنوز الخالدة نعثر على الأمل؟ وبأي متاع مبهج مضيء نروح عن النفس ليذهب عنها الحزن؟
أية طريق نسلك؟ أنمشي في التجدد من طريق الغناء أم نعود إلى ذكريات أيام السعادة لنلمس وجه الحياة؟
أنعمت النظر كثيرا في هذه المسائل وقتلت الوقت بحثا ودراسة؛ لأنني لم أشأ أن أبقى تحت عبء الضربة التي لحقت أمتي، أردت أن أمسح عن نفسي غبار الأيام المتداولة والأحقاب المتطاولة فأخذت في البحث والتنقيب - كما هو الواجب على مسلمي عصرنا - عن وجوه الأمل والتسلية حتى عثرت على ضالتي المنشودة بين صحف الماضي.
فها أنا ذا أبدأ اليوم بهذا الواجب نحو العالم الإسلامي، أبدأ بتصوير ما عثرت عليه من وجوه التسلية والأمل في طيات تلك الصحف لتكون دروس عظة واعتبار.
أول وجه من تلك الوجوه التي أتشرف اليوم بتصويرها هي الناصية الأولى التي أشرقت بنور الإسلام، هي أول نجمة تلألأت في شرف سمائه، فكانت نجمة الخير والأمل، نجمة البركة والفيض، هي أمنا أم المؤمنين، السيدة خديجة الكبرى.
أما الاتصال بتلك الشخصية العالية والانجذاب إلى جلالها في مثل هذه الأيام السوداء لمما يضيء جوانب النفس بما تصلها من أشعة البهجة والإيناس، وعلى القارئ أن يدرك ما يخالجني من المشاعر، وما أكون فيه من طوفان معنوي وأنا أسرد لقرائي تلك السيرة الطيبة المملوءة بمعنويات خالدة.
سيدة النساء خديجة الكبرى، نموذج من أطهر نماذج الإسلام وأعظمه خطرا وأجله شأنا، ومع ذلك فترجمة حياتها المباركة مبعثرة في صحف شتى وكتب عديدة من كتب السير؛ ولذلك أرى أن التصدي لذكر سيرتها العبقة وشرح خلالها العطرة بالتطويل والتفصيل، من دواعي الشرف؛ لأنها تاج فخارنا.
أدركت سيدة النساء أواخر عهد الجاهلية وكانت من أشرف نساء قريش نسبا وأوفرهن مالا وأرجحهن عقلا وأصبحهن وجها، تجمع في تلك النفس العالية كل مزية مشرقة، وخصلة باهرة.
1
أبوها «خويلد» من أشراف قريش ورجالاتها البارزة، أما أمها «فاطمة» فيتصل حبل نسبها بالشجرة النبوية المباركة ، وبذلك أصبحت أم المؤمنين أقرب الزوجات المطهرات إلى الرسول نسبا.
كان لها مكانة سامية بين قومها لصباحة وجهها وجمال نفسها، فخطبها لأول مرة «عتيق بن عابد» فتزوجته ثم مات عنها، فتزوجت شريفا آخر هو «أبو هالة»، ولدت منه بنتا اسمها «هند» إلا أنه لم يعش طويلا وترملت مرة ثانية.
2
ظلت أم هند في نضارة الشباب
3
تحف بها أسباب الرفاهة والعز، تقطن منزلا فخما ذا طابقين وحولها العبيد والجواري فترمقها الأنظار وترمق ما هي فيه من عز ورفاهة ويتكاثر حولها طلاب يدها من أعيان قريش ووجوهها، فترفض كل طلب من غير أن تفضل أحدا على أحد، وقد كانت بعيدة النظر عالية الهمة ترسل أموالها في تجارة إلى الشام في مواسم معلومة فتشتري ما يروق لها من أمتعة الهند واليمن وسائر الأمصار لتبيعها بالربح الجزيل، فكان الداخل إليها يراها ترفل في حلل فاخرة من منسوجات الهند، ربة دار مؤثث بالرياش الجميلة والمقاعد الفخمة المطعمة بصنوف العاج والأبنوس والصدف من صناعة دمشق وغيرها من مراكز الصناعة في تلك الأيام.
هبت عاصفة من عواصف الاضطراب في نفس السيدة خديجة على أثر حلم رأته ذات ليلة؛ فقد رأت فيما يراه النائم شمسا عظيمة تهبط إلى منزلها من سماء مكة فيغمر ضوءها ما يحيط المنزل من أماكن وبقاع.
قامت من نومها مضطربة هائجة وسارعت نحو دار ابن عمها «ورقة بن نوفل» وقد كان حبرا عالما بتأويل الأحلام وتعبير الرؤيا، وما كادت تفضي إليه بقصة رؤياها حتى أخبرها ووجهه يتهلل بشرا أن تلك الأنوار علامة مجيء خاتم النبيين ودخولها المنزل، أي دار بنت عمه خديجة دليل على أنها تتزوج منه.
للقارئ أن يتصور مبلغ التأثرات النفسية التي تملكت ذلك القلب النقي الطاهر.
أصبح خاتم الأنبياء بعد هذه الحادثة محور آمالها ومحط أفكارها، بدأت تفكر في حلمها الجميل وتنتظر بكل ما أوتيت من صبر وجلد هذا النبي العظيم. وبينما نساء قريش مجتمعات في عيد لهن بالكعبة الشريفة إذ تمثل لهن رجل من اليهود فلما قرب نادى بأعلى صوته : يا نساء أهل مكة، قد قرب ظهور خاتم النبيين، فمن منكن ستكون زوجته؟
فكذبنه ورمينه بالحصى، وكانت بينهن خديجة فلم ترمه كما فعلن، إنما ظلت في مكانها واجمة لا تستطيع حركة من كثرة ما انتابها من ضربات القلب.
رأت ما عملته النساء الأخريات فاجتهدت أن تملك روعها؛ إذ كانت ترتعد ويرقص قلبها الطاهر وهي تفكر في آمالها وأحلامها.
هل أدرك النسوة اضطراب أمنا السيدة خديجة، وهن ترمين الرجل بالحصى؟ إنها لبشارة عظمى، أحلتها من نفسها العالية مكان الإجلال، إنها لبشارة كبرى رأت العالم من ورائها في طوفان من الأنوار والأشواق.
الفصل الثاني
لمحمد بن عبد الله، أمين قريش وفخر الكائنات منزلة سامية في نفس عمه أبي طالب، تفوق مكانة أولاده الذين من صلبه، كان يجالسه ويؤاكله ويأنس به كل الأنس.
وهما في مجلس من تلك المجالس ومعهما عتيقة أخت أبي طالب وعمة النبي وقد فرغوا من طعام العشاء، فقام الأمين إلى شأن من شئونه وإذا بعمه يلتفت إلى أخته يقول لها مدفوعا بعوامل الإعجاب والتقدير: لقد شب محمد وصار رجلا وآن له أن يتأهل، فماذا ترين في ذلك؟
فأجابت: إنه فقير وخديجة مثرية تتاجر بأموالها وتؤجر أناسا يخرجون بتجارتها إلى الشام، فليتها تعطيه بعض المال فيتاجر به ويعمل على نمائه حتى تتوفر لديه نفقات العرس.
فاستصوب العم هذا الرأي فاستدعى ابن أخيه وقال له: ها هي ناقتي أهبك إياها يا محمد، وليتك تتقدم إلى خديجة إنها تفضلك على غيرك وترسلك مع رجال ركبها إلى الشام فتئوب إلينا رابحا.
1
أما الأمين فكان جوابه لعمه: إذا شاءت خديجة أرسلت تطلبني.
فأدركت العمة من حوارهما أن محمدا لن يسعى في الأمر بنفسه لما هو عليه من عزة النفس؛ ولذلك عولت على أن تقوم هي بما يكفل النجاح، وقد تم لها ما أرادات؛ إذ إن خديجة ما كادت تسمع ما دار بين العم وابن أخيه حتى تذكرت رؤياها وداخلها سرور خفي لا تعلم مصدره، خيل إليها أن محمدا الأمين هذا هو خاتم النبيين فأجابت سؤال عتيقة وشفعت ذلك بطلب إرساله إليها.
عندما توجه الأمين إليها كانت في حلة أنيقة وعلى أريكة بديعة، فتحادثا طويلا ولم يخرج من عندها إلا على قبول منه بالسفر ورضا منها بإعطائه ضعف ما تعطيه لغيره.
اغتبط النبي
صلى الله عليه وسلم
بحسن وفادتها له وجميل مقابلتها، ونقل إلى عمه ما دار بينهما من الحديث فأجابه: أبشر برزق عاجل ساقه إليك المولى.
المقابلة الأولى بين أمين قريش وفاضلة قومها خديجة كان لها أثر كبير في نفس أمنا أم المؤمنين؛ فقد امتدت الجاذبية إلى قرارة نفسها فأحكمت عرى قلبها بسلوك السحر والدهشة، فملامح النبي وأطواره وكلماته السحرية العذبة نفذت خلال قلبها الطاهر وألقت عليها وحي الحب الخالص كما تلقي الشمس أشعتها الأولى من خلال النوافذ وقت الصباح.
اشتهر النبي في ذلك العهد بصباحة الوجه وكرم الأخلاق وأدب النفس، فأينما سار وحيثما أقبل قالوا: «ها هو محمد الأمين.»
2
ولم يكن ذلك خافيا على السيدة خديجة فقد كانت تسمع عن أدبه الجم وجماله الرائع، ولكنها في مقابلتها الأولى له وهي تحادثه وتحاوره وتتملى من مشاهدة طلعته البهية انجذبت إليه بكليتها وتبطنت أعماق قلبها بإحساسات خفية تومي إليها أنها أمام شخصية بارزة وأن الرجل الماثل أمامها بنظراته الحادة التي تأسر القلوب وتأخذ بمجامع النفس هو العظيم المنتظر، خاتم الأنبياء والرسل.
3
نرى خديجة بعد ذلك تدعو عبيدها ومواليها لتعطيهم التعليمات والأوامر بشأن ركبها المسافر للشام، ثم تعطف على مولاها ميسرة وقد كانت تثق به ثقة شديدة وتركن إليه في مسائلها الخطيرة، فتوصيه بالامتثال إلى محمد الأمين في أوامره والنزول عند رأيه أثناء الطريق.
4
تهيأ الركب للسفر وأعد القوم معداتهم، فالتحق النبي
صلى الله عليه وسلم
بهم في اليوم المقرر فسافروا على الطائر الميمون ووجهتهم دمشق الشام، وقد حدث ما أثار إعجاب القوم واستفز دهشهم، ذلك أنهم رأوا غمامة تظلل رأس سيد الكائنات كلما اشتدت حمأة القيظ فتجعل طريقه بردا وسلاما، فتهامسوا فيما بينهم عن سر ذلك وحكمته وهم الذين يقطعون الطريق ونيران الشمس تلفح وجوههم وتؤذي جسومهم، ولقد كان النبي متلطفا معهم مقبلا عليهم بجميع ما طبع عليه من رقة الشمائل وكرم الأخلاق فافتتنوا به أيما افتتان، أما ميسرة مولى خديجة، فكان لا يدري كيف يصنع ليجامل عزيز مولاته.
أجل، لقد سحر القوم بتلك الأخلاق الفاضلة، وجذبهم إلى نفسه العالية، ونفذ إلى خلال أفئدتهم بمعنويته المشعشعة الباهرة، حتى بدءوا بسذاجة فطرتهم وصفاء قلوبهم يلمسون من خلال أطواره وحركاته ميزة خاصة لا توجد في غيره من الرجال.
كان لا يزيد إذ ذاك عن الخامسة والعشرين، لكنه كان إذا تكلم خلته شيخا دربته الأيام وحنكته التجارب، وعندما وصلوا في طريقهم إلى مقربة من موقع يقال له «سوق بصرى» أناخ الركب ليستريح من وعثاء السفر، فانتحى النبي
صلى الله عليه وسلم
ظلال شجرة قريبة من موقعهم وجعل يجيل نظره فيما حوله متأملا متفرجا، فتركه ميسرة ليزور بعض معارفه في المدينة، وبينا هو في الطريق إذا براهب من تلك الجهة يدعى نسطورا اقترب إليه وحياه سائلا عن الشخص الجالس تحت ظلال الشجرة فقال: من قريش من أهل الحرم. فأجاب الراهب: لا ينزل تحت هذه الشجرة إلا الأنبياء، أفي عينيه حمرة؟ - نعم.
فهرول الراهب نحو النبي وهو يردد قوله: ليتني أدرك وقت نبوته.
وعندما اقترب منه تأمله طويلا ثم عاين النقطة التي بين كتفيه وهي علامة النبوة، وقفل بعد ذلك إلى صومعته مسحورا مأخوذ اللب على أثر ما وقف عليه وما تحققه من أن فتى القوم المتفيئ ظلال الشجرة هو خاتم النبيين المنتظر. •••
ثم نرى النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد هذه الحادثة الهامة منهمكا في تجارته منصرفا إلى بيع ما بين يديه بدراية ونشاط يعودان عليه بربح طائل فوق ما كان يرجو ويؤمل.
لم تكن هذه المرة الأولى في تجارته، بل سافر قبلها مرتين في تجارة ومعه عمه أبو طالب، إلا أنه لم يربح فيها قدر الذي ربحه هذه الدفعة، فسر من فوزه سرورا عظيما حيث علم أنه يعود إلى خديجة التي تلطفت معه كثيرا بربح وافر يقوم لديها مقام الذي أسدته إليه، فأسرع بالعودة إلى مكة ليزف إليها هذه البشرى، غير أن الإبل كانت قد أنهكها السير وأصبح اثنتان منها لا تقويان على الاستمرار مع الركب، فلا مناص من الإناخة ريثما تستعيدان قواهما، فأسقط في يد ميسرة ولم يدر ماذا يصنع لأنه أراد التعجيل بالعودة حيث كان يرى أنهم تأخروا كثيرا عن ميعاد عودتهم.
رأى النبي وهو يراقب القوم بسكون وهدوء ما هم عليه من ارتباك وقلق، فقام نحو الإبل ووضع يده الطاهرة على الناقتين التعبتين وقرأ بعض الأدعية، وما كاد ينتهي من دعائه حتى انتفضتا متأثرتين بمقناطيسية خارقة للعادة ودبت فيهما
5
روح النشاط سارية في تلك العضلات المنهوكة سريان النار في الهشيم، وعاد الركب إلى المسير بعد أن عاد النشاط إلى الإبل وسار القوم في طريقهم هادئين واجمين مطرقين، وقد بهرتهم تلك المعجزة وسدت عليهم طرق التفكير، ماذا عساهم يقولون عن رجل يظهر مثل هذا الإعجاز؟ ماذا عساهم يرون في رجل يزيل الأوصاب والمتاعب عن الأحياء بكلمة صالحة ينطق بها فمه؟ إنه الكمال المجسم، إنها القدرة تفوق قدرة البشر.
رأوا منه ما لا يصدقونه لو حدثهم به محدث، رأوا بأعينهم معجزة بهرت نفوسهم فأيقنوا تمام اليقين أن الشاب الذي رافقهم طول طريقهم بشخصيته البارزة، خارقة من خوارق قريش.
كانت الأصالة ظاهرة في تلك الشخصية العالية، بارزة تتجلى في سكونه وحركته؛ فأينما سار وحيثما أقام اجتذب القلوب وسحر النفوس بنظرات فياضة ووجه مشرق ومزايا قل أن تجتمع في إنسان.
أدرك القوم من أهل الركب بأخلاقهم الصافية ونفوسهم الفطرية ما في أحواله وأطواره من ميزة ظاهرة، واعتقدوا أنه لا يشابه أحدا من الناس في صفاته وأخلاقه وأنه خارقة من خوارق قريش، إلى هذا الحد انتهت مداركهم، ولو كانوا من ذوي البصيرة لعلموا أن رفيق طريقهم لم يكن خارقة من خوارق قريش وحدها، وإنما هو معجزة العالم بأسره، هو من اختاره المولى لتبديد ظلمات الجهل المتكاثفة تحت سماء ذلك العصر ليصل بالناس إلى الهدى ونور العلم والإرشاد.
عندما وصل القوم «وادي فاطمة» طلب ميسرة من النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يتقدمهم إلى خديجة، فحث مطيته نحو مكة، فلما وصلها سار نورا إلى دارها، أما هي فكانت قلقة لغياب القافلة طول تلك المدة فتوسلت إلى مولاتها نفيسة
6
أن تصعد معها إلى الطابق الأعلى من الدار لتحدثها وتسري عنها بعض ما لها من القلق والاضطراب، ولما اشتد بها القلق قامت إلى النافذة ترقب الطريق وتتأمل فيما حولها ويدها على مقعد بديع الصنع، نظرت طويلا إلى المنفذ المؤدي إلى مكة فلاحت لها في الأفق نقطة سوداء لم تتميزها في بادئ الأمر، تقترب نحو مكة ثم تبينتها جيدا، فعلمت أنها مطية يعلوها مسافر تقترب نحو دارها فأدركت أنه الأمين، وقد لفت نظرها وهي تتأمل قدومه غمامة تظلله مسرعة معه ولم يكن في السماء وقتئذ سحب أخرى سوى تلك الغمامة التي لا تفارقه أينما توجه لتقيه حرارة الشمس، فأثار المنظر مكامن الدهشة والاستغراب في نفسها الطاهرة.
وبعد أن وصل إليها النبي
صلى الله عليه وسلم
وأفضى إليها ببشرى ربحها الجزيل، علا وجهها البشر والإيناس وطلبت منه أن يعود إليها بميسرة فعاد ثانية إلى مطيته يحثها نحو وادي فاطمة، وقامت هي إلى سطح دارها لتراقبه سائرا في الصحراء والغمامة فوقه تنثر ظلال السلام حوله، تقف إن وقف وتسير إن سار، ولما وصل ميسرة حكى لها ما رآه من البراهين والكرامات،
7
وما تعرفه في صحبته من البركات مع حسن السمت والهدي والدل وبما قاله الراهب عنه، فما لبثت أن تاهت في بحار التفكير، وكلما لج بها الفكر انتقلت من حال إلى حال.
ما شاهده ميسرة وقصه عليها آيات بينات على أنه الرجل المنتظر الخالد الذي سيرفع من شأن العصر، وشهادة الراهب والسحابة التي رأتها رأي العين أمور زادت من أفكارها وآمالها حتى أصبح ذلك الوجه المبارك المشرق لا يغيب لحظة عن أنظار خيالها، أما شبح تلك الشخصية الكبيرة فقد غمر لبها وقيد روحها بسلاسل الجاذبية إلى أن استولى على عرش قلبها النبيل.
كانت تناهز الأربعين، أي أنها قطعت مرحلة لا يستهان بها في طريق الحياة، ولكنها ما زالت في نضارة الحياة عليها مسحة من الجمال، وكان أثر جاذبيته منذ المقابلة الأولى بليغا راسخا لم تتمكن من محوه والتملص من قيوده، وقد زاد احتكاكها به أثر هذا الإحساس شدة كلما تقابلت معه بعد ذلك، إلى أن كان يوم عودته من الشام فإذا بتلك العاطفة وذلك الانجذاب قد تعمقا في القلب وتشبثا في الروح فتحولا إلى حب شديد.
لقد فتن الرسول الهادي أم المؤمنين بلطفه وشخصيته النافذة وأخلاقه العالية، فوهبته قلبها وتعلقت نفسها الطاهرة بسلك محبته بكل ما فيها من قوة وجلد، وما كادت يدها تصل إلى هذا السلك النوراني حتى اهتز كيانها بقوة غريبة وانقلبت حياتها الهادئة الساكنة إلى سلسلة من الأيام، حلقاتها مرائر الآمال والأحلام.
الفصل الثالث
جلست أم المؤمنين ذات يوم تغامر بحارا من التفكير
1
والتأمل، ثم انتفضت فجأة ونادت مولاتها نفيسة وقد تمكن منها الشوق الشريف كل التمكن، وأخبرتها أنها سترسلها إلى دار محمد بن عبد الله، فسألتها عن سبب الرسالة فأجابت: لتعرفي هل له ميل للزواج أم لا؟
فقامت على أثر ذلك تزور محمدا في بيته.
جاءت نفيسة هذه ابن عبد الله، وبعد حديث قليل قالت له: ما يمنعك أن تتزوج؟
فاعتذر لها بقلة المال اللازم للقيام بشئون العائلة، فأجابته: فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟
فلما سمع النبي ذلك أجابها: ومن هذه التي تصفينها؟
فأجابته في الحال: خديجة بنت خويلد.
فرد عليها
صلى الله عليه وسلم : وهل يصح مثل هذا الأمر؟ - ما عليك، إنك لو قبلت أعدك بإقناعها.
قالت له ذلك وصمتت تنتظر ما سيبدو منه، ولكنه ظل ساكتا لا يجيب. فرجعت وقد رأت منه هذا الحال، تحمل إلى سيدتها بشرى القبول.
كانت ميمونة النقيبة في رسالتها، فالله يعلم كم أجزلت السيدة خديجة كرامتها! لقد نزلت هذه البشرى بردا وسلاما على قلبها، فسرعان ما عينت موعد العقد في الحال، وأرسلت نفيسة إلى دار الأمين ثانيا، تخبره بالحضور إليها في اليوم المعين ، فقبل الرسول ذلك مسرورا وبدأ الطرفان منذ ذلك اليوم في معدات العرس.
كانت السيدة خديجة وسيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
يتقابلان قبل يوم الزفاف، وقد استأذن الرسول ذات يوم عمه في الذهاب إلى دار خديجة فأذن له، ثم أرسل وراءه مولاته عتبة لترى ماذا يفعلان وفيم يتحادثان؟ فتعقبته امتثالا لأمر مولاها، وكان النبي قد وصل قبلها، فأخذت السيدة خديجة يد الرسول
صلى الله عليه وسلم
ووضعتها على صدرها فوق قلبها الخافق، ثم قالت له بتأثر: بأبي وأمي أنت أقسم أنني لا أفعل هذا لريبة أو لسوء، وإنما أطلب من المولى أمرا أرجو أن يتحقق وهو أن تكون نبيه المرسل، وإذا اختارك الله لهذا الأمر الجليل عرفت قدري ورفعت شأني ودعوت إلى الله من أجلي، فكل ما أطلبه من الله هو أن يجعلك لي.
فأجابها سيدنا محمد بقوله: والذي نفس محمد بيده لأتذكرن جميل صنعك معي إذا تم لك ما تشتهين، وأما إذا كان رسوله المختار غيري فإنك تصلين إلى غرضك إن شاء الله ما دمت تفعلين كل هذا في سبيل الرسول.
هذا ما دار بينهما من الحديث نقلته عتبة إلى مولاها أبي طالب كما رأته وسمعته.
الفصل الرابع
أقبل القوم من بني هاشم يوم الإملاك - وهو يوم العقد - وفيهم كريم فتيانهم ونجيب عشيرتهم، محمد بن عبد الله، يحف به عماه أبو طالب وحمزة،
1
فنزلوا من بني عمهم أكرم منزل وأسناه، حيث قابلهم واحتفى بهم عمرو بن أسد عم السيدة خديجة، وبعد أن اكتمل عقد اجتماعهم قام أبو طالب بن عبد المطلب، سيد قريش وإمامها فقال: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضيء معد
2
وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا حكام الناس، ثم إن ابن أخي هذا، محمد بن عبد الله، لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل وعارية مسترجعة، وهو والله بعد له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد رغب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل من الصداق ما عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ونشا.»
3
ثم قام على إثر ذلك ابن عمها ورقة بن نوفل وهو الذي فسر لها رؤياها الجليلة فقال: «الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا ينكر العرب فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، فاشهدوا علي معاشر قريش أني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله.»
4
وكان ورقة في موقفه هذا، ينطق بلسان عمرو بن أسد، عم خديجة فالتفت إليه أبو طالب وقال: يا ورقة ادع عمها يشاركك في العقد.
فنهض عمرو بن أسد فقال: «اشهدوا علي معاشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد.»
وهكذا صادق القوم على زواج النبي
صلى الله عليه وسلم
من أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد، وكان الرسول جالسا بجانبها أثناء العقد، فلما انتهت الصيغة طلبت إليه أن ينحر جزورا من البكرات التي أصدقها عمه أبو طالب مهرا، فذبح إحداها في الحال وأطعم القوم وأمرت خديجة نساءها فرقصن وغنين.
أما الرسول - صلوات الله عليه - فقد أفعم صدره سرورا حتى إن أبا طالب عندما لاحظ حالته الروحية حمد المولى كثيرا.
الفصل الخامس
سعادة! يا لها من سعادة! تلك الحياة الطيبة الصالحة التي أمضاها النبي الهادي، فخر العالمين، مع سيدة النساء خديجة أم المؤمنين، كانت خديجة في بيتها مع زوجها الجليل، فخر الكائنات، المثل الأعلى في الموادة والموادعة والمواناة والترفع عن الكلفة وبذل المعونة، تقوم بأداء واجباته وقضاء لوازمه بجلال خاص بها، وتجتهد فوق ذلك كله، بكل ما آتاها الله من ذكاء وفطنة وبكل ما جبلت عليه من شفقة ورقة أن تجعل أيام حياته تمر بلذة ساحرة وأنس لا مثيل له.
كان النبي
صلى الله عليه وسلم
في نظرها شخصا فذا يستحق العبادة والتقديس، وما كانت تشاهده فيه من درجات الكمال يزيد من قدر صفاته النادرة ومزاياه الجمة رفعة، هذه الحالة الروحية دفعتها إلى بذل النفس والنفيس في سبيل مرضاته وما فيه سعادته، وأن تبدد بيدها الكريمة ما قد يتلبد في سماء حياته من سحب الهموم والأكدار.
إن الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الفطرية التي امتاز بها الرسول في تلك الأيام، في بيئة عم فيها الجهل والميل مع الأهواء، لمما يلفت الأنظار ويستهوي الألباب.
كان نبينا المعظم المثل الأعلى والمعجزة الكبرى في نظر الجميع، وليس في مقدور امرأة متوسطة الذكاء أن تشارك مثله في الحياة تقطع معه مراحل العمر.
ولقد كان رسولنا الهادي ومرشدنا الأعظم موفور الحظ، سعيد الطالع؛ إذ رزقه الله امرأة كخديجة ذات شخصية عالية تدرك جلال قدره وعظيم استعداده ومواهبه، فيلتذ فكرها بمعنويته وتشاركه في نورانيته وتملأ بمهارتها كل جوفاء من حياته. كانت السيدة خديجة في نظره النغمة الحلوة التي لا تنساها الأذن، والابتسامة العذبة التي لا يمحى خيالها من صفحة الذهن.
مضت حياتهما المشتركة في وئام وسلام فقضيا خمسة وعشرين ربيعا لم يعكر صفوها عتاب صغير أو نكد طفيف.
كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يخص زوجته باحترام كبير، فلها في نفسه أسنى منزلة وفي قلبه أسمى مكان، لا يفتأ يعترف بشكرها، حتى إنه لم يخطر على باله طول معاشرته لها أن يتزوج سواها، مع أنها كانت أكبر منه سنا، وله منها - صلوات الله عليه وسلم - ثمانية أولاد، أربعة ذكور وأربعة إناث وهم: القاسم والطيب والطاهر وعبد الله، وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة الزهراء.
1
الفصل السادس
عندما بلغ نبينا الهادي ومرشدنا الكبير فخر الكائنات ورسولها الخطير، الأربعين من سني حياته،
1
كان يرى الضوء والنور ويسمع صوت النداء ولا يرى أحدا، ثم صار يرى الرؤيا الصالحة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ولقد يئست روحه العالية من أن تجد فيما حولها ما يروي أوارها من معرفة فاطرها الذي اشتد شوقها إليه، بل لعلها غلب عليها ذلك الشوق حتى أصبحت زاهدة في كل رؤية وكل سمع؛ ولذلك رأينا محمدا قد حبب إليه الخلوة والانفراد وكان لغار «حراء»
2
الحظ من هذه الروح الحائمة على حبيبها، تذكر الله وتطيل التأمل والفكر.
ففي يوم من أيام عزلته وقد تناهى صفاء قلبه بما اعتمده من الخلوة، انفض ختام السر المكنون وانكشف الغطاء عن الأمر المصون، جاءه الأمين جبريل برسالة من الملك الجليل فألقى عليه الآية الأولى من الكتاب المنزل.
3
رجع الرسول
صلى الله عليه وسلم
ذات يوم من «حراء» ممتقع اللون، مرتجف الصدر، يعلوه الاضطراب، اضطراب الوجل الحائر وهو يقول: زملوني زملوني.
فزملته السيدة خديجة حتى ذهب عنه الروع وهي مستغربة لما حدث، ثم فتح عينيه الشريفتين فقال لخديجة بعد أن قص عليها الخبر: لقد خشيت على نفسي.
فأجابت: والله، ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، وبعد أن هدأ روعه واطمأنت نفسه، انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن عمها فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟
فأخبره الرسول خبر ما رأى، فقال له ورقة: أبشر يا محمد! أنت خاتم الأنبياء الذي أخبر به عيسى بن مريم، وهذا الناموس الذي أنزله على موسى يا ليتني فيها جذعا
4
يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك وإن يدركني يومك أنصرك نصرا.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم؟
فأجاب: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.
وكان ابن عم خديجة هذا قد شبع من الأعوام وارتوى من حديث الأنام، تعلم العبرانية وقرأ بها الأسفار، وعرف بها الأديان ورضي بدين ابن مريم - عليه السلام - دينا، وقد صدقت نبوءته وتحقق كل ما أخبره به.
فتر الوحي بعد ذلك فترة طويلة بعد ورود جبريل الروح الأمين في المرة الأولى، فكان النبي يعتزل في الغار مترقبا لذلك الجسم المهيب بشوق عظيم، ولكن بدون جدوى فيحزن لهذا الأمر حزنا شديدا، إلا أن السيدة خديجة التي كانت تقرأ صفحات قلبه وتعلم مكنونات ضميره وحالته الروحية تبذل كل ما في وسعها لمواساته ودفعه إلى الصبر والطمأنينة.
كانت تؤيده وتؤازره وتشرح صدره وتخفف عنه أعباء الهم والحزن، تجالسه وتعاشره لتبدد عنه سحب الشك والريبة، تفاكهه وتحادثه برقيق الكلام وحلو الحديث مداواة لآلام نفسه، تسوق إليه العظات والعبر تطمينا لخاطره.
لقد أحبت بعلها حبا عميقا كبيرا بلغ من عمقه وخطورة شأنه أن أحاط الرسول بسياج يقيه من كل شر أو أذى، فكانت لروحه ظلا ظليلا ولقلبه بردا وسلاما، فلا بدع بما نراه في هذه السيدة من الصفات التي تساعد على استقبال أمور عظيمة؛ لأنها خلقت لتكون زوج ذلك الرجل الذي سيأتيه أعظم الأمور تشد أزره وتأخذ بيده، أما هو فكان يقابل هذه الصداقة الخالصة باحترامها وموادتها وإكرامها الإكرام الجزيل.
امتد أجل تلك الفترة إلى ثلاثة أعوام مضت بين مرائر الشبهة وآلام النفس، لم يتيسر للنبي الهادي رؤية جبرائيل - عليه السلام - أثناءها، وإنما كان يتراءى له ملك آخر هو إسرافيل يمده بالإرشاد والتعليم.
ثم عاوده الروح مرة أخرى والنبي
صلى الله عليه وسلم
معتكف في حراء، غارق في بحار التأمل والفكر، وقال له:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر .
فكانت هذه الآية الشريفة مبدأ للبعثة المحمدية وعلى أثرها تعلم الرسول الوضوء والصلاة، ودعا السيدة خديجة إلى الإسلام فآمنت به وكان وجهها أول وجه مبارك أشرق بنوره.
وكثر تردده
صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك إلى «حراء» ونزول الآيات عليه، وكان كلما نزلت آية قرأها على السيدة خديجة فتثبت قلبه وتروح نفسه وتؤيد أمره، وجعل يدعو من يأتمنه من أهل مكة سرا، إلى أن آمن به كل أصدقائه ومحبيه ودخلوا في زمرة الصحابة المكرمة حتى نزل قوله تعالى:
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ، فامتثل
صلى الله عليه وسلم
ما أمر به وأظهر دعوة الحق، فكثر أنصاره واشتد حنق المشركين من قريش عليه، فأجمعوا الشر له وعرض عمه أبو طالب للشر دونه، فلما رأت قريش ذلك، اجتمع أشرافهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فتكفيه، فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا، ومضى رسول الله على ما هو عليه فشرى الأمر بينهم وبينه حتى تولدت إحن وضغائن، ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وأعذروا إليه في أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واشتد قولهم في ذلك فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يطب نفسا بخذلانه النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم كلم الرسول فظن
صلى الله عليه وسلم
أنه قد بدا لعمه تركه، والعجز عن نصرته، فقال: يا عم، والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته.
ثم استعبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
باكيا، وكان أبو طالب يحب ابن أخيه حبا جما ولم يكن قد أسلم بعد، فما كاد يراه حزينا حتى قام إليه ولحق به يقول: يا ابن أخي قل ما أحببت فوالله، لا أسلمك لشيء أبدا وأنا على قيد الحياة.
أما أمنا خديجة الكبرى فقد ضحت في سبيل الدعوة كل مال ونفوذ فتؤازره وتثبت قلبه وتقوي حالته المعنوية لتنسيه ما يلحقه من أذى المشركين.
كانت إذ ذاك في الخامسة والستين من سني حياتها، وكانت أكبر مسلمات مكة شأنا وأعلاهن نفوذا، كانت منبع الأمل الفياض تسكب معاني النشاط والعزيمة في روح بعلها المبارك، ولكن قد آن لهذا المنبع الطاهر أن ينقطع عن فيضه الغزير شيئا فشيئا حتى كان في أواخر تلك السنين العشر الشداد من البعثة على سرير الاحتضار شخص عزيز جدا، ترفرف روحه حائمة في هذا المحيط الصغير إلى أن كان جاذب من أمر الله وسنته قضى بطيرانها إليه وأمر الله أعلى وإليه المصير.
هذه الروح هي روح السيدة خديجة، تلك التي كان لانتقالها إلى جوار ربها وقع الصواعق في الدار النبوي، تلك التي ماتت وتركت رسول الله في حزن ووحشة. •••
دفنت السيدة خديجة بالحجون في مكة، ونزل النبي
صلى الله عليه وسلم
في حفرتها، وقد كان وفاتها عقب موت عمه أبي طالب، فأثر فيه ذلك تأثيرا شديدا.
كان يشعر بفراغ كبير في الحياة، ولم يكن إذ ذاك من يستطيع أن يملأ هذا الفراغ، كان
صلى الله عليه وسلم
يقول عن زوجته: إنها خير النساء في الإسلام كما أن مريم خير نساء عالمها.
وقد أثنى
صلى الله عليه وسلم
على خديجة ما لم يثن على غيرها، وإنني لأسوق هنا حديثا مرفوعا عن زوجته الثانية السيدة عائشة دليلا على مكانة السيدة خديجة أم المؤمنين من نفس زوجها أكرم الكائنات
صلى الله عليه وسلم .
كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد وجد على السيدة خديجة حتى خشي عليه، إلى أن تزوج السيدة عائشة بنت أبي بكر بعد ثلاث سنوات من وفاة السيدة خديجة أم المؤمنين.
قالت السيدة عائشة: «كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لا يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، وكان إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا إلى أصدقاء خديجة، فذكرها يوما من الأيام فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا أبدلك الله خيرا منها، فغضب ثم قال: لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها؛ آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بعدها بسببه أبدا.» وذكرت ذات مرة فقال: «إنني لأحب حبيبها، الوفاء من الإيمان.»
ها هو حديث السيدة عائشة، كل كلمة منه آية بينة تنطق بعظة بالغة، فليس لي ما أقوله سوى أن من يتأمل قليلا في سيرة هذه السيدة الطاهرة، وفي محبة الرسول لها قبل مماتها واحترام ذكراها بعد وفاتها، يدرك لأول وهلة ما امتازت به من شخصية بارزة ونفس عالية.
كانت تزيد عن النبي
صلى الله عليه وسلم
خمس عشر سنة، ولكنه مع ذلك أنزلها من نفسه المكانة السامية في الحياة، وحفظ جميل ذكرها بعد الممات، فيا لله من تلك الجاذبية الشديدة والشخصية العالية! وهل أستطيع بعد ذلك كله إلا أن أختم سيرتها العبقة بالحديث النبوي الجليل: «الوفاء من الإيمان.»
السيدة عائشة
الفصل الأول
الهجرة النبوية
السيدة عائشة، هي بنت أبي بكر الصديق، من أعلام قريش عزة وجاها، وأحد الأربعة المقربين إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم
في الإسلام، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية.
عقد الرسول
صلى الله عليه وسلم
عليها في العام الثالث من انتقال زوجه السيدة خديجة إلى دار الخلد والبقاء، إلا أنه لم يدخل بها في عامه ذلك؛ لأن الزمان والمكان لم يسمحا بتلك السعادة إذ ذاك. •••
نالت قريش من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب؛ إذ كانوا يخشون بأسه ويهابون سطوته، فلا يستطيعون إظهار البغض له علانية، مع أن مراجل قلوبهم كانت تغلي حقدا عليه، ونفوسهم الشريرة تضمر له ألوان السوء والكيد، ولما ماتت خديجة - رضي الله عنها - بعده بثلاثة أيام تضاعف حزنه
صلى الله عليه وسلم .
في مثل هذا الوقت العصيب؛ أي في الآونة التي اشتد فيها حزن الرسول
صلى الله عليه وسلم
على فراق هذين الحبيبين، جهر المشركون بعدواته وأطلقوا العنان لحقدهم الكامن يثور ثورة البركان، حتى أصبحت الإقامة في مكة على هذه الحال مشقة ليس بعدها مشقة؛ بدأ المشركون يناوئون الرسول وأتباعه المقيمين في مكة ولا يدعون وسيلة من وسائل الأذى والإقلاق دون إيصالها إليهم، وقد جربوا كل ما في استطاعتهم من صنوف الكيد والأذى لإرجاع النبي عن دعوته والحيلولة بينه وبين رسالة ربه إلى الخلق؛ فقد كان كل واحد منهم حريصا على الفتك به واستئصاله والفراغ منه لو يقدر على ذلك، وقد دام الحال على هذا الوجه من الشدة والقساوة ثلاثة أعوام، فضاقت الصحابة ذرعا ولم يروا بدا من الالتجاء إلى المدينة المنورة، فساروا إلى دار السلام مهاجرين أرسالا آحادا وثلاثا.
ومن الغريب أنه بينما كان المسلمون يلاقون مثل هذا الاضطراب في مكة، إذا بهم يتكاثرون ويحتشدون في المدينة، ولما كانت الدعوة قد وصلت كثيرا من القبائل وآمنوا بالرسول كانوا يكرمون وفادة المهاجرين في طريقهم إلى المدينة، ويبذلون لهم المعونة والتعضيد، ولم يتخلف من أتباعه
صلى الله عليه وسلم
إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق؛ فإنهما حبسا أنفسهما على صحبة الرسول.
أما رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأقام ينتظر أمر ربه بالهجرة دون أن يظهر ذلك، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - قد تجهز للمهاجرة إلى المدينة وألح على النبي بأن يأذن له بذلك، فقال له: «على رسلك، وإني أرجو أن يؤذن لي.»
فاحتبس أبو بكر لذلك.
ولما رأت قريش ما لقي أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من طيب الحال وحسن الجوار في المدينة والمعونة التي بذلتها لهم القبائل التي آمنت، رهبوا ذلك وحذروا خروج رسول الله، وكان أخوف ما يخافونه هجرة النبي إلى المدينة فيلتف حوله عصبة من المؤمنين يكونون نواة قوة إسلامية كبرى، فاجتمعوا في دار الندوة كعادتهم وتشاوروا في أمره، فقر رأيهم على أن يجمعوا من كل قبيلة شريرا فيقتلونه دفعة واحدة فيفترق دمه بين القبائل، فافترقوا على ذلك بعد أن أقام الذين اختاروهم لهذا العمل على باب الرسول، فخر الكائنات، في تلك الليلة.
الفصل الثاني
جاء جبرائيل الروح الأمين، فأخبر النبي
صلى الله عليه وسلم
بقصد المشركين، وبلغه أمر الهجرة واصطحاب أبي بكر الصديق معه، فقال النبي لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه: «نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضري الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه.»
ولما قعدوا على بابه لذلك، خرج عليهم - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وبيده حفنة من التراب، فجعل ينثره على رءوسهم وهو يتلو صدر سورة يس وبينما هم ينظرون إلى بعض بعيونهم وقد آذاها التراب أتاهم آت فقال لهم: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، قال لهم : خيبكم الله! قد خرج - والله - عليكم محمد، ثم ما ترك رجلا منكم إلا وقد وضع على رأسه ترابا، فتفقدوا ذلك فوجدوه كما قال، ثم دخلوا منزل الرسول ونظروا إلى الفراش فوجدوا عليا - عليه السلام - مسجى بالبرد، فظنوه النبي
صلى الله عليه وسلم
فبقوا حينئذ متحيرين حتى أصبحوا، فقام علي - عليه السلام - فحين رأوه قالوا: أين محمد؟ فأجابهم بقوله: لا أدري، فاشتدت حيرتهم وأسقط في يدهم.
1
وقد أثر اختفاء الرسول على هذا الوجه في نفوس المشركين وحنق لذلك وجوه قريش، فأخذوا عليه بالرصد والطلب وأطمعوا من يجده ويأتيهم به بمائة ناقة، وبذلك خرج الأشرار والسوقة في اقتفاء أثره
صلى الله عليه وسلم .
أما الرسول - صلوات الله عليه وعلى آله وسلم - فقد اختفى في مكان بعد خروجه من منزله، وفي اليوم التالي أقبل نحو دار أبي بكر الصديق نحر الظهيرة متقنعا فاستأذن صاحب الدار كما تقتضيه الآداب الإسلامية، فقام إليه أبو بكر - رضي الله عنه - يقول: وإنما هم أهلك. قال: قد أذن لي في الخروج. فسأله أبو بكر: وهل أنا معك؟ قال: نعم.
فبكى أبو بكر حينئذ فرحا وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فخذ إحدى راحلتي هاتين، فأبى الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلا بالثمن، واستأجر أبو بكر دليلا ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه مكانا يبعد نحو ساعة عن مكة، وفي ساعة معينة من ساعات المساء خرج الرسول فخر الكائنات ومعه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - واعتصما بغار في جبل ثور على مسافة ساعة من مكة، وما كادا يلجان الغار، حتى أوحى الله إلى عنكبوتة فنسجت خيوطها على بابه، وأعقب ذلك يمامتان بنتا عشا فوق خيوط العنكبوت وباضتا فيه.
وقد وصل القوم في بحثهم عنهما إلى جبل ثور، وقاربوا الغار ووصل جماعة منهم، بينهم رجل يدعى أميه بن خلف باب الغار، فقالوا لبعضهم: لندخل هنا يا قوم، فأجابه أمية: ما أسخف عقولكم! إن العناكب قد نسجت خيوطها هنا، قبل أن يولد محمد، وانظر إلى اليمامتين لو كانا هنا لما أفرخت اليمامتان.
فرجع القوم على أثر ذلك إلا أن الرسول والصديق كانا قد أبصرا بأقدام القوم فاغتم أبو بكر لذلك وقال: لو أصابني بأس يا رسول الله لما همني ذلك، أما لو لحقك ضر - لا سمح الله - فتهلك جميع أمتك.
فقال له الرسول يريد تسليته: لا تحزن إن الله معنا.
وعندما قفل القوم راجعين وابتعدوا عن الغار قال له الصديق: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. فقال: اسكت يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟
مكث النبي
صلى الله عليه وسلم
وصديقه في الغار ثلاثا يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف يدلج من عندهما وقت السحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، ثم يأتيهما حين يختلط الظلام ليخبرهما بأحوال قريش وحركاتهم، وكان على مقربة من جبل ثور أحد موالي أبي بكر - رضي الله عنه - يرعى قطيعا من الغنم فيأتيهما بحليبها يتغذيان به.
وبعد الثلاث، جاءهم الدليل بالراحلتين فارتحلوا وأخذ بهم من طريق السواحل، وما زالوا كذلك حتى جاءوا موقعا يسمى «قديد» ومروا على خيمة رجل يسمى أبو معبد، ولم يكن بها سوى زوجه وأمه فسألوا زادا عند «أم معبد» فلم يصيبوا عندها شيئا فنظر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى شاة في خيمتهم وسألها: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك إنما خلفها عن الغنم الجهد.
فدعا بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه ودرت ودعا بإناء يربط الرهط فحلب وسقاها وسقى أصحابه وشرب آخرهم ثم ملأه وغادره عندها.
ولما عاد أبو معبد إلى خيمته ورأى الرهط سألها: ما هذا، فقالت: لا أدري إنما حضر هنا رجل مبارك مسح بيده ضرع الشاة وهو يقرأ بعض الأدعية فدرت لبنا كما ترى، فأجابها: لا بد وأن يكون في الأمر بعض الحكمة، صفي لي شكل هذا الرجل.
فوصفت له النبي
صلى الله عليه وسلم
وما رأته عليه من المهابة والجلال فقال : هو النبي الذي ظهر من قريش ليتني كنت هنا فأبايعه على الإيمان. •••
وبعد متاعب جمة ومصاعب شتى ومعجزات باهرات، وصل الرسول
صلى الله عليه وسلم
قرية «قباء»
2
القريبة من المدينة المنورة، فلبث فيها بضعة أيام يستريح من وعثاء السفر وأسس مسجد قباء وهو أول مسجد في الإسلام، ووفد عليه وهو مقيم بهذه القرية الأنصار الكرام، يتشرفون بنور طلعته ويهنئونه بسلامة الوصول إليهم، وكان بينهم حسان بن ثابت شاعر المدينة المفلق فمدحه بقصيدة بليغة، ووصل سيدنا علي إلى زمرة الركب في قباء بعد أن سلم ما كان في عهدته من الأمانات إلى أربابها كما أوصاه الرسول، وتحرك الرسول منها في يوم الجمعة ومعه مائة نفر من أهل الإسلام فأدركته الصلاة فصلاها في بطن وادي «رانوناء»، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة
3
وختمها بخطبة بليغة قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين؛ بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
وبعد أن قرأ خطبة أخرى ركب يريد المدينة، وكان كلما حاذى أو مر على دار من دور الأنصار اعترضوه ولزموا بزمام ناقته يقولون: هلم يا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى القوة والمنعة. فيقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة.
وقد أرخى لها زمامها وما يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا والناس حولها حتى بركت حيث بركت على باب مسجده، ثم ثارت وهو عليها، فسارت حتى بركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ثم التفتت يمينا وشمالا ثم ثارت وبركت في مبركها الأول وألقت جرانها بالأرض وأرزمت، فنزل عنها وقال: هذا المنزل إن شاء الله تعالى.
فاحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته، وعلى هذا الوجه الجميل أرضى الرسول جميعهم ولم يصدع خاطر أحدهم.
ولم يفرح أهل المدينة بشيء مقدار فرحهم برسول الله
صلى الله عليه وسلم
حيث صعد الرجال والنساء يوم قدومه فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: جاء محمد، جاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وكان قرب المنزل الذي نزل فيه رسول الكائنات قطعة أرض فضاء فشيد عليها مسجدا وابتنى فيه لنفسه المقدسة غرفا، وكان أهل المدينة إذ ذاك في طوفان من السرور لا يدعون سبيلا من السبل التي فيها مرضاته إلا سلكوه، فآخى بينهم وبين المهاجرين، فآووهم في منازلهم وقاسموهم في أموالهم وآثروهم بأقواتهم وتلقوا المكاره دونهم، وصار أحدهم أرأف بنزيله وأخيه في الدين من أخيه في النسب، واتخذوا ذلك الإخاء والولاء لحمة وسببا أعلى من كل سبب.
بهذه النتيجة العظيمة، وبهذه العاقبة الحميدة انتهت تلك الحادثة الخطيرة في الإسلام؛ الهجرة.
الفصل الثالث
زفاف عائشة الصديقة رضي الله عنها
عندما وصل أهل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى المدينة، نزلوا في «بني الحارث بن الخزرج» وفي الشهر الثامن من الهجرة النبوية، قام الرسول ومعه جماعة من الأنصار فشرف دار صديقه في الغار، ودخل على السيدة عائشة - رضي الله عنها - وقد كانت هذه الزوجة الثانية المباركة من أزواج النبي، الصادق الوعد الأمين، صبية حسناء ذات غضارة ونضارة.
وإليك وصف حفلة زفافها من حديث لها قالت: «تزوجني النبي
صلى الله عليه وسلم
فأتتني أمي وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فأتيتها لا أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي فأوقفتني على باب الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر. فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين.»
1
وكانت معهما في الحجرة «أسماء بنت» عمر فحدثت تقول: لم يكن في وليمة السيدة عائشة من الطعام سوى قليل من اللبن، شرب الرسول بعضه ثم مد يده الكريمة بالإناء إلى عائشة فخجلت ولم تتناوله، فقلت لها: لا تردي ما يعطيه لك النبي
صلى الله عليه وسلم
وشربت أسماء ما تبقى.
على هذا النحو من البساطة والصفاء وقلة الكلفة تم زواج النبي - صلوات الله عليه وسلم - من السيدة عائشة الصديقة - رضي الله عنها - في الشهر الثامن من الهجرة.
كانت عائشة صبية صغيرة ذات ملامح جذابة وكانت في عنفوان الصبا حتى إنها في أوائل زواجها كانت لم تنقطع بعد عن لعبها مع صواحب لها، وهي في انعكافها على ألعابها وانشغالها بعرائسها وإذا بالرسول
صلى الله عليه وسلم
يدخل غرفتها على حين فجأة، فاستحيين رفيقاتها وتوارين في الحال، أما السيدة عائشة فرمت عرائسها على الفراش وأسدلت عليهن مئزرا، فلعب الهواء بالمئزر وظهرت أطراف اللعب فاقترب الرسول منها وسألها: ما هذا؟ فقالت: هي لعبي.
وسلم مبتسما.
وكانت أم المؤمنين عائشة، لبيبة فطنة، شاعرة، خطيبة يلقبها الرسول
صلى الله عليه وسلم
بالحميراء، ويحبها محبة أكيدة، وكان من دواعي سروره
صلى الله عليه وسلم
أن يرضيها ويعمل ما فيه سرورها، حتى توثقت محبته لها وازدادت مكانتها في قلبه الطاهر.
كان الرسول يصلح نعله ذات يوم وكان الحر قد بلغ أشده، فتندى جبين الرسول وتلألأت قطرات العرق تتدحرج على خده، وكانت السيدة عائشة وهي تعجن الدقيق تشاهد هذا الحال بحيرة ووله فالتفت إليها الرسول يقول: ماذا دهاك؟
فأجابت: لو رآك الشاعر عروة بن الزبير لكنت المعني بقوله يا رسول الله، فسألها: أي قوله؟ فأجابت: حين يقول:
فلو سمعوا في مصر أوصاف خده
لما بذلوا في سوم يوسف من نقد
لوامى زليخا لو رأين جبينه
لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي
فترك الرسول ما بيده وقام إليها يقبلها من عينيها وهو يقول ما معناه: «قد سررتني، سرك الله يا عائشة.»
وقال لها الرسول ذات يوم وهو جالس عندها (ما معناه): إنني أعلم وقت غضبك مني حيث تقولين إذ تحلفين: ورب إبراهيم «أما إذا كنت راضية عني فتحلفين برب محمد.» فأجابت: إنني يا رسول الله إذا غضبت أغفلت اسمك فأما حبي لك فلا يتغير.
كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقضي أكثر أوقاته بجانب زوجته المحبوبة عائشة، وكان الناس أملا في الحصول على رضا الرسول يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وكان الوحي ينزل عليه
صلى الله عليه وسلم
وهو بجانبها؛ فلذلك كانت السيدة عائشة تشاركه في تأثراته النبوية؛ إذ كانت واقفة على دقائق أحواله وحركاته وكل شأن من شئونه.
وقد شكا زوجات النبي من تحري المسلمين يوم عائشة لهداياهم، فاجتمعن إلى أم سلمة التي تقدمت بذلك إلى الرسول ورجته أن يخطر الناس بذلك فقال لها: «لا تؤذونني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها.»
لم تيأس أم سلمة من هذا الإخطار النبوي، بل عادت إلى تحقيق أملها وتوسلت هذه المرة بفاطمة الزهراء التي جاءت إلى أبيها تخبره بذلك، إلا أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
سألها: هل تحبين من أحبه، فلما ردت عليه بالإيجاب قال لها: إذن أحبي عائشة.
قد كانت لعائشة منزلة سامية في نفسه حتى كان
صلى الله عليه وسلم
يقول لزوجته الطاهرة: إن حبه لها كالعروة الوثقى لا انفصام لها، فكانت السيدة عائشة تسأله من حين لآخر، اطمئنانا على مكانة هذه المحبة فتقول: كيف حال العروة يا رسول الله؟ فيجيبها: إنها على حالها لم تتغير ولم تتبدل، وقد أثرت تعاليمه العالية في نفسها الكريمة وجدت منبتا صالحا حتى تشرب قلبها النبيل مبادئ الزهد والقناعة، فكان عروة بن الزبير يقول عنها: «رأيتها تتصدق بسبعين ألف درهم في سبيل الله وهي في قميص خلق.» وأخرج ابن سعد من طريق أم درة قالت: «أتيت عائشة بمائة ألف ففرقتها وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لو كنت أذكرتني لفعلت.» •••
للسيدة عائشة ميزة خاصة وشرف وجلال بين مخدرات العالم الإسلامي لم تتوفر لسواها من السيدات؛ فقد كانت أديبة لبيبة، عالمة، خطيبة، شاعرة، من أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة، وعنها يقول عروة بن الزبير: «ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة.»
يا له من فخار تحوزه السيدة عائشة، تلك التي استطاعت في فترة كبيرة من حياة الرسول الشريفة أن تدخل عليه السرور والراحة وتغمر قلبه بالغبطة والأنس، فكانت أمام عينيه الشريفتين التمثال المجسم للسعادة، وما كان ينقصها في حياتها تلك إلا أن تكون أما لئلا تحرم من التكني باسم طفلها، إلا أن فخر الكائنات لم يدع سبيلا إلى غمها من هذا القبيل فكناها بابن أختها عبد الله بن الزبير؛ إذ كان قد درج في البيت النبوي وشب بين أحضان العائلة النبوية المطهرة.
افتتن الرسول بخصالها الممتازة فتعلق قلبه الطاهر بحبها، حتى كان أنس بن مالك يقول: «أول حب ظهر في الإسلام حب الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأم المؤمنين عائشة.» أما أم المؤمنين فكانت تتباهى بهذا الحب وتقول: فضلت على نساء الرسول
صلى الله عليه وسلم
بعشر: فذكرت مجيء جبريل بصورتها، ثم قالت: ولم ينكح بكرا غيري ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي، وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، وقبض بين سحري ونحري في بيتي وفي ليلتي، ودفن في بيتي.
كانت من أحب خلق الله إليه هي وأبوها الصديق، كيف لا وقد أضاءت حياة الرسول بعلمها وجمال نفسها حتى صارت الجوهرة اللامعة في عقد تلك الأيام السعيدة المباركة، لقد كانت تاج الفخار في زمانها وخزينة السرور لسيد الكائنات، فطوبى لتلك النفوس العالية التي تترك أثرا من السعادة والأنس والصفاء في محيطها الذي تعيش فيه وفي الأحياء التي تشاركها والأشياء التي تلامسها، ولقد تظل ذكرى تلك النفوس خالدة بعد زوال رسومها؛ لتصور لنا جلال «الماضي» وتنفخ في صورة «الحال» روح الخيال.
الفصل الرابع
حديث الإفك
في هذا الحديث وما أنزل الله في شأنه عظة وذكرى لقوم يعقلون.
فرغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من غزوة له مع قبيلة بني المصطلق في جهة «قدير» على مقربة من آبار «مريسيع»، وكان معه من نسائه
1
السيدة عائشة الصديقة - رضي الله عنها - فلما قفلوا ودنوا من المدينة، آذن الرسول ليلة بالرحيل وكانت السيدة عائشة محمولة في هودج؛ إذ كانت آية الحجاب قد نزلت، فقامت حين آذن بالرحيل ومشت لقضاء حاجة حتى جاوزت الجيش، فلما قضت من شأنها أقبلت إلى الرحل ولمست صدرها فإذا عقد لها من جزع
2
قد انقطع فرجعت تلتمس عقدها وحبسها ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بها، فاحتملوا هودجها فرحلوه على بعيرها الذي كانت تركبه وهم يحسبون أنها فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا، فلم يستنكر القوم حين رفعوا خفة الهودج فاحتملوه وساروا، ووجدت السيدة عائشة عقدها بعدما استمر الجيش، فجاءت منزلهم وليس فيه أحد وتيممت منزلها الذي كانت به وظنت أنهم سيفقدونها ويرجعون إليها، فبينما هي جالسة غلبتها عيناها فنامت.
وكان صفوان بن المعطل السلمي قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها، فرأى سواد إنسان قائم فاقترب منها وعرف أم المؤمنين حين رآها حيث كان يراها قبل نزول آية الحجاب، فاستيقظت السيدة عائشة باسترجاعه حين عرفها، وخمرت وجهها بجلبابها، فأفهمته حقيقة الأمر فهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها وانطلق يقود بها الراحلة إلى أن أتيا الجيش.
هنا يبدأ حديث الإفك، وفي هذا الحادث أخذ أصحاب الإفك يفيضون كما شاءت أهواؤهم السيئة، وكان أشدهم نفاقا وأكثرهم خوضا عبد الله بن أبي ابن سلول ومن الصحابة حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وغيرهم، وقد تداول الناس هذا الحديث وشاع في الأندية حتى بلغ مسامع الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وأم رومان والدة السيدة عائشة، وكانت السيدة أم المؤمنين لم تشعر بعد بما يفيض فيه الناس حيث ما كادت تصل المدينة حتى لزمت فراشها لحمى أصابتها، وقد رابها في وجعها أنها لا ترى من النبي
صلى الله عليه وسلم
اللطف الذي كانت تراه منه حين تشتكي، إنما كان يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم ؟
3
ثم ينصرف.
كانت هذه المعاملة تريب السيدة أم المؤمنين، ولا تشعر بالشر حتى نقهت، فخرجت هي وأم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزهم وكانوا لا يخرجون إلا ليلا، وذلك قبل اتخاذ الكنف قريبا من البيوت، فأقبلت هي وأم مسطح حين فرغا من شأنهما يمشيان، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح. فقالت لها السيدة عائشة: بئس ما قلت! أتسبين رجلا شهد بدرا؟
فقالت: يا هنتاه، ألم تسمعي ما قال؟
فسألتها السيدة عائشة ما قال، فأخبرتها بقول أهل الإفك فازدادت مرضا على مرضها، ولما رجعت إلى البيت ودخل عليها الرسول
صلى الله عليه وسلم
وقال لها كعادته: كيف تيكم؟
قالت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟
فأذن لها الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ولما أتت إلى بيت أبيها قالت وهي ترتعد: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟
فقالت: يا بنية، هوني على نفسك الشأن، فوالله، لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
فقالت: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا؟
ثم بكت السيدة عائشة تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - إذ ذاك في الطابق الأعلى مشغولا بتلاوة القرآن، فما كاد يسمع بكاء ابنته ونوحها حتى نزل إليها وطيب خاطرها قائلا: صبرا يا بنية! عسى أن ينزل الله في شأنك آية.
وقد زاد من حيرتها كتمان الأمر عنها، فازداد مرضها حتى أصبحت لا تستطيع القيام من فراشها.
ولما بلغ الأمر إلى رسول الله عقد مجلسا من أهله وأصحابه المقربين يستشيرهم، وكان بينهم «علي بن أبي طالب» و«أسامة بن زيد» وسيدنا عمر وعثمان وغيرهما من كبار قريش وبعض السيدات، وكان من عادة الرسول أن يعقد مثل هذه المجالس العائلية كلما قضت الضرورة بذلك، فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم فقال: هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم بهم والله إلا خيرا.
وأما علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك.
فدعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟
فقالت له بريرة: لا والذي بعثك بالحق نبيا، إن رأيت منها أمرا أغمصه
4
عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن
5
فتأكله.
أما سيدنا عمر الفاروق فقد أجاب بوقار ورزانة ما معناه أن الرسول قد تزوج عائشة بأمر الله وأنه لا يريبه شيء من عائشة، وقال عثمان: إن هذه الإشاعة من أعمال المنافقين وإنه لا يصدق شيئا من ذلك، فقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال وهو على المنبر:
من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه شرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي.
فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله، أنا - والله - أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك.
فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك.
فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد، فقال معاذ لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله، لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
وتبادر الحيان، الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
ولما وصل الخبر إلى السيدة عائشة بكت يومها ذلك، لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم ثم بكت ليلتها المقبلة فأصبح عندها أبواها، وقد بكت ليلتين ويوما حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وبينما أبواها عندها وهي تبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معها، وبينما هم على تلك الحال، إذ دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فسلم ثم جلس ولم يجلس عندها من يوم قيل لها ما قيل، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأنها بشيء، فتشهد رسول الله حين جلس ثم قال: أما بعد، يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مقالته استعصى دمعها لاستعظام ما بغتها من الكلام، وقالت لأبيها: أجب عني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيما قال.
قال أبوها: والله ما أدري ما أقول لرسول الله
صلى الله عليه وسلم .
فالتفتت لأمها تقول مثل قولها لأبيها فأجابتها كما قال سيدنا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فالتفتت إذ ذاك السيدة عائشة وأجابت بقولها: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث الناس به حتى استقر في نفسكم وصدقتم به، فلئن قلت إني بريئة، والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال:
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون .
وبعد أن أتمت مقالتها تحولت فاضطجعت على فراشها وهي تعلم أنها بريئة وأن الله مبرئها ببراءتها، وقد حدث ما كانت ترجوه فإن الرسول
صلى الله عليه وسلم
ما فارق مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء
6
حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان
7
من العرق في يوم شات
8
من ثقل القول الذي أنزل عليه، ثم سري عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة! أما الله فقد برأك.
فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأجابت: لا والله، لا أقوم ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي، وكان ما أنزله الله - عز وجل:
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم
العشر الآيات من سورة النور في براءة السيدة عائشة، وقد أراد الرسول - صلوات الله عليه - أن يأخذ بيد عائشة، إلا أنها رفضت محتدة، حتى انتهرها أبو بكر والدها، أما الرسول فسار من وقته إلى المسجد وجمع أصحابه الكرام وقرأ عليهم خطبة جامعة وتلا عقبها سورة النور.
وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ينفق على «مسطح بن أثاثة» لقرابته منه وفقره، فقال: والله، لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعدما قال لعائشة ما قال. فأنزل الله تعالى:
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة
إلى قوله:
غفور رحيم ، فقال أبو بكر: بلى، إني والله لأحب أن يغفر الله لي.
فأرجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه، وجمع الرسول عقب نزول آية البراءة أصحاب الإفك وأمر بحدهم للقذف. •••
قد سبب عقد السيدة عائشة هذا، قيلا وقالا، حتى لم يبق أحد لا يعرف قصة هذا العقد المكون من أحجار اليمن، وكانت أم المؤمنين عائدة مع رجال الجيش من غزوة أخرى فنزلوا في موقع قريب من المدينة يدعى «صلصل» ففقدت عقدها مرة ثانية، فاهتم الرسول بالأمر وأوقف جميع القافلة للتحري عنه، مع أنهم كانوا في موقع قاحل لا ماء فيه ولا نبات، فعطش رجال الجيش ولم يجدوا ماء للوضوء ولحقهم كرب شديد وقد بحثوا كثيرا دون جدوى حتى اضطروا للقيام إلا أن أم المؤمنين عثرت عليه تحت راحلتها،
9
فغضب رجال القافلة وشكوا ما لحقهم من الضر إلى أبيها أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فاستفزته الحمية وقام من فوره يقصد بيت الرسول لينهر ابنته وليضع حدا لحوادث العقد، تلك الحوادث التي تتكرر وتوجب الاضطراب، وما كاد يصل حيث يريد حتى وجد الرسول نائما على ركبة ابنته أم المؤمنين فاقترب منها وبادرها بالتوبيخ وقارص الكلام وهي ساكتة: لا تبدي ولا تعيد، احتراما للرسول - صلوات الله عليه وسلم - وهو في تلك الحالة، إلا أن الرسول سرعان ما بشر أبا بكر بنزول آية التيمم وعندما تلاها على أصحابه الكرام علموا أن السبب في نزولها هو أبو بكر - رضي الله عنه.
من أحب إنسانا أحب حبيبه؛ فكم جيدا زينت تلك العقود المصنوعة من جزع اليمن؟ ولكنها كانت أمتعة للزينة، ليس لها أثر من ذكرى التاريخ، فظلت مهملة الذكر في صحائف الحوادث.
قد تكون للحلي أيضا درجات من الميزة بقدر ما يكون للتأثرات والمشاعر من الأهمية بالنسبة لموقع أصحابها في الحياة، إن حوادث أيامنا لها من الأهمية والمكانة بقدر الاهتمام الذي يبذله أصحاب هذه الحوادث نحوها، فعقد السيدة عائشة كان حلية ذات قيمة بقدر امتياز السيدة نفسها وخطرها في الحياة، وإلا لما كان شغل صفحة كبيرة من التاريخ الإسلامي.
الفصل الخامس
حجة الوداع
قد زال ما كان بين الرسول وزوجته من الجفاء بسبب حادثة العقد، فعاشا في أنس عميق وراحة حقيقية، كانت السيدة عائشة الأنيس الوحيد لروح الرسول فلم يعتور حبه لها أدني شائبة في وقت من الأوقات، لم تبد سحابة واحدة في سماء سعادتها، منذ السنة السادسة حتى الحادية عشر من الهجرة، لقد وقفت حياتها في سبيل الرسول وبذلت ذات نفسها وذات مالها في طريق الدين وفي سبيل إيصاله إلى درجة الكمال.
أما الإسلام فكان آخذا في الانتشار والشيوع بسرعة مدهشة محيرة للعقول، وكما أن الزهرة الطيبة التي يتعهدها المرء بالتربية في أرض خصبة لا تلبث أن يعبق أريجها العطر مع الريح، كذلك الإسلام كان يذيع ويشيع فيمتد في الممالك والأمصار ويستولي على القلوب فيشتد نفوذا وتشبثا يوما بعد يوم.
كان لأريجه أثر سحري يجذب القلوب ويأسر النفوس، فيكبلها بروابط وثيقة لا ينفصم عراها، فأخذ عدد الأتباع يزداد بسرعة تفوق حد الوصف وخاضوا غمار غزوات عديدة في سبيل تأييد كلمة الله، خرجوا منها ظافرين غانمين تخفق فوق رءوسهم ألوية النصر.
رسخت عقيدة الإسلام في تلك القلوب الصافية وقوي إيمانهم فاندفعوا بقوته إلى الأمام يحطمون ما يعترض سبيلهم من حواجز وموانع.
مكة المكرمة.
ووقفت المدنيات القديمة حيرى أمام هذه العقيدة الجديدة، لا تبدي ولا تعيد، ثم ما لبثت أن طأطأت لها الرأس ومدت لها يد الإخلاص والأمان، كان التيار جارفا فلم يستطع أن يقاومه إلا القليلون.
في مثل هذا العهد الزاهر من الدعوة الإسلامية؛ أي في السنة العاشرة من هجرة الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - أعلن الهادي فخر الكائنات أتباعه أنه سيزور مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فتوافدت القبائل والعشائر من الجهات زرافات ووحدانا على المدينة المنورة، ينتظرون اليوم الموعود، ولأيام قلائل خلون من ذي الحجة خرج الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى الطريق بعد صلاة الظهر ومعه أهل بيته وأصحابه وأربعون ألفا من حجاج المسلمين، فوصل مع هذا الجمع الحاشد إلى مكة المكرمة في اليوم الرابع من ذي الحجة، وبعد أن ابتهل الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى ربه وطلب المغفرة وحسن المآب تقدمت إليه القبائل الوافدة من الجوار الأخرى فأدوا الجميع فريضة الحج.
لاحظ الرسول أثناء سفره أن البعير الذي يحمل هودج السيدة عائشة يسير بسرعة كبيرة لخفة جسمها ولقلة أحمالها، بينما كان البعير الحامل لزوجه الأخرى السيدة صفية، يسير ببطء وهوادة لسمنها ولكثرة أحمالها، فأمر الرسول بأن ينقل حمل السيدة عائشة إلى رحل السيدة صفية وأحمال هذه إلى رحل الأخرى، جاء إلى عائشة يستسمحها لهذا العمل فغضبت من ذلك وأجابته بكلمات قاسية فلم يجاوبها الرسول، إلا أن الحادثة وصلت مسامع أبي بكر فهرول نحو ابنته وصفع خدها، فما كاد الرسول
صلى الله عليه وسلم
يرى هذه المعاملة القاسية حتى آخذ صديقه فأجابه: ألم تسمع ما قالته لك؟ فأفهمه فخر الكائنات أن الذي دفعها إلى ذلك هو غيرتها وأن المرأة إذا غارت لا تدري ما تقوله بل تكيل القول جزافا، وكان يوم عرفات يوم الجمعة فأدى الرسول فريضة الحج مع مائة ألف ونيف من المسلمين، وعقب الصلاة خطبهم هذه الخطبة البليغة:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير، أما بعد، أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة أو السقاية، والعمد قود
1
وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق؛ لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد .
أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعن بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده؛ كتاب الله، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس، ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس، إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم ورحمة الله.
قد استمع جمع حاشد من المؤمنين هذه الخطبة وكان عددهم كبيرا، فلا يصل صوته المبارك إلى جميعهم، فأخذ ربيعة بن أمية أحد أصحابه الكرام، يكررها عليهم بصوت جهير.
وبعد الانتهاء من الخطبة أذن بلال ثم أقام - صلوات الله عليه وسلم - الصلاة وصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، وفي مساء ذلك اليوم نزل عليه قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، قالوا: ولما نزلت هذه الآية علم أبو بكر بقرب وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
فبكى.
وبعد أن خطب الناس وألقى على جماعة المسلمين نصائح عديدة سواء أفي مكة أم في طريقه إلى المدينة أنبأهم
صلى الله عليه وسلم
وهو في موقع قريب من المدينة بقرب صعوده إلى الرفيق الأعلى، وعند وصوله إلى المدينة، مرض الرسول مرض الموت وأول ذلك أنه خرج من جوف الليل إلى البقيع فدعا للأموات واستغفر وتضرع كالمودع وأصبح مريضا من يومه.
ولما رجع من البقيع وجد السيدة عائشة تتوجع من صداع ألم برأسها، وهي تقول: وا رأساه!
فقال لها الرسول: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك.
فقالت: وا ثكلياه، والله، إني لأظنك تحب موتي ، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك.
فابتسم الرسول، وبذلك تمكنت من إدخال بعض السرور على قلبه.
وكان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فكان يدخل يديه الماء فيمسح بها وجهه.
كان الرسول هادئا ساكنا في أشد أوقات مرضه، ينام باهتا مغمضا ثم لا يلبث أن يفتح عينيه الشريفتين فيدعو ويستغفر، وكانت السيدة عائشة تلازمه على الدوام ولا تفارقه لحظة واحدة، وكان وهو على ركبتها يسمع بلالا مؤذنا للصلاة فيقوم بقدر جهده وطاقته يصلي بالناس، ولما اشتد عليه وطأة المرض، وكان ذلك قبل وفاته بثلاثة أيام، عجز عن الخروج إلى الصلاة واجتمع الناس في المسجد وآذنوه بها فهم بالخروج فعجز فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس.» فصلى بهم أبو بكر - رضي الله عنه - حتى إذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول والمؤمنون صفوف في الصلاة كشف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سترة الحجرة فنظر إليهم وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم ضاحكا، فبهت الصحابة وهم في الصلاة من شدة ما نالهم من الفرح بخروج رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن الرسول خارج للصلاة فأشار إليهم بيده الكريمة أن أتموا صلاتكم، وعندما دخل الرسول
صلى الله عليه وسلم
حجرة عائشة في يومه ذلك نام متمددا واضعا رأسه الشريفة على فخذها، ولما جاءه جبريل يستأذن في دخول عزرائيل - عليهما السلام - غشي عليه ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، فأتم الملك أمر ربه ورفع تلك الروح العالية إلى أعلى عليين، حيث الرفيق الأعلى وهي في حضن زوجه أم المؤمنين، وما كادت تشعر بذلك حتى أجهشت في البكاء.
الفصل السادس
عندما توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، كانت أم المؤمنين عائشة في الثامنة عشرة من سني حياتها، فانزوت في كسر دارها مع جواريها تقطع مراحل العمر في هدوء وسكون وتفني دقائق الحياة في تلاوة القرآن وعبادة الديان.
كانت على جانب كبير من الذكاء، تلم بمسائل كثيرة من الفقه كما أنها على نصيب وافر من سائر العلوم، كانت أحب زوجات الرسول وقضت معه شطرا كبيرا من الحياة، فلا غرو إذا وعت في حافظتها ما كانت تسمعه وتراه من ضروب الأحكام الدينية والمعاملات الشرعية، ولا عجب إذا رأينا الصحابة وعيون الأنصار يتخذونها المرجع في أحكام الدين ومسائل الشرع الشريف، وقد ضربت بسهم وافر في الفتاوى الشرعية، فكانت إذا ذكرت أمام «عطاء بن أبي رباح» قال: «كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة.» وعنها يقول عروة: «ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة.»
بلغت الأحاديث التي روتها السيدة عائشة ألفين ومائتي حديث وعشرا، من ذلك مائة وسبعون حديثا أجمع الاتفاق عليه وأخذ منها البخاري أربعة وخمسين حديثا.
أما فضلها وحسن رأيها، فيكفي أنها كانت المرجع لأمثال عمر ومن إليه من فحول الصحابة، أما فصاحتها فيكفي أن يزكيها مثل معاوية بقوله: «لم أسمع خطيبا أبلغ ولا أفصح من عائشة.» وقال ابن قيس: «سمعت أبا بكر وعمر وعليا وعثمان بن عفان فلم أجد في أقوالهم الجزالة والعذوبة التي تترقرق في كلام عائشة.» وكانت تروي الشعر وتعلم وقائع العرب وحروبهم وسيرهم، حتى إنه ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا، وفي حديث للنبي
صلى الله عليه وسلم
عن أبي موسى أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.» وعندما أسس سيدنا عمر بن الخطاب ديوان بيت المال في زمان خلافته وخصص مرتبات سنوية لزوجات الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فكان يعطي كل واحدة منهن عشرة آلاف درهم إلا عائشة، فقد جعل لها اثني عشر ألفا، وقد عارض بعض الناس في هذا الامتياز الصادر من رجل العدل عمر، دون أن يفهموا الغرض منه وسألوه عن السبب فأجابهم: «ذلك لأن عائشة كانت محبوبة الرسول.»
أما هي فكانت تبذل ما لديها من مال ونشب في وجوه البر والخير وتهوين حاجات أهل العوز والمساكين، وفي سبيل إعلاء كلمة الدين.
كانت تزور الكعبة في كل عام ثم تعود إلى المدينة، فهذه الزيارات التي دامت إلى السنة الرابعة والثلاثين من الهجرة هي فترات الحركة في حياتها الساكنة، فقد مضت أيام حياتها على نسق واحد من النظر في شئون الخير والإحسان، ومن التفرغ إلى العبادات وحل ما يستعصي على المسلمين من الأحكام والمعاملات.
كان لأهل المدينة عاطفة حب شديدة واحترام عميق نحو شخصها المحبوب؛ إذ كانوا يقدرون ذكاءها ويباهون بحسن رأيها، ويرون في زوجة الرسول المعززة بين ظهرانيهم، الذكرى الخالدة التي تذكرهم بأيام السعادة.
الفصل السابع
وقعة الجمل
كانت عائشة - رضي الله عنها - قد خرجت من المدينة إلى مكة، ليالي حوصر عثمان بن عفان، ثم رجعت من مكة إلى المدينة، فلقيها في الطريق - عند موقع يقال له: «السرف» بعض أولاد خالها، وهو عبيد بن أبي سلمة، فقالت له: ما وراءك؟
فقال: قتل عثمان.
قالت: فما صنع الناس بعده؟
أجاب: بايعوا عليا.
قالت: ليت هذه انطبقت على هذه، إن تم الأمر لصاحبك، ثم رجعت إلى مكة وهي تقول: قتل عثمان والله مظلوما، والله، لأطلبن بدمه.
فقال لها الرجل: لا والله، إن أول من أمال حروفه لأنت، والله لقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر.
1
فقالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول.
2
ولما رجعت إلى مكة ذهبت توا إلى الحجر الأسود وجمعت الناس وخطبتهم تقول: «أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المسكين - تعني عثمان - فقتلوه ظلما وعدوانا، فسفكوا الدم الحرام، في البلد الحرام، في الشهر الحرام.» إلخ، وعقب ذلك قام «عبد الله بن عامر الحضرمي» الوالي المعين من قبل عثمان على مكة فحلف بأن يطيعها وركبت جملها المشهور باسم «عسكر»، وقد التف حولها بضعة آلاف، تريد البصرة وكان معها من الصحابة الكرام؛ الزبير وطلحة، وقد كانت عائشة - رضي الله عنها - في توجهها إلى البصرة، اجتازت بماء يقال له: «الحوأب» فنبحتها كلابه، فقالت للدليل: ما اسم هذا الموضع ؟
قال : الحوأب، فصرخت بأعلى صوتها وقالت: ردوني، إنا لله وإنا إليه راجعون، سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول عند نسائه: أيتكن تنبحها كلاب الحوأب.
ثم عزمت على الرجوع فقالوا لها: إن الدليل كذب ولم يعرف الموضع، وبعد يوم وليلة وصلوا إلى البصرة بعد أن بذلوا جهدا كبيرا في إقناع السيدة عائشة وسوقها إلى البصرة، وعندما وصلوا إلى مقربة منها في موقع يقال له: المربط خرج إلى مقابلتها الناس فخطبتهم خطبة بليغة أفهمتهم فيها بقتل عثمان ظلما وحثتهم على طلب دمائه وختمت الخطبة بقوله تعالى:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ، فأثرت هذه الخطبة البليغة في نفوس الكثيرين وتبعها عدد كبير من أهل البصرة حتى بلغ عدة جيشها ثلاثين ألفا، فلما انتهى ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قام فخطب الناس وأعلمهم الحال وقال: إنها فتنة وسأمسك الأمر ما استمسك بيدي، ثم بلغه ما هم فيه من الجموع والتصميم على الحرب فنهد إليهم في جيش من المهاجرين والأنصار، وكان معه من أهل المدينة أربعة آلاف: ثمانمائة منهم من الأنصار وأربعمائة من الذين بايعوه تحت الشجرة المشهورة، وكان أكثر أهل البصرة مع جيش عائشة، فالتقى الجمعان بظاهر البصرة في مكان يسمى «الخريبة» وجرت خطوب وحروب، ففي بعضها التقى علي - كرم الله وجهه - والزبير فقال له: يا زبير ما أخرجك؟
قال: أنت، ولا أراك أهلا لهذا الأمر.
فقال سيدنا علي: أتذكر لما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لتقاتلنه وأنت ظالم.
قال: اللهم نعم، ولو ذكرت لما سرت مسيري هذا، ووالله، لا أقاتلك أبدا.
ثم انصرف عازما على ترك الحرب ولكن قابله للأسف في الطريق رجل يدعى «عمير بن جرموز» فقتله وأتى عليا برأسه فغضب لذلك وقال: بشر قاتل الزبير بالنار.
وتقابل سيدنا علي مع طلحة أيضا فقال له: يا طلحة تطلب بدم عثمان؟ فلعن الله قتلة عثمان! أما بايعتني؟
قال: بايعتك والسيف على عنقي.
ولما تراءى الجمعان كان عسكر عائشة وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - عشرين ألفا، فقبل أن تنشب الحرب، وعظهم أمير المؤمنين وندبهم إلى الصلح وبذل لهم كل ما ليس عليه غضاضة من جهة الدين، فمالوا إلى الصلح شيئا وباتوا على ذلك، ولكنه نشب القتال بين القبيلتين في الغداة ودامت الحرب يوما وليلة وأصاب سهم عاثر رجل طلحة فأعطبه، فدخل البصرة رديفا لغلامه وقد امتلأ خفه دما فمات من النزيف بدار خربة من دور البصر وقبره اليوم بالبصرة في مشهد محترم عندهم.
3
وأما عائشة - رضي الله عنها - فإنها كانت على جمل في هودج وقد ألبس هودجها الدرع والنسائج الحديد وهي تراقب حركة القتال وقد ترامى جندها على الموت، حياطة لها، وذيادا عنها حتى لقد قتل حولها المئات والألوف وقطعت على زمام هودجها سبعمائة يد، وكلما نزعت عنه كف نزعت إليه أخرى وكانت خاتمة القتال سقوط الجمل بما غشيه من النبال حتى كأنه القنفد، وما أصاب قوائمه من السيوف، وقد ظلت السيدة عائشة في محفتها حتى المساء وقد وضع في مكان بعيد عن الناس، وكان أخوها محمد بن أبي بكر من أصحاب علي - كرم الله وجهه - فأمره أن يمضي إلى أخته وينظر هل هي سليمة، ثم أدخلها ليلا إلى البصرة في دار عبد الله بن خلف، وظلت هناك حتى بدء شهر رجب بأمر الإمام علي وقد أحسن إليها - كرم الله وجهه - غاية الإحسان، وجهزها بكل ما ينبغي لمثلها، وأذن لها بالرجوع واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات لأجل مؤانستها في الطريق وسيرها صحبة أخيها محمد بن أبي بكر مكرمة وقد شيعها ولدا الإمام - الحسن والحسين رضي الله عنهما - فلما كان يوم رحيلها، حضر الإمام وحضر الناس فقالت عائشة - رضي الله عنها: «يا بني،
4
لا يعتب بعض على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم، إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي لمن الأخيار.» وقال علي - كرم الله وجهه: «صدقت والله، ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.»
ثم سارت وشيعها الإمام أميالا، وتوجهت هي إلى مكة المكرمة وأقامت بها إلى أيام الحج وانصرفت إلى المدينة.
الفصل الثامن
لو استثنينا وقعة الجمل لرأينا أن السيدة أم المؤمنين قطعت المرحلة الطويلة من الحياة - من السنة العاشرة للهجرة إلى الثامنة والخمسين منها - في العبادة وتلاوة القرآن والتضرع في وجوه البر والمواساة ورواية الأحاديث وتخريج المسائل الفقهية.
على هذا المنوال البديع سارت السيدة عائشة في حياتها الجميلة، تلك الحياة التي وقفتها على سبيل إعلاء كلمة الله، من أجل ذلك أحبها الناس، ومن أجل ذلك كان يتباهى بها أهل مكة ويفتخر بشخصها الكريم أهل المدينة.
أقر علماء زمانها وفحول الرجال من معاصريها نبوغها وتفوقها حتى ذاعت شهرتها في الممالك والأمصار.
صفحة حياتها الخالدة، تلك الصفحة المشرقة من صفحات الإسلام انتهت وقائعها في العام الثامن والخمسين من الهجرة.
وكانت وصيتها عندما وافاها القدر المحتوم أن ينزلها «ذكوان» مولاها في قبرها ثم يعتق نظير هذه الخدمة.
وما كادت تلك الروح الشريفة تصعد إلى بارئها، حتى علا النحيب واشتد بكاء من في الدار، فأرسلت أم سلمة جارية لها تستوضح الأمر، وما كادت تنقلب إليها بالخبر المشئوم حتى بكت هي أيضا ثم قالت: «كانت عائشة من أحب الناس إلى الرسول بعد أبيها الصديق.»
توفيت إلى رحمة ربها في الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان المكرم، ودفنت في تلك الليلة ومشى جميع أهل المدينة في جنازتها، وقد صلى عليها أبو هريرة - رضي الله عنه، أما الذين نزلوا قبرها فهم عبد الله وقاسم ولدا محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن، وعروة وعبد الله ولدا الزبير - رضي الله عنهم.
ماتت هذه السيدة الفاضلة عن خدمات جليلة وحسنات شهيرة حببتها إلى الأمة الإسلامية، فخلفت العالم وراءها في ظلام دامس لا مثيل له.
شعر أهل المدينة بعظيم رزئهم وجليل خطبهم كما أحسوا بيتم حالهم بعد أفول تلك النجمة العالية من بينهم، فبكاها الكل، بكاها الرجال قبل النساء، والشيوخ قبل الشباب؛ إذ كانت قد شملتهم جميعا بأردية فضلها وأغطية برها وخيراتها.
إن المخدرات الإسلامية في تلك الأزمان السعيدة؛ أي من بدء عهد الإسلام، كن قد ارتقين إلى مستوى عصرهن الراقي فوهبن أنفسهن العالية إلى أعمال الخير والفضل حتى النفس الأخير، فكان عمر إحداهن عصرا قائما بنفسه، وترجمة حياة الواحدة منهن صفحة جليلة من صفحات التاريخ، ولقد سطعن في سمائه ببهجة وإيناس كما كن الشهب الثاقبة في سماء الإسلام في العهد القصير الذي تلألأت فيه أنوارهن الباهرة.
لاحت أنوارهن زمنا قصيرا في سماء الإسلام، شأن كواكب الأسحار، إلا أننا ما زلنا نلمس آثار وميضهن في طيات الصحف، وهذا ما يبعث فينا الأمل والسرور، فها نحن أولاء نبدأ اليوم، بفضل تلك الأنوار والإسلام في محنته وقتامه، يملؤنا الشعور والأمل بأن نخلف بعدنا صحائف خالدة مثل صحائفهن.
العباسة بنت المهدي
الفصل الأول
أي قارئي العزيز!
لو سرحت الطرف في حدائق الأدب الإفرنجي، مفكرا في أشعارهم العالية، مدققا النظر في آدابهم النفيسة ومؤلفاتهم القيمة وما يتخللها من مزايا ومآثر وما تتضمنها من درر ألفاظ وغوالي حكم، ممتعا نفسك بعبير الذكريات القديمة المتضوعة من جوانبها تعلم وتشعر بأن لكل أمة من الأمم وقائع خاصة بها، وحوادث اشتهرت عنها تتمشى مع طبيعتها الشعرية وتمتزج بحالتها الروحية.
تصقل الأيام والعصور تلك الصفحات المشرقة الماضية والحوادث المفجعة والوقائع المؤلمة، فلا تصل أسماعنا إلا وقد ازدادت روعة وجمالا فنصغي إليها بشيء من الدهشة تتملك نفوسنا.
إننا نعجب من أبهة تلك الوقائع وندرة ما فيها من الشخصيات، فنشعر بلذة معنوية تبطن أعماق نفوسنا، فنغوص لجتها بارتياح ولذة.
من الذي يصور لنا تلك الوقائع وينفخ الروح في أشخاصها فيصيرها خالدة لا تزول مدى الدهر ولا تمحى أبد الآبدين؟ هم أهل الفن وأرباب الخيالات، هم الشعراء والأدباء؛ فالكاتب بقلمه والمصور بريشته، والحفار بمثقبه، والموسيقي بألحانه، والشاعر بأوزانه يخرجون لنا صورا حية بارزة من تلكم الحوادث المؤلمة والوقائع المدهشة، لا نكاد نراها أو نسمع بها أو نلمسها في صورهم وآثارهم وأقوالهم حتى تسيل نفوسنا رقة، وتخفق قلوبنا شفقة، على أبطالها الذين تذهب نفوسهم ضحية على مذهب الشهوات والمطامع.
الفن، هو الذي يجعلنا نفتتن بتلك النواصي الحزينة الحلوة، الفن هو الذي يصيرنا نعتقد بأن لهذه الشخصيات جمالا نادرا مقطوع القرين، فننجذب إلى قصص حياتهم المملوءة بالأعاجيب، وحالما نأتلف بهم نحن إليهم ونحبهم، أما أسماؤهم الأعجمية فهي كالتماثيل الغريبة في طريق لغتنا الأصلية، وموقعهم الممتاز في تلك الحوادث له أثر بليغ في نفوسنا؛ ولذلك لا نكاد نذكرهم إلا بشيء من اللوعة بين الآهات والزفرات.
فتنتنا الآداب الغربية فسرنا مع تيارها وأصبحنا نقلد كل أساليبها فهل أصبنا المرمى؟
لو وقفنا عند حد ترجمة ونقل الموضوعات التي تنقصنا والتي تغرينا على نشر العلوم والمعارف بين ظهرانينا وتأخذ بيدنا إلى مناهج الرقي والفلاح، لو وقف بنا الأمر عند هذا الحد، لكان عملنا صالحا وسعينا جميلا، ولكن الأذواق الغربية استولت على مشاعرنا وإحساسنا وأرواحنا فنسينا ما يحيط شخصيتنا من لطف وظرف، وبذلنا ما في وسعنا من إرادة وعزم للتشبه بملقنينا حتى تخدرت أعصابنا بعدوى مرض «البانورزيزم»؛ أي التقليد الأعمى، وليتنا استطعنا أن نروي ظمأنا أو ليتنا نفكر في الزمن الذي نضيعه هباء في سبيل الوصول إلى هذه الغاية.
لو رجعنا البصر كرة واحدة إلى ماضينا المجيد، ذلك الماضي المشرق بأنوار المجد والفخار، لعلمنا مقدار خطئنا ولأسفنا من استخراج معلوماتنا من دفائن الأدب الغربي فحسب.
خزائن آثارنا الشرقية مملوءة بالكنوز والنفائس التي تبهر الأبصار ببريق لمعانها وإشراق ضيائها، في زوايا تلك الخزائن بذور مواهب كامنة لا يمكن للغرب أن يجود بها على الشرق يوما من الأيام، لو نظرنا إليها وأعرناها جانبا من العناية والالتفات لكنا الآن أصحاب ثروة قومية حفظها لنا الجدود بالمتاعب والآلام.
فقل لي بربك: أما ترى أن فيما تركه لنا السلف خيرا مما نستعيره من الغرب، عندنا من الكنوز شيء كثير؛ أموال ومجوهرات خالصة من كل غش وخداع عليها طابع الإسلام، لم تمسها الأيدي ولم تنظرها الأعين حتى الآن.
لو أردنا لاستطعنا أن نحيك لأنفسنا جلابيب مهفهفة من تلك الأنسجة الحريرية النادرة، ولو شئنا لجعلنا تلك الأقمشة الثمينة ملابس تتمشى مع الطراز العصري، ولو شئنا لكسونا تلك المخلفات القديمة أحسن الصور والأشكال التي تجعلها من أجمل صناعات اليوم، وبذلك نعقد لأنفسنا ألوية الظفر والفخار في ميادين الفن، إننا لو أردنا لاستفدنا من شخصيات عديدة ووقائع كثيرة ذات أثر كبير، فكل الأدوار الإسلامية مملوءة بالحوادث العظيمة وقد اشتهر كل عصر من عصور تلك الأدوار بأسماء أبطال يحركون في النفس عوامل الشفقة والإعجاب.
إن في سلسلة الحوادث المفجعة التي تمت أيام الرشيد وانتهت بموت العباسة وختمت بمأساة البرامكة، لعبرا تزري بأشعار «روميو» وما يتخللها من حب وصداقة، وعظات تطفئ ما يتخلل قصة «جوليت» من أنوار الإخلاص والوفاء، لم لا تتناول الأقلام هذه القصة؟ إن هذين القلبين الوفيين، قلب جعفر وقلب العباسة، ليستحقان التصوير والتحليل، فلم لم تلاق حادثتهما الاهتمام اللائق بها؟ هل كانت حياتهما الشاذة، تلك الحياة التي ذهبت ضحية الغرور والاستبداد، موضوعا تافها في آثارنا القومية؟
الخطأ الكبير الذي ترتكبه الرءوس الكبيرة أقل أثرا من النتائج السيئة التي يولدها الخطأ نفسه، فإذا كان الخطأ شينا وعارا كانت الخسائر الناجمة من هذا الخطأ أكثر شينا وأشد عارا.
عندما نقلب صفحات التاريخ وتقع أنظارنا على بعض المظالم المدهشة، لا نتمالك من تبجيل أيامنا الحالية - ولو على غير اختيار منا - أمام الوقائع الدموية التي حمي وطيسها في تلك الأزمنة.
نرى اليوم ارتقاء هيئتنا الاجتماعية فنقدس في أنفسنا هذا الرقي التدريجي، زماننا - على أي الحالات ومن كل الوجوه - زمان الإنسانية، ولو فكر أولئكم الخلفاء المستبدون في وقع ضرباتهم الأليمة، لو علموا أثرها الكبير وانعكاسها المدهش لامتنعوا عن تلك المظالم الشائنة التي ارتكبوها ولضحوا غرورهم في سبيل الاحتفاظ بحسن الذكرى.
الفصل الثاني
الجوهرة النفيسة في عقد بني العباس، الزمردة الثمينة بين درر النساء، تلك التي كانت قلادة تزين جيد العصر الثاني من الهجرة، أخت الخليفة وبنت الخلافة، ذهبت ضحية الأقدار وفريسة الظروف القاسية.
السيدة العباسة، اللبيبة الذكية، أجمل بنات المهدي، ثالث خلفاء بني العباس، تمثال المأساة في ميدان التاريخ الإسلامي ، وسحاب قائم، خلط بياض شهرة الرشيد بسواد دائم.
كانت معززة مكرمة في عائلتها الهاشمية النجيبة لما امتازت به منذ نعومة أظفارها من الفطنة والكياسة وحسن الذوق والبلاغة، فكانت تنزل من نفوسهم منزلة سامية؛ منزلة التقدير والإجلال.
أما قصة حياتها وأوائل نشأتها، فهي أسطورة جميلة تشتاق الآذان لسماعها والتلذذ بخيالاتها.
مرت أيام صباها في بغداد كنسمات الصبح بين أحضان حدائقها الغناء، فاكتسبت من بدائع الطبيعة رونقها واستعارت من الورود نفحاتها، ومن البلابل نغماتها، ومن ساعات الفجر وأوقات السحر بهجتها وضياءها، هامت في أودية الجمال، جمال الطبيعة، فأشبعت روحها وأنظارها من كوثره العذب.
نشأت وترعرعت في مسارح الذوق والصفاء وفي مجالس الأنس والدلال، وفي مغاني السرور والابتسامات، فشبت موسيقية الطبع، جميلة الروح، فاتنة الشكل، متحلية بالأدبين؛ أدب العلم وأدب النفس، كلفة بالشعر كلفها بالورود والأزهار ونفائس المعنويات والماديات.
فتحت أنظارها في أبهة قصرها المشرف على الدجلة، فشاهدت ما حواه من طنطنة ودبدبة ومتعت النفس بدهاليزه المعنبرة وغرفه المزهرة فازدادت بهجة وجلالا.
إنها ملاك جميل؛ ملاك لا نسمع بذكره إلا في أساطير الأولين، إلا أنها تمتاز عن ملائكة الأساطير بقصر حياتها، ولو دققنا النظر في تلك اللآلئ التي تزين جيدها، لآلئ مأساتها وأيام حياتها، لوجدناها قد انتظمت على سلك من الأحزان والآلام، إن المرء ليفضل قلادة خزفية على تلك الجواهر المنظومة في سلك الأكدار، هذا أمر طالما تمنته، فكم أرادت أن تبيع عقدها لقاء أيام من السعادة طويلة الأمد، ولكن الدهر القاسي، الدهر المتسيطر على عالمنا الحقير أبى عليها هذه النعمة، بل عاداها وأشهر عليها حربا عوانا لتشنها في خلع عقدها وقد كانت تراه نيرا يستعبد روحها.
لم تمت العباسة لأنها تعقبت آثار الغواية المعوجة، كلا، إنما أرادت أن تجني ثمار الأمل دون أن تحفل بالقدر أو تعبأ به، فماتت وتدهورت تحت عجلات الأقدار ودفعت بجسمها لهذه الدنيا دينا هو في ذمة كل إنسان يعيش على وجه البسيطة، فكان مقتلها منقبة تاريخية وضياعها باعثا على تسجيل اسمها في صحيفة الأسماء الخالدة.
الفصل الثالث
البرامكة الذين كانوا غرة في جبين الدولة العباسية وتاجا على مفرق أيام الرشيد، هم أحفاد بعض المماليك من الفرس الذين استوطنوا بغداد أيام خلافة المنصور، كانوا قديما على دين المجوس ثم أسلم منهم من أسلم وحسن إسلامهم، استوزر المنصور جدهم خالد بن برمك فكانت لهم الكلمة النافذة والسيطرة التامة في شئون الحكم والإدارة، وضربت بمكارمهم الأمثال، وشدت إليهم الرحال ونيطت بهم الآمال، بذلت لهم الدنيا أفلاذ أكبادها ومنحتهم أوفر أسعادها، فكان يحيى وبنوه كالنجوم زاهرة والبحور زاخرة والسيول دافقة والغيوم ماطرة، أسواق الآداب عندهم نابقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة.
أما يحيى بن خالد، وهو والد جعفر، فكان فخر العائلة البرمكية، وكان من عادته إذا ركب أن يعد صرارا في كل صرة مائتا درهم يدفعها إلى المعترضين له يمينا ويسارا فإذا رآه الناس بشروا بعضهم البعض بتدفق غيوث خيراته وحسناته عليهم.
يحكى أن أحد أعدائه البخلاء اضطر في أحد المجالس أن يصافحه، إلا أنه ما كاد يضع يده في يد يحيى حتى أرجعها خائفا مذعورا فنظر إليه يحيي نظرة المستغرب الناقد فأجابه: أخاف إن صافحتك أن تسري إلي عدوى جودك وكرمك.
1
كان قصر البرامكة على شاطئ الدجلة قبالة قصر الخلافة، وكانت أبوابه مفتوحة ليل نهار للزائرين من غادين ورائحين، وكان أبو نواس يسمي دارهم ملجأ الإسلام وهو القائل فيهم:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم
بني برمك من رائحين وغاد
أراد يحيى بن خالد البرمكي أن يلقي على الهادي - وقد كان ضعيف الرأي
2 - درسا محسوسا في أيام وزارته له؛ رغب الهادي في شراء جارية حسناء بمبلغ مائة ألف دينار، فاستعظم وزيره هذا المبلغ وأفهمه غبن هذه القيمة الباهظة، إلا أن الهادي أصر في رغبته ولم تجد نصائح الوزير نفعا، فتلمس يحيى وسائل أخرى لتسوية الأمر، وبينما كان يفكر فيما يجلبه مثل هذا الإسراف من الخراب على الدولة خطرت بباله حيلة جميلة؛ جمع من الدراهم ما يوازي قيمة المائة ألف دينار وبعثرها في صحن الجامع الذي يصلي فيه الهادي، وعند وصول الهادي إلى الجامع في صلاة الجمعة ومعه يحيى نظر إلى الدراهم المالئة أرجاء الجامع شرقا وغربا، فقال: ما هذا؟ ما أكثر هذا المال!
فوجد الوزير الفرصة سانحة وأخبره بأن هذا القدر من المال هو ثمن ما سوف يدفع لمشتري الجارية فاستعظم المبلغ ورجع عن عزمه، وكان يحيى يعجبه أخلاق هارون الرشيد ويفضله على أخيه الهادي، وعندما حاول الهادي خلع أخيه من ولاية العهد والمبايعة لابنه جعفر بن الهادي حادث يحيى في ذلك فقال له: يا أمير المؤمنين، إن فعلت حملت الناس على نكث الأيمان ونقض العهود وتجرأ الناس على مثل ذلك لو تركت أخاك هارون على ولاية العهد ثم بايعت لجعفر كان ذاك أوكد في بيعته.
فصوب الهادي رأيه، وكان الرشيد بعد ذلك يرى هذه من أعظم أيادي يحيى بن خالد عنده.
بعد انتهاء عهد الهادي وقد ظل عاما واحدا، بايع الناس أخاه هارونا، والفضل في ذلك راجع إلى يحيى فعظمت منزله البرامكة من نفس الرشيد، وأظهر امتنانه لهم في كل فرصة سنحت، كان ينزل يحيى منزلة الوالد، استوزره في أوائل خلافته وترك مقاليد الأمور وديعة له يعمل فيها برأيه الثاقب وحنكته وتجاريبه في الحياة، فكانت أكثر النواحي والأمصار تحت زمام حكمه وسيطرته، وبعد أن تقلد الوزارة بضع سنوات أصبح ابنه جعفر الوزير المخلص للرشيد ورفيقه ونديمه وصديقه العزيز، ذا المكانة السامية في سويداء قلبه لا يفارقه لحظة من اللحظات، كان جعفر إذ ذاك في العشرين من عمره، وكان أخا الخليفة في الرضاعة،
3
فكانت أبواب القصر ودائرة الحريم مفتوحة الأبواب له على الدوام، ولحسن محضره ولطف حديثه أصبح محبوبا مألوفا من أفراد عائلة الرشيد.
كان جعفر طويل القامة، نحيف البنية وسيم الوجه أبيض اللون، مستدير اللحية، ذا عينين براقتين وابتسامة حلوة حديد المزاج، فاضلا كريما على جانب عظيم من العلم والفضل، وله من موارد الثروة ما لا يقل عن الخليفة، فلا يكاد يوجد في بغداد إنسان لم يصبه جانب من كرم فضله ومروءته ، فكان محبوبا من الجميع، يعتبره الناس النجم المتألق في سماء عرش العباسيين.
وكان يرى بنفسه كل المسائل المعضلة فيحل عقدتها برأيه الثاقب ويريح الخليفة من هموم الإدارة وأعبائها، ومع أنه لا يغمض له جفن ولا يستريح في ساعة من ساعات الليل فضلا عن النهار في مصالح السلطنة، فكان لا يفارق الخليفة في مجالسة أو منادمة، وكان أديبا أريبا يعلم الشعر ويفهم الموسيقى؛ ولذلك لم يبق إنسان في بغداد لا يقدر قيمة هذا الوزير المقطوع القرين.
أحضر العلماء والحكماء وأمرهم بترجمة الكتب الأجنبية، وشجع الفلاسفة والمفكرين وأسس دور العلم ونشر التجارة والطبابة والحكمة في ربوع بغداد حتى أصبحت محطا لرحال العلماء وقطب رحى الآداب والفنون، ولم يمض على هذه المدينة إلا القليل حتى سميت «أسواق الآداب».
كان الرشيد يغدق النعم والخيرات على من يجلب له السرور ويسبب له الغبطة، فيضحى إيراد بيت المال وضياعه الخاصة في سبيل شخصه، أما جعفر فكان يصرف ماله في سبيل المحافظة على مجد الرشيد وأبهة ملكه وخلافته التي يتفانى في خدمتها، وكان مع ميله إلى اللذات يصرف نصف أمواله في وجوه البر والحسنات.
اشتهر الرشيد بحسن إدارة جعفر، وما نال ألقاب الحمد والثناء إلا بفضل سخاء جعفر، ثم كان بعد ذلك من أصحاب الحكمة والحجى باستعداد جعفر وكفاءته كما أصبح قرين العلماء، جليس الأدباء، نديم الشعراء بإرشادات جعفر، وبجعفر فحسب كان الرشيد رشيدا.
ما أجلها روحا! تلك الروح العالية والنفس الأبية التي تستنسخ مزاياها من أشخاص أخرى، ولا تفقد بذلك بهجتها وأضواء كمالها.
كان الرشيد في بداية حكمه مسودة لوحة فنية تحتاج إلى ألوان عديدة وإصلاحات كثيرة، وبمرور الزمن أصبحت تلك المسودة الناقصة في أيام وزارة جعفر لوحة فنية نفيسة، وظهرت في معرض التاريخ بتلك الأبهة والعظمة.
وإليك الحكاية الآتية دليلا على الروابط القوية والألفة المتينة الموجودة بين الرشيد وجعفر.
قيل: إن جعفر بن يحيى جلس يوما للشرب وأحب الخلوة فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم وجلس معهم وقد هيأ المجلس ولبسوا ثيابا مصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا ثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفرا تقدم إلى الحاجب ألا يأذن لأحد من خلق الله سوى رجل من الندماء كان تأخر عنهم اسمه عبد الملك بن صالح ثم جلسوا يشربون، ودارت الكاسات وخفقت العيدان وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه وبذل له على ذلك أموالا جليلة فلم يفعل، فاتفق أن هذا «عبد الملك بن صالح» حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح العباس، فأدخله على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضا للقصة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئا فأحضر له قميص مصبوغ فلبسه، وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم.
الرشيد يراقب الجموع المحتشدة أمام قصر البرامكة.
فسقوه رطلا وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا.
ثم باسطهم ومازحهم وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحا شديدا وقال له: ما حاجتك؟
قال: جئت - أصلحك الله - في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها؛ أولها: أن علي دينا مبلغ ألف ألف درهم أريد قضاءه، وثانيها: أريد ولاية لابني يشرف بها قدره، وثالثها: أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة، فإنها بنت عمه، وهو كفء لها.
فقال له جعفر: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث؛ أما المال ففي هذه الساعة يحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد وليت ابنك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة، ابنة مولانا أمير المؤمنين، على صداق مبلغه كذا وكذا فانصرف في أمان الله.
فراح عبد الملك إلى منزله فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد حضر جعفر عند الرشيد وعرفه ما جرى وأنه قد ولاه مصر وزوجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كتب له التقليد بمصر وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
4
الفصل الرابع
تلك هي ثقة الرشيد بوزيره وأنيس قلبه وحبيبه العزيز جعفر، وإلى هذا الحد البعيد وصلت دالة الوزير على مولاه الخليفة، كان يرى بنفسه أكبر شئون الدولة وأعوصها، فيقيم أوزانها، ويفصل في قضاياها سواء كان في حضور الحاكم أو في غيابه، وسواء علم الرشيد أم لم يعلم، فهل كان يخطر على البال أن تنفرج بينهما شقة الخلاف؟ وهل كان يظن أن الشمس تشرق عليهما ذات يوم وهما مختلفان متنافران وقد أحبا بعضيهما واستوثقا من نفسيهما إلى هذا الحد؟ لم يكن بين الخليفة ووزيره سر مكتوم، فكل سرائر الخليفة ونياته صفحة مفتوحة أمام جعفر، وكل دخائل جعفر وخفايا نفسه ملم بها الخليفة، فهل يأتي عليهما يوم يتنكر فيه أحدهما للآخر؟ ما كان يمضي يوم دون أن يذهب رسول من قصر الخلافة إلى قصر البرامكة، ما أكثر ما كان يخرج جعفر من حضرة الرشيد فيرسل في طلبه! وما أكثر الأوقات التي خرجا فيها إلى الصيد والقنص! ما أكثر الليالي التي أمضياها معا جنبا إلى جنب يتفقدان فيها أحوال بغداد! ما أكثر الهدايا والتذكارات الثمينة التي يهدي بها الخليفة وزيره الصادق! فهل كان لكل هذه الأوقات والساعات والليالي والأيام نهاية وحد؟
نعم، كان لها مدى وغاية، كانت الأيام الدائرة، تلك الأيام التي تمضي بمئات من المشاغل والحوادث تقترب ببطء وهدوء لهذه الغاية، كانت السحب المتكاثفة في سماء مستقبل الوزير تنذر باحتمال حدوث هذا الانقلاب التدريجي؛ لأن أعداء جعفر كانوا يتكاثرون ويتفاقمون بنسبة استفحاله في الشهرة وبعد الصيت، توهم أنه يستطيع أن يستهوي أفئدة الخلق ويستعبد قلوبهم بقيود نعمته وسلاسل جوده، وقد فاته أن الناس قد تنسى كل حسناته إزاء نعمة واحدة يغدقها عليه الخليفة أو ميزة من المزايا يختصه بها دونهم.
لولا الحسد وما تنطوي عليه الصدور من الأحقاد، لولا ما يحمله الإنسان لأخيه الإنسان من ضغينة وغل لما استطاعت رياح الأقدار أن تطفئ شمس سعادته المضيء.
كثر الساعون في إخلال روابط الثقة المتينة التي بين الخليفة ووزيره، واشتد ساعد الذين يحملون المعاول الهادمة لهذه الثقة، وبين هؤلاء الساعين الأميرة زبيدة، فإنها نفرت منه منذ حادثة مكة وانتهزت كل فرصة سانحة لتكون ضده، إنها لم تنس نظرات جعفر المصوبة إلى ابنها الأمين وهو يحلف ثلاثا يمين الطاعة وعدم الخيانة بين يدي أبيه الرشيد وفي حضوره في بيت الله الحرام، لم تنس سعيه في تنصيب المأمون لولاية العهد بعد ابنه الأمين، بل أسرت ذلك في نفسها، متوعدة الانتقام يوما ما من هذا المملوك الفارسي.
لم يتدرع جعفر إلا بالنعمة، وكان مرتاح الضمير؛ ولذلك لم يخش خصومة أحد حتى ولا تنكر الخليفة عليه، لم يشك في إنسان ولم يتوهم أن الخليفة قد يحنق أو يحقد عليه في ساعة من الساعات، لم يخطر على باله أن الخليفة قد يرتاب به أو يسيء إليه الظن وهو يشاهد من شرفة قصره جماهير الخلق المحتشدة في الضفة اليسرى من الدجلة حول قصر البرامكة، لم يدرك أن هذا العالم إلى فناء وبوار لأن سجف السعادة والرفاهة كانت تستر الحقيقة عن عينيه.
كان ينظر إلى هذا العالم بعيني مسافر يقطع الصحراء ووجهته السراب يخطو إليه مبتهجا مسرورا مفتونا مأخوذ اللب، كان يعيش آمنا مطمئنا غير حاسب لعاديات الدهر حسابا، لماذا؟ لأنه كان واثقا من مودة الخليفة، كان يعلم أن منزلته من نفس مولاه الرشيد هي منزلة العباسة من نفس أخيها، أجل، إن الرشيد ما كان يستطيع صبرا عن مفارقة أخته العباسة التي شبت ونشأت معه وشاركته في أهوائه وميوله، كان التذاذه من مشافهة العباسة لا يقل لذة عن محادثة جعفر، وإن سروره من سماع أشعارها يعادل ابتهاجه من منادمة الوزير له، وكما كانت أدبيات أخته تجلب له السرور والانشراح، كذلك مواعظ جعفر وأقواله الحكيمة تثلج صدره وتدعوه إلى الاغتباط، كان يفتخر بجاذبية العباسة ويباهي بوقار الوزير ورزانته، وبالإجمال كان لا يحتمل مفارقة أحدهما فكانا يجلسان إليه معا في القصر والحديقة ومغاني اللهو يتناشدون الأشعار ويخوضون فنون الحكمة والفلسفة، كانت العباسة على علم ناضج وأدب رائع، تعد من حكيمات عصرها وعالمات زمانها، وكان الرشيد يسر من الرجوع إليها في كثير من معضلات المسائل العلمية ويناقشها ويجادلها الساعات الطوال في مختلف الفنون، وعندما كان ينبئ الأميرة زبيدة بطرف من هذه الحوادث كانت تغضب ويظهر عليها أثر الانفعال، كانت لا تهضم علو كعب العباسة في العلوم ودرجتها المعنوية الرفيعة، فكانت تنفس عليها هذه الرتبة وتغار منها مع أنها على حظ وفير من العلم.
عندما كان يجلس الثلاثة الرشيد والعباسة وجعفر في المجالس المعنبرة ذات القباب المكسوة بآيات الفن من قصر الخلافة فيخوضون لجة الحديث والمسامرة ويشقون عباب الشعر والموسيقى وتمتلئ نفوسهم بالغبطة والهناءة، ينسون بغداد ولا يخطر على بالهم شأن من شئون العالم، من يدري أي الدرر من غوالي الألفاظ وثمار القرائح ونتاج العلم الناضج كانت تسقط في أرجاء تلك المجالس، لو كان للجدران المغطاة بقطع الديباج والمكسوة بأنفس الحرائر لسان ناطق لأتحفنا اليوم بنكات لطيفة ومعان مبتكرة جميلة وحسنات من اللفظ لا تخطر على البال، ولكن قد تداعت الجدران وطارت الأستار على أجنحة آلهة الشعر وذهبت تلك الأيام أدراج الرياح، ولم يبق لنا من ذلك الماضي المشعشع سوى خزانة محدودة من الخواطر، إننا لنمتطي الآن سفينة الذكرى؛ ذكرى «الأنس المثلث»: الرشيد والعباسة وجعفر، ونخوض خضم تلك الأيام فلا نجد شيئا ولا نشعر إلا برذاذ من أمواجه.
كان الرشيد مغتبطا بهذا «الأنس المثلث»، وكان يرمي بنفسه في أحضان هذين العزيزين لينسى مشاغل اليوم ومتاعب الإدارة، كان يشعر بهناءة كبرى من تلك المحادثات والمنادمات التي يعقدها في المجالس ذات القباب ولا يكتم شعوره هذا عن العلماء وأكابر رجال الدولة ممن يمثلون بين يده.
كان يثني على ذكاء العباسة ويقدر بلاغة جعفر ويباهي بمنادمتهما له، هذه الحالة الروحية كان ينفر منها العلماء الذين كانوا يتغافلون أو يتغاضون عن مجالس اللهو والشراب المنتشرة في العصر الثاني من الهجرة، كبر عليهم مجالسة العباسة للرشيد في حضور جعفر فسددوا إليه سهام نقدهم ولومهم، لم ينتقدوا رفاهة العظماء واستفحالهم في ضروب اللذة، الأمر الشائع في ذلك العصر مثل انتقادهم لهذا الأمر، وكان الرشيد لا يستهجن هذا النقد ويرى أنهم محقون في هذا اللوم، ولكنه لم يستطع أن ينقطع عن أمر يشبع روحه باللذائذ المعنوية، فلم يأل جهدا في التفكير وإعمال الروية لإيجاد حل معقول للمسألة، وفي النهاية جمع علماءه في القصر فعقدوا مجلسا لهذه الغاية.
أعمل العلماء رويتهم وشحذوا قرائحهم فوجدوا أحسن حل للمسألة أن يعقد لجعفر على العباسة، إلا أن الرشيد لم يقنعه هذا الرأي، إن العباسة الشريفة سليلة العائلة النبوية لا يمكنها أن تتزوج بجعفر، لا يجوز لمملوك إيراني أن يقترن بسيدة من عقيلات بني هاشم، فلا مناص إذن من إيجاد حل آخر، كان الفقهاء في موقف دقيق لا يسعهم أن يكونوا هدفا لغضب خليفتهم، فاحتاروا وأسقط في يدهم؛ لأنه محتم عليهم أن يوفقوا بين أوامر الشريعة ورغبات الخليفة، وبينما هم في لجج الحيرة والدهشة خطرت على بال أحدهم فكرة عرضها على مولاه فنالت الاستحسان، رأى هذا العالم أن يزوجها حتى يحل له النظر إليها ولكن لا يقربها،
1
وهكذا أجازوا تلك المسامرات الليلية في قصر الخلافة تحت هذا الشرط، فقبل الخليفة أن يعقد له عليها ورضي بالشرط، وبذلك تخلص الرشيد من قيل الناس وقالهم وعاد إلى منادمة صديقيه العزيزين وجليسيه الأليفين.
لم يكن بعد هذه الحادثة إنسان أسعد حالا من الرشيد، إنه ليقاوم أصعب الأزمات فيفرجها برأيه، إنه ليقف باسما هازئا أمام الشدائد والصعاب يتحكم في القوانين والشرائع والعادات ويبسط سلطان نفوذه على غرائز الطبيعة فيظهر ازدراءه لما يظنه الناس أمرا مستحيلا.
أيها الغرور! أيها الطابع الأزلي للإنسانية، كم نفسا تحطمت على صخرتك العالية؟! وكم أملا تكسر عند أقدامك؟! وكم رغبة حارة رددت أنفاسها الأخيرة فوق مذبحك؟! وأي إنسان استطاع مقاومة مغناطيسيتك؟! لو أحصينا الذين رموا بأنفسهم في أحضانك فكم يبلغ عددهم؟!
أيتها البشرية، لم تستطع الأجيال أن تغير تأثير غرائزك الموروثة، ولم تستطع العصور المتقادمة أن تعدل تربيتك الروحية والفكرية، كان الرشيد يعتبر الساعات التي يقضيها بجانب وزيره من ألذ أوقات عمره وأشهاها، كان لا يصبر عنه لحظة واحدة ويستفيد من ذكائه وعرفانه ويتنازل لقبول مشورته وآرائه، ومع ذلك أظهر التردد والخوف أمام علمائه وفقهائه الذين أجازوا اختلاطه بأفراد عائلته معلنا لهم أنه مملوك فارسي.
أصل جعفر وأرومته هو نقصه الوحيد، ما ولقد أثبت الرشيد بأن المروءة والشهامة وأدب النفس مزايا إنسانية لا تشفع للمرء في جميع أطوار حياته، فقد استنكف أولا مما عرضه عليه علماؤه، لو أننا وصلنا إلى قرارة نفس الرشيد لعلمنا أنه كان راضيا عن أمر الزواج إلا أن غروره المتسلط على قلبه وقف حائلا بينه وبين الرضا بهذا الأمر، أما جعفر فقد كان مغلوبا على أمره أمام علم العباسة ومزاياها الروحية، فكان يزداد تعلقا بها وشغفا بنفسها رغم أوامر الخليفة، كانت العباسة حياة جعفر، يعبدها بروحه وجسمه حتى لقد أصبحت عيناه لا ترى نورا غير نور هذه النجمة التي سطعت في سماء حياته.
في هذه الآونة كانت العيون والجواسيس التي تأتمر بأمر زبيدة واقفة لحركات جعفر بالمرصاد في غدوه ورواحه إلى قصر العباسة، ويحملون إلى زبيدة حوادث تنزههما معا في حديقتهما، بين خمائل الورود والقرنفل، وكان الجواسيس لا يتكلفون عناء كبيرا في سبيل مأموريتهم؛ لأن جعفرا كان يمشي بملابسه السوداء شارة العباسيين، ويصل إلى القصر من طريق الشرفة المطلة على الدجلة جهارا عيانا دون تنكر إما ممتطيا صهوة جواده وإما راكبا زورقه.
كانت أخبار هذه الزيارات الليلية تصل أسماع زبيدة وابنها والفضل، فيعقدون مجلسا من مشايعيهم لتدبير مكيدة يوقعون جعفرا في حبائلها.
كان الفضل بن ربيع خادما صادقا للأمين، ذي المزاج المتلون، كان في مبدأ أمره حاجب الخلافة ويشغل الآن مركزا كبيرا، وكان يحسد جعفرا لمزاياه العالية ويطمح إلى الوصول للوزارة، فجعل يعمل على إسقاطه سرا ولا يرى فرصة فيها هلاك البرامكة إلا اقتنصها، كان يريد أن يقضي على الذين وقفوا حجر عثرة في سبيل آماله وأطماعه، فلم يقعد يوما عن سبيل فيه إيذاء جعفر وقد أسعفته الأقدار بما كان يبحث عنه، خرج يحيى بن عبد الله العلوي على الرشيد فاغتم الرشيد لذلك وندب إليه الفضل بن يحيى، فذهب إليه الفضل وحاصره، فمال يحيى إلى الصلح وطلب أمانا بخط الرشيد، فأجابه الرشيد إلى ذلك وسر به وكتب له أمانا، فقدم يحيى مع الفضل فلقيه الرشيد أول الأمر بكل ما أحب ثم أمر بحبسه بعد ذلك، فما سمع الطالبي ذلك حتى أسرع إلى جعفر قائلا: قد كتبت لنا أمانا فحضرنا إليك فإذا أنت أمرت بإبقائي في السجن عرضت نفسك لقهر الله وغضبه.
وعلى أثر ذلك أطلق جعفر سبيله فاغتنم أعداؤه هذه الفرصة ونقلوا الحادثة إلى الرشيد.
الفصل الخامس
كان الرشيد حانقا غاضبا بعد تلك الحادثة، وأخذت مكانة جعفر تتضاءل في نفسه شيئا فشيئا وكأني به وقد اختلى بغرفته على أثر سماع هذا النبأ وأوصى مسرورا السياف بأن يمنع كائنا من كان من الدخول عليه، يقول في سره: ما هذه الجرأة كيف يستطيع جعفر أن يعصي لي أمرا وأنا الخليفة صاحب النهي والأمر، إنه قد وصل من استبداده إلى حد لا يمكن السكوت عنده، وكأني به وقد حادث نفسه بمثل هذه الأقوال يشرف من نافذة غرفته، محاولا تسلية نفسه بزئير الأسود المحجوزة في أقفاصها الحديدية بحديقة القصر.
بلى، هذا ما حدث، فإن التاريخ نقل إلينا أنه نزل بعد سماعه هذا النبأ إلى حديقته، حيث أقفاص الليوث وهنا طلب من الحارس أن يحضر له رضيعا مذبوحا من الغنم.
أخذ قطعة صغيرة ورماها إلى أعز الليوث عنده فالتهمها في الحال، وقف بعد ذلك ينتظر أن يلقي إليه الباقي، انتظر كثيرا ولكن عبثا؛ لأن الخليفة أمر الحارس بأن يمنع عنه الباقي، عيل صبر الأسد وكان يزأر من حين لآخر كأنما يطلب بلسان الحال فريسته، وقف الرشيد يتأمل طويلا هذا المنظر ويقارن بين حالة الأسد وحالته الروحية، وكأني به الآن وقد امتزجت نفسيته بنفسية الأسد مشفقا عليه، ونادما على منع الفريسة عنه، وكأني به وهو ينظر إلى الحارس شذرا ويلومه لأنه ينفذ في صديقه الأسد هذا الأمر القاسي، يجد في الأسد شبيها به وبالحارس مثيلا لجعفر عدوه الآن.
وعندما عيل صبره لم يطق احتمال رؤية الأسد يتعذب فأمر بأن تلقى إليه الشاة كاملة، فألقيت وهجم الليث على فريسته وقطعها إربا بين براثنه وأخذ يقضم العظام بأنيابه، وبعد أن استقرت كاملة في معدته ربض ربضة الآمن المطمئن وأخذ يصوب نظراته إلى الرشيد، تلك النظرات التي لم يذهب عنها بريق الحدة والغضب.
أما الرشيد فبعد أن وقف طويلا أمام هذا المنظر عاد إلى قصره وقد هدأت الثورة القائمة بين جوانب نفسه.
إنه ليفكر فيقول في سره: لو كنت الآن داخل القفص فأي شيء كان يمنع الليث من أن يهاجمني فيفترسني افتراس قطعة اللحم، كان يرى في نفسه وهو يمشي نحو القصر بين طرقاته المزينة بأصص الرياحين، أسدا ظامئا إلى الافتراس، نفسا طموحة إلى الانتقام، كان تواقا إلى التشفي من عدوه اللدود جعفر، ولكن هيهات لم تحن الفرصة بعد، فهو ينتظر الفرصة بفروغ صبر ولا يدعها تفلت من يده بعد اليوم.
وصل الخليفة إلى القصر وصعد توا غرفته الخاصة، وكان منظر الغروب جميلا يجذب الروح فجلس متكئا على النافذة يتأمل بحزن وإطراق ألوان السحب المتماوجة في السماء، وما لبث أن مد ببصره إلى الضفة الأخرى من الدجلة حيث يوجد قصر البرامكة.
ارتعشت نفس الرشيد داخل جسمه، كان الناس عند مدخل القصر ينتظرون أوامر الوزير، بين داخل وخارج، يهرولون ذات اليمين وذات اليسار وبينهم الجنود ورجال المعية في هرج ومرج، هنالك الضجيج، هنالك الحركة، هنالك كل شيء.
ارتكزت عيناه عند هذه النقطة من الضفة الأخرى وكلما لج به النظر، اشتد حنقه، وارتفع صدره بنيران الغيظ المضطرمة بين أحشاء قلبه، كانت أهداب عينه تهتز بحركة عصبية وهو يرى أن سكون الماء وهدوء الطبيعة لا يتخللها سوى حركة واحدة في تلك الساعة، هي الحركة الآتية من الضفة الأخرى أمام قصر جعفر.
أيقن الآن أن جعفرا هو حاكم بغداد وأمير الدولة وخليفة الإسلام، علم الآن أن جعفرا كان كل شيء، ولكن أين هو من هذا الضجيج؟ أين مكانته من هذه الحركة؟ أين عز الخلافة وشرف الجاه؟ هنالك في قصر البرامكة الذي يلمع بالأضواء ويموج بالحركة، أما قصر الرشيد فقد تسربل رداء السكون والصموت.
تبطنت أعماق نفسه بآلام خفية في هذه اللحظة فنسي كل شيء.
نسي صداقة جعفر وإخلاصه وفطانته، نسي أن هؤلاء المحتشدين حول دار وزيره جاءوا يلتمسون نداه، يستعطفون مروءته، يلتجئون إلى ظل شهامته، نسي أنهم وافدون إليه لقضاء مصالحهم، نسي أن جعفرا أخذ على عاتقه هذا الحمل ليخفف عنه العبء، نسي فصاحة وزيره وحسن تدبيره ودرايته، نعم، نسي كل شيء ولم يبق في عقله وذهنه إلا أمر واحد اهتزت له أرجاء روحه وأخذ قلبه يخفق لأجله من الحدة والألم، وكأني به يقول: «لست أنا الخليفة، وإنما الخليفة جعفر، ما أشد بلائي! كيف لم أفطن إلى هذه النتيجة؟! ماذا أستطيع أن أعمله الآن لو أن جعفرا نزع إلى انتزاع الحكم من يدي وسير رجال الجيش علي، وجلهم من الأعجام صنائع معروفه ونداه؟»
هذا ما كان يردده الرشيد في مثل هذا الظرف، لا سيما وقد اشتدت هجمات الأعداء ووشاياتهم في حقه، فلا يلتفت حتى يسمع واشيا ولا يمشي خطوة حتى يجد من يحدثه بخيانة جعفر له، وما أكثر الأوراق التي كان يجدها في سريره تحذره بعاقبة الحال وسوء المنقلب!
فكر كثيرا واستعرض وجوه الرأي للتخلص من هذه الحال، فخطر بباله أن يوفده إلى الخراسان، ولكن أحجم عن هذا الرأي لخطورته؛ لأن جعفرا قد يجتمع مريدوه وأشياعه حوله هناك، فيؤلف منهم قوة كبيرة لا تقاوم، فلم يجد إلا القتل داء شافيا، ولكن كان عليه أن يلتمس لقصده هذا عذرا وينتظر الفرصة السانحة؛ ولذلك لم يجد مندوحة من الصبر والتأني فنادى مسرورا وأمره بأن يذهب إلى وزيره ويدعوه إلى تناول طعام العشاء.
كان الرشيد ينتظره بوجه باسم ومحيا طلق وهو على أريكة مزركشة قائمة على عرش مذهب، وعلى مقربة منه مائدة تنوء بأطباق الفضة المحتوية على صنوف الفواكه والمشمومات، بجانبها أكواب من البلور، تتلألأ داخلها أشربة ملونة وقد فاحت القاعة بعنبر العنبر والصندل والعود.
في الغرفة المجاورة، على مقربة من القاعة التي فيها هذه النفائس، كان أبو نواس وأبو زكار وإبراهيم الموصلي يتشاورون فيما بينهم على الأغاني والألحان التي يطربون بها في تلك الليلة مسامع مولاهم الخليفة.
لم يمض على انتظار الخليفة زمن كبير حتى وصل مسامعه صليل السيوف وصهيل الخيول، حضر جعفر مع رجال حاشيته.
صوب الخليفة أنظاره نحو الباب الذي سيدخل منه الوزير، وعندما رفع الوزير السجف الحقيقية المتدلية على الباب نظر إلى الخليفة ثم إلى نظراته المنطوية على الغيظ والحقد فكاد يصعق في مكانه، ولكنه لم شعثه وخطا نحو الخليفة خطوات ثابتة، يقدم له تحية الاحترام.
أخفى الرشيد ما بين جوانحه من الغيظ والحقد وابتسم للوزير ليخفي ما تنطوي عليه جوارحه فقال له معترضا على لباسه: ما هذا يا أخي إننا سنتناول الطعام على حدة، فلماذا اعتنيت بلباسك إلى هذا الحد؟
كان الخليفة في هذا المجلس ضاحكا لاهيا، يملأ الأقداح ويسأل جعفرا عن شئونه الخاصة، ويداعب الندماء ويطرب لنغمات الموصلي وإنشاد الشعراء، أما جعفر فكان يحاول إسكات خفقان قلبه واضطرابه ليشارك الخليفة في هذا السرور والنشاط، كان يحاول أن يرفع عن نفسه أثر تلك النظرات الأولى التي قابله الخليفة بها، كان يجاهد نفسه ليبتسم وليضحك، ولكن كانت كلمات الخليفة وابتساماته ونظراته تتسدد في صدره كأنها سهام مسنونة، علم جعفر كل شيء وأيقن بزوال مكانته من نفس مولاه، وأيقن بالسقوط على أثر تلك النظرة المعنوية.
أيمكن أن يكون الخليفة وقف على سره واطلع على ما بينه وبين العباسة؟ محال أن يكون ذلك، فمن يستطيع أن يخبر الخليفة بهذا الأمر ليستهدف غضبه، هل وصلته وشاية أو سعى إليه أحد أعدائه، لا ريب في ذلك، فإنه كان يشعر بأن أعداءه يتألبون عليه وأن كلمتهم اشتدت في الأيام الأخيرة وبأن نفوذهم أخذ في الاستفحال.
قارب الطعام على الانتهاء، وكان الرشيد ووزيره يتناولان الفاكهة، وكان الخليفة قد مد يده إلى إجاصة فقال له فجأة: كدت أنسى كيف حال يحيى بن عبد الله الطالبي؟ فارتبك جعفر إلا أنه قال: هو في الحبس يا مولاي.
فقال الرشيد: بحياتي؟
ففطن جعفر وأجاب: لا وحياتك، ولكن أطلقته؛ لأني علمت أنه ليس عنده مكروه، فقال له الرشيد: نعم ما فعلت، هذا ما كنت أنتظره من حسن فطانتك.
انتهى الطعام وجلسا يتنادمان قليلا، وخاضا في شئون مختلفة، وفي النهاية عندما قام جعفر نظر الرشيد إليه وهو يقول في نفسه: قتلني الله إن لم أقتلك.
1
الفصل السادس
أسدل الرشيد الستار على تلك الجلسة البديعة بجملة تهديدية حفظها لنا التاريخ حتى يومنا هذا، ها قد دار الفلك دورته وانقضت أيام الصفاء والمخادنة، أوقات السلام والمخالصة إنها لساعة رهيبة، وأزمة عصيبة وشدة مريرة أن يجد المرء نفسه هدفا لسهام المخاصمة بعد أن كان موضع التجلة والإكرام على غرة من الدهر وغفوة من الزمان.
دام الحال على هذا المنوال فتعقدت الأزمة، وكان جعفر حائرا مهموما وأعداؤه فرحين مسرورين، لا ينفكون عن نصب شراك الحيل والدسائس وإيصال الأذى إليه، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
اشتد قلق جعفر؛ لأنه كان لا يفكر بشأن نفسه فحسب، بل كان يفكر في أمر عباسته، فإذا سمع الرشيد بما وصلت إليه علاقتهما وبنتاج هذه العلاقة أي بابنهما حسن، قضى عليهما وطوى من صحيفة الوجود خبرهما، غير أن جعفرا لم يفته أن يأخذ الحيطة قبل وقوع المحظور؛ ولذلك أرسل الطفل إلى مكة مع مولى من مواليه المخلصين.
حقا ما الحياة إلا مجموعة إحساسات وآلام، إن جعفرا ليضحي بوزارته وما هو فيه من أبهة حال ورفاهة عيش في سبيل راحتهما وهنائهما، ولكن كيف يتسنى له ذلك وقد تكاثر عليه أعداؤه؟! ليس أمامه ليعيش آمنا مطمئنا تحت ظلال الراحة والهدوء إلا مفارقة بغداد، وإن السبيل إلى ذلك سهل ميسور فهو يتحمل متاعب السفر إلى تلك الأصقاع مع عباسته وابنيهما، إنه ليستطيع ذلك إذا قدر أن يترك الوزارة دون أن يلحقه ما يخدش السمعة أو الشرف، ولكن الشعب، الشعب ذا المزاج المتغير، الشعب المتلون كالحرباء.
قد انفض اليوم من حوله وحول بيته الكثيرون ممن نشئوا وترعرعوا في ظلال نعمة البرامكة ونداهم، كان واثقا من ذلك مع أنه لم يحاول يوما ما أن يجرح إحساس أحد منهم، إنما كان يسعى في أن يقيم باستقامة وعدل ما اعوج من أخلاقهم، كان عليه أن يقاوم ويكافح وأن يقف أمام هذه الجموع المحتشدة مستمدا من المولى العون والعناية، قد صمم أن يقاوم حتى النفس الأخير دون أن يتطرق إليه اليأس أو تفتر عنه العزيمة ما دامت روحه المعنوية أي العباسة في حفظ وأمان.
نعم، كان وجود العباسة يغرس في كل ذرة من ذرات كيانه بذور الشجاعة والإقدام، أراد أن يحيا في دائرة تتنسم العباسة داخل حدودها.
كانت أخت الرشيد نجمة آماله، منبع أشواقه، أفق مسراته، بل كانت هي الكل في الكل.
كان الآن يعيش للعباسة ويعمل للعباسة ويناضل لأجل العباسة، إنها مقر أمله ومبعث شجاعته وإقدامه، سوف يكافح أعداءه بعد اليوم ويقف أمامهم وجها لوجه، ويلقي عليهم درسا فعليا في نظرية تنازع البقاء لغرض واحد هو سعادة العباسة.
الفصل السابع
بينما كان جعفر غارقا في قرار عميق من لجج هذه الفلسفة الروحية والمشاعر المعنوية وهو يظن نفسه في حصن حصين من خيراته السالفة ونعمائه السابقة، كان المحذور قد وقع وسبق السيف العذل، أجل إن عيون زبيدة الذين نقلوا إليها أخبار ملاقاتهما الليلية هو والعباسة وتزاورهما ومناجاتهما لبعض تحت أشعة القمر في حدائق الخلافة، نقلوا إليها كذلك بشرى ولادة الحسن وإرساله إلى مكة، إلى غير ذلك من خطير الحوادث.
ما كاد ذلك يصل مسامع زبيدة حتى اجتمعت بالفضل وابنها الأمين وتشاوروا جميعا كيف يزفون هذه الحوادث إلى مسامع الخليفة.
فكروا كثيرا فوجدوا خير وسيلة يتذرعون بها هو كتابة رقاع يدونون بها أبياتا من الشعر تتضمن الحادثة ينثرونها في أرجاء القاعة التي يجلس الرشيد فيها، وسرعان ما عمدوا إلى هذه الفكرة فأخرجوها من حيز القول إلى دائرة العمل.
لم يمض إلا قليل من الزمن حتى علم الخليفة بالسر المكتوم وأسكنه في قرار مكين من زوايا صدره، وسافر فجأة في تلك السنة إلى الحجاز فأوجس جعفر خيفة من هذه الرحلة، وتوقع أن يحدث على أثرها حوادث ذات بال.
وصل الخليفة إلى مكة فبث العيون والأرصاد يبحث عن ابن العباسة إلى أن عثر على ضالته وعرف النجل الظريف سليل الدوحة الهاشمية من سمات وجهه، كان الحسن ذا وجه مشرق بضياء الحسن والبهجة، يشبه أمه العباسة أخت الرشيد، وتكاد عيناه البراقتان تفشيان سر الحبيب.
كاد الحب يتغلب عليه فيشفق على ذلك الغلام الجميل ابن أخته لولا الغرور، نعم، تغلب الغرور على أمره وتسيطر على حواسه فما أعجز الإنسان أمام تلك القوة الموهومة التي تتسيطر على إرادته!
استوثق الرشيد من الأمر فقفل راجعا إلى بغداد مقر الخلافة، وقد خفف ذلك من هيجان غيظه وكمده، كان قد سافر إلى مكة مسرعا مضطربا فعاد منها هادئا مطمئنا وقد وقف على ما يريد أن يعلمه، بل مكث في محطات كثيرة لقبول الهدايا كما قبل أيضا هدايا البرامكة كالمعتاد، وشنف سمعه بمديحهم وحمدهم له، في النهاية حط الرحال عند مدينة «الأنبار» التي يستظرفها على شاطئ الدجلة.
كان من عادة الرشيد أن يتقابل مع وزيره جعفر في هذه النقطة، مدينة الأنبار، عند عودته من بيت الله الحرام، وكان من عادة جعفر أن يولم فيها وليمة كبرى يدعو إليها مولاه الخليفة، ولكن حدث هذه المرة أن الرشيد لم يقبل دعوة وزيره وإنما فضل أن ينزل في قصره الخاص ليرتاح من وعثاء السفر، ففهم جعفر ما ينطوي عليه هذا الرفض ونظر إلى أفق المستقبل فرآه مظللا بسحابة سوداء، اقتربت ساعة الإدبار، إنها لتسرع نحوه وقد أصبح مستقبل ابنه الحسن مظلما، فإذا ألقاه الخليفة في غيابات السجون ماذا تكون حالة العباسة؟ ولم هذا الجد العاثر ونكد الطالع؟ أهذا جزاء صداقته وإخلاصه للخلافة منذ نعومة أظفاره، ألا يعلم الرشيد كل ذلك؟ ماذا فعل للناس حتى يستحق منهم مثل هذا الجزاء، وكأني به يقول لهم: صنعت معكم خيرا فكيف يكون جزائي شرا؟
هذا سؤال يجيب عليه الزمان، الزمان هو الذي يقول: إنهم خانوك لأنك أحسنت إليهم، ألم تسمع قول مشرع الإسلام: «اتق شر من أحسنت إليه»؟
أخذت الأفكار ترد مخيلته تباعا آخذة بعضها برقاب بعض، ولكنه كان لا يصدق أن الخليفة يعلم يوما ما بينه وبين العباسة؛ لأنه كان جد واثق منها ومن رجال معيته، كان يعلم أن منزلته قد قلت في نظر الرشيد، وكان يعزو ذلك إلى الوشايات التي يحيكها الأعداء حوله، وعندما نقل هذه الحالة إلى العباسة وجفاء الرشيد له ارتعشت؛ لأنها كانت تعلم أخاها وأدركت بفطنتها وبعد نظرها أن إدبار جعفر منشؤه علم الخليفة بما بينهما، أراد جعفر أن يقنعها ويسكن جأشها إلا أنه عبثا حاول تخفيف ما تغلف حول روحها من المشاعر المؤلمة، إنها كانت ترتعد تحت عبء رؤيا مفجعة قد انقبض صدرها أمام مشهد مؤلم أصبحت تتوقع حدوثه الساعة قبل الساعة.
كان الرشيد في تلك الآونة قد سار من الأنبار إلى بغداد في السفن وجعل قبل أن يصل العاصمة يشرب تارة ويلهو أخرى وعنده أبو ذكار يغنيه، فلما أقبل المساء دعا مسرورا الخادم، وكان مبغضا لجعفر فقال له: اذهب فجئني برأس جعفر.
بعد أن أتم جملته هذه ملأ قدح الشراب وأخذ يسمع أبا ذكار الذي أنطقته الطبيعة في تلك الساعة الفجيعة بهذا البيت:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي
عليه الموت يطرق أو يغادي
وبينما كان الرشيد يستنشد أبا ذكار باقي الأبيات.
كان مسرور في طريقه إلى قصر البرامكة، وعندما وصل هناك دخل على جعفر في غرفته بغير إذن وقال له: الخليفة يطلبك.
وبينما كان جعفر غارقا في لجج من أفكاره عاوده مسرور بقوله: إن الخليفة قد طلبك. - لقد سررتني بمجيئك وسوأتني بدخولك علي بغير إذن. - الذي جئت له أجل، أجب أمير المؤمنين إلى ما يريد بك. فقام جعفر مع رجال حاشيته ورافق مسرورا إلى قصر الخلافة، وهناك ظل رجاله على الباب ودخل معه مسرور إلى الحديقة وعطفا إلى غرفة خاصة على الطريق وهنا قال له مسرور: إن الخليفة يطلب رأسك.
صعق جعفر في مكانه على أثر هذه الجملة وتضعضع أمام هذه الضربة القاضية ووقع على رجليه يقبلهما ناسيا عزة نفسه ووقاره وقال مسترحما: بربك يا أخي عاود أمير المؤمنين؛ فإن الشرب قد حمله على ذلك، بل أمهلني الليلة فإنه نادم عن قوله غدا. - تناديني الآن بقولك يا أخي وكنت قبل اليوم تأنف من مصافحتي، إنني الآن لا أرحمك ولا أرحم شبابك، قد أمر الخليفة أن تموت الليلة وليس لدي سوى هذا الأمر. - لتكن حياتي فداء الخلافة، ليكن الموت جزاء إخلاص دام ثمانية عشر عاما، وإنما أريد أن أعرف منك أمرا واحدا قبل قتلي أريد أن أعلم ذنبي الذي أستحق عليه الجزاء.
فنظر إليه مسرور شزرا ثم فاه بهذه الكلمة: العباسة.
ما كاد جعفر يسمع بذلك حتى قام من مكانه مدهوشا وقد لمعت في سماء مخيلته فكرة واحدة هي أن يموت فداءها إذ ربما أنقذ العباسة بموته فقال: دعني أدخل داري فأوصي.
فنظر إليه الجلاد بغضب وقال: لا سبيل إلى ذلك.
لم يطق جعفر صبرا على أثر هذه الجملة الأخيرة فهاجت أعصابه وهجم على مسرور متمردا يريد خنقه إلا أن الجلاد تمكن من أن يتملص منه وفر إلى زاوية من الغرفة، وكان يعلم بأن العباسة مائتة لا محالة فصاح يقول: قد قتلت السيدة العباسة.
وقعت هذه الجملة كالصاعقة على رأس جعفر فهدت كل قواه وأفقدته الرشد والوعي فهرع نحو الجلاد جاثيا متمتما هذه الكلمات: ما انتظارك إذن؟ لماذا أعيش بعدها؟ عجل لتريحني من هذه الحياة.
هكذا سلم نفسه لجلاده، وعلى هذه الصورة المفجعة قتل جعفر البرمكي بالغا من عمره ثمانية وثلاثين حجة في عام 187 من الهجرة.
بعد أن أخذ مسرور رأس جعفر قدمه للرشيد على وسادة من الأطلس، فأمر بتعليق تلك الرأس التي أحب صاحبها وصادقه زمنا، على جسر بغداد وأن تحرق بعد ذلك مع الجثة وأن يقتل كل من يتشدق بكرم البرامكة ومروءتهم ومن يرثيهم بعد نكبتهم، أما منصب الوزارة فقد أسند بعد جعفر إلى عدوه اللدود الفضل بن ربيع حاجب قصر الخلافة سابقا.
ومن عجيب ما وقع في ذلك ما رواه العمراني المؤرخ قال حدث فلان قال: «دخلت الديوان، فنظرت في بعض تذاكر النواب فرأيت أربعمائة ألف دينار، ثمن خلعة لجعفر بن يحيى الوزير، ثم دخلت بعد أيام فرأيت تحت ذلك عشرة قراريط ثمن نفط وبواري لإحراق جثة جعفر بن يحيى فعجبت من ذلك.»
هكذا يريد القدر ومن يستطيع الوصول إلى حكمة ذلك؟ مسكين أنت يا جعفر قد صرت مظهرا لقول القائل: «إن كان يا قلب نصيبك الظلم والعسف في هذه الحياة، فقد تنالهما من الأصدقاء قبل الأعداء.»
الفصل الثامن
على أثر هذه الجناية قام الرشيد ومعه مسرور إلى قصر أخته العباسة، وكانت في الطابق الأسفل لم تدلف إلى فراشها بعد، تعد معدات السفر إلى خراسان في اليوم التالي، ولقد دهش أهل القصر من حضور الخليفة فجأة بعد نصف الليل فهرعوا إلى العباسة مذعورين يختلج الخوف في أفئدتهم يخطرونها بالأمر.
وقد اقتربت وصيفتها التي لم تفارقها طول الحياة ترجوها النزول من الشرفة إلى الحديقة فالهروب عن طريق الدجلة إلا أن العباسة اكتفت بأن تقول: بنات هاشم لا يعرفن سبيلا للهروب.
قالت كلمتها تلك وقامت من فورها لتستقبل أخاها وتلاقت معه في أول ممشى القصر، فسلمت عليه باحترام إلا أن الرشيد لم يجاوبها بل ظل يسير ساكنا حتى الغرفة التي اعتاد أن يجالسها فيها.
وبعد أن جلس على مقعد قال لأخته: أوصدي الباب.
أوصدت العباسة باب الغرفة وعادت هادئة ساكنة، وكان الرشيد ينظر إلى وجه أخته مدهوشا وقال لها: أتعلمين سبب مجيئي إليك الليلة؟ إن كنت جاهلة ذلك فها أنا مخبرك، جئت لأسمع من فمك مخالفتك لي وخيانتك لبني هاشم، ما أنت بعد الآن أختي، قولي ما تريدين أن تقوليه قبل أن تفارقي الحياة.
فأجابته العباسة بهدوء بال: لم أرتكب أولا ما يشين بسمعة بني هاشم، ولم أخالف ثانيا أمرك، ولا أهاب الموت كما تعلم، إنني أنا وأنت من أسرة واحدة رغم إنكارك، ولكنني لم أفهم ما تريد أن تقوله، فهل لك أن تفصح يا أمير المؤمنين؟ - لقد فات أوان التزييف، اعترفي ليتم كل شيء فإني عالم بالأمر وقد سمعت قصة جعفر ولا أستطيع أن أصفح عن مخالفتك لأمري واختلاطك بجعفر، ذلك المملوك الفارسي ولا يمكن أن أنسى تلاقيكما معا، إنني نافر منك فيجب أن تموتي.
بهتت العباسة ووقفت جامدة وسط الغرفة لا تبدي ولا تعيد ولا تستطيع أن ترفع عينيها من وجه أخيها المتقد بنيران الغيظ والغضب، فصاح الرشيد يقول: تكلمي إنني منتظر لجوابك.
فأجابته بصوت متهدج كأنما كانت تصحو من كابوس مريع: إنني حليلة جعفر أحببته واعتمدت عليه، وما أحللته من نفسي هذا المقام إلا لأجلك، ولما فيه من مزايا ومواهب، فإذا كان ذلك حراما فلتقض على حياتي، إنني بين يديك وإنني أخطرك بأمر فيه صالحك ونفعك، لا تقتل ذلك الذي تقول إنه مملوك فارسي، ذلك الذي صير بغداد والدولة على نحو ما ترى ورفع من شأن البلاد،
1
إنك إن فعلت ذلك يذكرك التاريخ ظالما معتسفا ويذكر أيامك بالعار، إن كنت تريد ضحية فها أنا ذا، سكن ثائرة غضبك بالقضاء على حياتي، ولكن أنا ما خالفت لك أمرا، إذا كان احترام عقد أمضيته أنت بيدك يعد خيانة فاتهمني، تذكر المولى واخش الآخر، إن العدل الإلهي سيذكرك بموقفك هذا.
ففزع الرشيد من مكانه حانقا وعيناه تتقدان بنيران الغيظ وهجم عليها يقول: قد جاوزت الحد، ألمثلي هذا القول؟! رباه لا أستطيع احتمالا، أنت مجرمة فيجب أن تموتي، كنت قد قيدت العقد بشرط أنت الآن تتجاهلينه. - كلا، لم أنسه، ولكن هل هو شرط مشروع؟ أيجوز أمثال هذه الحيل في ديننا الحنيف؟ لم أرتكب أمرا يخالف الشرع وإنما أنت الذي تريد أن تحرم ما أحله الله، ألا اتق الله في نفسك يا هارون، أين إيمانك؟ ألم ننشأ معا؟ ألم نعطف على بعضنا منذ الصغر، إن قتلتني أذهب ضحية على مذبح غرورك، أما جعفر فأنت تعلم شهامته ومزاياه حق العلم، ولن تجد من يسد فراغه، فإن كنت مصمما على ضحية فها أنا ذا بين يديك، أنزل سوط غضبك على بريء واحد ولا تلوث يديك بجريمتين.
لم يتمالك الرشيد نفسه عند سماعه الجملة الأخيرة فصاح مزمجرا: أدفاعا عنه أمامي، ستموتون أنتم الثلاثة: أنت وهو وحسن، أنا الخليفة لا مرد لأمري.
فحرك اسم «حسن» عواطف الأمومة في نفسها فارتمت عند قدمي أخيها تصيح: بربك اصفح ولا تقتل طفلا بريئا معصوما يا أمير المؤمنين، إنك والد فاتق الله، أنا لا أطلب الصفح من أخي إنما أرجو الغفران من الخليفة هارون الرشيد.
كانت العباسة تبكي بكاء مرا، هي لم تفقد حرارتها حتى تلك اللحظة، ولكنها أضاعت كل شيء وأظلمت الدنيا في عينيها وأصبحت يائسة مفككة الأوصال عندما ذكر مقتل ابنها.
لم يعبأ الرشيد بتوسلاتها ولم يحركه بكاؤها بل قال: كل هذا لا يجدي، قد قلت كلمتي الأخيرة.
ونادى مسرورا بعد ذلك ففهمت العباسة قصده فاعتدلت ووقفت شامخة برأسها تستشهد وتستغفر.
دخل مسرور وانحنى أمامها، ولكنها لم تحفل به ولم تتنازل إلى رد السلام، وإنما حولت وجهها إلى الكعبة، مقر ابنها الحسن وقد كانت تظنه على قيد الحياة، تدعو المولى أن يكلأه بعين عنايته، وتحولت بعد ذلك نحو قصر جعفر، وفي لحظة أطار مسرور رأسها بضربة واحدة من سيفه فوقع على الأرض متدحرجا حتى أقدام الرشيد.
تلكما العينان الجميلتان كانتا تنظران إلى الرشيد تفكرانه بقضاء الآخرة عندما ينصب ميزان الأعمال، فارتعشت روحه داخل جسده وقام من فوره يأمر مسرورا بأن يعجل فيما ندبه إليه، فوفد الغرفة عشرة رجال حفروا وسطها حفرة واروا فيها الجثة وبعد إتمام العملية أمر الرشيد بقتلهم وبأن ترمى أجسادهم في الدجلة.
عندما تمت الفاجعة وخرج الرشيد من غرفة ضحيته كان لمعان الصبح قد بدا وكانت أضواء الصباح الوافدة إلى الغرفة من حديقة القصر تنير هذا المرقد الأبدي بهدوء وجلال.
انقضى عمل الرشيد والتأمت جراح غروره فأدار أكرة الباب استعدادا للخروج، ولكن ما كاد يفعل ذلك حتى ارتد قليلا من تأثير أنوار الصباح، هجم الضوء إلى الغرفة من خلال الباب وملأت أرجاءها أشعة الشمس الآخذة في البزوغ مارة في طريقها إلى الغرفة بالورود والزهور وخمائل القرنفل والياسمين فتصنع من ألوانها وروائحها الزكية باقة معنوية تضعها باحترام إجلال فوق مضجع العباسة.
العباسة للرشيد: لا تلوث يديك بجريمتين.
كانت الطبيعة رغم إشراقها كئيبة مطرقة، هادئة يكسوها جلال الموت كأنما هي أيضا تبكي العباسة وقد كانت زهرة من زهراتها.
لو وقع مثل هذا الغرور في أوائل الإسلام لدهشنا ووقعنا في مهاوي الحيرة، غير أن حدوث هذا العسف في القرن الثاني من الهجرة في ذلك الدور العظيم يأخذ بيدنا إلى مناهج التفكير العميق، إنني لأتحاشى تدقيق ومحاكمة هذه الفاجعة المؤلمة التي سودت صحائف الرشيد، فالزمان قد قاضاه.
إن هارون الرشيد، رغم صفاته وفضائله، رغم مزاياه ومناقبه قاتل سفك دماء جعفر ولم يقدره حق قدره.
قد لوث يديه بدماء بريئين فلا جوده ولا كرم طباعه ولا شهرته ولا استفحال نفوذه تشفع له أو تزيل أثر الدماء من يده.
عندما نقرأ تاريخ حياته تثور نفوسنا وتتمرد، إنا نعلم أن مقابلة الإحسان بالإساءة كانت من صفات الأقدمين، لا سيما أيام حكومتي روما واليونان، ولكننا قد نعذرهم ونتشبث في إيجاد المبررات لهم؛ لأنهم كانوا محرومين من نور العدالة الإسلامية، أما الرشيد فمسلم ومن بني هاشم، فكان لزاما عليه أن يتحلى بالمروءة، ولكنه أبى إلا أن يظهر بمظهر المستبد المغرور.
وإنني كامرأة رأيت من واجبي أن أنقل سيرة الرشيد المعروفة كثيرا وتاريخ حياة جعفر المعروف قليلا وحياة العباسة المحاطة بالغموض والإبهام على هذا الوجه البسيط.
الملكة عصمة الدين شجرة الدر
الفصل الأول
الزمن مقياس الحياة، ولولا الحياة لما كان الزمن، ولما كان للأشياء بدايات ونهايات.
ونهاية كل أمر بداية أمر آخر، فإذا اضمحلت أمة من الأمم وامحى من صحيفة البقاء كيانها نشأت على أطلالها أمة أخرى وكيان آخر، فكلمة «الزمان» من مخترعات الإنسان، وضعها ليقيس بها الحياة، وليعبر بها عن سلسلة من الوقائع والحوادث والشئون، طويلة الأمد مختلفة الحلقات، فلهذه الكلمة مدلول وليس لها وجود.
وحياة كل امرئ زمان قائم بنفسه ونهاية زمنه بداية لحياة أخرى.
هاكم شجرة الدر التي نقص اليوم سيرتها الغريبة؛ فقد كان بدء حكمها نهاية زمن جليل وعصر عظيم، أجل، فهي بدأت حكمها عندما أفل نجم حكومة الأيوبيين العظام، وقد كان انبثاق هذا النور فوق أطلال الحكومة الأيوبية أول نجمة من نجوم الأمل في سماء دولة المماليك، لقد أنارت تلك الشرارة عصرها، فكانت شجرة الدر حلقة الاتصال بين الأيوبيين والمماليك وتمكنت بمهارتها من إظهار شخصية ذات رونق وجلال.
مصائب قوم عند قوم فوائد، كانت شجرة الدر ناصية مؤثرة بين مخدرات الإسلام، فهي فتاة تركية عالية القدر، جميلة الصورة جذابة الملامح، ذات فراسة وتدبير، على علم واسع ومعرفة تامة، لها عزيمة ماضية وجأش ثابت، فاشتهر أمرها وطار صيتها في أقاصي البلاد والأمصار.
وإذا استثنينا بلاد الهند، فهي المرأة الأولى في الإسلام التي تقلدت الملك وأدارت دفة الحكم بمهارة ودراية، لم يكن من المألوف المعهود في بلاد الشرق أن تحكم المرأة وتتولى زمام بلادها بنفسها مباشرة؛ ولذلك كثيرا ما قرأت قصة حياتها مشفوعة بالاستغراب بين طيات بعض الرسائل والمخطوطات، والدهشة التي تملكت قلوب كاتبيها من أن امرأة تتوصل إلى الحكم بلقب الملكة عصمة الدين.
إن وصولها إلى أمر كهذا غير مألوف من أبناء قومها دليل فطنة ودراية وذكاء فائق الحد، أجل، فمن من النساء المسلمات توصلت إلى ضرب النقود وقراءة الخطب على المنابر باسمها؟
كانت في أول أمرها جارية ظريفة يحبها الصالح نجم الدين الملك السابع في حكومة الأيوبيين، فولدت له غلاما سمي خليلا، وتزوجها بعد ذلك وأشركها في الحكم، كان الملك الصالح يجلها ويخصها بالاحترام ولقد أظهرت قدرة خارقة للعادة في إدارة الأمور، أدهشت معاصريها.
شاركت شجرة الدر زوجها في إدارة الحكم منذ كان وليا للعهد، يحكم دمشق من قبل أبيه «الكامل» فأمدته برأيها وأعانته بفكرها وكانت الزوجة الصالحة، شريكة العمر وصديقة الحياة، فبدأ يشعر بقيمة هذه المعونة الأدبية ويقدرها حق قدرها ويسر بها.
1
دار الزمان دورته ومات «الكامل» فاضطر الملك «الصالح» إلى العودة إلى مصر، مقر العرش والحكم، تاركا وراءه ذكريات لذيذة من أيام الهناء بين رياض دمشق وحدائقها الغناء، هنا بدأت متاعبه وجهوده؛ فقد كثرت الفتن واشتدت الغارات في أول توليه الحكم، فكان لا ينتهي من قمع فتنة حتى يرى نفسه أمام غارة خارجية تهدد كيان البلاد فيعمد إلى صدها وكبح جماح الذين يريدون بمصر شرا، ولا يكاد يدفع ضررها حتى يسمع باندلاع لهيب فتنة أخرى في قلب البلاد فيسرع نحوها، كل هذه المشاغل والمتاعب صيرته قيد جواده لا يفارق صهوته ليل نهار.
كانت فتنة الشام أشدها مراسا وأذكاها نارا فحشد جنوده وطار إلى مكان الفتنة على رأس جيشه، وبعد أن كابد المرائر في سبيل قمعها انتصر على العاصين وتمكن من الضرب على أيديهم وتأديبهم، ولكن لم يتيسر له أن يجني ثمرة النصر وأن يهنأ بسعادة الفوز؛ لأنه أصيب بداء عضال أقعده في فراشه شهورا طويلة.
كان يتوق إلى رؤية وطنه مصر ويذوب شوقا وحنينا إلى نيل بلاده العذب، فيقعده الرغبة في إنجاز ما ندب نفسه إليه من القضاء على الفتنة واجتثاثها من أصولها وعدم القيام من دمشق قبل تمام الشفاء، وبينما هو يتململ على فراش الأوجاع والأوصاب، بين لذيذ الأماني والآمال، إذا برسالة من زوجته شجرة الدر التي كانت تحكم البلاد أثناء غيابه، تخبره فيها بقيام الصليبيين من قبرص متوجهين إلى مصر، فقام من فوره محمولا على هودج حتى وصل المنصورة في بضعة أيام قاسى أثناءها أشد المتاعب والآلام.
الفصل الثاني
عام 648 من الهجرة
أصيب لويس التاسع ملك فرنسا بمرض عجيب، أعجز نطس الأطباء ومهرة الحكماء في بلاده، فصرفوا كل مجهوداتهم الفنية وأعملوا كل ما استطاعوا من حذق وفكرة في سبيل الوصول إلى تشخيص المرض، ولكن ذهبت أتعابهم وجهودهم أدراج الرياح، لم يتمكنوا من تخفيف آلامه وأوصابه فوقعت فرنسا في مهاوي اليأس وارتبكت لا تدري سبيلا إلى نجاة الملك مما وقع فيه، إلى أن خطر ذات يوم ببال «بلانش دوكاستيل» أم الملك و«مرغريت دو بروفانس» زوجته أن يجمعا كبار القسس ورجال الدين ليعقدوا مجلسا للمشاورة فيما بينهم، فقرروا أن توقد الشموع في كل بيت وأن تقام الصلوات في الكنائس على الدوام، وسرعان ما أقبل الكبراء والأمراء على تنفيذ الفكرة، قدوة لمن دونهم من العامة، ولم تمض فترة من الزمن حتى كان الجميع ناسجين على ذلك المنوال من إيقاد الشموع والابتهال في الكنائس بالدعوات، ولكن ظل الملك رغم تلك الوسائل أسير الفراش، يعاني آلام مرضه الوبيل ودائه العضال، لم تجد الشموع نفعا ولم تنفع دعوات القسس وابتهالات الشعب في رد القوة والحياة إلى ذلك اللسان المشلول والجسم المفلوج، فاستمر على حالته من الوهن والجمود كأنه صنم ملقى تحت اللحف والأردية.
اشتد قلق الشعب ودب اليأس في قلوب القسس، فكنت تراهم في أسواق المدينة وشوارعها يقطعونها طولا وعرضا بمسابحهم الطويلة وثيابهم الكهنوتية، وقد أيقنوا بأن شفاء مليكهم من رابع المستحيلات، لقد بدءوا يشعرون أن الملك مقضي عليه بالهلاك وأن الموت على قاب قوسين منه أو أدنى بعد أن جربوا كل تعاويذهم وأدعيتهم فذهبت أدراج الرياح، لقد يئس الكل إلا الملك فقد بقيت في صدره بقية من نور الأمل تخفف من لوعته، كان لا يستطيع أن يأتي بأدنى حركة أو يحرك لسانه بكلمة ولكن قواه العقلية ما زالت كما هي، فجعل يتوسل إلى ربه بطلب الشفاء ويغالب المرض بقوة إرادته، معاهدا ربه بنذر جعله رهن شفائه وقيد تخلصه من أسر بلواه، فقد أنذر ويا لهول ما أنذر! أنذر أن ينقذ بيت المقدس من المسلمين ويخلص تلك الأماكن الطاهرة من أيديهم القذرة إن تم له الشفاء وكتب له ربه العافية والحياة، الأمل حياة واليأس موت، فقد دب دبيب الحياة في تلك النفس الحائرة الحائمة حول الأمل، وأصبح الملك عقب ابتهالاته النفسية يتماثل نحو الشفاء شيئا فشيئا موقنا أن نذره الغريب كان سببا في شفائه، زاعما أن المولى لم يمن عليه بالشفاء إلا لعزمه على تطهير بيت المقدس من أيدي المسلمين الملوثة، ولقد صادفت هذه العقيدة الفاسدة هوى في نفس المسيحيين في زمن كان فيه بيت المقدس محفوفا بعناية المسلمين ورعايتهم أكثر من أي وقت آخر؛
1
لأن المسلمين وقتئذ كانوا أشد تمسكا بالدين، هذا إلى أنه بيت محجوج من جميع طوائف الشرق مرموق بعين التجلة والاحترام من الجميع، لبلاد المشرق مزية لا يمكن إنكارها مع ما لها من مثالب ومساوئ، تلك المزية هي احترام الشرقيين للمعابد وتقديسهم الأماكن المقدسة، هذه حقيقة لا يمكن نكرانها، فاحترام الشرقي لكل مكان مقدس
2
غريزة كامنة في نفسه ورثها عن آبائه وأجداده جيلا بعد جيل.
بيت المقدس.
اليهود في بيت المقدس.
كان البيت المقدس - وما زال إلى يومنا هذا - مسجدا محجوجا من كافة أقطار العالم الإسلامي، يزورونه ويقدسونه ويقيمون فيه شعائر الله ويحافظون على ما فيه من الآثار والتحف محافظتهم على أعز الأشياء وأحبها لديهم، تلك الأيدي الملوثة حسب زعمهم السخيف وقياسهم الباطل طالما رفعت ما تهدم من أركانه وأصلحت ما تصدع من بنيانه فأعادت له الجدة زمنا بعد زمن وجيلا بعد جيل؛ ليكون لسانا ناطقا وشاهدا عادلا على احترام المسلمين عامة لمسجدهم الأقصى، أما فكرة التخريب فلم تخطر على بال أمير مسلم مهما تناهى في الظلم واشتد في الجبروت والعسف، أيجوز إذن - والحال على ما فصلناه - تضحية المئات والألوف على مذبح التعصب؟!
لقد أزهقوا في حرب مقدسة واحدة ما ينيف عن سبعين ألفا من المسلمين الآمنين في ديارهم، فأصابوا من أعراضهم ومثلوا بأجسادهم حتى بلغت بهم الفظاعة إلى حد استخراج مرائر القلوب ووضعها في القوارير ليستصحبوها إلى بلادهم كأدوية ناجعة لبعض الأمراض حسب زعمهم الباطل.
لقد أمرهم الإنجيل بالرحمة والشفقة وأن يدير المرء خده الأيسر لمن يصفعه على خده الأيمن، فهل صدعوا بأمره؟ وهل المسيح هو الذي أوحى إليهم بإثارة تلك الحروب الشنيعة؟ أيرضى منقذ الإنسانية والآمر بالإحسان والحنان أن يموت الألوف من أهل الهلال في سبيل غرور حملة الصلبان!
أما وقد أبل لويس التاسع من مرضه فأرسل إلى البابا يعرض عليه عزمه على تنفيذ نذره وأنه مستعد لتجهيز المعدات لذلك، وما كاد يصله الإذن حتى أعد الحملة الصليبية السابعة وقوامها خمسون ألفا من الجنود ومئتا قطعة من السفن، ولما تم له ما أراد أبحرت سفنه بتلك العدة وذلك العدد ووجهتها جزيرة قبرص. •••
يرى القارئ من خلال ما شرحناه أن الصليب ينافس الهلال منذ زمن بعيد، ولقد أصبحت من القواعد المقررة لديهم أن الصليب قد يتسيطر في كل مكان ينير فوقه الهلال، أما الهلال فلا يجب أن يضيء فوق مكان يحكم فيه الصليب؛ لأن الصليب لا يريد أن يرى رقيبا له؛ ولأن الخفافيش يعميها ضوء الهلال، إن الزور والبهتان لا يدوم لهما سلطان ولا يغطيان على الحق أو يمنعان نوره، أما القوة فقد تضغط على أنفاسه فحسب.
الشرق أكثر حلما وأكرم وفادة وأشد تسامحا من الغرب من كل الوجوه.
لقد عاهد ملك فرنسا ربه أن يهاجم الصليب في وقت نأسف اليوم على مثله، لم تكن إذ ذاك ثمت قوة تستطيع أن تصد عصبيتنا الإسلامية أو تقف في وجه وحدتنا الدينية، لقد فشلت كل محالفة عقدتها أوروبا ضدنا وذهبت مساعيهم التي بذلوها في سبيل تشتيت شملنا أدراج الرياح؛ إذ كانت تربطنا ببعض - نحن أهل التوحيد - عروة وثقى برباط معنوي واحد كنا نصد كل قوة بقوة أشد منها هي قوة الاتحاد، فكانت كل صدمة منهم تتكسر وتتبعثر كقطع الزجاج فوق سور منيع هو سور عقيدتنا. •••
أقام لويس التاسع أمه على منصة الحكم بدله وسافر إلى قبرص في بضعة أسابيع ومعه أقاربه وزوجته ووصلوها في موسم الشتاء ولبثوا فيها حتى انقضائه، وكان فرسان الجزيرة قد أخذوا في تعذيب من عثروا عليهم من أسرى المسلمين بأنواع العذاب وألوان الضيق، وكانوا يكرهونهم على قبول النصرانية بأمر وكيل البابا فيخلي سبيل من يقبلها حذر الموت وتقطع أوصال الذين يرفضون تغيير عقيدتهم.
وقع أكثر هؤلاء الأسرى المساكين في أيدي الفرسان من طريق القرصنة وقاسوا عسفا شديدا وظلما مريرا طول مدة الشتاء حتى إنهم لم يتركوا نوعا من أنواع التعذيب المعروفة في القرون الوسطى دون تجربتها عليهم، وبعد أن أقام لويس وحاشيته على مثل هذا التشفي وإزهاق الأنفس البشرية خلال ستة أشهر قام بجنوده، مشرعا بسفنه، نحو مصر ووجهتهم بيت المقدس لتطهيرها من أيدي المسلمين.
الفصل الثالث
وصل الملك الصالح مدينة المنصورة، مضنى الجسم، مريضا منهوك القوى فلزم توا فراش المرض، كان يتألم من دمامل فوق ركبته ومن نزلة صدرية وفدت إليه أثناء الطريق،
1
وكانت حرارة الجسم والسعال الطويل ينذرانه بخطر السل، فيئس من حاله ووقع في وهدة الاضطراب؛ إذ كان لا يستطيع الإشراف بنفسه على تعبئة الجيش وما يلزمه من المعدات، ومع ذلك فلم يأل جهده في إصدار الأوامر المتتالية والخطط الحربية لتحصين دمياط وإعدادها للكفاح والدفاع.
لقد أتم تحصين «دمياط» كما يجب وجهزها بذخائر ومؤنة تكفي حاميتها شهورا عديدة ثم شرع بعد ذلك في إعداد الأساطيل من القاهرة وحشد الجنود المصرية عند الساحل الغربي من دمياط تحت قيادة أمراء مصر ووجه القيادة العليا إلى الأمير فخر الدين يوسف.
2 •••
وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر صفر عام 648 هجرية حاصر الأسطول الفرنسي ثغر دمياط، ثم طلب الملك لويس - جريا على عادة الصليبيين - تسليم الثغر من حاميته، وعندما رأى علامات المقاومة وجه خطاب تهديد إلى الملك الصالح، نجم الدين الأيوبي قال فيه:
إنك لتعلم أنني حامي ذمار المسيحية كما أنك ولي أمر المسلمين، ولقد سمعت بلا ريب أن مسلمي الأندلس قد أصبحوا اليوم أيضا في قبضة يدنا، مستظلين برايتنا وهم يهرعون إلينا من حين لآخر زرافات ووحدانا يقدمون إلينا أموالهم وما ملكت أنفسهم رغبة في رضانا فنسوقهم كالأغنام، نقتل ذكورهم ونترك نساءهم أيامى نسبي أولادهم وبناتهم ونصير ديارهم خرابا بلقعا، فاعلم ذلك إن كنت تجهله، ونصيحتي إليك أنني سأحاربك وأقاتلك مهما بذلت لي من وسائل القرب، إنني مهاجمك حتى لو أقسمت يمين النصرانية وارتديت ثياب القسس وحملت الشموع أمامي، إما أن أفوز عليك فأجعل بلادك تحت قبضتي وإما إنك تغلبني على أمري، ها أنا ذا مخبرك فلا تنس إن جنودي كثيرة ورجالي لا يحصى لهم عدد، يملئون الوديان والجبال وينافسون الحصى كثرة وعددا، سوف لا يغمد هؤلاء الرجال سيوفهم بل سيهرعون نحوك لهلاكك وبوارك.
لم ينته الملك الصالح من تلاوة الخطاب حتى بدت على وجهه علامات التأثر وطفرت دموع الألم من عينه، ثم ناوله بعد ذلك إلى القاضي بهاء الدين الزهراوي الجالس عن يمينه ليقرأه، وبعد التشاور فيما بينهما وبين رجال المعسكر أرسل الرد التالي:
بعد البسملة والحمدلة أخذت كتابك، وإنك لتفخر علي بكثرة جنودك وتهددني بما لك من عدة وقوة، ألا فلتعلم أننا رجال سيف لا نخشى أمرا في سبيل كلمة الله، فمن مات منا شهيدا قام مكانه مؤمن آخر، ومن قصدنا بسوء فإنما هو وارد إلى حتفه بظلفه، ألا تبصر عيناك المغرورتان حدة سيوفنا وعظمة أبطالنا؟ أتعمى عن رؤية القلاع والسواحل التي فتحناها؟ وديار الأعادي التي أبدناها؟ لو تمعنت في أمرك لظهر لك سخف رأيك وتكليف نفسك مشقة لا طائل تحتها ولا مطمع من ورائها، لو ترويت وتبصرت لعلمت أي منقلب ينقلب الظالمون؟ قال الله في كتابه العزيز:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .
قرأ لويس التاسع هذه الأسطر النارية فجمع رجاله في الحال وشاورهم في الأمر، وما كادوا يشيرون عليه بنزول الجنود إلى البر حتى وطئت جنوده أرض مصر وأمامهم وكيل البابا يحمل صليبا كبيرا، ومن ورائه لويس التاسع يخفق اللواء المقدس فوقه وفوق عائلته ومن خلفهم الحاشية والجنود. •••
بدأت الحرب مساء اليوم العشرين من شهر صفر واشتدت هجمات السفن الإسلامية على الأسطول الفرنسي شدة كادت تؤدي إلى فشل الصليبيين، وفي تلك الساعة الرهيبة التي كان المسلمون فيها يقاومون أهل الصليب بصدورهم ويتلقون هجمات العدو بثبات وعزيمة صادقة، تراجع قائد المسلمين الأمير فخر الدين بلا سبب وأخذ يولي الأدبار، وما كادت الجنود الإسلامية تشعر بفرار قائدها حتى تولاهم الاضطراب ولاذوا أيضا بالفرار أسوة بقائدهم، فساد الهرج والمرج بين صفوفهم واختلط حابلهم بنابلهم مسرعين مجدين في الهروب بكل ما فيهم من قوة حتى وصلوا «أشمون»، أما الأهالي فقد ذعروا لهذه الحالة فحملوا ما وصل أيديهم من مال ومتاع متعقبين أثر الجيش ولم يرتفع ستار الليل عن دمياط حتى كانت خاوية على عروشها، ليس فيها إنسان من سكانها، أما الصليبيون الذين لم يروا أمامهم مهاجما أو مدافعا اشتبهوا في الأمر وخيل إليهم أن هناك دسيسة مدبرة من المسلمين لإيقاعهم في فخ منصوب، فاقتربوا من المدينة وجلين، حذرين يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وعندما شعروا بخلوها تقدموا نحوها متجاسرين ودخلوها دخول الظافرين الغانمين.
ما أشد دهشتهم أمام ذلكم اللغز! لقد ترك الجيش المذعور كل سلاحه وخلف الأهالي أقواتهم وأرزاقهم التي ادخروها لستة أشهر، لم يبق في المدينة إنسان واحد ولكنها كانت مملوءة بالذخيرة والسلاح، فما هذا التناقض! لقد غنم الصليبيون وأحرزوا الفوز ودخل صليبيو القرن السابع مدينة دمياط دخول الظافر كما دخل صليبيو القرن العشرين مدينة «قرق كليسا»،
3
أيخاف أهل الهلال من الصليب؟ القلوب الطافحة بالإيمان ليس فيها متسع للخوف.
التاريخ يعيد نفسه؟ ما كاد الصليبيون يستولون على دمياط حتى حولوا جوامعها إلى كنائس واستتبوا في ربوعها آمنين مطمئنين وقد تملكوا أحكم القلاع المصرية في زمن وجيز وفي فرصة غريبة ما كانوا يحلمون بها، وها هي القاهرة قد أصبحت قيد ذراع منهم يحملون عليها متى شاءوا، أسقط في يد الملك الصالح وفت في عضده، اشتد يأسه وزادت آلامه وأوجاعه، لكنه هب في الحال مدفوعا بعزيمة صادقة ووقف أمام الجيش الفار يصد تياره إلى أن تمكن من ذلك.
ولما استتب له الأمر جمع أمراء الجنود الهاربة وأمر بإعدامهم في الحال، حتى إنه صلب في ساعة واحدة خمسين من «سناجق» الجيش.
4
لقد وسم الأمير فخر الدين بقراره وتقهقره هذا جيوش المسلمين بوصمة العار، وأضاع على المسلمين أقواتا كثيرة وأموالا جمة ونفوسا زكية، وقد وجه الملك الصالح همته بعد ذلك إلى تحصين المنصورة وما بجوارها من القرى والدساكر ولكنه لم ينس ضياع دمياط، فكان لا يكل عن تجزية الذين تسببوا في الهزيمة كان يبذل دموع القلب أسى وحزنا كلما اختلجت في نفسه حادثة تلك الخيانة، ثم تمرد أتباع الأمراء الذين نالهم العقاب وحاولوا العصيان والوقوف في وجهه، إلا أن الأمير فخر الدين تمكن من إسكاتهم وإقناعهم موضحا لهم مرض الملك الصالح وقرب دنو الأجل من أمير البلاد، كان الأمير فخر الدين مستحقا للعقاب والجزاء؛ إذ كان أس البلاء في حادثة الانهزام، ولكنه تملص من العقاب بسهولة ولم يصبه أذى ... لم يشتبك الفريقان عقب سقوط دمياط في معارك حاسمة، بل كان الحرب بينهما سجالا، يتصادمان في مواقع صغيرة، وكان عدد الأسرى من الصليبيين يتزايد ويتكاثر يوما بعد يوم، وكان كلما تجمع نفر منهم أرسلوهم إلى القاهرة وبدأ المسلمون يستردون قواهم ويجمعون شتاتهم شيئا فشيئا وقد أحرزوا فوزا في بعض المعارك، فقوي فيهم الأمل ودب في نفوسهم النشاط إلى الاستعداد لمعركة حاسمة يطحنون فيها جيوش أعدائهم وهم على مثل هذا الحال من الأمل والثقة، وإذا بالملك الصالح تشتد عليه وطأة المرض في ليلة الأحد من اليوم الرابع عشر من شهر شعبان، وما أشرقت الشمس في اليوم التالي على حقول المنصورة التي تزين ضفتي النيل حتى كانت روح الملك بعيدة عن هذا العالم الفاني، بالغا من العمر أربعين عاما، لقد كتموا خبر موته؛ حذر القلاقل وخشية اضطراب الجيش فنقلوا جثته سرا في تابوت من المنصورة إلى قصر المنيل، حيث كانت تسكن شجرة الدر ودفن في قلعة الروضة، لم يعلم نبأ الوفاة سوى شجرة الدر وبضعة أفراد من المقربين المخلصين؛ إذ كانت الأميرة تخاف من إثارة الفتن والقلاقل، فأرسلت إلى رئيس الأغوات وإلى قائد الجيوش فخر الدين تطلبهما وأخبرتهما بما وقع وسردت لهما الأسباب التي حدت بها إلى كتمان الأمر، فاستصوبا رأيها وأقراها على ما فعلت، ثم قرر الثلاثة في تلك الجلسة أن يرسلوا «آق طاي» أحد أمراء الجيش إلى الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح وولي عهد السلطنة المقيم في «حصن كيفا» لإحضاره في الحال، وبعد أن أتمت الأميرة هذا الأمر أذاعت بعض الأوامر والمنشورات على الشعب وأخذت المواثيق والعهود على رجال الجيش بأن يطيعوا الملك الصالح ويقيموا على عهد الملك المعظم توران شاه بعده، وقد كتبت الأوامر بخط رجل من حاشية البلاط يدعى سهيلا؛ إذ كان خطه شبيها بخط الملك، وكما كان أسلوب الأوامر موافقا لأسلوب الملك نفسه حتى إنه لم يشك أحد في أنها صادرة من الملك، ومن هذه الأوامر أن يقرن اسم ولي العهد «توران شاه» باسم الملك في خطب الجمعة وأن تضرب النقود باسمه، وكانت الأطباء أثناء ذلك تتردد على المنصورة تغريرا بالناس وإيهاما لهم بوجود الملك على قيد الحياة، وكانوا يتكتمون خبر موته ويذيعون عنه أنه في شدة المرض، غير أن الخبر اتصل ببعض الجواسيس فنقله إلى الصليبيين الذين أقامتهم الحادثة وأقعدتهم وجعلتهم يتهيئون لغزوة كبرى.
أعد لويس عدته لمهاجمة المنصورة وتحرك إليها بجميع جيشه، فالتحم الجيشان في معركة خطيرة دامت طويلا، وتلف عدد كبير من الطرفين، وكان ضرر الأعداء أشد وأخطر حيث مات ووقع في الأسر منهم عدد كبير، وقد استشهد قائد المسلمين في هذه المعركة، فظلت الجنود الإسلامية تقاوم مضطربة بلا رأس يحركها، وأيقن المصريون بما يهددهم من الخطر، وشعر مماليك الملك الصالح بالنتيجة المؤلمة التي تنتظرهم إذا استولى الصليبيون على البلاد، فقاموا جميعا قومة رجل واحد للذود عن وطنهم، هؤلاء هم المماليك البحرية، وقد أطلق عليهم هذا الاسم لإقامتهم بالمنيل، فترأس الجيش أحدهم وهو «بايبورس»، فجمع شتات الجيش وحمل على الصليبيين حملة بددت جموعهم وكسرتهم شر كسرة، ففرحت مصر والمنصورة بهذا الفوز المبين وأقيمت الأفراح وازينت الأسواق وتليت الدعوات شكرا للمولى على ما تولاهم من جميل فضله وإحسانه، ثم وصل توران شاه عقب هذا الانتصار، فأعلن وفاة الملك الصالح وعين ابنه خلفا له، أما شجرة الدر التي تمكنت بمهارتها ودهائها من كتمان الخبر إلى حين حضور ولي العهد وجهت اهتمامها إلى إقامة المآتم حدادا على زوجها تاركة مقاليد الحكم في يد توران شاه.
الفصل الرابع
ما كاد توران شاه يستلم زمام الحكم حتى بدأ يهاجم الصليبيين أملا في الخوض معهم معركة حاسمة، ولقد بذل كل ما في وسعه لإخراجهم وطردهم من الديار المصرية.
كان معسكر الصليبيين في دمياط، ولكن معظم جنودهم كانت مقيمة عند ضواحي المنصورة وأشمون، فخط توران شاه خطة حربية تؤدي إلى التفاف جيشه حول الصليبيين، وما كادت فكرته تتكلل بالنجاح حتى كان جيش الأعداء محصورا وتحت قبضته.
المحمل المصري، البدعة الحسنة التي سنتها الملكة عصمة الدين «شجرة الدر».
أما الصليبيون الذين حوصروا بجيوش المسلمين من جميع أطرافهم فقد وقفوا في وهاد اليأس وانقطعت الأمداد والذخائر عنهم فباتوا في حيرة من أمرهم، ثم اشتد كربهم عندما انتصر «توران شاه» على بحريتهم في النيل وأغرق نحو خمسين من سفنهم، أصبح الصليبيون وقد انقطعت مواصلاتهم في ضيق واضطراب عظيمين، وكان «توران شاه» يرجو من وراء اضطرابهم هذا أن يقضي عليهم القضاء المبرم في مدة وجيزة، أما الجيوش الإسلامية الذين دبت روح الجرأة بين صفوفهم عقب الانتصارات الباهرة فإنهم حملوا على أعدائهم حملة منكرة، مدفوعين بقوة الإيمان ثملين بخمرة الفوز، فشقوا صفوفهم وانهالوا عليهم يكيلون لهم ألوان الضرب والقتل حتى بددوهم وفرقوا وحدتهم شر ممزق.
دحر الصليبيون ولاذوا بالفرار، مسرعين مهرولين في طريق دمياط، ونسوا وهم مرتبكون مشتتون رفع أحد الجسور الموضوعة على النيل عند مقربة من أشمون، فتعقب المسلمون أثرهم حتى نقطة قريبة من دمياط، حيث وصل لويس وحاشيته إلى تل صغير فصعدوه، وما كاد المسلمون يبدءون في محاصرتهم والالتفاف حول التل الذي اعتصموا به حتى طلب ملك فرنسا الأمان وسلم نفسه مع رجال حاشيته وخمسماية نفر من جنوده. •••
وقد وعد أثناء وقوعه في الأسر بأن يسلم دمياط مقابل أن يترك المسلمون له بيت المقدس، فلم يعبأ أحد بقوله بل ساقوه إلى المنصورة ووضعوه أسيرا في دار القاضي فخر الدين.
قرر توران شاه بعد ذلك أن يقيم بفارسكور، فجمع رجاله وجنده وذهب بهم جميعا إلى المكان المنتخب لمعسكره، وهناك وجه اهتمامه لتشييد قصر فخم من الخشب على ضفة النيل ورفع بجانبه برجا عاليا جعله لمسكنه وملذاته الشخصية ، تلك الملذات التي انغمس في تيارها، ناسيا أمر الصليبيين وشئون الدولة.
كان يستقبل شمس يومه والكأس بيده، وتغرب الغزالة عن حقول فارسكور وهو ثمل مضنى الجسم مفكوك الأوصال من كثرة الانهماك في معاقرة بنت الحان ومنادمة الغلمان، كانت أيام حياته تمضي على هذه الوتيرة لا يعكر صفوها سوى عداوة متأصلة في نفسه نحو المماليك البحريين؛ إذ كان لا يطيق سماعا لنصائحهم وإرشاداتهم، فكان إذا جلس ليلا جمع حوله الغلمان الذين أحضرهم من دمشق؛ لأنه كان لا يستطيع مفارقتهم ساعة واحدة، وأوقد الشموع حولهم فإذا دب دبيب الخمر في النفوس وأخذت تلعب بالرءوس، قام توران شاه من مكانه ممتشقا حسامه، وبدأ في مهاجمة الشموع يحاربها ويكافحها، يقطع رءوسها ويمثل بجسومها، زاعما أنها أعداؤه المماليك البحرية.
بمثل هذه الحالة السيئة بدأ الملك المعظم توران شاه أيام حكمه وسلطنته لاهيا عن الواجبات التي يجب تنفيذها في مثل تلك الأيام العصيبة والأوقات الرهيبة التي يعانيها المسلمون، سائرا على المناهج الوعرة المؤدية إلى إثارة الفتن وتفكيك أوصال البلاد.
كان ملكا مستبدا وحاكما مغرورا وأميرا عديم الوجدان فكرهته الرعية بعد أربعين يوما من توليه الحكم وابتدأت تعيب عليه أعماله وحركاته، أما المماليك البحريون، تلك الكتلة القوية في عنصر الأمة فقد جاهرت علنا بعدوانه وأقسمت بالانتقام وأخذ الثأر عقب حادثة الشموع.
لم يبق إنسان في مصر يرعاه ويعمل لصالحه، فقد كسر القلوب وصدع النفوس وأمضى بيده حكم إعدامه، وبينما كانت شجرة الدر في قصرها بالمنيل تقضي أوقات الحياة محفوفة بالعز والإجلال، مرموقة بأنواع الترف وضروب الرفاهة، أرسل إليها توران شاه يطلب منها رد أموال أبيه وأملاكه إليه ويهددها باستعمال القوة والعنف، فردت عليه تقول إنها صرفت أموال أبيه في الجهاد المقدس إلا أن جوابها لم يرق في نظر توران شاه فغضب غضبا شديدا.
وقابل إجابتها بلهجة عنيفة لا يليق صدورها من رجل لامرأة أبيه، ما كانت شجرة الدر لتنتظر مثل هذه المعاملة وقد حركت هذه الحادثة الحنق والغيظ في تلك النفس العصبية دفعتها إلى تحريك المماليك ضد «توران شاه» في الحال، فلم يتردد هؤلاء في إجابة طلبها السابق لغيظهم منه واستعدادهم إلى مجابهته بالشر والعدوان.
تذكرت شجرة الدر جميل صنعها مع ابن زوجها، وكيف أنها جاهدت في سبيل كتمان خبر الوفاة وكيف دبرت مجيء ولي العهد ومهدت له سبيل الحكم، وكان كلما لجت بها الذكرى اشتد غضبها وازداد هياجها وتمردها نحو من أحسنت إليه فأساء المعاملة وقابل الجميل بالخيانة والنكران.
لو لم تكن شجرة الدر لانفجرت قنابل الثورات في البلاد عقب وفاة الملك الصالح، ولولا تدبيرها ومهارتها لساء الحال والمآل، أيكون جزاء سياستها الحسنة مقابلتها بالعدوان؟! أيصل بها الحال إلى هذا الحد من الامتهان بعد كفاحها وجهادها في سبيل توطيد دعائم العرش لابن زوجها؟! لا لوم عليها بعد اليوم ولا تثريب إذا هي رفعت لواء التمرد والعصيان، فقد اتسعت بينهما شقة الخلاف وأخذ الذين يحتاطون بتوران شاه يعملون على اشتداد الأزمة وينفخون في صدره ما يزيد النار ضراما فيقولون له: «إنما الملك والقوة في يد شجرة الدر، وما أنت سوى قالب للحكم، إنك لضعيف عاجز، لا تستطيع أن تتمتع بالسلطة ما دام منافسوك على قيد الحياة.»
تقع أمثال هذه الكلمات في نفسه وقوع القنابل فيثور ثورة الجنون، مقسما بأغلظ الأيمان على قتل جميع المماليك ولكن:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
لقد قتله المماليك قبل أن يقتلهم، وتمرد عليه أولئك الذين هاجمهم في صور وأشكال من الشموع تحت إمرة «آق طاي» سفير مملكته إلى دمشق، كان توران شاه قد وعد «آق طاي» هذا بأن يوليه محافظا على الإسكندرية، ولكنه أخلف وعده معه فمال إلى الفتنة والعصيان.
في يوم الإثنين التاسع والعشرين من شهر محرم، تناول توران شاه طعامه مع الأمراء والحاشية في المضرب الخاص كالمعتاد، وبعد أن تركهم ودخل ردهة القصر ليستريح قليلا، هجم عليه أحد المماليك بسيف مشهور فرفع الملك يديه مغطيا وجهه فأصابه المملوك في أصابعه، وما كاد الضارب يرى ذلك حتى اضطربت أعصابه وسقط السيف من يده ولاذ بالفرار .
أغمي على الملك المعظم وتولاه الخوف لأول وهلة، ولكنه سرعان ما تمالك قوته وفكر في أمره فوجد أنه على أبواب الخطر وأنه لا أمان لحياته فيما إذا أقام في القصر، فهرول نحو البرج ليعتصم به ورآه المماليك وهو يصعد قمة البرج فاحتاطوا به إحاطة السوار بالمعصم.
صاح الملك يطلب الأمان، ولكن لم يجد إنسانا يعطف عليه ويشفق على حاله في تلك الأزمة؛ فقد كان الأمراء والمماليك والشعب جميعا يبغضونه ويتمنون له الموت والهلاك، وهو في صياحه وندبه وإذا بالأمير حسام الدين يقترب نحو القصر على رأس كتيبة من فرسان المماليك، ولقد حاول سفير إمارة بغداد أن يمد إليه يد المعونة إذ ذاك فقامت عليه قيامة المماليك واضطروه إلى التزام جانب الحيدة والسكون، هاجت فارسكور وماجت بصنوف المماليك والأمراء وهجم الجميع على القصر يطلبون من توران شاه أن ينزل وإلا أحرقوا عليه البرج، فلم يبق له أمل في الخلاص غير أنه ظل يطلب منهم الأمان والرحمة مستغفرا عن سيئاته وآثامه، إلا أنهم استمروا في إصرارهم وتفثهم إلى أن أشعلوا النار فابتدأ اللهيب يتصاعد إلى عنان السماء، وقبل أن تصل ألسنة النيران إلى توران شاه ألقى بنفسه في النيل فرمت جموع كثيرة بنفسها وراءه وسدد الباقون على الشاطئ سهامهم نحوه وهو يعدو سباحة في الماء.
بدأ يغالب الأمواج وبدأ الناس يقتربون منه وينالون جسمه بأطراف سيوفهم وهو يناديهم بقوله: «دعوني أخرج من مصر، إنني لم أظلمكم إلى هذا الحد فتعذبوني على هذا الوجه.» فلم يسمع له قول لأن حب الانتقام كان قد استولى على النفوس، وكانت جموع كثيرة تطارده في النيل مدفوعة بهذا العامل حتى وصلوا إليه فقتلوه شر قتلة، فمات الملك المعظم توران شاه، الحلقة الأخيرة في سلسلة الأيوبيين، على هذا الوجه الغريب الذي أثار دهشة المؤرخين؛ محروقا مقتولا مغروقا مذموما من الناس مبغوضا من الرعية بعد أن حكم سبعين يوما.
استأنف الأمير حسام الدين مفاوضات الصلح مع الصليبيين عقب هذه الحادثة وأمضى عقد الصلح، وكان الصليبيون إذ ذاك في حالة سيئة؛ فجيوشهم مشتتة، ودمياط التي تحصنوا بها محاصرة، ونال الطاعون منهم فكان يفتك بجنودهم يوما بعد يوم يسوقهم إلى الخراب والدمار، فقبلوا الصلح وكانت شروطه في مصلحة المسلمين؛ إذ كانت تحتم على أهل الصليب بأن يدفعوا غرامة حربية قدرها أربعمائة ألف دينار.
وفي اليوم الثالث من شهر صفر عام 648 هجرية ترك ملك فرنسا ذلك الذي ساق مسلمي الأندلس كالأغنام، دار القاضي فخر الدين حيث كان سجينا وترك جنوده ثغر دمياط يسحبون أذيال الفشل والعار مبتعدين بسفنهم وفلول كتائبهم عن مصر على أمل العودة لتخليص بيت المقدس ووفاء النذر. أما الأمير حسام فقد أسرع مع جنوده وأمرائه إلى القاهرة، فاستقبلتهم البلاد بمظاهر الفرح والسرور؛ إذ اشتد حماس الشعب على أثر انعقاد الصلح وانكسار الصليبيين، فدخل عاصمة البلاد دخول القائد الظافر وتوجه من وقته إلى قصر النيل، وهناك أقاموا شجرة الدر بإجماع الآراء أميرة لهم تحت عنوان «الملكة عصمة الدين»، فتقلدت الحكم بحفلة زاهرة، كانت حدا فاصلا بين خاتمة الأيوبيين وبداية حكم المماليك.
الفصل الخامس
مثل الناس في هذا العالم الفاني مثل الضيوف في الفنادق الفخمة، أولئك الذين يتركون آثارهم في سجلاتها إبقاء للذكر، بفقرة جميلة، أو عبارة لطيفة، أو بذكر الاسم على حدة غفلا عن زخارف اللفظ أو تنميقات المعنى، كذلك الناس في دنياهم الفانية كل منهم يترك أثرا يتناسب مع كفاءته وما له من ميزة وقدرة تخليدا لذكرى الأوقات والأزمان التي يعيشها، وما هذا الأثر سوى حياته، فإما أن يدل على عيش هنيء مرفه وإما أن يعبر عن سلسلة من الحوادث المؤثرة، وإما أن يحدثنا عن عصر حافل بجليل الأعمال، وإذا وصل الأثر إلى مثل هذا الحد من الكمال، كان جديرا بعناية الخلف، يستظهرون منه دروس العظة والاعتبار.
ليس في مقدور كل حي أن يصل إلى درجة الكمال في الحياة؛ إذ العيش بهدوء وسكون بلا ضجيج ولا ضوضاء ميسور لكل فرد، فالمرء يستطيع أن يقضي أيام حياته على طراز واحد من الراحة والسكون.
أما العمل على إبقاء أثر ما فيتطلب جهدا وكفاءة، والخروج عن دائرة المألوف جرأة لا يقوم بها سوى الجسور.
الشرق محافظ، متمسك بأهداب القديم، وله عادات وتقاليد محبوبة، ولكنه مفرط في محبتها إلى حد إنزالها منزلة العقائد والمذاهب، فالنساء لا يتربعن على منصات الحكم في بلاد المشرق، ولا يوثق بهن إلى حد تسليم أزمة الإدارة لأيديهن، فلا تكون المرأة سوى كمية مهملة لا يعتد برأيها ولا يقام لها وزن، وقل من يعرف شيئا عن حالتها الروحية، فليس لها اليوم منزلة اجتماعية؛ ولذلك لا يكاد يوجد إنسان يسأل عن منزلتها ويتعرف أحوالها وشئونها في الأزمنة القديمة، لقد امتزجنا نحن الشرقيات امتزاجا قليلا بالمدنية الأوروبية فتمشينا في تيارها ونسينا شخصيتنا حتى صار مثلنا مثل تارك الصلاة المقيم بين جامعين،
1
علينا أن نغترف من مناهل المدنية الغربية ولكنه لا يليق بنا نحن المسلمات أن نضحي في سبيل هذا الواجب جميع الشرق وعاداته الجميلة وتقاليده الحسنة.
لنضع نصب أعيننا نحن الشرقيات ترك السفاسف، ولتفهم الواحدة منا أنها ليست لعبة أو زينة، إننا نعيش في زمن لا يتسع لأمثال هذه الصغائر، علينا أن نتفهم حياة السلف ونعمل على تخليد صحائف أعمالنا، ولتشعر الواحدة منا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، الفرد جزء من الإنسانية ومجموع الخلق هي الإنسانية، وما نحن الشرقيات سوى قطعة منها.
أين شخصيتنا؟ لنسع في إظهارها، وكفى ما نالنا من الأذى وما أصابنا من الضرر بسبب جهلنا؟ كيف يسوغ للهلال والنجمة أن يغمرهما الظلام وتحجب الغيوم ضوءهما من النفوذ إلينا، إن أمة لها مثل هذا الزمن كان يجب أن تكون في مقدمة الأمم نورا وعرفانا.
إذا رغبنا في الحياة، إذا شئنا ألا يمحى اسمنا من صحيفة الوجود، فليس أمامنا سوى طريق السعي والعمل بنظرية تنازع البقاء بما فينا من جهد وحسن نية إلى أن نتمكن من إزالة ما علق بأذهان الأوروبيين ضدنا من الأوهام والنوايا السيئة، لو استطعنا أن نصل إلى الدرجة التي كانت عليه نساء الشرق قديما لوقفنا قليلا في سبيل تدهورنا في هوة التدني، لم تكن شجرة الدر شخصية كاملة، ولكنها استطاعت أن تظهر على مسرح الحكم والسياسة في زمن عصيب وكونت لها قصة تشتاق الآذان لسماعها، وهذا ما حدا بي إلى تصوير قصتها وشئون حياتها للقراء. •••
عندما وقع اختيار حسام الدين ورجاله عليها لتكون ملكة مصر وأميرة البلاد كانت تقطن في سراي المنيل على شاطئ النيل وفي أجمل موقع من مواقع مصر، وكانت إذ ذاك وسيمة الوجه، جذابة الملامح، يقرب عمرها من الأربعين، ذات دراية وحنكة في شئون الحكم والإدارة اشتهرت بهما منذ أيام زوجها الملك الصالح.
افتتنت بالملك وتعشقت أبهة الحكم فبنت صرح مجدها وشهرتها بيدها، ولكنا لا ننسى بجانب ذلك حبها الخير وإيثارها رفاهة الشعب وبحبوحته على كل أمر وشأن؛ فأنقصت الضرائب وغمرت المماليك بالهدايا وأغدقت عليهم المراتب والمناعم؛ إذ كان أقصى أمل لها أن تفوز بحمد الناس ومحبتهم لها.
يدلنا على حسن ذوقها ما كان في قصرها من حسن الترتيب وظرف التأنيث؛ ففي القاعات والحجرات توقد شموع العنبر المحمولة على أواني الفضة والذهب على الطراز العباسي، وتقع العين في أرجاء القصر على نفائس الأقمشة الحريرية المطرزة بالديباج الأصفر والأبيض وأواني الفضة وصحون الذهب وجامات البلور والأقداح المزينة حافتها بسطور اللؤلؤ وخطوط الأحجار الكريمة؛ إذ كان لها ولع بأدوات الطعام، وغرام في اقتناء نفيس الثياب، ورغبة حارة في مظاهر الأبهة والدبدبة.
2
ما كادت تستلم زمام الحكم حتى تركت قصرها البديع وما فيه من نفائس وزخارف وانتقلت إلى القلعة المشهورة التي بناها صلاح الدين الأيوبي واتخذتها مقرا لحكمها، ففي هذه النقطة العالية المتوجة لرأس المقطم والمشرفة على جميع القاهرة كان يقيم من سبقها من الحكام، فسارت هي الأخرى سيرهم؛ لأن قصر المنيل لم يكن منيعا حصينا إلى حد مقاومة الهجمات وصد تيار الفتن والمشاغبات، أما أسوار القلعة فمتينة رصينة تقوم بالغرض وتفي بمثل هذه الحاجة. •••
بدأت شجرة الدر تجمع وزراءها في غرفة من غرف القلعة وتحضر هي مجلسهم من وراء ستار رقيق ثم عينت أحدهم، وهو عز الدين بن أيبك، أتابكا أي في رتبة تماثل رتبة رئيس الوزارة في أيامنا هذه.
كان عز الدين قائدا محنكا جريء القلب ذكي الفؤاد، مشهورا بعلمه وفضله ودرايته، عرف كيف يستولي على قلوب الخلق وينال ثقتهم كما بدأ يفوز بالتفات الملكة وحسن تقديرها لكفاءته يوما بعد يوم.
لم تكتف شجرة الدر بأن يقرأ اسمها في خطب الجمعة، بل ضربت نقودا باسمها نقشت على وجه منها:
بسم الله الرحمن الرحيم.
وعلى الوجه الآخر:
المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة منصور خليل الخليفة أمير المؤمنين.
3
كان دورها زاهيا زاهرا، وصار الناس يتفاءلون خيرا بقدومها، وبدأ الفقراء يتنعمون بمبراتها وحسناتها؛ إذ كانت ملكة عاقلة لبيبة على دراية تامة بأصول المسائل وفروعها، ولقد أحدثت في الإسلام بدعة حسنة لم تزل في مصر إلى يومنا هذا، هي بدعة المحمل الشريف؛ ففي عهدها سافر أول محمل في الإسلام من مصر إلى الحرمين الشريفين، إنها ابتدعت أمرا حسنا فلها ثواب تلك البدعة إلى يوم القيامة، من أحدث بدعة حسنة فله ثوابها وثواب من عمل بها ومن أحدث بدعة سيئة فعليه وزر من عمل بها إلى يوم الدين.
كانت شجرة الدر رغم مظاهر حياتها الخصوصية، امرأة مسلمة ذات ميزة خاصة في حياتها العمومية، كانت على علم تام بنفسية الشعب ولم تكن حكومتها استبدادية؛ لا تشرع في عمل من الأعمال حتى تعقد مجلس المشاورة، ولا تصدر قراراتها إلا بعد الرجوع إلى رأي وزرائها ومستشاريها، وإذا حدثتها نفسها بأمر تريد إبلاغه إلى الناس مباشرة أرسلت في طلب وزيرها ابن أيبك، وبعد المباحثة والمناقشة معه تأمر بإصدار أوامرها الملكية.
فكان الأتابك لا يقصر في كل سبيل يؤدي إلى مرضاة الملكة.
وبينما كان حكم شجرة الدر آخذا في طريق الشهرة بما كان يلاقيه من إقبال الشعب ورضائه التام، بدأت عصابة من الناس تدس الدسائس وتنصب شباك الأحاييل حول عرشها رغبة في إسقاطها، لحمة هذه العصابة أتباع توران شاه ممن فروا إلى الشام وسداها الخليفة الزمني المستعصم بالله ونفر من أشياعه ومريديه.
قامت الفتن على ساق وقدم، وبدأ العصاة ينفخون في أبواق النفاق بما يرمي إلى الشقاق بدعوى أنه لا يجوز شرعا لامرأة أن تتولى شئون المسلمين، مع أن شجرة الدر لم تأت أمرا يغضب عامة الإسلام، سواء أكان في مصر أو في سوريا فضلا عن إجلالها واحترامها لمقام الخليفة المستعصم بالله.
تفاقم الخطب واشتد الصخب، وقامت بغداد تهدد مصر، فكانت الرسائل والأوامر تترى بطلب خلع شجرة الدر وإقامة أمير من الرجال ومخابرة الخليفة لتعيين أمير عادل إذا تعذر عليهم وجود رجل من بين المصريين يصلح لهذا الأمر، وكانت الرسائل موجهة إلى المماليك ومصوغة في قالب اللوم والتعنيف ومعززة بالأحاديث والأسانيد المنذرة بخراب الأمة التي تتولى النساء شئونها وتتصدر مجالس الحكم فيها، وما كادت تروج هذه الدعوة وتتناقلها الألسن في المجالس والمحافل حتى بدأ المماليك يفكرون في وجه الصواب، كانوا يرون أن حكومة شجرة الدر لا تخالف الشرع في شيء؛ إذ كانت مؤسسة على دعائم الشورى، فكانت لا تبرم أمرا دون أخذ رأي الوزراء ووجوه البلاد فضلا عن مهارتها في إدارة دفة الأحكام، تلك المهارة التي تجلت في شكل رائع ملموس لا يدع مجالا لقول قائل، ولكن ما العمل؟ وكيف يمكن التوفيق بين وجهتي النظر في مصر والشام في وقت عصيب يهددهم فيه خطر الصليبيين؟
بينما كان المماليك يفكرون في هذا الأمر ويقلبون الرأي على وجوهه ليتبينوا من خلاله وجه الصواب، وإذا بأتباع «توران شاه» يحثون أهل الشام على التخلص من حكم مصر بدعوى أنها ذات حكومة غير شرعية، فقاموا بدعوة أمير حلب «الملك الناصر يوسف الأيوبي» وبايعوه أميرا على الديار الشامية، ثم قاموا على أشياع شجرة الدر واستأصلوا شأفتهم فتم لهم ما أرادوا وفصلوا تلك القطعة الكبيرة عن الحكومة المركزية في مصر.
على أصحاب الغايات النبيلة والمقاصد الشريفة بذل النفس والنفيس في السبل المؤدية إلى تحقيق الغرض، ولكن الذين نادوا بسقوط شجرة الدر لم يعملوا بهذا الدستور، إنهم آثروا تضحية حكومة عظيمة في سبيل أغراضهم الشخصية، كانت هذه الفئة الهادمة العاملة لمصالحها الشخصية تعمل على تعكير المياه كلما قاربت حد الصفو، رغم مهاجمات الصليبيين وما يهدد البلاد الإسلامية من المصائب والأخطار، فأدركت شجرة الدر بفطنتها وحسن درايتها حقيقة الحال فعقدت مجلسا من أركان الدولة واستشارتهم في الأمر وطلبت منهم أن يبينوا لها الطريقة المؤدية إلى إرضاء السوريين والوسائل الموصلة إلى حسن التفاهم بين القطرين الشقيقين.
كان الموضوع عويصا يتطلب رأيا حسنا وتدبيرا محكما فلم تشأ أن تطلق العنان لمشاعرها بل طلبت من وزرائها المعونة والتعضيد بعد أن طرحت الأمر على بساط البحث بكل رزانة وثبات، أما المجلس فقد فحص الأمر بعناية واهتمام وأظهر لها وجوب الاهتمام بما يؤدي إلى راحة الشعب وسلامته مع بيان امتنانهم لها ولحكومتها، وقر رأيهم بالإجماع على أن تترك زمام الإدارة إلى عز الدين بن أيبك وأن يعقد له عليها عقب تنصيبه للحكم.
تم تنفيذ القرار وتعين عز الدين بن أيبك سلطانا على مصر، وأرسلوا إلى الخليفة يشعرونه بتبدل الحال.
لم يتغير الحال كما زعموا، بل كانت شجرة هي الحاكمة تنهى وتأمر من وراء الستار عقب زواجها بأمير البلاد.
تربعت شجرة الدر في قلب عز الدين كما تربعت في عرش مصر من قبل؛ فكان يخدمها خدمة العبد للسيد، ولا يتوانى لحظة واحدة عن سلوك السبل المؤدية إلى راحتها ومرضاتها، كان يرى خدمتها دينا في عنقه يحب أداؤه فصار نقابا لها تبصر وتعمل من ورائه وأداة لسرورها ونعيمها.
لم تصل شجرة الدر إلى هذه المنزلة اعتباطا، ولم يحلها عز الدين من نفسه ذلك الإحلال إسرافا؛ لقد كانت امرأة زاهية، زاهرة ذات جاذبية وذكاء وعلى علم ودراية، فليس من السهل على المحتكين بها المتصلين بشخصيتها التوقي من قيود تلك الجاذبية.
كان الملك الصالح يتلقى رغباتها كأمر يتحتم تنفيذه، ويرى فيها درة نفيسة في تاج حياته، أما عز الدين فكان مفتونا بها بحرارة الشباب مع أنها أسبق منه في راحل العمر.
كان الأتابك عز الدين، لبيبا، عاقلا، ذكي الفؤاد، فأحبه المماليك وجعلوا لا يخرجون عن رأيه ومشورته في كل أمر. •••
بعد تعيين عز الدين ملكا على مصر وتسميته «الملك المعز أيبك» فرح الناس بحكومته المشتركة بينه وبين زوجته شجرة الدر وتطلعوا إلى الراحة والسكون عقب تلك الانقلابات والتطورات، لكنهم لم يدركوا أمنيتهم؛ إذ تجددت الثورات في الشام مرة أخرى واتصل بالمصريين خبر قيام أحد أقرباء توران شاه مع نفر من أتباعه وأشياعه يعضدهم بعض المماليك ووجهتهم مصر، فاضطرب المصريون ووقع الخبر عليهم وقوع الصواعق.
لم يقبل السوريون بحكم المعز وهاجموا مصر متمردين ساخطين صاخبين، طالبين إقامة ملك من سلالة الأيوبيين، ولم تنقشع سحابة غضبهم وتهدأ ثورتهم إلا بعد أن أقاموا يوسف مظفر الدين أحد أبناء الملك مسعود، من الأقاليم الشرقية ملكا على مصر وحلب.
مصرنا هذه، مصرنا المسكينة، معرض الغرائب، تحت سماء تسامحها يأتلف الخصمان ويجتمع الضدان؛ ففي العام التاسع والأربعين بعد الستمائة من الهجرة، كان على عرش مصر حاكمان؛ أولهما: الملك المعز أيبك، وثانيهما: الملك مظفر الدين يوسف، تقرأ لهما الخطب وتضرب النقود باسميهما ويحكمان معا جنبا إلى جنب، غير أن شجرة الدر ما زالت وراء الستار وفي يدها زمام الحكم الحقيقي تصدر أوامرها بسكون وهدوء وهي في دائرتها الخاصة، فيهرع الحاكمان لتنفيذها والعمل بمشيئتها.
لم يكن الاثنان سوى لعبتين صغيرتين، أما الحاكم الحقيقي للبلاد فهي الملكة عصمة الدين التي تروح وتغدو بثيابها المزركشة في قاعات قصرها الفخم المحتجب وراء أسوار القلعة.
شعر أيبك باضمحلال سلطته فاشترى عددا كبيرا من المماليك، وعمل على اكتساب ثقتهم وتعضيد نفوذه أمام خصمه، وقد حدث ما كان يتوقعه فإن رجال مظفر الدين حاصروا القلعة ذات يوم يرومون خلع أيبك، ولكنه قاومهم مقاومة عنيفة، وبعد أن شتت شمل أكثرهم تمكن من قتل زعيمهم «آق طاي» قاتل توران شاه، ورمى برأسه من وراء أسوار القلعة، وما كاد المحاصرون يرون هذه الحال حتى أركنوا جميعا إلى الفرار وكانوا يبلغون سبعمائة فارس.
بعد هذه الحادثة قبض المعز على خصمه مظفر الدين وحبسه فخلا له الجو مرة أخرى.
الفصل السادس
العشق نبات لاهوتي، ينمو بطبيعته في كل زمان ومكان وفي كل بلد وإقليم، فلا الرياح ولا العواصف ولا الأمطار تعوق هذا النبات عن النمو والنضوج؛ لأنه ينشأ حيثما شاء وأينما أراد، ولهذا النبات المحبوب زهرة لطيفة جديرة بالنظر والاعتبار.
ولكن لشمس العشق أشعة نارية تعمل في هذه الزهرة ما لا تعمله الطبيعة، لقد تؤثر على لونها فتصيرها باهتة شاحبة بعد النضارة والزهاء، وللعين دموع تنزح بانهمالها وانسجامها ما لها من رائحة عبقة وأريج فياح، وللقلب ثورات وهبات تنتثر معها أوراقها الجميلة فتذروها الرياح، إنها لزهرة رقيقة قد تذبل عند أقل إهمال، فهي تنبت في الأرض الغامرة والتربة الخصبة ويتناسب عمرها طولا وقصرا بقدر خصوبة التربة والمنبت، فمن استطاع سبيلا إلى تربية هذه الزهرة، زهرة الطبيعة زنبقة النور، عرف كنه الحياة، فإذا علمنا أن الملمين بفن تربيته قليلون أدركنا كيف أن الكثيرين تذبل زهراتهم في مدد قصيرة.
هكذا الحال مع شجرة الدر والمعز، فإن زهرة حبهما وإخلاصهما أصابتها يد البلى بعد عواصف نفسية دامت أربعة أعوام.
بدأت عوامل الحياة والنمو تتقلص في زهرة الحب النامية في قلب المعز حتى ذبلت، أجل، لقد ذبلت تلك الزهرة الناضرة بغرور شجرة الدر، ذلك الغرور الذي أطفأ النيران المتأججة في صدر حبيبها المعز.
كانت الملكة عصمة الدين أميرة تليق بسياسة الشعب وإدارة الأحكام، أما في منزلها، في مملكتها الصغيرة، فقد كانت مستبدة توقع الرهبة في قلوب حاشيتها وتبعث السآمة والملل في نفس زوجها.
كان المعز مفتونا بشجرة الدر، منذ زواجه بها عام ستمائة وثمانية وأربعين هجرية، كان يجلها ويحترمها من أعماق النفس وصميم القلب لذكائها وجمالها ومركزها وماضيها المجيد، وكانت هي تعلم منه ذلك وتعتقد بدوام هذه المحبة فيرتاح نفسها وتفتخر بحالها، لم يخطر ببالها أنه سيأتي على المعز يوم يتزوج فيه امرأة غيرها، لو فعل ذلك لما غفرت له مثل هذا الذنب؛ إذ ترى أن المعز إنما صار سلطانا على مصر بسعيها وفضلها، فكانت تجاهر بهذا الرأي وتجابهه به ولا تجد لوما في أن تقول له: «ما وصلت إليه من عز وجاه، إنما وصلته من طريقي.» فكان يخجل من ذلك ويشعر باضطراب داخلي.
لم يأبه كثيرا لهذه الأقوال في مبدأ الأمر، ولكنه بدأ يشعر بوقعها الأليم على مر الأيام، إنه لا ينكر فضلها وعظيم أياديها عليه، ولكنه لم ينشأ صعلوكا حقيرا؛ قد كان ضابطا عالما عاملا ثم أميرا ذكي الفؤاد ذا شخصية ومكانة. •••
جمعت الملكة عصمة الدين إلى حسن الوجه جمال النفس؛ فهي لذلك امرأة جديرة بالحب ولكنها أكبر من أيبك سنا، وبدأت عوامل الانهماك في المشاغل الدنيوية تظهر أثرها على أديم ذلك الوجه الناصع وأخذ نور بهجتها في الأفول، وكلما ازدادت خطوة في طريق العمر، زاد طيشها واشتد نزقها إلى أن صيرها الكبر ذات طبع ناري ومزاج عصبي، تستبد مع من حولها، تشاكس زوجها وتنغص عليه عيشه وتضيق دونه المذاهب والمسالك صباح مساء.
أما هو فكان يغضب لهذا المجادلات اليومية، فيزداد نفوره منها حتى أصبح يتغيب كثيرا عن القلعة، وكان هذا التباعد يزيدها غيظا؛ لأنها بدأت تشعر بزوال محبته لها، فاشتد تعلقها به وازداد هيامها وصارت ترى في كل حركة من حركاته وكل طور من أطواره حالا يستوجب الغيرة.
كان لزوجها امرأة أخرى هي أم ولده الوحيد، عقد عليها قبل زواجه بشجرة الدر، فعلمت بهذا الأمر وحكمت عليه أن يبتعد عنها بتاتا، ثم خشيت ألا ينفذ أمرها فأمرته بإحضارها وتطليقها منه في الحال، تم لها ما أرادت ووصلت إلى بغيتها، ولكن ظلت نيران الغيرة تتأجج في ذلك الصدر المتقد، وعاد زوجها إلى الابتعاد عن القلعة والنفور من دائرة الحريم واتسعت شقة الخلاف بينهما حتى انقلبت على مر الأيام إلى خصومة متينة انتهت بمأساة دموية فجيعة. •••
مهما ارتقى الإنسان وعلت شخصيته فهو بشر لا يسلم من عوارض النقص.
شجرة الدر امرأة ذات شخصية بارزة قل أن يوجد لها نظير، شقيت بغرورها، ووصمت سلسلة حياتها بفعلة شنيعة من جراء هذا الخلق الفاسد.
لقد تطرفت مع زوجها في سوء الخلق إلى حد الملل وإلى حد أن استفزت فيه روح الأنانية فطلب يد لؤلؤة بنت بدر الدين أمير الموصل وعرض أمنيته هذه على المماليك فعارضه المخلصون منهم لشجرة الدر ولم يوافقوه على ما يريد، بل جاهروا بأنه لا يليق بأمير نبيل مثل المعز أن يرتكب مثل هذه الهفوة، فغضب لذلك وأدى به الحنق إلى القبض عليهم وإلقائهم في غيابات السجون.
ولما كانوا في طريقهم إلى السجن مر بهم الحراس من تحت الشرفة التي تجلس عليها الملكة فتأخر زعيمهم «سبكتكين» قليلا ونادى بالتركية يقول: «نناشدك الله أيتها الأميرة أن تخبرينا عن سبب القبض علينا، إننا رجالك المخلصون، يريد الأمير أن يعقد على لؤلؤة بنت أمير الموصل فعصيناه؛ لأننا نرى في ذلك إهانة لأميرتنا.» وكانت الأميرة إذ ذاك في الشرفة فرفعت منديلها تشير إليهم أنها فهمت قولهم ثم سيقوا إلى السجن وقلوبهم تتأجج بنيران الانتقام التي لا يستطيع المعز إطفاء لهيبها.
لم يكن المعز في قصر القلعة كعادته، بل كان مقيما في قصره «مناظر اللوق» المشرف على النيل بجوار الأزبكية، كان نافرا من شجرة الدر يجتنب حرمه، عملا بإرشاد منجمه الذي أخطره بأنه يموت مقتولا من يد امرأة، أما امرأته فكانت تريد الاستفادة من هذا الظرف فرسمت خطة باهرة للتنكيل بالمعز وأرسلت تدعوه إلى القلعة مرارا بعد أن أعدت معداتها لهذا الغرض.
لم تكن شجرة الدر، تلك المرأة الحاكمة القديرة وإنما الغيرة والحدة والحنق كل هذه العوامل كانت قد أتلفت جهازها العصبي وصيرتها شيطانا يتحكم فيه الجنون والهوس، قد انقلبت فيها خصال الرزانة وعلو الطبع وقوة الإرادة إلى صفات الغيرة والحرص والانتقام. •••
لم يشأ المعز أن يجيب دعوات امرأته في بادئ الأمر؛ لأن إخطار المنجم ما زال عالقا في ذهنه، ترتعد فرائصه كلما خطر بباله إلا أن تكرر الدعوات أثر في نفسه وتوهم من خلالها الصدق والإخلاص فأجابها إلى ما أرادت وزار زوجته في قصر القلعة، حيث قابلته بالتجلة والاحترام مظهرة له كل عطف وحب، بل تمادت في التملق والرياء إلى حد تقبيل أياديه ومحو كل ظن سيئ من نفسه، فركن إليها المعز كل الركون وقضى معها يومه وطلب في مسائه أن يدخل الحمام، ولكنه ما كاد يلج باب الحمام حتى فاجأه بضعة رجال تلمع السيوف المصلتة في أيديهم ففهم قصدهم وأدرك أن ذلك من تدبير شجرة الدر، فناداها باسمها وتوسل إليها بكل ما فيه من جهد وقوة، ويظهر أنها كانت على كثب من المكمن؛ لأنها لم تستطع ثباتا أمام توسلاته، فأظهرت نفسها وطلبت من رجالها أن يحقنوا دماءه، إلا أن الرجال لم يصغوا لقولها، خشية غضبه وانتقامه إن هم نزلوا عند رأيها وأخلوا سبيله، ثم هجموا عليه وكتموا أنفاسه في ذلك المكان، وبعد أن نفضوا أيديهم من فعلتهم الشنعاء أخفوا جثة الأمير في ردهة خارجية وانبثوا في أرجاء القصر يشيعون أنه أغمي على أميرهم وهو في الحمام.
1
وقعت هذه الحادثة يوم الأربعاء في الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول عام 655 هجرية، وانتشر في اليوم التالي خبر موت المعز وارتقى أريكة العرش ابنه نور الدين، وعندما استلم نور الدين زمام الحكم وتربع في دست الإمارة بقصر القلعة أرسل بطلب أمه التعسة وبطلب شجرة الدر قاتلة أبيه وسبب شقاء أمه.
وفي كتب التاريخ أن أم نور الدين أمرت جواريها فانهلن بالقباقيب على شجرة الدر، على ذلك الرأس الجميل المملوء بالغرور، إلى أن ماتت شر موت، فألقيت عارية الجسم لا يسترها سوى سراويل رقيقة من برج القلعة إلى خندق مجاور لأسوارها، وقد سرق بعض اللصوص تكة لباسها المطرزة باللآلئ ولم يعرفها أتباعها إلا بسروالها الفاخر فدفنوها في المقصورة الخاصة بها داخل المسجد المعروف باسمها بجوار السيدة نفيسة بالقاهرة، ولقد فر بعض الأغوات الذين اشتركوا في مقتل المعز وألقي القبض على البعض الآخر وصلبوا داخل القلعة.
وبعد هذه الحوادث المتتابعة بدأت حكومة الملك نور الدين بن أيبك. •••
حكمت شجرة الدر ثلاثة أشهر بمفردها وعشرين عاما مع زوجها الصالح والمعز، وأصابت عزا وجاها لم تصبهما امرأة أخرى في العالم الإسلامي.
يعدها المؤرخون خارقة من خوارق الدهاء ولا يذكرونها إلا بالثناء ويعرفونها للقراء بأنها عاقلة، قارئة، كاتبة، ذات دراية وفطنة، ومما يؤسف له أن المرأة الكبيرة صاحبة الخيرات العديدة والحسنات الجمة، تلك التي ابتدعت لنا حسنة المحمل، تموت ميتة شنعاء وتلقى في الخنادق كأصحاب الجرائم العادية، «وعلى الباغي تدور الدوائر.»
إن الملكة عصمة الدين ماتت على يد المرأة التي كانت سببا في تطليقها، لقد طردت أم نور الدين من قصر القلعة فدارت عليها الدوائر حتى ألقتها المطرودة من برج القلعة، لقد حرضت على قتل الوالد فقتلها الولد.
العصمة لله والكمال له وحده، والمرء عاجز مهما ارتقى ومهما علت شخصيته.
لم تكن شجرة الدر مثال الكمال من كل الوجوه، وإنما كانت حاكمة مدبرة، ذات قريحة وقادة وهي تحكم هواها وتتغلب على شهوة النفس فيها، ولكنها ما لبثت أن هوت إلى المستوى العادي فأصبحت امرأة لا أكثر ولا أقل منذ ركبت هواها وسارت مع تيار قلبها، هذه الشخصية الغريبة التي قدمتها إلى قرائي من بين نماذج المخدرات الإسلامية جديرة بالتقدير والإجلال من ناحية الخدمات الجليلة التي بذلتها في أوائل أيامها، وبما كان لها من صدق الطوية في ذلك العهد، والأمر الجدير بالاعتبار والتقدير هو الصالح العام، أما الحياة الخاصة فلا دخل لها في هذا الشعور، ومن أجل ذلك نعدها من آلهات السياسة التي لم يسبق لها نظير.
لقد مضى على موتها شهور وأعوام وأصاب الشرق تقلبات كثيرة وتطورات عديدة وانقرضت أمم ونشأت على أنقاضها أمم، ولكن لم تسطع بعد شرارة واحدة مثل تلك الشرارة التي سطعت من أنقاض الأيوبيين.
شجرة الدر الأيوبية جوهر نادر نفيس، ومن أغرب لآلي الشرق، كان دورها عجيبا وأيامها سلسلة من الحوادث ذات شئون وشجون.
عملت ما في وسعها لتقف حائلا دون التفرقة بين المسلمين في وقت عصيب، فأدركت بغيتها بمهارة نسجلها هنا بفخار، ولا نتمالك من الدهشة تستولي أنفسنا للاضطراب الذي تخلل سلسلة أيام هذه المرأة الجميلة التي ختمت حياتها بتلك المأساة.
حياة كل شخص زمان قائم بنفسه، ونهايته بداية زمان آخر. «المعمورة»، يوم الخميس، 19 رمضان المبارك سنة 1331
الجزء الثاني
كلمة
نشرت قبل يومي هذا، بعام ونصف، الجزء الأول من «مخدرات الإسلام»، فلاقى إقبالا واحتراما بين أصحاب العلم والعرفان من أهل لساني المنتشرين في الممالك والبلدان الآهلة بالإسلام.
وردت إلي كتبهم ورسائلهم، تطفح بمعاني التزكية وعبارات التشجيع، فاغتبطت لذلك؛ إذ كنت أرى بنفسي ثمار البذور القليلة التي غرستها بيدي في حدائق المنفعة العامة، فشكرا للمولى سبحانه وتعالى وحمدا له على نعمائه، وأبدأ اليوم بالجزء الثاني من ربات الخدور، لأضم خمس بطلات شهيرات على الأربعة السالفات، وزيادة الأعضاء في محفل ربات الخدور، معناه زيادة التدليل والبرهان، وفي ذلك تقوية القناعة في الوجدان، فمعرفة بطلات الماضي أساس لرقي نساء الحاضر، والبناء المؤسس على قواعد ثابته رصينة يبشر بالدوام والخلود.
أولى البطلات في هذا الجزء: هي السيدة فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - كريمة فخر الأنبياء، نتوج بذكرها الجزء الثاني؛ لأنها فخر النساء.
البطلة الثانية: هي رابعة العدوية، مثل الزهد والتصوف.
الثالثة: هي الشاعرة الشهيرة الخنساء، تلك العبقرية الخالدة، تلك التي فاقت شعراء الخلف بمراثيها.
أما الرابعة: فأميرة المؤمنين زبيدة، والخامسة: الأميرة صبيحة ملكة قرطبة، وهاتان بطلتان حكمتا ردحا من الزمن، وسخرتا بلادا لإرادتيهما وصيرتا الشعب المحكوم منها كالشمعة تفرغانه من قالب لقالب وفق هواهما، فهما لذلك مثالان للعظة ننسخ منهما دروس الاعتبار.
من قرأ ربات الخدور عرف تاريخ أيامهن وعاصرهن ونفذ إلى مجالسهن الروحية، فها أنا ذا أقدم هذا الجزء إلى قارئاتي الراغبات في القدوة بسالفات العصر الإسلامي، إلى قارئاتي المتشوقات إلى توسيع المدارك وشحذ القرائح؛ لأكون واسطة الاتصال بينهن وبين محفل المخدرات.
سترى القارئة الكريمة، في هذا المحفل المتضوع بعبير الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، أشباحا روحانية، تتباين في أشكالها وطراز لباسها عن المألوف في محافل هذا العصر، وستسمع القارئة العزيزة في هذا المحفل دروسا تفيض بالحكمة وعظات بالغات، أما أجري وثوابي فمحسوب بلا ريب في خزائن المولى الكريم عز وجل.
يجدر بي قبل اختتام كلمتي التنويه بذكر رسالة وردت إلي من بين الرسائل العديدة الدالة على تقدير أبناء لساني لهذا العمل، وهذه رسالة وصلتني من أمير البيان المرحوم «رجائي زاده أكرم بك»، وقد أردت اليوم نشرها لإذاعة ذكره وإعلاء روحه الطاهرة.
كان للمرحوم قلبا كبيرا، ومن الإنصاف أن يلهج الإنسان بذكر أصحاب القلوب، أطلب التوفيق من المولى للجميع. آمين.
إلى صاحبة العصمة والكمال الأميرة قدرية حسين هانم أفندي
تعلمين، سيدتي، أن الحقيقة الاجتماعية: «خير الناس من ينفع الناس» لا تفرق بين الرجال والنساء، ولسموك من دلائل الفضل وأمارات العرفان، بما تنشرينه بيننا من آثار قريحتك الوقادة منذ الصغر، ما يجعلني أن أرى لك عنوان «خير النساء» دون ما تستحقين.
تناولت بيد الفخار كتاب «مخدرات الإسلام» مع تلك الجملة التلطيفية في حق هذا العاجز، وبدأت مطالعته في الحال، فأتممت قراءته في مدة وجيزة، وما كدت أنتهي من تلاوته وتصفح مزاياه، حتى تكونت في ذهني عقيدة تقول: مثل هذا الكتاب الكامل، الحاوي لمثل هذه الآراء الناضجة، لا تستطيع الإتيان بمثله من بين شهيرات العصر سوى الأميرة، أيدها الله.
كنت قرأت شيئا عن أمهات المؤمنين وسيرتهن العبقة، سواء أكان في «قصص الأنبياء» أم في «روضة الأحباب»، ولكن ما قرأته لم يكن منسقا منظما، وفضلا عن ذلك فإن أسلوب «روضة الأحباب» لا يتمشى مع روح العصر، و«قصص الأنبياء» كتاب قيم جليل، قليل أمثاله، ولكن العين تقع على السجع والتكلف في مواقع كثيرة منه فيضيع بهاؤه ورواؤه من نفس القارئ، أما «مخدرات الإسلام» فيفوقهما ترتيبا ويفضلهما أسلوبا.
مولاتي الأميرة!
ثقي تماما أن مواهب العرفان والفضيلة التي تتحلين بها تجعلك في أعلى المراتب التي ترنو إليها أنظار أفاضل الرجال والنساء، ففي قريحتك الوقادة، تلك القريحة التي لا تفتأ تعمل على توسيع دائرة معلوماتها الفنية وتحقيقاتها العلمية، وفي بيانك العذب، ذلك البيان السلس الساحر، ما يدهش الألباب ويحير العقول.
قرأت كلمتك الأولى التي صدرت بها الكتاب بلذة ساحرة دفعتني إلى إدماج نفسي في طيات الكتاب، أقرؤه متهالكا متشوقا حتى النهاية.
ما أعذبه بيانا وأسلسه أسلوبا وأملحه شرحا! أكاد لا أتخطر كتابا جمع مثل هذه المحسنات البديعية، فمثل هذا الأسلوب لهو السهل الممتنع.
يا صاحبة العصمة!
إذا كان كتابك يترك في نفسي مثل هذا الأثر وأنا من صنف الرجال، فما بال ربات الخدور اللواتي يسعدهن الحظ بتلاوته، كلما فكرت في ذلك وفي الفوائد الجليلة التي تجنيها السيدات المصونات من قراءته، وفي خطره الكبير من الوجهة الأخلاقية والاجتماعية، لا يسعني إلا الركوع خاشعا، حاسر الرأس، أمام ذلكم القلب الطاهر النابض في سبيل الغيرة القومية، الفائض الجائش في سبيل العلم والأخلاق، فأتمنى لك في خضوعي وتقديسي عيشا هنيئا مرفها، وتوفيقا من المولى إلى طبع ونشر الأجزاء التالية من كتابك اللطيف، وعونا منه - جل وعز - على إظهار مئات من مؤلفاتك النافعة الجليلة.
شعوري عن الكتاب وتقديراتي لمحتوياته لا تقف عند هذا الحد، فهي كثيرة إن اتسع المجال لسردها على الوجه الذي أرضاه، يعجز عن ذلك قلمي الذي أصابته الشيخوخة قبل صاحبه؛ فلذلك يا مولاتي أختم تصديعاتي بتقديم وافر الشكر والإعظام والتهنئة.
رجائي زاده أكرم
إستانبول، 19 تشرين أول سنة 1329
سيدة النساء
فاطمة الزهراء
الفصل الأول
لم تعمر السيدة فاطمة - رضي الله عنها - طويلا، بل كان عمرها قصيرا كحياة الزهور التي تزهر وتذبل في ربيع العمر، إلا أننا ما زلنا نرى حتى اليوم ثمار هذه الزهور النادرة، وما زال أريجها الفياح يعطر عصور الإسلام جيلا بعد جيل، فهي إذن دوحة نامية خالدة ذات غصون وفروع ما دام الملوان.
لسيدة النساء صفحة في التاريخ نزيهة نقية لا تقع العين منها على ضجيج الحوادث وجلبة الوقائع، ولكن في سلسلة أيامها النقية الصافية ما يجذبنا جذبا شديدا؛ لأن هذا الصفاء الدال على الشخصية العالية من الدواعي الكبيرة لجذب القلوب ولفت الأنظار.
أمنا السيدة فاطمة - رضي الله عنها - ناصية مشرقة من أطهر النواصي وأنقاها وألطفها وأشدها إحساسا في الإسلام، ولصفاء روحها الظاهر على وجهها المبارك الطاهر سميت بالزهراء، لا أدري كيف أجيل القلم في تسطير سيرتها العبقة دون التعرض لسيرة والدها الرسول فخر الكائنات، حياة كليهما متصلة ببعض اتصالا شديدا متماسكا، فإذا عبرت عن نفسية أحدهما لا أستطيع تجاوزا عن نفسية الآخر.
ومما يؤسف له أن مؤرخي الإسلام لم يتسع الوقت لأحدهم ليسردوا لنا سيرة كاملة لهذه الكريمة، أقول ذلك وقد شعرت أثناء كتابتي عنها حاجتي إلى الرجوع إلى ما يزيد عن عشرة كتب من أمهات التاريخ، وليتني استطعت أن أخرج من معلوماتي المقتطفة منها بما يروي الغليل، بل وقفت جهودي عند حد تكوين سيرة مختصرة فحسب، أحوال بطلاتنا وشهيراتنا محاطة على الدوام بالغموض والإبهام، فإن الأقدمين كانوا يعتبرون هذه من المسائل التي لا يجوز إذاعتها كما هو ظاهر من كتبهم، إننا لنعلم أسماء سيدات عديدات لهن ذكر عاطر وشهرة فائقة، فإذا حاولنا أن نحيط بأحوالهن إحاطة تامة وأن ندرك دقائق سيرهن إدراكا كاملا كلفنا أنفسنا ما لا نستطيع وحملناها مشقة كبيرة في هذا السبيل.
أقول مستسمحا سيدات اليوم: إنه كان لشهيرات الأمس عقلية رصينة وغاية ثابتة في الحياة، ومع ذلك فقد ظلت ألوان المساعي التي بذلتها مخفية وراء ستور الإهمال.
نحن - المسلمين - قصرنا سعينا للحال ندأب من أجله فحسب، أما الاقتداء بالسلف وأن نكون قدوة صالحة للخلف فهذا أمر لا يخطر على بالنا ولا نفكر في شأنه، وقد كان من أمر اهتمامنا بالحال أن وصلنا إلى ما نحن فيه من سوء المآل ... إننا لا نفكر في ماضينا ولا نعمل لمستقبلنا، فنحن كتلة بشرية يعوزها الرحمة والإرشاد.
أزيد هنا من قبيل الاستطراد أن لدينا من الآثار العتيقة الشيء الكثير، ولكنها صغيرة كانت أم كبيرة فهي مشتتة مبعثرة أيان كان موطنها، حتى إنه لا يوجد بين أيدينا دليل صادق يرشدنا إليها ويدلنا على مفاخر أجدادنا، وهكذا التاريخ الإسلامي بين دفتيه شخصيات عالية نفخر كثيرا بوجودها ولكننا لا نعرف سوى أسمائها، أما دقائق حياتها وتفاصيل شئونها فإنها مبهمة غامضة لا يمكن الوصول إليها حتى اليوم، فلو أننا عنينا بوضع تلك الشخصيات النادرة في معرض ذكريات الماضي لما أصبحنا غرباء عن عالمنا الإسلامي، ولما كان مثلنا مثل السائح الغريب المفتقر إلى من يرشده وهو في بلاده. •••
ولدت فاطمة الزهراء، ابنة الرسول
صلى الله عليه وسلم
من خديجة الكبرى - رضي الله عنها - وقريش تبني الكعبة بمكة المكرمة والنبي - صلوات الله عليه - ابن خمس وثلاثين ؛ أي قبل هجرته المباركة بسبعة عشر عاما وكانت أصغر بناته وأحبهن إليه.
1
كانت سيدة النساء فاطمة، مباركة ذات ملامح جذابة ولون أبيض وقلب مفعم بالإحساس، صبيحة الوجه ذكية القلب.
تتأثر القلوب البشرية الحساسة من مظاهر الصفاء والجفاء كثيرا ويكون نصيبها من لذائذ الحياة ومتاعبها أشد من سواها، وكريمة الرسول
صلى الله عليه وسلم
كانت من هذا الصنف من النساء؛ ولهذا السبب نرى للأكدار والمسرات أثرا عميقا في حياتها المشرقة القصيرة.
سيرة حياتها في التواريخ المعول عليها مقتضبة مختصرة، فليس فيها ما يشير إلى أفكارها الخاصة ولا يوجد فيها للأسف ما يشرح أيام حياتها قبل زواجها، وبأي شأن من شئون حياتها كانت تشغل فراغ حياتها، وإنني مع علمي مكانتها العالية من قلب رسولنا الهادي فلا أعلم شيئا كثيرا عن نشأتها وأيام حداثتها، وأي جو من الأجواء خلقته في منزل أبيها - صلوات الله عليه - قبل زواجها؟
الفصل الثاني
تم زواج السيدة فاطمة الزهراء من الإمام علي - كرم الله وجهه - في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة النبوية المباركة، ولقد كانت سيدة النساء إذ ذاك في أزهى أوقات الحياة، في الثامنة عشرة من عمرها، أما الإمام علي فقد كان يبلغ الحادية والعشرين، كلاهما شخصيتان يحيط بهما جلال الإيمان ونور الهدى، متكافئان متعادلان من كل الوجوه مناسب أحدهما للآخر كل المناسبة.
كلاهما عالي الفكر رقيق الحس حميد الخلق، صبيح الوجه، فكلاهما زوجان مفتونان بالمعالي، عاشقان مغرمان بالمحامد.
بدأت حياتهما المشتركة التي امتزجت فيها الفضيلة بالكمال والأصالة بالجمال على هذا الوجه من الصفاء والإخلاص.
حضر الإمام علي ذات يوم من أيام السنة الثانية للهجرة إلى الدار النبوية بنفسه، وبعد أن دخل الدار سلم على الرسول فخر الكائنات وسكت.
1
فسأله الرسول ما إذا كان يطلب شيئا، فرد عليه مجيبا بأنه حضر ليطلب كريمته السيدة فاطمة، فقال له الرسول: مرحبا أهلا، ولم يزد على ذلك بل ظل ساكتا بعدها؛ مما اضطر عليا إلى العودة محتارا مدهوشا.
لم يستطع أن يميز وجه الحقيقة من رد الرسول فسأل بعضا من الأنصار فبشروه وطيبوا خاطره وأفهموه بأن في هذا الرد ما يشعر بالقبول والإيجاب ففرح الإمام واغتبط بذلك.
ونرى الرسول - صلوات الله عليه - بعد قيام علي يطلب كريمته السيدة فاطمة ويخبرها بهذا الأمر ويسألها رأيها فلا تجيبه بل تطرق ساكتة، فيعد فخر الكائنات سكوتها علامة الإيجاب والرضا فيقرر إتمام عقد الزواج، ثم يرسل بطلب علي - كرم الله وجهه - ذلك ويسأله هل عنده من شيء، فيجيبه أنه لا يملك سوى فرسه ودرعه، فيأمره ببيع الدرع لتجهيز السيدة فاطمة بثمنها.
يهرع علي إلى السوق فيبيع الدرع إلى عثمان بن عفان بأربعمائة وسبعين درهما ويعود بالثمن معقودا في طرف ثوبه ويضعه أمام الرسول وهو يقول: «ها هو بدل الدرع يا رسول الله.» فيقبض الرسول بعض دراهم منها ويناولها بلالا ليشتري بعض الطيب والروائح ويسلم الباقي إلى أم سلمى لتشتري الجهاز، وإلى القارئ جملة ما بعثه الرسول مع ابنته سيدة النساء.
ثوبان من الصوف.
خميلة.
سواران من الفضة.
طاقية.
قدر.
رحى.
وعاءان صغيران للماء.
وعاء صغير للماء.
كوز.
حشيتان: إحداهما من ليف النخل والأخرى من قطع الجلد.
أربع وسادت: اثنتان منها محشوتان صوفا والأخريان ليفا.
ها هو جهاز سيدة النساء، كريمة فخر الأنبياء في السنة الثانية من الهجرة، فما أبلغه درسا في الاقتصاد للأمة الإسلامية! •••
وبعد أن أحضرت أم سلمى ذلك الجهاز، دعا الرسول
صلى الله عليه وسلم
جمعا غفيرا من الأنصار، ثم خطبهم خطبة بليغة أثنى فيها على الله ما هو أهله، وذكر فيها فوائد الزواج وختمها بقوله: قد زوجت فاطمة من علي بأمر الله، ثم دعا لهما عقب ذلك بحسن المعاشرة وبالذرية الصالحة، وعندما تم عقد النكاح على هذا الوجه البسيط أحضر الرسول للحاضرين من الأنصار وعاء فيه بعض التمر وقدمه إليهم بقوله: تخاطفوا.
هكذا تم زفاف سيدة النساء وابنة فخر الكائنات بلا ضجيج ولا ضوضاء، ولكنه بالسرور يملأ أرجاء القلوب، بالصفاء الذي يعدل الصفاء يشعر به المرء أيام الأعياد. ما السعادة؟ أليست صفاء القلوب، فإذا كان القلب مغموما كئيبا فما هي قيمة الحياة مهما ازينت وأنيرت وحف بها أسباب الأنس وألوان السرور؟
بعد أن تفرق المدعوون طلب الرسول
صلى الله عليه وسلم
أم سلمى وأمرها بأن تذهب بكريمته إلى دار علي، وبأن تخبرهما أنه آت إليهما عن قريب، فنفذت أمره وسارت بسيدة النساء إلى دار زوجها.
أما الرسول فقد صلى صلاة العشاء ويمم عقب الصلاة دار علي وفي يده قربة من الجلد تستعمل لسقى الماء، وعند وصوله دار صهره قرأ عليها سورة المعوذتين وبعضا من الأدعية وأمرهما بأن يشربا ويتوضآ من الإناء، ثم أخذ قليلا منه ونثره على رأسيهما وعندما أراد مفارقتهما وقد هم بالقيام كانت فاطمة - رضي الله عنها - تبكي فخاطبها بما معناه: «أي بنيتي، قد تركتك وديعة عند رجل إيمانه أقوى من إيمان أي إنسان آخر، وعلمه أكثر من علم الجميع، إنه من أفضل قومنا أخلاقا وأعلاهم نفسا.»
أهدى نفر من الأنصار الكرام سيدة النساء كبشا وبضع كيلات من الذرة بمناسبة هذا الزفاف، وكانت الدار النبوية قد أرسلت إليهما بعضا من التمر والزبيب، فأولما من هذه الأشياء وليمة حسنة.
على هذا الوجه تم عقد الشركة القلبية بين سيدة النساء فاطمة والإمام علي - كرم الله وجهه - فلا يمكن المزيد على هذا النوع من الصفاء والضرب من البساطة، لأن يحب الإنسان ويحب وليصير سعيدا ويسعد من حوله هذه أمور تتوقف على ما يؤسسه المرء من دعامات الحب فوق أسس الإخلاص ليعيش في مأوى محكم يقاوم عواصف الدهر وأزمات الزمان، وتزيده آلام النفس قوة، وتجعله مواسم العمر أزهى وأبهر مما كان.
بمثل هذه المتانة والرزانة أحب علي زوجته سيدة النساء، وببركة الدعاء النبوي كنت ترى إشراق الشمس وألوان السماء الصافية ونشوة الشباب وما إلى ذلك من المعنويات مجتمعة في دار علي تقطع مراحل العمر مع ذينك القلبين الطاهرين وتغمرهما بأنوارها الزاهية.
كل يوم من هذه الأيام السعيدة في سلسلة العمر البشري تلك التي تمر بين أنوار السرور وأضواء الابتسامات، ألا تكون كالجواهر النفيسة قيمة بمقدار ما يكون نصيبها من تأثر وانسياق ؟! فالأوقات المملوءة بالمحبة هي أوقات الياقوت، وأيام الأمل تشابه الزمرد، والأزمان التي تمضي بالصداقة تحاكي الفيروز، والأعمار التي تنقضي بالوئام والاتحاد تكون كاللآلئ، فهذه الأوقات النفيسة كم هي جديرة بالاهتمام والعناية! هذه النفائس بعد أن يمضي وقتها وبعد أن تتزين بها النحور يجب أن تصان في محافظ قيمة، يجب أن يعنى بشأنها؛ لئلا يصيبها أذى أو يعتورها فساد أو يلحقها غبار ينقص ويقلل من شأنها، فإذا ما انقضى ربيع الحياة ومضت أنوار العمر وذبلت أزهار السرور والبسمات فإن إخراج هذه النفائس من مكامنها للتملي بمشاهدتها وإعادة الذكريات الحلوة برؤياها وتجريد خواطر الصبا بواسطتها، سعادة يا لها من سعادة!
كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
قد أمر كريمته العزيزة بأن تقوم بما يخصها في هذه الحياة من شئونه وأعبائه أي كل ما يتعلق بإدارة المنزل من خبز وطبخ وكنس وتنظيف، كما كان علي يقوم بما يترتب على الرجل من وظائف الحياة خارج المنزل؛ إذ كان يرعى الإبل ويشتري لوازم بيته من السوق.
وهما في ذلك وإذا بعلي يقول لزوجته يوما: «لقد سنوت حتى اشتكيت صدري وقد جاء الله بسبي فاذهبي فاستخدمي.» فقالت: «وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي.»
2
فأتت النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: ما جاء بك أي بنية؟ فقالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فأتياه معا هي وزوجها، فذكر له علي حالهما، قال: لا والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تتلوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم ولكن أبيع وأنفق عليهم أثمانهم فرجعا، فأتاهما وقد دخلا على قطيفتهما إذا غطيا رءوسهما بدت أقدامهما وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رءوسهما فثارا فقال: مكانكما، ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى، فقال: كلمات علمنيهن جبريل، تسبحان في دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما تسبحان ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين، فسكتا وعملا بإشارة الرسول.
لفاطمة الزهراء من الأولاد خمس: ثلاث صبيان وبنتان، وهم: الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم وزينب، وقد مات محسن صغيرا.
3
كانت - رضي الله عنها - ذات عقل ودراية، عالية النفس تجيد الشعر وتعرف مسائل الفقه والشريعة ولها إلمام بالتاريخ، ولم يأخذها الغرور يوما لعلو منزلتها في الإسلام، وكانت سلسة القياد حلوة اللسان تحب معونة الفقراء كزوجها علي، وقد كان أكثر خرجه في وجوه البر والقرب، فكان له ارتفاع طائل من أملاكه يخرجه جميعه على الفقراء والضعفاء ويقتنع هو وعياله بالثوب الغليظ من الكرباس وبالقرص من خبز الشعير.
4
مرض الحسن - رضي الله عنه - ذات يوم في إبان صباه واشتدت عليه وطأة المرض شدة أقلقت بال ذويه، وبينما كان سيدنا علي - كرم الله وجهه - في المسجد مع نفر من أصحابه، مطرقا حزينا على حالة ولده، وإذا بهم يشيرون عليه بأن ينذر أمرا لله إذا عاودته الصحة، ولما عاد إلى داره نوى أن يصوم ثلاثة أيام لوجه الله فاستصوبت السيدة فاطمة هذا الرأي وشاركته في الصيام، وقد اعتقد الحسين أيضا أن في مثل هذا النذر شفاء أخيه فنسج على منوال أبويه في الصيام، وكان الإمام علي - كرم الله وجهه - قد أحضر مقدارا من الشعير من أحد معارفه فطحنت السيدة فاطمة نحو ثلثه وجعلته خمسة أرغفة، وبينما كانت هذه العائلة العلوية المباركة على المائدة انتظارا لوقت الإفطار ساعة الغروب، مر فقير على بابهم وسأله شيئا من القوت فترك علي ما بيده وتبعته السيدة فاطمة وناولا الرجل جميع الأرغفة المعدة للطعام ذلك اليوم، وقد حدث لهما ذلك في اليومين التاليين من صيامهما حتى إن العائلة جميعها اضطرت أن تمسك عن الطعام والشراب ثلاثة أيام متواليات اللهم إلا قليل من الماء يترشفانه رشفا، ولكن الله قبل صيامهم؛ إذ إن الحسن أخذ يتماثل نحو العافية في اليوم الرابع ففرح والداه بذلك فرحا شديدا وأخذا الحسن والحسين إلى جدهما الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - وقصا عليه ما وقع لهما، وقد أخبره الإمام
5 - كرم الله وجهه - ما لاقته السيدة فاطمة من عناء وشدة في أيامها الثلاث، فبشرهما النبي فخر الكائنات بأن الله قبل منهما صيامهما وبرهما.
لا أدري بأي لسان أصف مثل هذا العمل الصالح وكيف أصور للقارئ أمثال هذه النفوس الطاهرة، أمثال هذه الحوادث تبعث الأمل والتسلية في النفوس وتغري المرء بالاقتداء بمثل هذه التضحيات الدالة على الكمال الخلقي.
كانت السيدة فاطمة امرأة من بنات حواء مثلنا، ولكنها نزعت طول حياتها إلى العلو ووقفت دقائق العمر على ما فيه صلاح النفس وكمالها، ولنا من ذلك مثال جدير بالاقتداء، ودرس أخلاقي بليغ.
تلك الحياة النزيهة الصافية يصيبها ما يعكر صفاءها ذات يوم، فترى عليا في طريقه إلى المسجد مغموما كئيبا يتنفس الصعداء حتى إذا وصله وصلى قليلا تغلب عليه النعاس فنام منزويا في أحد الأركان، فرآه الرسول على هذه الحالة وكان قد علم بالنزاع الحاصل بينه وبين كريمته السيدة فاطمة، فتقدم نحوه ومسح ما عليه من التراب وهو يقول: «ما جلوسك هنا يا أبا تراب»،
6
ثم أمره بالعودة إلى داره، فأصبح يلقب بذلك منذ ذلك، وكان ذلك من دواعي سروره. •••
كانت السيدة فاطمة تشابه أباها في كلامها وتحاكيه
صلى الله عليه وسلم
في مشيتها محاكاة تامة تثير دهشة الناس، أما محبتها لوالدها فخر الكائنات تلك المحبة الخارقة للعادة، فإن الكتب والأسفار مشحونة بقصائدها وأحوالها وحوادثها في هذا الصدد.
وأستطيع أن أقول: إن هذه المحبة التي تفوق كثيرا محبتها لزوجها وأولادها كانت محور حياتها النزيهة والعنصر الأساسي فيها، فإن آثار الشفقة والحنان التي كان يظهرها لها الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - ونصائحه الأبوية وكلماته الطيبة، هذه المعنويات هي التي سطع بريقها وأشرق نورها في تلك الحياة الطاهرة التي دامت ثمانية وعشرين ربيعا، فصحبتها الروحانية لوالدها الرسول هو الذي رفع شخصيتها وألقى شعاعا من النور على نسويتها.
قد كانت عالية النفس بفطرتها ولكنها بهذا الاتصال الروحي تمكنت من أن تكون ذات شخصية لاهوتية وأن تكون مظهرا لعنوان سيدة ربات الخدور.
كانت السيدة فاطمة الزهراء محبوبة من أهلها يحبها الجميع، أما هي فقد كانت مشغوفة بحب والدها أكثر من أي إنسان آخر، كانت تحب الرسول فخر الكائنات من أعماق القلب والروح ، وقد تركت ذكريات حسنة في قلب كل إنسان عرفها أثناء فترة السنوات العشرة التي مضت من يوم زواجها حتى ساعة وفاتها، فكان الإمام علي ينفذ كل طلب لها ويعمل بكل كلمة تقولها، وكان أولادها وعيالها يطيعونها ويحترمونها في كل حين ولحظة.
كانت تحب أولادها وتعتني بشأنهم، وكانت في صلاتها وعبادتها، في مبراتها وخيراتها من أكثر السيدات أنسا في محفل ربات الخدور.
روي عنها أحاديث نبوية كثيرة، ونظمت قصائد ذات أبيات عامرة، وأظهرت دراية ومهارة في حل كثير من المعضلات.
على هذا النحو البديع مرت حياتها العذبة حتى السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية المباركة، تجبر القلوب الكسيرة وتعين المحتاجين وتغيث الملهوفين، وقد ظلت هذه الحياة السعيدة على هذه الوتيرة حتى السنة الحادية عشرة من الهجرة، أي في العام الذي انتقل فيه الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى جوار ربه، فتناثرت أوراق تلك السعادة وأظلم قلبها بعد أن غاب عن سمائه تلك النجمة العالية التي سطعت فيه ردحا من الزمن، وهكذا الدهر لا ينقضي يوم حتى يعقبه ليل.
أقبلت ذات مرة تزور الرسول - صلوات الله عليه - وكان معه السيدة عائشة، فقال: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه ثم أسر إليها حديثا فبكت، ثم أسر إليها حديثا فضحكت. فقالت السيدة عائشة: «ما رأيت كاليوم أقرب فرحا من حزن؟ فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي
7
على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سره. فلما قبض سألتها، فأخبرتها أنه قال: إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين، وما أراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقا بي ونعم السلف أنا لك. فبكيت، فقال: ألا ترغبين أن تكوني سيدة نساء العالمين، فضحكت.»
لم تترك السيدة فاطمة أباها الرسول لحظة واحدة وهو على فراش الموت، فقالت له يوما وهي تبكي: «إنك يا أبي تعاني سكرات الموت هلا أقمت من خواص صحابتك من يليك في أمر النظر في شئون العامة قبل أن تنقل من دار جهادك إلى الآخرة مقر خلدك وسعادتك، وها قد بدأ النحول والإعياء يظهران عليك فلو تعلم مقدار محبتي لك، إنك قد خلفت لي ذكريات كثيرة تذكرني بك أما أنا فلا أملك شيئا أعده، قلبي أسيف يملؤه الحزن أحاول اليوم تعزيته إنني سأفقدك فوا مصيبتاه! وما أشد بلواي! أما أنا لا يرثى لحالي إنسان.» فأجابها الرسول بما معناه: أي «بنيتي هذا يوم لم يبق لي فيه شأن مع أحد، وسوف أرى جزاء ما صنعت إن خيرا وإن شرا، لقد علمت حالهم ومضيت في أمرهم بالعدل، والله على ما أقول شهيد، حافظت على التأني وجاهدت من أجلهم وارتديت لباسهم وصليت معهم دون أن يعتريني فخر أو كبر، ولم أتخذ لنفسي ما يشبع جوعي، ولم أرتد ثوبا ناعما يرفه جسمي، بل قضيت حياتي في فقر وضرورة، فإذا انتقلت إلى جوار ربي لينظروا في شأن أنفسهم بنفسهم وأعطي إليهم لباسي الذي أتقي به البرد والغطاء الذي أتدثر به وتلك الحشية المصنوعة من ليف التمر التي أجلس عليها وقاية الرطوبة.» عندما توفي - صلوات الله عليه - لم يكن معه سوى السيدة عائشة وعمه العباس وكريمته فاطمة وزوجها الإمام علي - كرم الله وجهه.
لقد حزنت الزهراء حزنا شديدا لوفاة فخر الكائنات، ودام حزنها إلى أن توفاها الله، فلم يظهر على وجهها إمارة من السرور طول تلك المدة.
خيل إليها بعد مصيبتها أن العالم كئيب مغموم وأن الشمس مظلمة والسماء مغبرة قاتمة؛ ذلك لأن المناظر التي يراها المرء من خلال الدموع تظهر غبراء باهتة لونها يغم الناظرين، كثرة دموع اليأس تقلل بهجة الحياة وتنقص مقدار أذواقها، فإذا بكى القلب دمعت العين، وما في العالم من جاذبية وأشواق يتوقف على ما يفيضه القلب من السرور والبشر؛ إذ تنعكس أضواء العالم على مرآة القلوب، فاليوم الذي نشعر فيه بالحزن والكآبة لهو يوم أغبر لا طعم ولا لون له، أما أيام سرورنا فهي أيام بيضاء ذات ألوان يشع من خلالها كل بريق للأنس والصفاء، وكما أن رونق الحياة متوقف على نشاط الأنفس فهناك علاقة وارتباط بين جواذبها وإحساس ذواتنا.
وقد أعقب بكاء الزهراء فترة هي فترة السكون والهدوء، ودل ذلك على أن ارتباطها بالحياة الدنيا قليل آخذ في الانحلال رغم ما كانت تشعر به من الحنو والمحبة إلى أهل بيتها، وكانت تشعر بأن فراقها سيكون سهلا مستساغا؛ لأنه سيوصلها إلى حبيب قلبها، إلى والدها الرسول - صلوات الله عليه.
الرابطة القلبية التي تربطنا بهذه الحياة الفانية منشؤها أننا نعيش فيها مع من نحبهم، فكل منا يربطه بالكتلة البشرية رباط معنوي كالخيوط الحريرية المتماسكة في شيرازة واحدة، فإذا انحلت إحداها قلت إحدى الروابط، وإذا ما انفصمت عراها بمرور الزمن لم تبق لنا علاقة بكائن ما وأصبحنا ننظر إلى الحياة بجمود وهدوء، وقد يحدث أحيانا أن انفكاك رابطة من أقرب الروابط إلى قلوبنا - كرابطة الزهراء بأبيها الرسول - يؤدي إلى فصم عرى الروابط الأخرى، فلا نشعر إذ ذاك إلا بالأمل يحيا في النفوس انتظارا ليوم الوصال.
زارت الزهراء قبر أبيها الرسول
صلى الله عليه وسلم
بعد وفاته بأيام وأخذت بيدها حفنة من ترابه واستنشقتها بشوق زائد وأخذت تبكي ولهة، ثم لم تتمالك أن فاهت بهذه المرثية:
اغبر آفاق السماء وكورت
شمس النهار وأظلم العصران
والأرض من بعد النبي كئيبة
أسفا عليه كثيرة الرجفان
فلتبكه شرق البلاد وغربها
ولتبكه مضر وكل يماني
وليبكه الطود المعظم جوه
والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك وصفه
صلى عليك منزل الفرقان
فلم يسمعها إنسان حتى بكى معها، وبعد أن أفاضت دموع العين بما في القلب من نيران الحزن عادت إلى منزلها واجمة مطرقة.
الفصل الثالث
نصب الخلافة
لما قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وارتفعت الضجة عليه، دهش أصحابه دهشة عظيمة، وطاشت أحلامهم، وأفحموا واختلطوا، وصاروا فرقا، وتفرقت أحوالهم، واضطربت أمورهم، فكذب بعضهم بموته وصمت آخرون، فما تكلموا إلا بعد التغير، وخلط آخرون فلاكوا الكلام بغير بيان، وحق لهم ذلك للرزية العظمى، والمصيبة الكبرى التي هي بيضة العصر ويتيمة الدهر ومدى المصائب ومنتهى النوائب.
ولقد سرى هذا الاضطراب النفسي إلى أصحاب الرسول وأنصاره الكرام وزاد في حيرتهم الإشاعات التي راجت عن خلافة أبي بكر، لم يعيبوا على أبي بكر شخصيته وإنما حنقوا لتوليه أمرهم بلا مشورة، ثم سعت رجالات من المهاجرين والأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، وهناك بعد جدال وحوار - بسطوا أيديهم إلى أبي بكر يبايعونه وكف علي عن البيعة كرامة لزوجته الزهراء، وانحاز بجانبه بنو هاشم جميعا، وانضم إليهم أبو سفيان بن حرب رأس بني أمية والزبير بن العوام بطل قريش، وحواري رسول الله وأقام علي والزبير بدار فاطمة لا يبرحانها.
1
وقد أدى ذلك إلى سعي عمر بن الخطاب بقبس من النار إلى بيت علي - كرم الله وجهه - ليحرقه، وهناك خرج له الزبير والسيف مصلت بيمينه، يريد أن يصدع به رأس عمر، ثم تحايل عليه عمر ومعه خالد فأخذاه وأخذا من بعده عليا للمبايعة، ولما رأت السيدة فاطمة زوجها يساق قسرا فولولت وقالت: يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله.
إلا أن عمر كان قد ساق عليا إلى مجلس البيعة حيث أبو بكر، فقام له وقال واعتذر إليه بأن بيعته كانت فجأة وأنه لم يقبلها طمعا فيها، بل حياطة للإسلام ووقاية من شر الفتنة فأجابه الإمام علي والزبير: ما نفسنا عليك ما ساقه الله إليك من فضل وخير، ولكنا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئا فاستبددت به دوننا وما ننكر فضلك.
وعندما سكنت الخواطر وهدأت الثوائر قام أبو بكر إلى دار فاطمة وطلب منها الصفح عن عمر فصفحت عنه، ولقد تمكن ابن الخطاب أن يملك روعه في مثل تلك العاصفة الهوجاء التي أصابت الإسلام، فسعى بكل ما فيه من قوة وجلد حتى أنقذ المسلمين من شر فتنة كادت تقع فتقوض الإسلام من أساسه - رضي الله عنه.
2
تلك مسألة الخلافة، وقد كادت تزعزع بنيان الإسلام، وقد كادت تتخضب فيها بالدم رأس من أرفع رءوس المسلمين لولا عناية من الله أوقفتها عند حدها، لقد كانت همة عمر سببا في إنقاذ روح الإسلام للمرة الثانية، لقد التزم عمر أخف الضررين فهاجم دار السيدة فاطمة، ولكنها انتهت بالصلح وعادت بالصلاح، وفهمت سيدة نساء العالمين من هو العامل المجد فيها، ولم تمتنع عن مصالحته، فما أسمى تلك الفضيلة! إن القلم ليعثر عيا وعجزا حين يعرض لتلك الفضائل الملكية المقدسة التي كمل الله بها سيدة نساء العالمين.
بعد وفاة أبيها فخر الكائنات ببضعة أيام ناولت مولاتها بعض الدراهم وطلبت منها أن تنادي في السوق من يقبل صدقة بنت رسول الله، وإذا قبلها أحد أن تحضره إليها ففعلت، وكان الرجل من فقراء المغرب من بلاد البربر فحدثته السيدة الزهراء حديثا مآله: إن الرسول أنبأها بأن ابنيها الحسن والحسين يستشهدان فيفر أولادهما إلى المغرب ويحميهما أهل البربر.
3
إنني لا أتمالك من الحيرة تستولي نفسي عند سرد هذه الحادثة، فقد حدث أن استشهد الحسن والحسين وفر أولادهما إلى المغرب وحماهم المغاربة من أهل بربر، ثم تفرعت من أصولهم الدولة الفاطمية الزاهرة التي حكمت شمالي أفريقيا من أقصاها لأقصاها.
كان العالم الإسلامي مظهرا للمدهشات من الوقائع، تظهر حينا ثم تختفي آونة أخرى كالحادثات الجوية فلا يبقى من أشكالها وأحوالها في لوحة الخاطر سوى أشباح ضئيلة.
الفصل الرابع
حادثة الفدك
ما دامت الدنيا فالمنازعات باقية لا تزول، وما دام الملوان فقانون تنازع البقاء سرمد خالد، يعمل الناس به ويزعجون أنفسهم في سبيل تنفيذه.
اعترضت حادثة الفدك أيام الأحزان والأكدار التي قضتها السيدة فاطمة الزهراء عقب وفاة أبيها فخر الكائنات، فكانت ضغثا على إبالة، وفدك هذه عزبة نخل كانت للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يصرف منها على أهل بيته وينفق الباقي في مصالح المسلمين، وبعد أن توفي - صلوات الله وسلامه عليه - طلبت السيدة فاطمة فدك من سيدنا أبي بكر، ويروي المؤرخون الحادثة على الوجه الآتي:
1
حضرت السيدة فاطمة ذات يوم إلى خليفة رسول الله وقالت له: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعطاني فدك وشاهداي علي وأم أيمن.
فأجابها أبو بكر: لا أرتاب فيما تقولين وقد أعطيتك فدك.
ثم حرر لها حجة بذلك على قطعة من الجلد وسلمها إياها، وفيما هي عائدة إلى دارها قابلها عمر وسألها من أين هي آتية؟ فأخبرته بما تم، فلم يرق ذلك في نظره وأخذ الحجة من يدها ورجع بها إلى أبي بكر وسأله عن الحقيقة فصدقه الخبر، فقال: إن عليا يريد أن يملك فدك وأم أيمن امرأة، ومحا ما على الحجة من كتابة ومزقها في الحال، وقد اغبرت فاطمة من ذلك وراجعت أبا بكر وهي تعلم قول أبيها: «إننا معشر الأنبياء لا نورث.» وعندما بلغها إجماع أبي بكر على منعها لاثت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء، ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء ثم أمهلت طويلا حتى سكتوا من فورهم، ثم قالت: «أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم.» وذكرت خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها:
فاتقوا الله حق تقاته وأطيعوه فيما أمركم به، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، واحمدوا الله الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه ونحن خاصته ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه، ونحن ورثه أنبيائه أنا فاطمة ابنة محمد أقول عودا على بدء، وما أقول ذلك سرفا ولا شططا فاسمعوا بأسماع واعية وقلوب راعية، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم، فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، إيها معاشر المسلمين أبتز إرث أبي! أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فريا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.
ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت:
يا معشر البقية وأعضاد الملة وحضنة الإسلام ما هذه الفترة عن نصرتي والونية عن معونتي والغمزة في حقي والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «المرء يحفظ في ولده»، سرعان ما أحدثتم وعجلان ما أتيتم! إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه واستبهم فتقه، وفقد راتقه وأظلمت الأرض له، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال، أضيع بعده الحريم، وهتكت الحرمة، وأزيلت المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل وفاة رسول الله، إيها بني قيلة، اهتضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع، تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت وفيكم العدة والعدد ولكم الدار والجفن وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار، ألا وقد أرى أن الجلد تم إلى الخفض وركنتم إلى الدعة فجحدتم الذي وعيتم، ألا وقد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم وخور القناة وضعف اليقين فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ناقبة الخف باقية المعار موسومة الشعار موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تعملون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فأجابها أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «يا ابنة رسول الله، والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله، ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، والله لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري، أتراني أعطي الأحمر والأبيض حقه وأظلمك حقك وأنت بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟! لقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما خلفناه صدقة»، ولست تاركا شيئا كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يعمل به إلا عملت به.» ثم تعهد لها بعد ذلك أن يدفع إليها ما يخصها من نصيبها وينفق باقيها في شئون المسلمين، فقامت من مكانها وتوجهت نحو قبر أبيها تستشهد بأبيات ملؤها الشكوى وإشهاد أبيها على ما كان من هضم حقها، ثم نهج عمر في خلافته على منوال أبي بكر في صدقة فدك، وكذلك كان شأن عثمان وعلي - رضي الله عنهم - وعندما توفي الحسن بن علي في خلافة معاوية بن أبي سفيان قسمها بين مروان بن الحكم ويزيد بن معاوية وعمر بن عثمان بن عفان، وأما في خلافة مروان بن الحكم، فقد انتقلت جميعها إليه من طريق الميراث إلى ابنه عبد العزيز، وعندما ولي الأمر عمر بن عبد العزيز أعادها جميعها إلى أولاد فاطمة.
ثم انتقلت إلى العباسيين عندما آل إليهم الحكم، وبأفول دولتهم انتقلت إلى الفاطميين وكانوا يوزعون تمرها على الحجاج إلى أن قطعت أشجارها فانتهت بقطعها حادثة فدك التي امتدت عصرين متواليين.
الحرم المدني.
الفصل الخامس
وفاة الزهراء
عاشت سيدة النساء بعد أبيها فخر الكائنات ستة أشهر، وتوفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة هجرية بالغة من العمر عشرين سنة.
وقد كانت بجانبها ساعة أن حضرتها الوفاة أم سلمة، فقالت لها: اسكبي لي غسلا يا أماه.
فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ثم لبست ثيابا لها جددا ثم قالت: «اجعلي فراشي وسط البيت.» فاضطجعت عليه واستقبلت القبلة ثم قالت: «إني مقبوضة الساعة وقد اغتسلت فلا يكشفن لي أحد كتفا.» ثم دفنت ليلا في البقيع وصلى عليها أبو بكر والصحابة والأنصار ونزل قبرها الإمام علي والفضل بن عباس - رضي الله عنهما.
وبعد أن دفن الإمام علي زوجته المحبوبة جاء إلى قبر الرسول وناجاه بهذه الكلمات:
السلام عليك يا رسول الله، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي، إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فقد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها، فأحقها السؤال واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخلق منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.
بلى إن الله مع الصابرين، إن الله الذي يبتلي عبده بالمصيبة، يهبه صبرا يعادل مصيبته ويوازي نكبته، يرفع تلك القلوب الحزينة التي أحرقها بنار الألم ويجليها، وشدة النكبة وعظم قدرها تكون بنسبة ما في القلوب من حس؛ فلذلك نرى القلوب الحساسة تزيدها صدمات الحزن جلاء وقدرا واعتبارا، الأكدار سلم يرقاه المرء ليصل الكمال، أما السعادة فتسوقه إلى مهواة الأنانية، القلوب السعيدة محرومة من مظاهر الرحمة والتسامح، أما القلوب الطافحة بأنواع الهموم ففيها منافذ شتى للأنس، فسرعان ما تأتلف بأحزان الآخرين وتختلط بآلامهم وتفهم حاجاتهم.
ينظر المتألمون إلى الحياة بنظرات ملؤها الشفقة وآيات الحنان، وكذلك كان الإمام علي - كرم الله وجهه - أثر عليه الخطب وكان وقعه شديدا على قلبه الحساس، كان يبكي دون أن تطفئ الدموع نيران قلبه، كيف لا يحزن وقد اشتد يتمه بعد فراق زوجته عقب فراق الرسول
صلى الله عليه وسلم .
فراق هذين الحبيبين؛ حرمان ممض وجرح في القلب لا يندمل، وكلما فكر في الأيام اللذيذة التي قضاها بصحبة سيدة النساء وتذكر خطر وقعها في قلبه الطاهر، وكيف كانت أيام عمره التي عاشها والتي مات بموتها، ازدادت لوعته واشتدت كآبته فلا يجد السلوى إلا في أحضان قبرها، فيترك روحه تطير سابحة فوق التربة، تعانق روح حبيبته وتناجيها وتكشف لها عن مكنون مضضها وجواها، كان يسائل الترب والأحجار
1
ينتظر منها رد السؤال، ولكن أين لها أن تجيب؟ •••
ألطف الزهور وأقربها إلى الحس وآخذها باللب، تلك التي تنشر أريجها وقت غروب الشمس ثم تنام في مقتبل الليل، أجمل الورود أقصرها عمرا.
حمرة الشفق وبهاء الفجر لا يدوم جمالهما طويلا، بل لمدة محدودة، فالنغمات والشعر والسرور كل ذلك معنويات سريعة الفناء، كذلك الابتسامات والغمزات ومعاني الحب ذكريات للروح محدودة مدتها ونجوم تبدو في سماء الحياة قصيرة أمدها.
الربيع بهجة الحياة، وخير مواسم الربيع أقربها زوالا وأسرعها ذبولا، كذلك نفائس الحياة، الورود والزهور والنغمات وساعات الفجر وذكريات الشباب والمواسم، أبهجها وألطفها وأملكها للنفس أقصرها أعمارا.
لأن يحب المرء ويحب فيعيش محترما معززا مدللا زمنا ما، ثم يأفل بعد ذلك كما تأفل ساعات الغروب، تاركا وراءه ذكرى خالدة وألما ممضا وأسفا دائما مرتفعا نحو النور والسرور والسعادة، لأن يكون محبوبا على الدوام ... فينثر حوله البسمات والنغمات ليعيش في جو من الأنس والطرب والشعر ثم يترك ذلك وراءه، فتبقى في القلوب ذكراه الممزوجة بالحزن واللوعة والأسى، تلكم تاريخ القلوب المحبوبة كثيرا الآفلة سراعا.
من بين هذه القلوب، قلب سيدة النساء فاطمة الزهراء، وتاريخ حياتها مستمد من تلك العناصر المعنوية، وكما كانت الرحمة والشفقة من لوازم تلك الحياة ومن ألصق الشئون، كذلك المحبة والظرف من أدوات زينتها وكمالها.
كانت قرة عين والدها والزوجة المحبوبة للإمام علي والأم الحنون للحسن والحسين - رضي الله عنهم، وقد امتازت في صفاتها الثلاثة كابنة وزوجة وأم بمزايا قل أن تجتمع في سواها وبفضائل مزدانة بالجلال والكمال.
كانت حياتها الزوجية مع الإمام علي - كرم الله وجهه - قصيرة جميلة، وكذلك أعمار الورود الجميلة والزهور النضرة، فمضت في ربيع العمر كما تمضي ألوان الغروب وحمرة الشفق بعد أن تترك وراءها ذكريات من الحسن والجاذبية، فتبدل بموتها جمال الربيع وانقلب إلى خريف ممض، لو عاشت سيدة النساء، لما ذكرها المسلمون إلى يومنا هذا باللوعة تتملك أفئدتهم، ولما كنا نتحدث عن أحزان الإمام علي بمثل هذه الشدة.
مثل الشخصيات الماضية نذكرها بالاحترام والإعظام، ونبحث عن أحوالها الخاصة بوضوح وجلاء؛ أملا في تجديد العهد ورغبة في إحياء الاسم، كمثل الصور الشمسية التي نحتفظ بها لرجال نعرف أسماءهم ولا نتذكر أشخاصهم، وكلما تجسمت أشكالهم وأنظارهم وأشباحهم أمام أعيننا ازددنا حبا لهم وإشفاقا عليهم، وكما نعيد في الأذهان ذكريات الأيام الحلوة التي نقضيها في مقتبل العمر كذلك نرى جمالها ماثلا في الذهن ، أما الذين نحفظ في الذاكرة أيام حياتهم بالتفصيل ونستعرض في المخيلة ابتساماتهم ودموعهم وآلام نفسهم، فإننا نذكرهم دائما بشيء من الأسف والحزن يتملك أنفسنا:
ألا إنما الدنيا كأحلام نائم
وما خير عيش لا يكون بدائم
تأمل إذا ما نلت بالأمر لذة
فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
فما قيمة المنازعات والمجادلات وأنواع المنافسات؟ ما قيمة كل ذلك ما دامت دنيانا أحلام نائم وما دامت سعادتنا فيها سعادة الحالم.
تاج الرجال
رابعة العدوية رضي الله عنها
الفصل الأول
رابعة العدوية
السيدة رابعة العدوية هي أم الخير بنت إسماعيل ومن موالي آل عتيك،
1
مولدها البصرة وإننا وإن كنا لا نعلم تماما تاريخ ميلادها من المراجع التي بين أيدينا، إلا أنه نظرا لوفاتها عام 135
2
ولأنها عاشت نحو ثمانين سنة فإنها تعتبر بحق من ربات الخدور في أوائل العصر الهجري.
أفنت حياتها في العبادة والتقوى وإصلاح النفس وكبح جماح الشهوات، فقد كانت نموذج الكمال في عصرها، آثرت كل تضحية وعاشت فقيرة معوزة لتصل إلى هذه الدرجة العالية، فهي بحق من أعيان عصرها في الإسلام.
كانت تفوق نساء زمانها وتمتاز عليهن لا بالزهد والتقوى فحسب، بل بفضلها وعرفانها، بعلمها وأدبها، حتى رنت إليها الأبصار وتطاولت نحوها الأعناق، كان يتلذذ بصحبتها ويستفيد من معاشرتها أمثال حسن البصري التقي الشهير، وشقيق البلخي الصوفي العظيم، وسفيان الثوري المجتهد الكبير، والملك دينار، حاكم الكرج والشاعر البليغ، كل هؤلاء الأفاضل صاحبوها وجالسوها وحضروا مباحثها في الدين والعلم، فأجلوها وقدروا عقلها وذكاءها، وأعظموا حال زهدها وتقواها.
مات أبواها في مقتبل عمرها فنشأت في وقت استحكمت فيه حلقات الغلاء والقحط في مدينة البصرة، فأوقعها نكد الطالع تحت أسر رجل ظالم مستبد احتبسها عنده مدة ثم باعها إلى رجل آخر بعد أن أذاقها أنواع العسف والعذاب، ولم يكن حالها في هذه الدار الثانية خيرا مما كانت عليه في الأولى، فقد تعذبت كثيرا وقاست شدة مريرة قابلتهما بصدر رحب دون تململ أو تذمر؛ إذ كانت ترى الشكوى مزرية بها.
وبينما كانت ذات يوم تهرول مسرعة مجتازة أزقة البصرة رماها أحد المارة بنظرة منكرة، فأرادت أن تعرض عنه ملفتة وجهها فزلت قدماها فسقطت على الأرض فانكسر ذراعها، لم تقو على النهوض من مكانها فظلت مغشيا عليها مدة لشدة ما أصابها من الألم، وعندما رجعت إلى صوابها رفعت نظرها خاشعة إلى السماء تناجي ربها: «رباه، قد انكسر ذراعي، وأنا أعاني الألم واليتم، وسوف أتحمل كل ذلك وأصبر عليه، ولكن عذابا أشد من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكك أوصال الصبر في نفسي، منشؤه ريب يدور بخلدي، وهل أنت راض عني يا إلهي؟ هذا ما أتوق إلى معرفته.» وما كادت تتم نجواها حتى سمعت هاتفا يقول: لك يا رابعة عند الله مرتبة تغبطك الملائكة من أجلها،
3
فنسيت بعد ذلك ما اعتراها من الآلام وقفلت راجعة إلى دار سيدها آمنة مطمئنة.
لم ينم سيدها ذات ليلة فسمع صوتا يرن في أرجاء داره فخرج من غرفته يتلمس مبعث الصوت حتى قادته أذناه إلى غرفة رابعة حيث رأى ما أدهشه وحير لبه، رأى رابعة تعبد ربها بخشوع ينم عن إيمان عميق فوقف يراقبها ويسمع مناجاتها وإذا بها تقول: «ربي إنك تعلم أن أشد ما أتوق إليه هو عبادتك وتأدية ما لك من حقوق، ولكنني أسيرة لا أملك حريتي الشخصية فلا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية فلتعذرني يا إلهي.»
فبهت سيدها ووجد من العار إبقاء فتاة طاهرة عفيفة كرابعة تحت ذل الأسر، فلما مثلت أمامه في اليوم التالي قال لها: «أنت حرة طليقة يا رابعة، ولك الخيار في أن تمكثي هنا أو تذهبي إلى حيث تشائين.» فآثرت هي أن تترك دار مولاها لتعيش من كسب يدها، ومنذ ذلك اليوم أصبحت حياتها درسا ممتعا وعظة بالغة؛ إذ وقفت حياتها على أعمال البر والخير، واضعة نصب عينها الدستور النبوي الجليل: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.» فأمضت الثمانين عاما التي عمرتها لم تخل بحرف من هذا الحديث الشريف؛ إذ كانت ترى لذة في تضحية راحتها الدنيوية في سبيل سعادتها الخالدة .
تجاذبت ذات يوم أطراف الحديث مع أحد مشاهير الصوفيين، فشكا إليها دنياه الفانية فلم تطق احتمالا لشكواه فأجابته: «إنك يا هذا تكثر ذكر الدنيا وترددها على لسانك، فأنت مفتون بها مشغول بمحاسنها؛ إذ إن الرجل كثيرا ما يذكر ويفكر في المتاع الذي يريد أن يستحوذه، فلو أنك قطعت كل صلة بدنياك لما ذكرت شيئا من محاسنها أو مساويها.» ومن غرائب رابعة أنها كانت ترد كل ما يعطيها الناس
4
وتقول: «ما لي بالدنيا حاجة.» وقد مرضت ذات يوم فلزمت فراشها ولما عادها حسن البصري مستفسرا عنها وجد أمام بابها تاجرا يبكي فسأله متحيرا: ما بك ولم تبكي؟ فأجاب: أحضرت كيسا من الذهب لرابعة وإنني مضطرب لا أدري أتقبله أم ترفضه؟ فادخل بالله وأنقذني من هذا الاضطراب، فدخل حسن البصري، ونقل إليها ما كان من أمر التاجر، فأجابت: «ألا تعلم يا حسن أن الله يرزق حتى عباده الذين هم عنه لاهون، فما بالك بمن يكن في سويداء قلبه محبة يقف دونها الحصر لفاطر السموات - عز وجل - إنني يا حسن لم أتوجه إلى غير الله منذ اليوم الذي أدركت فيه قدرته الإلهية، كيف أستطيع قبول هدية هذا التاجر وأنا لا أعلم هل اكتسب ماله من حلال أو من حرام،
5
فمحال علي قبولها، فاذهب إليه واشكره مع تقديم عذري له.
حادثة أخرى: زارها أحد التجار يوما ما فوجد دارها خربا يحتاج إلى إصلاح وتعمير، فأخبرها أنه يعطيها دارا من دوره مؤقتا فقبلت رابعة ذلك وانتقلت إلى الدار الجديدة، كانت دار الرجل يحف بها أسباب النعيم والرفاهة وتزدهي جدرانها بأنواع الزينات والزخرف، ولما كان نظر رابعة لم يتعود أن يقع على أمثال هذا الزخرف فقد أطالت النظر في الغرف الزاهية بصنوف الزينة وضروب الأشكال المبهجة ولم تتمالك أن تمتنع من هذا الأمر وهي حيرى والهة، وبعد أن أمعنت النظر فيما حولها وتأملت طويلا ما يحيط بها رجعت إلى نفسها فخرجت من الدار توا وهي تقول: «سوف لا أعود ثانية إلى هذه الدار، ولو مكثت بها ائتلفت نفسي بهذه الأشياء الجميلة فيستهويني لطفها فيحول دون ما أنا صائرة إليه من الأخذ بأسباب الآخرة.»
رحمة العبادة.
كانت تصلى الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر فتنهض فزعة وتقول: «يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تنامين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور.»
6
وكان هذا دأبها حتى ماتت، كانت - رحمها الله - عابدة قانتة زاهدة فانية في الله ترى كل شيء ما خلا الله باطلا، ولها كرامات تسمع هتاف الهتاف إليها فتركت كل ما في الدنيا من متاع وغرور لتصل إلى طريق الذات العلية؛ وبذلك عدت من أعيان النساء الصالحات في العالم الإسلامي.
قالت في مناجاة لها: «إلهي، أتحرق بالنار قلبا يحبك؟» فسمعت هاتفا يقول: «ما كنا لنفعل ذلك.»
كانت لها شخصية ممتازة ولم تصل فاضلة ممن عاصرتها إلى مثل ما وصلت إليه أم الخير، فقد جمعت مزايا كثيرة أكسبتها لقبا جديرا بالاحترام خلد لها اسما عاطرا في صفحات التاريخ؛ إذ كانت تدعى «تاج الرجال»، سئلت ذات يوم: هل يتوب المولى - عز وجل - حقيقة عن عباده النادمين؟ فأجابت: لو أن الله لم يعط الندامة لعباده فكيف يتوبون؟ فما دام أشعرهم بالندامة وألقى إليهم حسن التوبة، فمن البديهي أن يشملهم بواسع عفوه وأن يقبل توبة التائب منهم.
وسئلت يوما: هل تحبين الله كثيرا فقالت: بلا ريب، فقيل لها: ألا تعدين الشيطان عدوا لك؟ فأجابت: إن محبة الله قد ملأت أرجاء قلبي، فليس فيه متسع إلى القلق والاضطراب من عداوة الشيطان.
7
كان يزورها كثيرون من الناس لشهرتها وشيوع صيتها، ويتبرك بمجالسها رجال من أفاضل أهل العلم، ويجدون في محاضراتها أنسا عميقا.
وعندما ماتت زوجة حسن البصري طلبها للزواج فلم تقبل وأرسلت إليه قصيدتها المشهورة التي ضمنتها كثيرا من التغزل الإلهي، وقد سألها عقب ذلك في محادثة دارت بينهما: «أليس لك رغبة في الزواج قط؟» فأجابت تاج الرجال: إنما يتزوج من يملك إرادته بنفسه، أما أنا فليس لي إرادة، إن أنا إلا عبدة المولى - عز وجل - «وضعت نفسي تحت إرادته وتصرفه.» فقال لها الحسن البصري: كيف وصلت إلى هذه الدرجة من الزهد والصلاح؟ فأجابت أم الخير: «بمحو النفس وفنائها تمام الفناء.»
قال لها أحد العلماء الأفاضل ذات يوم أثناء زيارته لها: «إن المولى فاطر السموات يا رابعة يكافئ الذين يصطفيهم من عباده بموهبة من المواهب ليزداد قدرهم، ولكن من الغريب أننا لم نجد مثل هذه القدرة والكفاءة في امرأة، فكيف وصلت إلى هذه المرتبة؟ وكيف أصبت مثل هذه السعادة؟»
فأجابت: «أنت محق في ذلك؛ لأن النساء لم يفتتنوا يوما من الأيام بكفاءتهم فلم تتظاهر بدعوى القدسية.»
تاريخ أم الخير مملوء بالمدهشات من الغرائب ننقل هذه الحادثة كأنموذج لما سواها.
كان من عادتها أن تعتزل الناس فتخلو إلى ربها للدعوة والمناجاة، فكانت تصوم سبعة أيام وتنقطع إلى العبادة والزهد ليالي لا تفتر أثناءها عن مناجاة النفس بهذا الخطاب: «إلى متى تعذبين نفسك يا رابعة وتحملينها مشقة ليس بعدها مشقة؟» وهي في ذلك وإذا برجل يدق عليها الباب وفي يده صحن من الطعام يتركه لديها ثم ينصرف، أما هي فتأخذ الصحن وتضعه في زاوية من الغرفة وتتشاغل بإصلاح القنديل، وهي على ذلك الشأن فتدخل هرة فتأكل الطعام الذي في الصحن، وطالما تعود رابعة ترى الصحن خاويا فتقول رابعة في نفسها: «لا بأس أفطر على الماء.» وعندما تذهب لتعود بالماء ينطفئ القنديل فلم تطق احتمالا وتقول: اللهم لم هذا العذاب؟ فتسمع هاتفا يقول: لو شئت يا رابعة وهبناك جميع ما في الدنيا ومحونا ما في قلبك من نار العشق؛ لأن قلبا مشغولا بحب الله لا يشغل بحب الدنيا، سمعت ذلك فعزمت على ألا تعود فتتمنى سعادة الدنيا وراحتها، بل ظلت ثلاثين عاما تذكر ربها ولا تعيد تلك الجملة أو غيرها مما ينم عن الشكوى والألم، بل كان وردها: رب لا تجعل في قلبي مكانا لغير حبك.
قال عنها الملك دينار وقد كان شغفا بها مفتونا بفضلها: ذهبت أزور أم الخير يوما فوجدتها على حصيرة بالية وموضع الوسادة قطعة من الآجر وتشرب من إناء مكسور، فقلت لها: أعرف يا أم الخير أصحابا لي من ذوات اليسار فاسمحي لي أن أذهب إليهم وأطلب منهم معونتهم في أمر رفاهيتك وراحتك، فردت طلبه قائلة: إن الله رازق الأغنياء يهون على الفقراء أيضا حاجاتهم، فما علينا إلا الصبر والقناعة، ورضاء الإنسان بما قسمه الله فرض محتم.
وقد زارها ذات يوم سفيان الثوري أحد الصالحين المعاصرين لها ومعه فاضل آخر يدعى عبد الواحد، فوجداها نحيلة الجسم واهية القوى فلم يتمالكا نفسيهما من البكاء، فقال لها سفيان الثوري قدس الله سره: هلا طلبت من الله يا أم الخير أن يخفف بعض الألم؟ فأجابت: من هو الذي يعذبني ويسبب آلامي؟ فقال: هو الله، فأجابت: إذا كان هذا أمر ربي، فكيف أخالفه وأطلب منه تخفيف الألم؟ فأجابها: لا أستطيع أن أرد عليك وها أنا ذا أكل إليك أموري بدل أن أشتغل بأمرك،
8
فاستمرت تقول: لو لم تكن يا سفيان راغبا في الدنيا كل هذه الرغبة لكنت إنسانا كاملا، فلم يتحمل سفيان مزيدا وأجهش في البكاء وهو يقول: هل أنت راض عني يا ربي؟ فقالت له: ألا تخجل فتسأل ربك ما إذا كان راضيا عنك، فما الذي صنعته لتفوز برضاه؟ فسكت.
وزارها يوما بعض أهل الفضل وسألوها لماذا تعيش منزوية ولا تتزوج، فأجابت: إنما يشغل خاطري ثلاثة أمور؛ أولاها: هل أموت وأنا على إيمان كامل؟ والثاني: هل أنال صحيفتي بيدي اليمنى يوم الحساب؟ والأمر الثالث: لا أدري مع أي فريق أكون يوم الحشر، أمع الذاهبين إلى الجنة، أم مع الهالكين في جهنم؟ فإذا كنت مشغولة اللب بأمثال هذه الأمور، فكيف أبحث عن الزواج؟ •••
سألها سفيان الثوري أيضا وكان من كبار المتصوفين في عصره: كيف هو إيمانك يا رابعة؟ وكم هو مبلغ اعتقادك بالله تعالى؟ فأجابته تاج الرجال: «لا أعبد ربي خوفا من ناره أو شوقا لجنته، وإنما أعبده لمحض المحبة والإخلاص.» ثم أخذت تناجي ربها بهذه الكلمات:
9 «إلهي أحبك لوجهين: لحبي وهيامي لك ولأنك أهل للمحبة والعبادة، فباشتياقي ومحبتي أذكر اسمك وأشغل بذاتك العلية، وبأهليتك للمحبة أنال من لدنك مرتبة المشاهدة، فلا يقف حمدك وثناؤك لأمر منهما، وإنما لك الشكر ومنك الفضل للحالين.»
وكان كفنها وهو عباءة من الصوف لم يزل موضوعا أمامها تستصحبه معها أينما ذهبت، وعندما اقتربت منيتها وشعرت بالوفاة طلبت «عبدة بنت أبي شوال»، وقد كانت صديقة مخلصة لها فأوصتها بأن يكفنوها
10
بتلك العباءة، فلما ماتت عملت بوصيتها فرأتها في المنام بعد دفنها بعام برداء أخضر وغطاء أخضر على رأسها، فقالت لها متعجبة: ماذا صنعت بكفنك الصوف؟ فأجابتها: قد عوضني الله عنه بهذه الثياب كما ترين. •••
وكان موتها عام 135 هجرية، وقبرها في رأس جبل الطور شرقي القدس يزوره الناس حتى اليوم.
وإن القارئ يرى من خلال ما شرحناه أنها - رحمها الله - شخصية غريبة ذات مزايا انفردت بها من بين ربات الخدور في العصر الإسلامي، كما كانت مثالا نادرا للتصوف والزهد والخشوع، عمرت ثمانين سنة كانت فيها مثال الكمال والعمل على التدرج الروحي، ضحت دنياها لقاء أخراها؛ إذ كانت تستطيع أن تعيش مرفهة منعمة كمعاصريها، ولكنها لازمت الفقر والضرورة وأنواع العذاب والمشقة لمحو كل عاطفة دنيوية من نفسها.
لا يمكن الوصول إلى درجة الكمال التي وصلت إليها رابعة؛ إذ يصعب تضحية دنيانا لأجل آخرتنا في مثل هذا العصر الذي اشتدت فيه الرغبة في الحياة والصدوف عما سواها، وإنما لو اتخذنا من حياتها اليومية دستورا ننسج على منواله نزيد في تدرجنا الروحي ورقينا الكمالي!
لو أننا فهمنا أوامر النبي وتعاليمه التي جاء بها منذ أربعة عشر قرنا لعملنا للدنيا والآخرة معا، ولكنا ارتقينا نحو ذرى الكمال.
الخنساء
الخنساء.
الفصل الأول
قبل الإسلام
هي الشاعرة الجليلة، بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، ونسبها يتصل بسليم وعيلان إلى قبيلة مضر الشهيرة.
كان أهلها من سكان البادية العائشين تحت ظلال خيامهم المنصوبة وسط المهامه والقفار، حيث لا قانون ولا سلطان، وحيث هم أحرار طلقاء من كل قيد وذل.
كان قومها - كشأن العرب سكان البوادي - على طباع متنافرة وخصال متضادة تجمع بين المحامد والمثالب: فبين تراهم في ذروة الكمال من الشهامة والمروءة والأنفة والإباء وكرم النفس، وإذا بهم في أدنى مراتب الفوضى والهمجية وشدة الطبع؛ يحبون سفك الدماء ويركبون في سبيل أخذ الثأر متون الشطط، ويتجاوزون في ارتكاب الشدة حدود الإنسانية، جعلوا القتال وخوض غمرات الحروب والطعان ديدنا لهم واشتد طلبهم للثارات حتى كانت القبائل جميعا تطلب الثأر من بعضها كالحقلة المفرغة التي لا يعرف مبدؤها ولا منتهاها، ومن أجل ذلك كنت تراهم في عداوة مستمرة وحفيظة متصلة وبغضاء تضطرم في الأحشاء، فيقضون أعمارهم في الغزوات والغارات يشنونها على بعضهم البعض، يتسيطر غنيهم على فقيرهم ويتغلب قويهم على ضعيفهم؛ ومن أجل ذلك انفرط عقد السعادة من بينهم، وساد الشقاء في ربوعهم.
في مثل هذا الزمن من أيام الجاهلية، وفي أظلم أدوار الوثنية، في عهد الحروب والغزوات، في الأيام الدموية من تاريخ العرب، تنشقت الخنساء نسيم الحياة.
كانت من أعز بيوتات العرب نسبا، وكثيرا ما كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يتحدث عن قبيلتها المضرية ويعدها حصن القبائل العربية، وقد حدث أصحابه - رضوان الله عليهم - بأنه من بني العوائك أحد أفخاذ سليم بن عيلان بن مضر.
وقد اشتهرت قبيلة الخنساء بشجاعة أبنائها وكرم طباعهم وفصاحة منطقهم وإجادتهم قول الشعر، وكان لها أخوان تحبهما محبة شديدة، هما: صخر ومعاوية، وقد كانا من أشجع العرب وأفصحهم نطقا وأدرعهم شكلا وأصبحهم وجها، فكان أبوهما عمرو يأخذهما في المواسم والمحافل ويحضر بهما مجالس العرب ويفاخر بهما الشيوخ والأقران، متحدثا بجمالهما ونجابتهما، فتقع أقواله منهم موقع الرضا والقبول.
وسميت الخنساء في بادئ الأمر «تماضر» لبياض لونها؛
1
إذ كانت العرب تسمي المرأة ذات البشرة البيضاء تماضر، ثم غلب عليها اسم الخنساء، مؤنث كلمة أخنس، صفة من الخنس أي تأخر الأنف عن الوجه أو انخفاض قصبته، وتأتي أيضا بمعنى الظبية، فأطلقت عليها الكلمة من طريق الكناية.
كانت شاعرة بفطرتها، بدأت تقول البيت والبيتين منذ الصغر؛ إذ كانت فتاة كريمة النفس، متينة الأخلاق، ذات وقار وشمم، تكره النفاق والمداهنة.
كانت في أول عمرها من أجمل نساء عصرها، رآها دريد بن الصمة يوما تهنأ بعيرا لها ثم تجردت واغتسلت وهو ينظر إليها خفية، فأعجبته وقال فيها قصيدة مشهورة يصفها ويمدحها ويبوح لها بمكنون صدره،
2
وقد خطبها إلى أبيها في اليوم التالي، فأجابه أبوها: مرحبا بك يا أبا قرة، إنك للكريم لا يطعن في حسبه، والسيد لا يرد طلبه، والفحل لا يقرع أنفه، ولكن لهذه المرأة في نفسها ما ليس لغيرها، وأنا ذاكرك لها وهي فاعلة.
ثم دخل إليها وقال لها: «يا خنساء أتاك فارس هوازن وسيد بني جشم، دريد بن الصمة يخطبك وهو ممن تعلمين.» ودريد يسمع قولها فقالت: يا أبت أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح وناكحة شيخ بني جشم؟ هامة اليوم أو غد؟
فخرج إليه أبوها فقال: يا أبا قرة قد امتنعت ولعلها أن تجيب فيما بعد، فقال: قد سمعت قولكما، وانصرف يائسا حزينا.
وقد عاود الطلب مرة أخرى وكان يمت إلى معاوية أخيها من أبيها بحبل النسب، فطلبها من أخيها هذا وألحف عليه في الطلب، وقد حضر إليها أخوها وقال: تعلمين يا أختي ما بيني وبين دريد من المودة والألفة، وقد طلبك مني وأرجو أن تقبليه زوجا لك، فإنني راغب في ذلك.
فأجابته: ما أعجب هذا الأمر! ألم تجد غيري لسعادة صديقك؟ - نعم يا خنساء، إنني راغب في ذلك رغبة شديدة. - حسنا دعني أفكر في ذلك، ويحسن أن ترسل إلي دريدا فأشافهه بنفسي.
فقام الأخ مسرعا نحو صديقه وأخبره بما دار بينهما وأتم الحديث بقوله: قم إليها فإنها طلبت مقابلتك.
فأصلح دريد هندامه وامتطى فرسه حتى جاء خيمتها وقد استقبلته بالمودة والبشر وأكرمته وأعدت له وسادة يتكئ عليها عند جلوسه، ودار بينهما حديث طويل سألته خلال كلامها عن أشياء كثيرة، قدمت إليه قدحا من اللبن كعادتهم، وكانت تراقبه وتتمعن في حركاته وهو يشرب اللبن ولم يفتها شيء مما أتى به حتى رسخ في ذهنها تماما أنه لا يصلح بعلا لها، ولم تشأ أن تخبره ذلك في الحال بل قالت له: اذهب وسيأتيك قولي فيما بعد.
فعلم دريد أنه لا مجال للمزيد، فقام من فوره ووصله عقب ذلك رسول الخنساء يحمل إليه هذه الرسالة:
أنت شيخ طاعن قد ضعف بصرك، ووهت قواك، ومضت أيام شبابك، فما لي إليك من حاجة.
فحنق دريد لذلك وأراد أخوها معاوية أن يزوجها منه قسرا، ولكنها أصرت في الرد وأنه لا سبيل إلى ما يريد، فاشتد حنق دريد بعد هذا الرد القاطع، وبدأ يهجوها بلاذع القول وقارص الكلام، وعندما بلغها ذلك قالت: ما دمت رفضت الزواج منه فلم يبق ما أقوله له، فليهجني ما شاء أن يهجو، وما كنت لأجمع عليه أن أرده وأن أهجوه.
في هذا الرد ما يشعر بالاحتقار والامتهان، وإنه لأبلغ من كل هجو قاله دريد، فهل بلغه ذلك؟ لو سمع قولها لاستشاط غضبا فوق غضبه.
وبعد هذه الحادثة تزوجت برواحة بن عبد العزيز السلمي.
3
وبعد أن مات خلف عليها عبد الله بن عبد العزى من بني خفاف، فولدت له عبد الله، ثم خلف عليها من بعده مرداس بن أبي عامر المسلمي، فولدت العباس ويزيد وحزنا وعمر وسراقة وعمرا، وجميعهم شعراء، وقد امتاز العباس من بينهم بالشجاعة وإجادة الشعر وأدرك الإسلام وتشرف به، ثم مات في موقعة القادسية مع ثلاثة إخوة له بعد أن أبلوا بلاء حسنا.
وكما كانت تحب أولادها فقد أحبت أخويها معاوية وصخرا، بل إن حبها لهما كان يفوق كل حب وإعزاز، وقد كانت تفضل صخرا حق قدره لحلمه وشجاعته، وتخصه بالإجلال لموقعه الممتاز بين رجال العشيرة وأفراد العائلة، وتفخر به لبطولته وفروسيته وتعتز به لصباحة وجهه؛ ولذلك فإن قصائدها التي قالتها فيه أثناء حياته ومراثيها التي أنشدتها لأجله بعد مماته من أجود الشعر وأمتنه.
موت أخيها معاوية أول نكبة أصابت كيان حياتها، ولقد زلزلت هذه الحادثة بنيان نفسها وذهنها فغيرت مجرى حياتها إلى طريق آخر غير سنتها الأولى.
أظلمت الدنيا في وجهها فانقلبت قصائدها المملوءة بالروح والحياة إلى مرثيات مبكية موجعة تسيل حزنا وألما ، فهذه الحادثة هي الفصل الأول من كتاب حياتها، فيه ودعت والهة متوجعة، أيام الشباب وأناشيد الصبا ونغمات السرور، ففي عام 612 من ميلاد عيسى بن مريم - عليه السلام - وافى معاوية سوق عكاظ
4
في موسم من مواسم العرب، فبينا هو يمشي في السوق إذ لقي أسماء المرية، وكانت جميلة وزعم أنها كانت بغيا فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه وقالت: أما علمت أني عند سيد العرب هاشم بن حرملة؟
فأحفظته، فقال: أما والله لأقارعنه عنك.
قالت: شأنك وشأنه.
فرجعت إلى هاشم فأخبرته بما قال معاوية وما قالت له.
فقال هاشم: فلعمري لا نريم أبياتنا حتى ننظر ما يكون من جهده.
فلما خرج الشهر الحرام وتراجع الناس عن عكاظ، خرج معاوية بن عمرو غازيا يريد بني مرة وبني فزارة في فرسان أصحابه من بني سليم، حتى إذا كان بمكان يدعى الحوزة دومت عليه طير وسنح له ظبي فتطير منهما ورجع في أصحابه وبلغ ذلك هاشم بن حرملة فقال: ما منعه من الإقدام إلا الجبن.
فلما كانت السنة المقبلة غزاهم حتى إذا كان في ذلك المكان سنح له ظبي وغراب فتطير فرجع ومضى أصحابه وتخلف في تسعة عشر فارسا منهم لا يريدون قتالا، فوردوا ماء وإذا عليه بيت شعر فصاحوا بأهله فخرجت إليهم امرأة فقالوا: ممن أنت؟ قالت: امرأة من جهينة أحلاف لبني سهم بن مرة بن غطفان، فوردوا الماء يسقون، فانسلت فأتت هاشم بن حرملة فأخبرته أنهم غير بعيد، وعرفته عدتهم وقالت: لا أرى إلا معاوية في القوم.
فقال: يا لكاع أمعاوية في تسعة عشر رجلا شبهت وأبطلت.
قالت: بلى، قلت الحق وإن شئت لأصفنهم لك رجلا رجلا.
قال: هاتي.
قالت: رأيت فيهم شابا عظيم الجمة، جبهته قد خرجت من تحت مغفره، صبيح الوجه، عظيم البطن، على فرس غراء.
قال: نعم، هذه صفته وفرسه الشماء.
قالت: ورأيت رجلا شديد الأدمة، شاعرا ينشدهم.
قال: ذاك خفاف بن عمير.
وهكذا حتى وصفتهم رجلا رجلا إلى أن أتت على وصف الجميع، فنادى هاشم في قومه وخرج فاقتتلوا ساعة وانفرد هاشم ودريد ابنا حرملة المريان لمعاوية، فاستطرد له أحدهما فشد عليه معاوية وشغله واغتره الآخر فطعنه فقتله.
ولما دخل الشهر الحرام خرج صخر بن عمرو حتى أتى بني مرة فوقف على ابن حرملة، فإذا أحدهما به طعنة في عضده فقال: أيكما قتل أخي معاوية؟ فسكتا فلم يخبراه شيئا فقال الصحيح للجريح: مالك لا تجيبه.
فقال: وقفت له فطعنني هذه الطعنة في عضدي، وشد أخي عليه فقتله، فأينا قتلت أدركت ثأرك إلا أنا لم نسلب أخاك، قال: فما فعلت فرسه الشماء؟ قال: ها هي تلك خذها.
فأخذها ورجع، فلما أتى صخر قومه قالوا له: اهجهم، قال: إن ما بيننا أجل من القذع، ولو لم أكفف نفسي رغبة عن الخناء لفعلت.
فلما كان في العام المقبل غزاهم وهو على فرسه الشماء، وقال: إني أخاف أن يعرفوني ويعرفوا غرة الشماء فيتأهبوا، فحمم غرتها، فلما أشرفت على أدنى الحي رأوها فقالت فتاة منهم: هذه والله الشماء، فنظروا فقالوا: الشماء غراء وهذه بهيم فلم يشعروا إلا والخيل دوائس، فاقتتلوا، فقتل صخر دريدا وأصاب بني مرة وعاد ظافرا غانما يطفح وجهه بشرا بأخذ الثأر.
5 •••
وفي الوقت الذي وهبت الخنساء نفسها لمحبة أخيها صخر بعد مقتل عزيزها معاوية، أصيب أخوها هذا بطعنة رمح بعد ثلاثة أعوام ومرض قريبا من حول.
كان لصخر زوجة تدعى سلمى يحبها لدرجة العبادة، ويقال: إن بني عبس غزت قبيلته في يوم من أيام خروجه للصيد فانتهكت حرمة الخيام وسبت نساء الحي، وعندما عاد صخر وجد الخراب ضاربا أطنابه في موطن الحي فركب فرسه وهاجم القبيلة الغازية مسرعا، وتمكن من قتل بضعة رجال منها ثم التفت إليه فرسان من أشجعهم فقاتلهم حتى انتصر عليهم، ولما رأى أسراء بني سليم هذا الظفر الخارق تجرءوا وبدءوا يفكون القيود والأغلال ويهرعون مثنى وثلاث إلى حيث صخر ليمدوه بالمعونة في ميدان النضال، وقد رأى ابنة عمه سلمى ذليلة بين زنجى من القبيلة يمتهنها فهجم عليه وقتله في الحال، وعندما انتهت المعركة وعقدت لصخر ألوية الفخار والظفر عينه رجال القبيلة رئيسا عليهم مكافأة لإبلائه الحسن، وطلب منه عمه أن يختار من يشاء من بناته زوجة له فاختار سلمى؛ إذ كان مغرما بها.
كانت سلمى أجمل بنات الحي وأملحهن شكلا، وقد كان لها مكانه سامية في نفس صخر منذ أمد بعيد، فكان زواج هذين العاشقين: أجمل الفتيات وأشجع الفتيان من دواعي الطرب والسرور بين القوم.
أصيب صخر بعد زواجه بطعنة رمح أقعدته الفراش مدة طويلة، وكان أفراد القبيلة يفدون إلى خيمته يسألون زوجته عن رئيسهم المحبوب من حين لآخر، وكانت سلمى تجلس أمام خيمتها تنتظر إبلال زوجها من مرضه، انتظرت طويلا ولكن على غير جدوى فبدأت عوامل الملل تتسرب إلى نفسها وأخذت آثارها تظهر على صفحة وجهها بما تظهره من التبرم والتأفف، وقد سألها بعض قومها ذات يوم: «كيف بعلك؟» فقالت سلمى: لا حي فيرجى، ولا ميت فينعى، لقينا منه الأمرين.
فسمعها صخر وتأثر من ذلك أيما تأثر.
6
ما كان يخطر على باله أن تقول سلمى فيه مثل هذا القول، سلمى التي أحبها وخاطر من أجلها وخاض غمرات الموت لإنقاذها من يد الزنجي، فاشتد ألم النفس شدة أنسته ألم الجرح، وما فتئ يكرر قولها للعائد حتى ناداها ذات يوم وقال: قد قلت يا سلمى في حقي كذا، وقد نذرت لأجلك نذرا إن شفاني الله.
فسألته: أخير هو هذا النذر أم شر؟
فأجابها: جزاء لخيرك وشرك.
فأجابته: والله قد يئست من نفسي، ولا أقدم لك عذرا عما قلته فافعل بي ما أنت فاعل.
فأثر عليه قولها كأنه سهام مسمومة نفذت أحشاء قلبه وبدأت أمه تجلس بعد ذلك اليوم تقابل الزائرين والعائدين، فكان إذا سألها سائل عن صحته طمأنته وقالت له ما يتفاءل به خيرا.
وقد بدأ جرح صخر يلتئم وأخذ يسترد صحته ويعود إلى نشاطه السابق، حتى إذا أنس من نفسه بعض القوة، قام إلى زوجه فهجم عليها وصلبها على إحدى أعمدة الخيمة، إلا أن المجهود الذي بذله في سبيل الانتقام من زوجته أفقده الصحة فانتكس ثانيا إلى أن مات.
لم تنس الخنساء مصيبتها الثانية ومرارة هذه الحادثة حتى الممات، فبكت طول حياتها ونظمت المراثي الطوال.
الفصل الثاني
بعد الإسلام
بعد أن ثكلت الخنساء أخويها جاءت إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم
مع وفود قبيلتها وتشرفت بنعمة الإسلام.
ولم تنقطع عن أوجاعها وأناتها حتى بعد الإسلام، بل كانت تقص شعرها وتلبس ثوبا خلقا من الخيش الأسود وتندب أخويها على عادة العرب في جاهليتها.
رآها سيدنا عمر بن الخطاب ذات يوم أثناء طوافها بالكعبة وهي على هذه الحال فتقدم إليها ونصحها كثيرا فأجابته: لم تصب امرأة بمثل ما أصبت به، فكيف أتحمل مضض فراق فارسين فقدتهما؟
فأجابها سيدنا عمر بما هون عليها المصيبة وذكر لها أن مصائب كثير من الناس أشد هولا لو اطلعت على بواطن أمرهم، وقال لها: إن ما هي عليه من الحداد من بدع الجاهلية التي حرمها الإسلام فامتثلت لأمره.
ورأت السيدة عائشة على الخنساء صدارا من شعر وهو ثوب صغير فقالت: يا خنساء أتلبسين الصدار وقد نهى الرسول عنه؟ قالت: لم أعلم بنهيه وله سبب، قالت: وما هو؟ قالت: زوجني أبي رجلا متلافا لماله فأسرع فيه حتى نفذ، فقال لي: أين تذهبين يا خنساء؟ فقلت: إلى أخي صخر، فلقيناه، فقسم ماله بيننا شطرين، ثم خيرنا فقالت زوجته: أما كفاك أن تقسم مالك حتى تخيرهم فقال:
والله ما أمنحها شرارها
وهي حصان قد كفتني عارها
ولو أموت مزقت خمارها
وجعلت من شعر صدارها
ثم أنشدت قصيدتها التي تقول فيها:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي
على موتاهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
لم تستطع الخنساء أن تمحو من ذاكرة الخيال مرارة الحزن وألم الفراق، بل ذهبت أيام عمرها مع سيل عبراتها واستنزفت دموع القلب زهرة حياتها، لم تصغ إلى نصيحة إنسان، بل إن الحزن انطبع على قلبها بحروف من نار وكوى فؤادها كيا لا يزول أثره ما دام فيها عرق ينبض، لو ابتسمت لخلت الحزن مرتسما في تلك الابتسامة، ولو تنفست لشعرت بحرارة الألم تتصاعد مع الزفرات، لم يحلق في سماء حياتها سوى غمامة كثيفة، هي: شبح الذين ثكلتهم وبكت من أجلهم.
وفي أيام خلافة سيدنا عمر جاء إليه نفر من أصحابها وشكوا إليه حالها وطلبوا منه إحضارها وبذل النصيحة لها عسى أن ترجع عن حدادها، فلما مثلت بين يدي رجل العدل عمر وجد عينيها غائرتين من كثرة البكاء فقال لها: ما دهاك يا خنساء؟ وما الذي صيرك إلى هذا الحال؟
فأجابت: بكائي لفحول مضر جعلني في هذا الحال، فأنبها عمر وطلب منها أن تلتجئ إلى رحمة المولى - عز وجل - وقال لها: إن الإسلام يحرم أمثال ذلك، وإننا ظلال زائلة في هذه الحياة، ولو أن البقاء من نصيب الأحياء لبقي الرسول
صلى الله عليه وسلم
حيا، ثم أتم الحديث بقوله: «إن أخويك في النار»، فأجابت: ذاك أطول لحزني، كنت أبكي لهما من الثأر وأنا اليوم أبكي لهما من النار.
فطلب منها أن تقول ذلك شعرا، فقالت دعني أنشدك بعض ما قلته فيهما، ثم أنشدته قصيدتها التي مطلعها:
سقى جدثا أكناف عمرة دونه
من الغيث ديمات الربيع ووابله
فتأثر سيدنا عمر من قولها، وعزم على أن يتركها في حالها ثم التفت إلى أصحابه وقال لهم: دعوها بعد اليوم في شأنها، فإن للمرء أن يبكي ما شاء لمصيبته ونكبته.
الفصل الثالث
حرب القادسية
هنالك صفحة مشرقة في تاريخ أيام الخنساء، تنحني لها الرءوس إجلالا، هي خير وأبقى من كل قولة قالتها أو قصيدة نظمتها في أيام الصبا.
فلقد خبا بريق عينيها وانطفأ نور جمالها وتقوس ظهرها وانتابتها عوامل الضعف والشيخوخة، ولكنها لم تزل فتية القلب، جريئة الجنان، تجول في عروقها المنكمشة دماء الشهامة والجلادة.
عرفنا الشيء الكثير عن تاريخ المرأة الرومانية وأعجبنا بجلادتها وشجاعتها في مواقف الشهامة وما كانت عليه الخنساء لم يكن بأقل من ذلك.
لقد بلغت أبعد مدى تبلغه المرأة من جلال الصبر وقوة الإيمان، ما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها واضطرام حشاها على أخويها صخر ومعاوية، كل ذلك استحال إلى صبر أساغه إيمان الإسلام وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الدنيا.
كانت أما لأربعة أولاد من أشجع الأولاد، هم أشطار كبدها ونياط قلبها دفعتهم جميعا إلى الحرب وعدت موتهم في سبيل الإسلام شرفا ليس وراءه شرف، ثم بكتهم وهي تفخر بضياعهم إذ لم يبق لها إنسان بعدهم.
وقعت حرب القادسية في عام أربعة عشرة من الهجرة النبوية، فحضرت الحرب مع أولادها الأربعة وقالت لهم من أول الليل:
يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لبنو رجل واحد، ما خنت أباكم ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله تعالى للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، لقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى مساقها فتيمموا وطيسها، وجالدوا رسيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
فلما أصبح الصباح وقد أثرت فيهم نصيحتها تقدم كل واحد منهم إلى الحرب وقاتلوا واحدا بعد واحد حتى قتلوا، وكل منهم أنشد قبل أن يستشهد رجزا فأنشد الأول:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
بمقالة ذات بيان واضحة
وإنما تلقون عند الصابحة
من آل ساسان كلابا نابحة
وأنشد الثاني:
والله لا نعصي العجوز حرفا
نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفا
وأنشد الثالث:
إن العجوز ذات حزم وجلد
قد أمرتنا بالسداد والرشد
نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب حماة في العدد
وأنشد الرابع:
لست لخنساء ولا للأخزم
ولا لعمرو ذي السعاء الأقدم
إن لم أره في الجيش حنس الأعجمي
ماض على الهول خضم حضرمي
اشتد أوار الحرب، وانتهت بقتل كبير الفرس وتشتت شملهم وانتصار المؤمنين، فعقدت للإسلام ألوية الظفر.
وعند نهاية الحرب الضروس التي لقي منها المسلمون صنوف الشدة، قام نفر من رجال الجيش إلى الخنساء وأخبروها باستشهاد أولادها الأربعة بعد أن أبلوا بلاء حسنا، وما كادوا يلقون عليها الخبر حتى اهتز كيانها ونالتها رعشة سرت في جميع أطرافها ثم سكتت والتفتت إليهم تقول: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته.»
وعندما عادت الجيوش الإسلامية إلى المدينة المنورة تخفق على رءوس أفرادها ألوية الظفر، كانت الخنساء معهم تجر نفسها على عصاها، تسيل عبراتها ويتهلل وجهها إشراقا وبهاء، فكان الناظر إليها لا يدري أيغبطها على حالها أم يتوجع لآلامها، وقد أجرى عليها رجل العدل عمر بن الخطاب أرزاق بنيها، مائتي درهم عن كل واحد.
الفصل الرابع
مكانة الخنساء بين شعراء العرب
كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يعجبه شعرها
1
ويستنشدها، ويقول: هيه يا خناس، ويومئ بيده
صلى الله عليه وسلم .
ولما قدم عدي بن حاتم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وحادثه فقال: يا رسول الله، إن فينا أشعر الناس وأسخى الناس وأفرس الناس.
قال: سمهم، قال: أما أشعر الناس فامرؤ القيس بن حجر، وأما أسخى الناس فحاتم بن سعد يعني أباه، وأما أفرس الناس فعمرو بن معديكرب.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ليس كما قلت يا عدي، أما أشعر الناس فالخنساء بنت عمرو، وأما أسخى الناس فمحمد؛ يعني نفسه
صلى الله عليه وسلم ، وأما أفرس الناس فعلي بن أبي طالب.
قيل لجرير: من أشعر الناس؟
قال: أنا لولا الخنساء.
قيل: بم فضلتك؟
قال: بقولها:
إن الزمان وما يفنى له عجب
أبقى لنا ذنبا واستؤصل الراس
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وكانت في أوائل أمرها تقول البيتين والثلاثة حتى قتل أخوها معاوية ثم أخوها صخر فأكثرت من الشعر، وتغيرت طريقتها في القول وأسلوبها في التفكير؛ لأن المصيبة شحذت قريحتها وصقلت ذهنها فاشتد لمعان أفكارها رونقا وبهاء.
واتفق أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، ويقول الشريشي في كتابه: «إن النساء ليظهر الضعف في أشعارهن إلا الخنساء، فقد فاقت الرجال في قول الشعر.» وعندما عد أبو العباس المبرد شعراء العرب قال عن الخنساء وليلى إنهما فاقا الرجال في متانة الشعر مع تأخر النساء بالنسبة للرجال في أكثر الصناعات، وكان الأصمعي يفضل ليلى على الخنساء ويحاجيه أبو زيد بقوله: «وإن كانت ليلى في أشعارها أمتن لفظا وأعمق معنى، إلا أن الخنساء في مراثيها أعلى روحا.» وكان المبرد تعجبه مراثي الخنساء ويقول عنها: «أمتن المراثي ما كانت مملوءة بالألفاظ المفجعة التي تشعر بمدح المتوفى، فإذا كان النظم موافقا والألفاظ صحيحة والأسلوب رائقا فلا ريب في نفاسة القول إذ ذاك؛ حيث يستفيد المرء ويمتلئ بروح اللذة والإعجاب، وهكذا مراثي الخنساء في مثل هذا الحد من مراتب الكمال.»
كان يضرب للنابغة الذبياني قبة من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى مرة ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الشعراء والخنساء تسمع.
فسأله حسان عن مقدار شعره ففضل عليه الأعشى فقام حسان غاضبا يقول: «والله لأنا أشعر منك ومن أبيك.»
فقال له النابغة: «يا ابن أخي، أنت لا تحسن أن تقول.»
ثم التفت إلى الخنساء وطلب منها أن تنشده شيئا فأنشدته:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
فتأثر الحاضرون وقام إليها حسان يقول: «لم أر والله امرأة أشعر منك.» فقالت له: ألا تريد أن تقول: إنني أشعر الرجال أيضا؟
فأجابها بغرور: كلا، أنا أشعر منك ألم تسمعي قولي:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما»
فنظرت إليه الخنساء بازدراء وأجابت: إنك لعاجز في هذا الشعر، وقد أخطأت في ثمانية مواضع منه.
فسألها عن مواضع الخطأ فأجابته برزانة ووقار: قلت: «الجفنات» والجفنات جمع قلة وكان الأجدر أن تقول: «الجفان»، وقلت: «الغر» ولا يقال الغر إلا لبياض الجبهة ولو أنك قلت: «البيض» لكان المعنى أتم ، وإنك تقول: «يلمعن» واللمعان يفيد النور الضعيف وكان الأجدر بك أن تقول: «يشرقن»، وقلت: «بالضحى» مع أن وقت الضحوة لا يأتي من الضيوف إلا النزر اليسير، ولو قلت: مساء لكان المعنى أتم، وقلت: «أسياف» بجمع القلة ولو أنك قلت: سيوف لكان دليلا على الكثرة، وقلت: «يقطرن» فدللت بذلك على قلة عدد القتلى، ولو قلت: «يجرين» لكان أبلغ، ثم إنك: تقول «دما» ولو قلت «دماء» لكان أتم، ثم إنك تفتخر بالأخلاف منكم ولا تفتخر بمن سلف.
فخجل حسان من محاجتها وخرج من المجلس غاضبا كئيبا.
كان من عادة العرب أن يجتمع شعراؤها في سوق عكاظ للمباراة في إجادة الأقوال وسبك المعاني، وكان ينصب للنابغة الذبياني قبة حمراء يجتمع تحتها كل شاعر مجيد وكل بليغ عتيد وخطيب منطيق، فيطلقون العنان لبنات الأفكار وينثرون على بساط المباراة درر الألفاظ وغوالي الحكم، فمن نال قصب السبق وحكم له بالتفوق والإجادة تكتب قصيدته على طروس من الحرير تعلق على أستار الكعبة؛ ومن أجل ذلك فإن لأصحاب المعلقات مكانة رفيعة ومنزلة سامية بين الشعراء وفحول أصحاب القول والحكمة؛ لأن معلقاتهم من أجود القول وأحكمه.
كانت العرب تعبد البلاغة، فأوصلتهم عبادتها إلى مراتب الكمال في التوسع اللغوي، حتى لقد أصبح قول الشعر سليقة لهم ينطق بها صغيرهم وكبيرهم، وأصبحت الكلمة الطيبة تعمل في النفوس فعل السحر بالألباب.
كانت المعاني الجميلة والألفاظ البديعة والأقوال الحكيمة من مزايا تلك الحياة البدوية الصافية، حتى ليقال: إن أعرابيا وصل ذات يوم إلى مكة المكرمة فحث مطيته نحو رهط من الناس مجتمعين في حلقة، مطرقين ينصتون لرجل يقرأ عليهم قولا بليغا، فنزل عن ناقته وجلس ينصت معهم، وما كادت بعض الأقوال تتغلغل إلى نفسه حتى قام من فوره فسجد سجدة طويلة، وعندما انتهره القوم متسائلين عن فعلته أجابهم: «إنما سجدت لفصاحة هذا الشيء الذي تقرءونه.» فقالوا له: «ما هذا كلام بشر وإنما هو كلام الله - عز وجل.» فأجاب: «إذن لأسلمن معكم.»
كانت الخنساء تحضر سوق عكاظ وتعرض شعرها النفيس في ميدان المباراة تحت تلك القبة الحمراء، وقد قرأت ذات يوم قصيدة بليغة نالت استحسان الجميع وإعجابهم، فأشار النابغة إلى الأعشى الواقف أمامها وقال: «لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت: إنك أشعر منه.»
فهذه الخنساء عرفناها شاعرة جليلة من شعراء الطبقة الأولى المشهورين بالإجادة والتفوق ولها ديوان جليل. •••
ها نحن أجملنا لك صحيفة بيضاء من تاريخ العظائم، صحيفة امرأة مستثناة، أحرزت في الحياة موقعا رفيعا يختلف كثيرا عن مواقع من عاصرها من سيدات ورجال.
الخنساء سيدة جليلة، ووالدة كريمة، وشاعرة عزيزة، نافست في عالم الأدب فنالت قصب السبق، وناضلت في ميادين القتال لإعلاء كلمة الإسلام فحازت القدح المعلى، ولا ندري بأي مزية من هذه المزايا نذكرها ولا بأي مفخرة من هذه المفاخر نشهرها.
عاشت أعواما كثيرة بعد وقعة القادسية وماتت أيام خلافة معاوية في العام الخمسين من الهجرة وعمرها سبعون سنة، وقد أجمعت كتب التاريخ أنها ماتت في البادية.
كيف قضت أنفاسها الأخيرة وأودعت آخر نسمة من نسمات الحياة، أكانت وقتئذ عائدة من أحد منتديات الشعر والأدب تتوكأ على عصاها المعروفة؟ أم أسلمت الحياة في خيمتها وهي مستسلمة إلى أحضان الماضي وذكريات الشباب؟ أم كانت إذ ذاك تحدد النظر في منظر غروب الشمس في يوم قائظ وقد خيل إليها أن تشبع الروح وتملأ العين بتلك النظرة الأخيرة في فضاء الصحراء المترامية الأطراف والبوادي الشاسعة التي لا تقع العين منها إلا على سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء وهي تردد مع أنفاسها الأخيرة قولها في أخيها:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره لكل غروب شمس
ساءلت التاريخ كثيرا عن ذلك، فلم أقع من طياته وأسراره على ما ينقع الغليل، اللهم إلا نتف وأقوال أجملتها في هذه الصحائف القليلة التي أعرضها اليوم على الأنظار بعد مرور ألف وثلاثمائة وثمانية عشر ربيعا على ذبول تلك الزهرة المعنوية الجليلة.
وقد خطرت لي سانحة أريد أن أثبتها هنا قبل ختم هذه الصحائف، هي ذكرى صغيرة أريد بها المقارنة بين قلب الخنساء الكبير ونفسية امرأة يابانية.
إننا لنعلم الخطوات الواسعة التي خطتها الأمة اليابانية في سبيل الرقي والمدنية، فإن نعجب بمدنيتهم وفلاحهم فإن عصبيتهم نحو تاريخهم وقوميتهم وتمسكهم بتقاليدهم الملية وعاداتهم الوطنية أحرى بالتقدير وأجدر بالإعظام.
إن تحليل وتعميق الشعور الكامن في النفس اليابانية للوصول إلى حالتها الروحية وللوقوف على أسرار سعادتها والاطلاع على غايتها من الحياة والإحاطة بالعوامل التي رفعتها إلى هذه الرتبة العالية والمكانة السامية، لذة معنوية تدخل على النفس ظلال الغبطة والسرور.
أسعدتني الظروف فيما مضى بلذة معنوية من هذا القبيل؛ إذ كنت أطالع كتابا عن اليابان يبحث عن علو أفكار المرأة اليابانية وظرفها الفطري، وقد ذكر فيها المؤلف بدهشة وإعجاب متانة أخلاقها وقوة جنانها وعلو طبعها، إلى غير ذلك من مزايا تربيتها الروحية، ثم استطرد من ذلك متسائلا عن أثر الوراثة في ذلك التهذيب وعن الأجيال التي نمت وتمرنت فيها هذه التربية الروحية حتى كملت إلى حد إظهار الرزانة والوقار أمام مرائر الحياة وجبر النفس وستر دموع العين بابتسامات لطيفة في أوقات الضنك والشدة، ثم استطرد من ذلك إلى تصوير الحرب الروسية اليابانية وتحدث عن اليابانيات وثبات جأشهن وهن يودعن أزواجهن وأولادهن وآباءهن وإخوانهن الذاهبين إلى ميادين الحروب، وكيف أنهن كن يملكن العبرات في ذلك الموقف الرهيب وتفتر ثناياهن بالابتسامات المشجعة والكلمات المعزية والمعاني الحماسية بدل أن يذرفن الدموع التي قد تفت في السواعد وتثبط من العزائم وتقلل من النشاط، وقد كانت الواحدة منهن لتعلم وهي تودع أعز إنسان لديها أنه قد لا يرجع إليها سالما، وقد لا تحظى بقبلاته فيما بعد، ولكنها لا تفتأ عن بذل ما تبعث فيه الحمية وما تجدد فيه العزيمة للكفاح وملاقاة الأهوال، وقد أضاف المؤلف أن هؤلاء النسوة ما كانت إحداهن لتتأخر عن سبيل التضحية لحظة واحدة فداء الوطن والإمبراطور، ولو أن التقاليد أو العادات تبيح لهن الاشتراك في المعامع والحروب مع الرجال، إنهن ليخضن غمراتها بشوق وتلهف بلا بطء ولا توان.
وبعد أن ذكر المؤلف الشيء الكثير عن شهامة اليابانية سرد هذه الحادثة التي شاهدها بنفسه رأي العين والتي لا أرى مندوحة من نقلها هنا كما هي، إنها لقصة بالغة ذات مغزى سام تسوق المرء إلى التفكير العميق، وقد أستطيع هنا أن أسوق القارئ إلى وادي الحس وأفيض عليه بشيء من الشعور الذي غمرني عند تلاوتها، قال المؤلف: «كان ذلك في أوائل الحرب الروسية اليابانية، وكانت الجيوش تساق إلى ميادين المعارك، ففي هذه الآونة كانت يابانية تودع حبيبا لها، ذاهبا إلى الحرب فرأيته يقول لها: هيا بنا نتصافح فإنني ذاهب.» فسألته متعجبة: إلى أين؟ - إلى الحرب، فأشرق جبينها وارتسمت على وجهها ظلال الغبطة والشوق وسألته بنغمة كلها سرور ونشاط: إلى الحرب! أليس كذلك؟ إلى أعدائنا الروس؟ - نعم، إلى أعدائنا الروس.
فقامت اليابانية من فورها وقد كانت جالسة على حصير، تبرق عيناها بنيران الشوق والسرور وما كاد حبيبها يلمح في نظراتها ذلك الهيجان حتى سألها: أكنت ترغبين في مرافقتي؟
فأجابته وهي تكاد لا تملك خفايا تأثراتها: نعم، كنت أريد ذلك، أريد أن أموت، أن أجود بحياتي في ميدان الحرب، ولو أستطيع أن أموت وأحيا سبع مرات لجدت بحياتي في كل هذه المرات، فداء الوطن والإمبراطور.
لقد تسنمت اليابان غارب المدنية وارتقت ذروة المجد والفلاح؛ لأنها تملك مثل هذه النفوس المهذبة والشخصية الكاملة، وبمثل هذه النار المقدسة المشتعلة في نفس المرأة اليابانية على الدوام غرسوا بذور محبة الوطن والإمبراطور في قلوب الأولاد والأحفاد جيلا بعد جيل.
الوطنية شعور عام يسود اليوم قلب كل ياباني.
البطولة والتضحية من المعاني الممتزجة بدم الياباني ولحمه، إنهما جزءان لا يتجزءان من كيانه.
هذه هي المرأة اليابانية.
وعلى هذا المنوال نسجت أمهاتنا أمثال الخنساء في تشجيع أولادهن للحروب وتزكية نيران الحماسة في قلوبهم، وبمثل هذه الروح العالية كانت الواحدة منهن تنادي في أولادها وتصيح: «حافظ على لوائك يا بني وحذار من أن يقع في يد عدوك، إنما اللواء شرفك ووطنك ودينك، فإذا أصابته نقطة من الغبار قل شأنك وشرفك، وإذا نالته خدشة أو خمشة صغيرة في جانب من جوانبه صغر قدر نفسك، إنه كيانك وكتاب مجدك ورمز أمانيك، لج غمرات الحرب وانظر دوما إلى الأمام، واعلم أن الجبن عصيان للوطن، فلا ترض لنفسك أهون الحالين، بل اسع في أن تكون إما غازيا أو شهيدا.»
وعندما كانت نساؤنا تدفع أحفادها وفلذات أكبادها إلى غمرات الحروب بأمثال هذه الحماسات، كنا نقفز على الدوام نحو الرقي والفلاح، لقد ارتفعت إذ ذاك رءوسنا وأشهدنا العالم مجدنا وكياننا، وبرهنا لهم أننا نستحق الحياة بجدارة واستحقاق.
ولقد جرت الأيام ذيول العفاء على تلك الأزمان المجيدة والأيام العزيزة، وتطاولت الأحقاب والأجيال على وقت كنا نقدر فيه ذواتنا، ولقد نسينا شخصيتنا وامحت القومية من صدورنا، أو منذ ذلك اليوم صرنا مهجورين مدحورين، ثم قمنا نقلد غيرنا ونحاكي سوانا، فما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وعندما عدنا القهقرى أصبحنا نشك في شخصيتنا لأننا فقدناها، ومثلنا اليوم في أوقيانوس المدنية وخضم العمران مثل سفينة فقدت دفتها تشق عباب البحر بلا غاية ولا أمل، فطورا إلى اليسار وطورا إلى اليمين، إلى حيث يخيل إليها أنه شاطئ السلامة والنجاة.
ولكن لا شيء يستعصي في الحياة أمام العزيمة والثبات، علينا ألا نيأس وأن نحيا بالأمل وأن نعتقد بأن حسن الطالع سيكون يوما معنا، وأن نعمل منذ اليوم بما أوتينا من جهد وجلد وقوة على اكتساب ثقة الأيام وانتهاز فرص الزمان، علينا أن نكرر من حين لآخر كلمات الخنساء الذهبية لأولادها وهم ذاهبون إلى المعركة، ولنخلص في القول حتى نعمل على وقاية اسمنا وشرفنا والمحافظة على لوائنا، لتكن أجسادنا ذرات منفصلة من وطننا، ولتكن قلوبنا قلعة منيعة محصنة بأسوار الإيمان، أما لواؤنا الأخضر ذو الهلال والنجوم الثلاث فليخفق على الدوام فوق برج هذا الحصن المنيع بالنسمات التي تحركها أبواق الظفر.
أميرة المؤمنين زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر
المنصور
الفصل الأول
الأميرة زبيدة
كما أن شيب الرءوس والعوارض من علامات الشيخوخة للأفراد ومن أدلة اقترابها نحو حلقات الضعف والذبول، كذلك انغماس الأمم في مماشي الرفاهة ومسالك السفاهات من إمارات انحطاطها ودنو ساعتها، والسر في ذلك أن عناية الخلق بضروب الزينة وإعراضهم عن الجوهر وتمسكهم بأهداب العرض وإكثارهم من التهافت على الكماليات يسوقهم حتما إلى هجر أوضاعهم القديمة وأنظمتهم التي درجوا عليها وتقاليدهم التي نشئوا معها، فيشرعون في توسيع شأنهم وترفيه حالهم، فتبدأ عامتهم في مشاركة الملوك والخواص في مظاهر لباسها ومعاشها، ويصبح حب الراحة من قواعد العرف وأحكام العادة، ويهجر قواد الحروب مضارب الخيام وظهور الخيول إلى التنعم في مغاني الأنس والتلهي تحت ظلال الأمن والدعة، فيختل النظام وتسري الفوضى ويسود الفشل، وتضعف تبعا لذلك الأنظمة المقننة لسياج الملك وصيانته، إلى أن يأتي دور الانحلال فالاضمحلال، وتتم كلمة القضاء المسطرة في لوح الأزل.
حقا إن الأمم إنما تسير حسب الحكمة الصمدانية المرسومة لها في كتاب قدرها، وإن «لكل أجل كتابا»، ولكن لا يجب أن نستسلم من جراء ذلك ونركن الأقدار تسيرنا ذات اليمين وذات اليسار، وإنما علينا أن نمتلئ بالأمل، ونعمل بجد على إصلاح الحال والمآل؛ إذ من الثابت المقرر أن من القضاء ما هو معلق كما هو وارد في الكتاب العزيز:
يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب .
1
ما أجل هذه الفلسفة وأروعها! إننا لنسجلها هنا بيد الإعجاب والتقدير لذلك الفيلسوف الداهي والمؤرخ الكبير العلامة الحاج خليفة المعروف في عالمي الأدب والعرفان باسم كاتب شلبي؛ ذلك لأنها القانون الأزلي لوقائع الأيام والناموس الخالد لحوادث الزمان، هذا الناموس الخالد لهو - في عرفي - المقياس القويم والقسطاس المستقيم لجميع الأدوار التي تتقلب فيها الإنسانية، فالحكومات التي توالت والدولات التي تعاقبت الواحدة تلو الأخرى، ما انحدرت من أوج الإقبال إلى وادي الإدبار وما سقطت من سنام العز إلى حضيض الذل إلا بسبب تلك العلل والأدواء التي بينها لنا المؤرخ العلامة «كاتب شلبي».
هاكم صفحات التاريخ، فكلها عظات وعبر، تحدثنا بأوضح بيان وأفصح لسان عن مصر، جميع الحكومات والأمم، شرقية كانت أم غربية، وكيف انطفأ نور سعادتها وخبا ضوء عزها، في طريق العظمة وسبيل غرورها وتمشيها في مسالك الرفاهة والنعمة، وكيف كان ضياعها وفقدان مزاياها وامحاء شخصياتها عقب ولوجها مناهج الغرور.
أجل، ما حال تلك الأمم والشعوب؟ لقد خبا نور عزها بعد أن كان ساطعا مشرقا، وتقوضت دعائم مجدها بعد ثبات ورسوخ، فذهبت ضحية الاحتشام والدبدبة، وهوت من سماء العالم كما تهوي النجوم السيارة في ليالي الصيف.
ما من أمة استطاعت أن تقف في وجه هذا القانون الأزلي؛ فبغداد لم يغنها علمها وعرفانها فتيلا، والقاهرة لم يجدها صناعاتها وفنونها نفعا، وتونس لم ينفعها سحر بدائعها شيئا، كل هذه العواصم التي ازدهت بأنوار المدنية والعمران وازدهرت بأشعة العلوم والفنون زمنا ما وكادت تصل الذروة أو تقترب من قمة الكمال، اعتراها الدوار وهي في الطريق، فلم تحرص على أوضاعها القديمة التي أوصلتها إلى تلك الحال.
هذا داء استعصى دواؤه على نطس الأطباء وأجلة الحكماء، واحتار في تعليله وتشخيصه جمهور العلماء والأدباء، وكما أن تيمورا الفاتح الكبير لم يتمكن من الاحتفاظ بملكه الشاسع، كذلك الأندلس لم نجد وسيلة إلى تخليد مجدها وعظمتها، وهكذا الحال مع حكومات الرومان واليونان، فما من قائد أو حاكم اشتهر بين قومه بالبطولة والعظمة ترك عادته القومية وتربيته الوطنية وحياته الساذجة الصافية إلى حياة الرفاهة والدعة إلا وقد غلب على أمره ولاقى وبال نفسه، فها هم رجال الحرب والكفاح من أبناء الرومان من الذين جالدوا وناضلوا في المعامع والمعارك حتى تكللت رءوسهم بأكيال النار، ما كاد هؤلاء يتقلبون على فراش النعمة ويتوسدون رياش الراحة، حتى فارقتهم صفات البطولة ومزايا الرجولة التي شرفتهم ورفعتهم على هامات الشعوب، فصار أحدهم بعد تلك الخشونة وممارسة أنواع الصعاب وضروب المشقات، يجرحه النسيم ويدميه لمس الحرير ويتأذى من وريقة الورد إذا وجدت عرضا بين حشايا فراشه الناعم الرقيق.
وهل أتاك حديث الإغريق، وما كان من شأن علماء أثينا الذين خلبوا ألباب العالم بواسع أفهامهم، وعظيم ذكائهم؟ ألم تر كيف كان بهاء مجدهم وانتشار مدينتهم واستفحال كلمتهم في مشارق الأرض ومغاربها؟! ثم انظر إلى مصيرهم بعد تلك العظمة وإلى انطفاء نورهم بعد ذلك الإشراق، سلكوا سبيل الرفاهة والزينة فانفرط عقد نظامهم حتى أصبح موطنهم مزرعة للدسائس والفتن، وفقدوا الانسجام الكامن في حياتهم الشخصية كما تفقد الكرات موازنتها الطبيعية وهووا إلى الحضيض فالدمار.
وقد كانت بغداد، تلك المدينة الإسلامية الزاهية الزاهرة وعاصمة الخلافة وركنها الركين هدفا لهذا القانون، فتمشت مع تياره، ولم تستطع ثباتا أمام سلطانه، وصلت إلى أوج العز ومنتهى الكمال ثم تدهورت إلى مهاوي الانحطاط ومنحدرات السقوط كغيرها من الأمم السالفة والممالك البائدة.
قامت بغداد هذه في العصر الثاني للهجرة تمثالا حيا لمدنية الإسلام وبرهانا ناطقا على أن هذا الدين المبين من أكبر العوامل على الرقي والفلاح، وما كاد ينقضي عام ونصف على تأسيسها حتى انتشر العمران في خراباتها وسرى نور العلم والعرفان في عرصاتها، يخطف الأبصار ببريقه الوضاء، ثم تبدل فقر الأهالي وإملاقهم إلى الغنى والرفاهة وبسطة الرزق وسهولة العيش، وفي ذلك إدلال على إعجاز هذا الدين وتنبيه إلى جلاله وعظمة شأنه، فطوبى للأمم التي تصل مواطن العز ودرجات الإقبال من طريق تنظيم حياتها وفقا لأوامر الدين، وطوبى لأولئك الذين يصلون تلك المرتبة العالية من طريق العمل بالأمر النبوي الجليل: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.»
الفصل الثاني
لما صار الملك إلى العباسيين واستقر نصاب الخلافة فيهم بتدبير السفاح، وبمعونة الإيرانيين أتباعه وأشياعه، نقل عاصمة الملك ومقر الخلافة من دمشق إلى «الكوفة» ليكون قريبا من رجاله وحزبه، غير أنه لم يجد فيها ما كان يطلبه من الراحة والطمأنينة فغادرها إلى «الأنبار» على شاطئ الفرات ومكث فيها إلى آخر أيامه وفيها انتقل الملك إلى ابنه المنصور، وكان مطلعا بالأمر قوي الشكيمة حازما متدبرا فتخوف من أبي مسلم الخراساني، ذلك القائد العظيم الذي ارتفعت دولة أبيه على أكتافه وتمت له الكلمة بهمته وفضله، فدبر له مكيدة أودت بحياته، ثم ابتنى مدينة «الزوراء» على نهر دجلة من العراق؛ ليكون بنجوة عن شغب أهل الكوفة ممن يكيدون للدولة ويقومون بمناصرة آل علي، والدولة إذ ذاك في ميعة شبابها وإبان نشأتها وسماها «بغداد» أو دار السلام، وكانت تنقسم إلى قسمين أحدهما: يدعى «الرصافة»، وفيه قصر الخلافة وإلى جانبه قصور الأمراء من أقارب الملك وذوي رحمه، ثم يتلو ذلك قصور الأشراف وسراة بغداد، والثاني: وبه بيوت الباعة وأخلاط الناس ودور الصناعة والأسواق، ويكتنفها سوران عظيمان يزيدانها منعة وقوة.
وبذلك أصبحت بغداد كعبة الجمال وآية الحسن وأصبح الخليفة في أمن ودعة، قرير العين ناعم البال في قصره المحاط بتلك الأسوار المنيعة، ثم بنى خارج هذا الحصن المحكم قصر «الخلد» الشهير، وظلت تلك القصور الذهبية الفخمة حتى أيام الرشيد، فكان يقضي أكثر أوقاته بها، وفي أيامه صارت بغداد كعبة الجمال وآية الحسن، ثم حذا من جاء بعده من الخلفاء حذوه فكانوا يأخذون مغارم الحروب من كتب اليونان، وعندما ارتفع شأن الدولة ارتفع معها شأن العلوم والمعارف في بغداد، وبدأ يؤمها العلماء والحكماء على اختلاف طبقاتهم، وينزحون إليها من أقاصي البلدان على بعد المشقة رغبة في العطايا وأملا في النوال، ولم يكن الخلفاء ليغفلوا أمر ذلك بل أجلوا العلماء وعرفوا لهم أقدارهم من الكرامة وأحلوهم أسمى الدرجات وأعلى المراتب، وأسال الرشيد عليهم الذهب النضار وأوسع لهم العطاء، فتمشى العمران على جانبي الدجلة شرقا وغربا بالأبنية البديعة والقصور الأنيقة المحاطة بالحدائق الغناء والبساتين الزهراء؛ حتى أصبحت الدجلة كالحوض البديع يخترقها بغداد وما يليها من الضواحي والمنتزهات كأنها المرآة الصافية يحف بها إطار شتى النماء والألوان.
نزل علماء الصين والهند على الرحب والسعة في مدينة السلام وطاب لهم فيها السعي والكد، وإن هي إلا فترة من الزمن حتى امتلأت بأفاضل أهل الأدب وأعاظم رجال العلم وأكابر أصحاب القول في الفنون والصناعات من العرب والعجم والترك والكرد والديلم والكرج والروم والأرمن،
1
ثم تعددت بها المدارس والجامعات وتنوعت لديها دور الكتب والمستشفيات، وأقيمت بها المراصد والمصانع وغيرها من مؤسسات العمران، واشتغل أهلها بنقل كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية فبرعوا في علوم المنطق والرياضيات والطبيعيات والإلهيات، ورسخت ملكات تلك العلوم فألفوا فيها وأصلحوا ما استبانوا خطأه في مسائلها وأضافوا إليها أبوابا أصابوا الرأي فيها.
سقيا لتلك الأزمان والعهود التي كان الغرب ينهل فيها من موارد الشرق، ففي بغداد عظم شأن الفلك وفيها تقدم علم الكيمياء، وفي ذلك العهد الزاهر تدرجت الفصاحة والبلاغة وأساليب القول في الخطب والإنشاء إلى أسمى المراتب، فاستنارت العقول ورقت الطباع والمشاعر وتنافس الخلق في ضروب البهرجة والزينة وأنواع الرفاهة، وأصبح التظرف والتجمل ودقة الصناعة ديدن كل إنسان وشعاره، فسالت أنهر الدنانير وتغالى الناس في اقتناء المجوهرات وأواني الزينة من الفضة والذهب بكثرة لا تقع تحت حصر ولا قياس، إلى حد أن ضاعت قيمتها الأصلية، وكانت العطايا والجوائز من الزمرد والياقوت والفيروز وغيرها من النفائس تنهال على الشعراء والأدباء والحكماء كالسيول الدافقة بلا عدد أو حساب؛ إذ كان الشاعر أو النديم أو العالم يأخذ ما يتمناه من سامعيه إذا أجاد القول أو أحكم الشعر في قولة يقولها أو حكمة يفسرها، ولهم في ذلك قصص متواترة تتناقلها الألسن جيلا بعد جيل، وكذلك الغناء كان له شأن يذكر حتى وصل إلى ما وراء الغاية في تشعب طرقه وكثرة مذاهبه، وتفنن الناس فيه استدرارا للرزق وطلبا للحظوة لدى الأمراء والكبراء، فنبغ فيه كثيرون نقل التاريخ إلينا أسماءهم دون ألحانهم ومجهوداتهم التي بقيت للأسف كالألغاز التي لا يتوصل المرء إلى حلها.
في هذه الأيام السعيدة المبهجة من العصر الثاني للهجرة النبوية، ولدت بطلة من بطلات الإسلام زادت نور عصرها إشراقا، هي زبيدة حفيدة أبي جعفر المنصور، منشئ بغداد.
الفصل الثالث
على مقربة من الموصل قصر جميل بناه المنصور وسماه «قصر الحرب»، ثم وهبه إلى ابنه جعفر عندما عينه واليا على الموصل، في هذا القصر ولدت زبيدة وفيه مات أبوها جعفر بعد ولادتها بثلاثة أعوام.
نشأت زبيدة في مهد الدولة العباسية، فكانت مهبط الحب وموطن العناية والتجلة والإعزاز من قلوب بني العباس، لا سيما جدها المنصور، ركن الدولة العباسية ومقرها الأشرف وعميدها الأجل، فقد كان يؤثرها بقلبه ويختصها بحب فوق كل حب، وهو الذي لقبها بزبيدة لما رأى من بضاضتها ونعومتها فغلب عليها هذا اللقب وصارت تسمى به دون اسمها الحقيقي، وقد قام جدها بتربيتها فأحسن أدبها وتربيتها؛ فعلمها القراءة والكتابة ورواها الشعر وحفظها الأخبار والسير؛ فشبت كلفة بالشعر
1
والهة بالأدب حتى كانت تزين حوائط غرفتها بالستائر الموشاة بالنظم البديع والأبيات الموثقة.
كانت ذات ملامح جذابة وجمال خاص بنساء عصرها، فاشتهر عنها الأدب والكمال والجمال مع علو النسب حتى صار يضرب بها المثل في الأندية العالية والمجامع الراقية، وقد ظهر من إعزازها والمغالاة بشأنها يوم أن زفت على ابن عمها الرشيد، فقد عقد له عليها عام 165 هجرية وهي في السابعة عشرة من عمرها وتمت حفلة قرانها بأبهة خارقة للعادة لا يسع له مجال الخيال، فكانت من أبدع الحوادث التي يرويها التاريخ
2
بإسهاب وإطناب يقصر دونهما كل قول ووصف، وقد نالت تلك الحادثة استحسان جمهور المسلمين المنتشرين في أصقاع العالم، ووقعت من نفوس كبرائهم وأمرائهم موقع الاستحسان فتهافتوا على هذه الحفيدة الهاشمية بأنواع الهدايا وضروب المجوهرات وصنوف الطيب وأدوات الزينة استجلابا لرضاها ورغبة في حظوتها، ولقد ألقي عليها في حفلة زفافها من غوالي اللآلئ ما أثقل سيرها وعاق مشيها، ولقد نثر اللؤلؤ في جنبات طريقها على البسط الموشية بأسلاك الذهب وهي تتهادى في الثياب المزخرفة التي بالغوا في تطريزها وتزيينها بأنواع الجواهر التي يعجز المرء عن تقديرها أو تقويم قيمتها.
كان الزفاف في قصر الخلد المطل على مناظر الدجلة البديعة، وفي وسط تلك المناظر الخلابة تمتعا بأشهر الغرام وأوقات السعادة، وما كاد يمضي على زواجها أربعة أعوام حتى ولدت له محمدا الأمين، ثم بعد ذلك بعام واحد أي سنة 170 هجرية تقلد الرشيد زمام الخلافة بعد أخيه موسى وهو في العشرين من عمره.
الفصل الرابع
كانت الأميرة زبيدة وسيمة الوجه، طويلة القد، بضة الجسم، بيضاء اللون، بعينين براقتين وفم صغير،
1
فخورة بأصلها وحسبها، تعتز كثيرا بانتسابها إلى الدوحة الهاشمية، وفي حالها وطورها ما يشعر بالهيبة الممزوجة بالوقار، وبالعظمة التي تنحني لها الرءوس طوعا لا كرها.
2
لقد كانت على ما وصفنا؛ لأنها كوكب السحر في سماء العظائم؛ ولأنها حفيدة خليفة وزوج خليفة، فكيف لا تباهي ولا تعتز؟ ومن تكون من نساء عصرها أجدر بالفخر والسؤدد؟
أما وفور فضلها ونبل خليقتها وصفاء قريحتها فمما سار مسار الأمثال، ومن أجل هذه المزايا التي قل أن تتوفر في امرأة أخرى تربعت على عرش عصرها المشعشع وقبضت بيدها على صولجان زمنها الزاهر.
وكان لباسها المعتاد جلبابا شاملا إلى الأرض، وعلى هذا الجلباب وشاح يزينه نطاق مرصع بالجواهر تشده بين عاتقيها وخصرها، وكانت تتجافى عن التحلي بالأحجار الكريمة والجواهر النفيسة ترفعا وأنفة ورغبة في التميز عن عامة الناس، فما كنت ترى في إصبعها خاتما ولا في معصمها سوارا ولا في جيدها قلادة، وإنما كانت نسيج وحدها في لباسها وزينتها، ولهذه الخصلة المتغلبة على نفسها كانت تزين بتلك اللآلئ النفيسة التي تضن بها على أي قسم من أقسام جسمها أحذيتها ونعالها المرصعة المقصبة بخيوط الذهب، وقد سألها ابنها المحبوب محمد الأمين عن ذلك ذات مرة، فأجابته بوقار وشمم: «أفعل ذلك لأنني لا أريد التشبه بغيري من النساء.»
3
أجل، لقد كانت تنفر من التقليد والمحاكاة نفورا شديدا، وهذا النفور حدا بها إلى إدخال تعديل كبير في عصابة الرأس التي ابتدعتها العباسة أخت زوجها الرشيد، فما كانت تضع شيئا من اللآلئ والجواهر في عصابتها كما كانت تضع نساء زمنها، وإنما تضع قطعة من النسيج الأسود الرقيق، بلا ترصيع ولا تطريز، تزيد من هيبتها وتكسبها كثيرا من الروعة والجلال.
تكاد زبيدة تكون المرأة الإسلامية الأولى في استعمال أواني الفضة والذهب والإكثار من اقتنائها، كما كانت نموذجا لغيرها في اقتناء الملابس الحريرية والتأنق في صناعتها، ويروي التاريخ أن ثوبا من ثيابها بلغت تكاليفه خمسين ألف دينار، وبالغت كذلك في تزيين نعالها وقباقيبها حتى كانت تجعلها من الفضة والأبنوس وخشب الصندل، وتصنع سروجها من القصب وسلوك الذهب، أما نسيج ثيابها فمن السمور والأطلس وضروب شتى من الأقمشة، وكان يعجبها من الألوان الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق.
4
تركت بعد زوجها قصر الخلد وانتقلت إلى قصرها الخاص المسمى بدار القرار على شاطئ الدجلة البديع، وكان مقطوع النظير في زمانه تحيط به حديقة غناء، تجلب الأنظار بزهورها وخمائلها وأشجارها المثمرة الزاهرة ، أما داخل القصر فكان لا يقل بهاء عن خارجه؛ إذ كان مفروشا بذوق خاص وبأثاث منتخب، وغرفه وردهاته مزدانة كل منها بزينة تغاير لما في الأخرى.
الزينة والأبهة في الرياش والأثاث من أحب الأشياء إلى زبيدة؛ فجلبت إلى قصرها أبدع ما أثمرته العقول وأجمل ما أنضجته الأيدي، فغدت غرفه آية الآيات ومعجزة المعجزات، ومن بين تلك الغرف، القاعة الكبرى التي كانت تتلاقى فيها مع ابنها المحبوب محمد الأمين، وقد كانت مبنية على الطراز الأرمني، ذات الرياش المجلوبة رأسا من بلاد الكرج؛ ففي أركانها الزرابي والحشايا والأرائك والوشائز، مبثوثة فوق بساط ثمين كبير الحجم من صنع العجم، منقوش عليه صور الطيور وأنواع الوحوش والصيادين من ملوك الفرس حولها على أهبة الصيد والقنص،
5
وفي أطراف البساط أبيات حكمية وأشعار رائقة تأخذ بمجامع القلب، وقد كانت قبة القاعة من خشب الصندل وتتدلى منها قطع القماش من الحرير والنجود المنمقة ذات الصور والأشكال، مشدودة على الجدران بحيث تغطيها، وفي كل زاوية من زوايا القاعة شمعدانات من الذهب الخاص توقد فيها شموع العنبر، وقد كانت هذه الشموع المعنبرة من أنواع الزينة التي اختصت بها زبيدة في ذلك العهد الزاهر، وكان ينصب لها وسط القاعة مقعد نفيس الصنع من الأبنوس المطعم بزخارف الذهب وفوقه الحشايا الرقيقة من ريش النعام المطرزة بسلوك الذهب.
6
ومنذ أيام هذه الأميرة العظيمة المغرمة بأنواع الزينة الكلفة بضروب البهرجة،
7
اشتهر الشرق بأنه معرض النفائس وطار صيته في الآفاق، أجل، إن أنوار الشرق الساطعة في تلك الأيام بهرت أعين أهل الغرب، أما اليوم فإننا - مع الأسف - نأخذ أنماط الزينة ونماذج البهرجة من الغرب، فنهنئ أنفسنا إذا ما أجادت إحدانا محاكاة الغرب وتقليد أنماط الزينة المعمول بها عند أهله.
وكان سكان دار القرار لا يقلون شهرة عن شهرة القصر نفسه، أفقد كانت جواري زبيدة من نخبة الجواري في عصرها من ذوات الجمال والمعرفة بالقراءة والكتابة وإنشاد الشعر، وبينهن مائة جارية اشتهرن بحفظ القرآن وتلاوته ليل نهار، وكانت زبيدة المتمسكة بأهداب الدين، يعجبها كثيرا سماع آيات القرآن المبين من جواريها الحافظات، وقد اشتهر أمر هؤلاء وطار صيتهن في الأصقاع، ففي كتب التاريخ أن المار بجانب دار القرار يسمع أصوات ترتيلهن كطنين النحل عندما تكون على مقربة من خلاياها.
وكان لها من قلب الرشيد حمى لا يرام؛ إذ لبثت ربة القول في قلبه وقصره رغم المنافسات من جواريه العديدات؛ لوفور عقلها ونبل صفاتها ومزاياها التي انفردت بها دون سواها من نسائه، فكان لا يسعى لأمر دون مشورتها، ولا يمضي في عمل دون رأيها، وبالإجمال كان مفتونا بنفاذ لبها ونبل خليقتها وعظمة قلبها.
كانت زبيدة من ذوات البر والإحسان، وخيراتها كثيرة جمة تجعلها من أمهات المحسنين في الإسلام، وكما كانت أياديها عظيمة ومبراتها جمة كذلك كانت أموالها وأملاكها وفيرة لا تقع تحت حصر أو قياس، حتى تحدثوا عن مزارعها وضياعها في بلاد العجم فضلا عن البلدان العربية، فكما كانت ظاهرة ممتازة في أكثر شئونها وأطوارها كذلك كانت في غناها وثرائها.
أنشأت كثيرا من المدارس والمستشفيات وأمرت بتأسيس الملاجئ وحفر الآبار والعيون، فكنت ترى أثرها في كل مرافق البر التي رفعت من صيتها في الآفاق. •••
كانت تكنى «أم جعفر»، ولكن التاريخ يكاد لا يذكر اسم أبيها كثيرا، وإنما محور سيرتها يدور مع حوادث الأمين ووقائعه، وفي ذلك ما يملأ الصحائف وتفيض من دونه المجلدات، وابنها المحبوب هذا كان نقطة الضعف في تلك الحياة العظيمة المملوءة بالحسنات.
كان ذلك الأمير الخليع المائق الذي لا يستحق شرف الولاية قد ملأ قلبها وغمر كل عاطفة من عواطفها، فكان تماديها في محبته وإيثاره على كل أمر آخر مهما عظم أو صغر هنة لا يغفرها التاريخ.
إن التاريخ ليصب جام غضبه وسخطه على ذلك الحب الوفير الذي خصت به ابنها الأمين، لقد طفا ذلك الحب وجاش فتغلب على كل عاطفة أخرى وتعسف إلى حد الإضرار بالمصلحة العامة.
كانت تعادي كل من ينظر إلى مساوئ ابنها المحبوب نظرة اللوم، وتغضب من كل إنسان لا يغض الطرف عن هفوات ذلك الطائش، إن حب الأمومة ألقى حجابا كثيفا بينها وبين عاطفة الإنصاف إلى حد الكلل عن كل عيب للأمين والعداوة إلى كل إنسان ينقل إليها لوما في حقه.
كان الذين يفضلون المأمون على الأمين - في نظرها - مجرمين لا يمكن الصفح عنهم، وكان جعفر البرمكي من هؤلاء المجرمين الذين لا يمكن التسامح في حقهم، لماذا؟ لأنه كان من أجرأ الناس على نشر مساوئ الأمين وإذاعة نقائصه، فأصبح من جراء ذلك هدفا لسهام غضبها، تكن له الحقد في سويداء قلبها.
إنما كان كرهها لجعفر وسعيها في إسقاط منزلته حبا في ابنها الأمين، وكان جعفر يرى أن الأمين لا يصلح للولاية فلم يخش من مجابهة أمه بهذه الحقيقة، أغضبها ذلك التصريح فأشهرت عليه منذ ذلك اليوم حربا عوانا، وقصرت كل همها على إسقاط منزلته من نفس الرشيد، فكانت لا تعترف بمزية لجعفر، وترى فيه عدوا يجب سحقه ومحاربته، وقد نمت هذه العاطفة في نفسها إلى أن تمكنت منها وبدأت تتشوق إلى الانتقام منه وإرواء غليلها بنكبته.
لقد نكب البرامكة لأجل الأمين، وكانت زبيدة من أهم الأيدي العاملة على حياكة وتدبير تلك النكبة المفجعة، ومن جراء ذلك يحملها التاريخ أكبر تبعة في هذه الحادثة الأسيفة.
لو أن زبيدة امرأة ذات عقل متوسط وذكاء عادي، لو أنها امرأة مجردة عن صبغة العلم ومزية الإدراك، لالتمسنا لها المعاذير والمبررات في عاطفة الأمومة التي تغلبت عليها، ولكن امرأة كزبيدة ذات عقل وافر، ولب نافذ، وشخصية بارزة، لا يمكن الصفح عن تماديها في تلك العاطفة إلى حد الإجرام وإنتاج تلك المذبحة التي سودت صحائف بني العباس؛ لأن حادثة العباسة إنما جاءت ضغثا على إبالة، وكانت بمثابة القطرة الأخيرة للكأس الطافح، ومن أجل ذلك كانت تلك المذابح وصمة سودت تلك الصحائف البيضاء من حياة زبيدة.
لو أن الأمين من الأبناء الجديرين بتلك المحبة والشفقة، لكان هناك مجال للصفح عنها إلى حد ما، أما وهو خليع مائق معربد جليس الكأس والطاس، فليس ثمت سبيل إلى تبرير تماديها في عاطفة الأمومة.
كيف ضحت زبيدة الكاملة المهذبة رجلا كجعفر في سبيل رجل كابنها الأمين؟
هذا اللغز الغريب من المظاهر الموجعة للأقدار، ومن المحال أن يصل المرء إلى حله، ووجه التسلية في هذه الحادثة هو الاعتقاد بأن يد الأقدار هي التي حكمت على حياة جعفر الطيبة بتلك الخاتمة المفجعة.
الظلم والجور يحركان مشاعر التمرد في النفس، ولكن ماذا عسانا أن نعمل وللإنسانية المعلولة حد من الكمال لا تستطيع أن تتعداه؟ لنسع في سبيل التكامل ولنبذل قصارى الجهد، ولكننا لا نصل إلى ما نريد مهما أجهدنا أنفسنا؛ لأنه ليس للبشرية أن تصل إلى ذلك.
الفصل الخامس
في العام السادس والثمانين بعد المائة من الهجرة، حج الرشيد مع امرأته زبيدة،
1
وكان في رفاقته خلق كثير من الأعوان والأمراء، من بينهم ولداه الأمين والمأمون ووزيره جعفر بن يحيى البرمكي.
وقد أظهرت الأميرة أثناء حجها هذا من المبرات والحسنات ما لا يدع لقائل قولا ولا لمفتخر سبيلا، مما ابتنته في طريق مكة من مساجد ومكاتب وملاجئ ومنازل ومشارب، فكل ذلك ألسنة تنطق بخيرها العميم أبد الدهر ومدى العمر، وما كان ذلك كله إذا قيس بمفخرتها الخالدة «عين زبيدة» شيئا مذكورا، قد احتملت هذه العين ماء الحياة سائغة، هنية إلى أم القرى، إلى متجه أبصار المسلمين ومعقد آمال الموحدين، وبتلك العين التي احتفرتها في صحاري الحجاز الجرداء وفرت العناء واحتمال ضروب المشقات عن مئات الألوف من حجاج بيت الله الحرام الذين كانوا يحتملون من قرب الماء ما يئودهم ويوقر ظهورهم، فلو فني ذكرها من جميع الأمصار وتناسى الناس صيتها في جميع الأقطار فسوف يبقى اسمها خالدا خافق اللواء إلى ما شاء الله في ذلك الوادي المقدس، مناط وحدة المسلمين.
وقد كلف حفر اثني عشر كيلو مترا من هذه العين الجارية التي يعد مشروعها نفحة من نفحات السماء، مليونا وسبعمائة ألف دينار.
2
ومن غرائب آثارها في مكة قصر من البللور أنشأته في نفس مكة المكرمة يعد آية الآيات في بابه.
هذه الرحلة الحجازية من أهم الوقائع خطرا في حوادث عام 186 هجرية؛ لأنها كانت مبدأ سقوط جعفر من عز إقباله وأوج سعوده إلى حضيض الإدبار.
كان جعفر البرمكي، صاحب المكانة السامية في نفس الرشيد إذ ذاك، وكان لا يفارق مولاه لحظة واحدة أثناء تلك الرحلة، وكان الخليفة يعتمد كثيرا على وزيره الصادق الأمين ولا يبرم أمرا دون استشارته، وكل هذه الحالات كانت زبيدة تنظر إليها نظرة الحقد والاشمئزاز.
كان جعفر يحب المأمون كثيرا؛ إذ كان صبيا محبوبا نشأ في حجر البرامكة وتأدب بإرشاد جعفر وتعاليمه، فغدا أميرا فاضلا مهذبا نافذ اللب واسع الفهم،
3
وكان محبوبا من عامة الشعب؛ لاتصافه بهذه المزايا التي يتصف الأمين بعكسها، فكان أخوه ينفس عليه ذلك، أما زبيدة فكانت لا تحتمل هذا التفوق ولا تظهر ما يدل على اغبرارها مع أنها لا تفتأ تبحث عن الوسائل التي تقضي على هذه الحالة التي تضرم في نفسها نيران الغيظ والحقد، أجل، كانت تجتهد في إخفاء ما يساورها من عوامل الكيد إكراما لزوجها الرشيد، ولكن جعفرا لا يتمالك من إظهار تقديره وإعجابه بربيبه المأمون علنا أثناء هذه الرحلة، ففاض إناء حقدها الكامن في نفسها وبدأت تفكر في الوسائل المؤدية إلى القضاء على جعفر، كان الرشيد وهو في مكة المكرمة قد كتب وصيته وبايع للأمين بولاية العهد وللمأمون بعده، وكتب الكتب بذلك وأشهد فيها الشهود وأرسل نسخها إلى الأمصار، وعلقت نسخة من تلك النسخ على الكعبة توكيدا لها وقبل تعليقها جمع من في معيته من العلماء والفضلاء والوزراء، وعقد منهم مجلسا كبيرا للشورى وأحضر فيه زبيدة والأمين والمأمون وجعفرا، وقرأ عليهم وصيته تأكيدا لها، وعندما حلف الأمين والمأمون يمين الطاعة أمام أبيهما، قال جعفر للأمين عقب يمينه قل معي: «إذا خنت الأمانة فليقهرني الله.» فكررها الأمين ثلاث مرات، وكانت زبيدة تنظر إلى جعفر بعين الحقد وتحدجه بنظرات ملؤها الغيظ والغضب.
4
هذه المعاملة المعنوية التي استعملها جعفر مع الأمين جرأة كبيرة تدعو إلى غضب زبيدة وحقدها، ولكن جعفرا ذلك الوزير الأمين كان يفكر في سلامة المملكة ويضع نصب عينيه المصلحة العامة، فلم ير بدا من المضي مع وحي الوجدان وإلهام الضمير، لم يخش من قولة الحق ولم يلتمس سبيلا إلى إنقاذ حياته من الاستهداف لغضب رقيب عتيد كزبيدة.
تملك الغضب زبيدة وارتعشت من الحدة أمام ذلك المنظر، وقررت منذ ذلك الوقت أن تقضي على جعفر، ولقد تمكنت من أن تبر بقسمها الذي أقسمته أمام هيكل نفسها بعد مرور عام واحد على تلك الحادثة؛ ففي عام 187 للهجرة قتل جعفر بن يحيى، ذلك الوزير الفذ على يد مسرور الجلاد،
5
وذهب ضحية عاطفة الأمومة التي جاشت في نفس زبيدة وفريسة غرور الأمين واعتسافه.
فتش عن المرأة في كل حادثة: قتل جعفر فتعين الفضل ربيب نعمتها ومحبوب ولدها بدله، وقد كان لها أكبر يد في هذا التعيين، وبعد ذلك بستة أعوام مات الرشيد بطوس
6
ودفن فيه، وملك بعده ابنه الأمين عام 193 هجرية.
الفصل السادس
لما مات الرشيد بطوس، كان المأمون في مدينة «مرو» واليا على خراسان، وكان الأمين ببغداد وزبيدة بالرقة، فانتشر نعي الخليفة بسرعة البرق وسعى صالح بن هارون إلى الأمين بخاتم الخلافة وسيف أبيه وكسوته الخاصة، مبايعا له حسب التقاليد والعادات،
1
وكان الأمين قد انتقل من قصر الخلد إلى دار الخلافة، ولما كان من الغد صلى مع الشعب في المسجد جماعة وأعقب صلاته بخطبة وجهها إلى الخلق والجند والوزراء فبايعوه بالخلافة عند انتهاء خطبته حسب العادة الجارية، وكان المأمون في خراسان فلم يتمكن من مبايعته بشخصه، وإنما اكتفى بإرسال الهدايا وتقديم التهاني التي تقوم مقام البيعة.
أما زبيدة فقد طاب لها المقام في الرقة، ولم تشأ أن تحضر إلى بغداد ولكن ابنها الخليفة ألح عليها بالحضور والتمس منها ذلك بكل وسيلة، فلم تر بدا من الإجابة إلى دعوة ولدها المحبوب، فتوجهت إلى العاصمة في شهر شعبان المعظم، وقام ابنها حتى مدينة الأنبار يستقبلها باحتفال مهيب احتشد فيه خلق كثير، وكانت الأعلام المتماوجة والزينات المختلفة وابتهاج الشعب ونشاطه العظيم يلقي على مدينة الأنبار ثيابا من الروعة ضافيا، وجلبابا من الجلال شاملا.
لقد كان لوصول زبيدة أثر من العظمة الخالدة التي لا يمكن نسيانها، ولتلك المواكب الفخمة روعة دائمة الذكر في صحائف التاريخ، بمثل هذا الاحتشام تقدم موكب الأمين ومن ورائه الوزراء والأمراء والأعيان ثم صنوف الخلق لملاقاة زبيدة القادمة إلى عاصمة الملك وقصر الخلافة.
هنا أخذ الخيال بيدي إلى منظر آخر في صفحات التاريخ، إلى صورة بارزة للجلال والاحتشام، إلى موكب اجتماع ملكة سبأ بسيدنا سليمان - عليه السلام - ودخولها فلسطين تحف بها آيات الاحتشام ومظاهر الجلال والكمال.
بين هذين الموكبين مشابهة ومحاكاة، فيالله من بهجتهما وإشراقهما! وأي جمال للغرب يضاهي جمال هذا الإشراق الذي يستمد بهجته من ألوان الشرق؟
وصل موكب زبيدة بين الهتاف المتواصل وأصوات التهليل ومظاهر التبجيل والتقدير إلى بغداد، ووقف أمام قصر الخلافة بإلحاح الأمين ورجائه المتواصل وهنا ألقت عصاها واستقر بها النوى. •••
كان المأمون أثناء ذلك في خراسان لا يستطيع تركها لما كانت عليه من الفتن والدسائس، فكانت الأحوال تحتم عليه البقاء في خراسان وتأخير الشخوص إلى بغداد.
كان الرشيد على علم تام بأخلاق ولديه الأمين والمأمون وبصفات ومزايا كل واحد منهما، وقد كان تعيين الأمين لولاية العهد مراعاة لخاطر زبيدة، أما المأمون فقد كان يقدره حق قدره لشخصيته الفذة ومزاياه النادرة؛ ولهذا السبب وجه إليه ولاية خراسان، فأظهر حسن السيرة والورع حتى استمال القواد وأهل البلاد، وكان فاضلا أديبا يميل إلى إتقان العلوم والفنون، ذا اطلاع واسع وأهلية تامة في تفسير القرآن وفي الحديث الشريف.
2
وقد كانت له ملكة عظيمة ودراية كبيرة في مسائل الفقه والتشريع حتى فاق أمراء زمانه وأصبح بينهم علما يعتد برأيه وفضله.
كان الرشيد ثاقب الفكر بعيد النظر فتوقع ما قد يفعله الأمين من التهوس وسوء القصد بأخيه فأوصى قبل موته بجميع ما في المعسكر للمأمون، وكان الفضل بن الربيع ربيب نعمة الأمين خليفة جعفر بن يحيى على منصب الوزارة بغير جدارة، يعلم مقدار هذا المعسكر، وما دق وجل من شئون رجاله وأحواله.
وعندما انتقل الرشيد إلى جوار ربه، وولى ابنه الأمين شئون الخلافة من بعده، زرع الفضل بذور الفساد والتمرد بين أفراد الجيش ثم روج بينهم الدعوة إلى نكث أيمانهم ومواثيقهم للرشيد بأن يكونوا في إمرة المأمون، حتى مالوا معه وقفل بهم إلى بغداد، ومعهم جميع ما في المعسكر من مال وذخيرة، وعندما وصل وزير الأمين وربيب نعمته إلى عاصمة الخلافة قابله الخليفة بالحفاوة والإكرام وأغرقه بالصلات والهبات، ثم وزع على الجنود الخائنة ضعفي مرتباتهم تلطيفا لخواطرهم.
أما المأمون فقد وجد نفسه بلا جيش ولا مال، فعمل على استمالة قلوب الشعب واكتساب رضا الناس وجمع رؤساء خراسان وأكابرها حوله وبدأ يدبر شئونه بمعونتهم، وخفض الضرائب، وسار في الرعية سيرة العدالة والمروءة، ولم يجابه مع ذلك أخاه بالعدوان أو يقابله بالإساءة، إنما كان في أحواله وأطواره أميرا عادلا يصدر عن روية ويورد عن إنصاف وتدبر.
وبينما كان المأمون في خراسان على هذا النحو من التدبر والتعقل وحسن السيرة، يجمع حوله أمراء أبيه المحنكين وشيوخ الدولة المدربين؛ ليستعين بثاقب أفكارهم وناضج آرائهم، كان الأمين ببغداد منهمكا في اللذات وشرب الخمر، حتى أرسل إلى جميع البلاد في طلب الملهين وضمهم إليه وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقسم الأموال والجواهر في خواصه وفي الخصيان والنساء، وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد وعلى صورة الفيل وعلى صورة العقاب وعلى صورة الحية وعلى صورة الفرس
3
يتنقل من واحدة إلى أخرى، عاكفا على تمضية الوقت بين الغناء والمنادمة، وقد كان لراقصاته صيت ذائع وكن مائة قد انتخبهن من أمصار مختلفة، تجيد الواحدة منهن ضروبا من الرقص وفنونا من الحركات التي تدهش الأبصار، وقد صرف عليهم مبالغ جسيمة؛ إذ كن في أبهى لباس وأثمن حلية يبهرن النواظر وهن يرقصن بأغصان النخل في أيديهن، وكلما اشتد إعجاب الناظرين ازداد غروره وتمادى في غيه والاعتداد بما صنفه من مظاهر العز والترف، في تلك الفترة الرهيبة كان أعداء الإسلام يراقبون الأحوال بعين اليقظة، منتظرين الفرصة السانحة التي تبدو لهم من خلال غفلته وانهماكه في اللذات، وقد انفرجت لهم ثلمة الفرصة في خلال هذه الفترة وبدءوا يرفعون ألوية العصيان ويتحركون بعد السكون والجمود والأمين لاه ساه كأنه في نوم عميق يبدد أموال الدولة في سبيل لذاته وشهواته بدل أن ينظر في شئون حكومته، ويعمل على سد حاجاتها المادية والمعنوية.
أما الفضل بن الربيع وزيره الأمين فقد خاف العواقب، وكان كلما افتكر فيما فعله مع المأمون من نكث عهد الرشيد ووصيته بطوس ارتعدت فرائصه فرقا، وقد وضع نصب عينيه أن ولاية المأمون للخلافة إن عاجلا أو آجلا معناها موته والقضاء عليه؛ لأن المأمون لا يترك له هذه الخيانة دون عقاب صارم، فلم يطق احتمالا لهذه الفكرة التي كانت تقلق خاطره ليل نهار وتنفي النوم من عينه، فحسن للأمين خلع المأمون والبيعة لابنه موسى فلم يوافقه أولا، ورأى الفضل أن آماله كادت تخيب فألح عليه في هذا الرأي وأشرك معه شريك النفاق والرياء علي بن عيسى، فروجا هذه الفكرة وحسناها للأمين وما زالا به حتى مال إلى أقوالهما وشرع في خداع المأمون باستدعائه إلى بغداد، فلم ينخدع وأدرك ما في ذلك من الخطر والبوار إن هو ترك خراسان، فكتب يعتذر وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما ونهض الفضل بن سهل بأمر المأمون واستمال له الناس، وضبط له الثغور والأمور، واشتدت العداوة بين الأخوين: الأمين والمأمون، وقطعت الدروب بينهما من بغداد إلى خراسان وفتشت الكتب وصعب الأمر، وقطع الأمين خطبة المأمون ببغداد وقبض على وكلائه، ثم خلعه وولى بدله ابنه موسى وليا للعهد بلقب «الناطق بالحق»، وأحضر كذلك وصية أبيه من مكة المكرمة ومزقها إربا.
على هذا المنوال نما الشر بين الاثنين، وقضي على مشروع الرشيد، ولم يبق من آثاره سوى ما كان له من حسن النية.
لقد حنث الأمين بيمين قطعه على نفسه ونكث عهدا عاهد به أباه، ولم يعبأ بتلك الوصية التي تحرمت بتعليقها على جدران بيت الله الحرام.
لم يندم الأمين على ما فعل، ولم يخجل عندما ارتكب تلك الفعلة الشنيعة، فلا بدع ولا عجب؛ لأنه شب منذ الصغر صغير النفس وضيع الهمة لا يقدر لشرف الوعود والإيمان قدرا .
لذلك رأينا المأمون يستعد، وكان بقدر ما عنده من التيقظ والتبصر والضبط، بقدر ما عند الأمين من الإهمال والتفريط والغفلة، وقد بلغ من تفريطه أنه أرسل إلى حرب أخيه رجلا من أصحاب أبيه يقال له: علي بن عيسى بن ماهان في خمسين ألفا، ويقال: إنه ما رئي قبل ذلك ببغداد عسكر أكثف منه، وكان معه السلاح الكثير والأموال الوفيرة، وخرج معه الأمين مشيعا مودعا، وكان أول بعث بعثه إلى أخيه، فمضى علي بن عيسى بن ماهان في ذلك المعسكر الكثيف وكان شيخا من شيوخ الدولة، فالتقى بطاهر بن الحسين قائد عساكر المأمون بظاهر مدينة «الري»، وكان عسكر طاهر حدود أربعة آلاف فارس فاقتتلوا قتالا شديدا فكانت الغلبة فيه لطاهر، وقتل علي بن عيسى وجيء برأسه إلى طاهر.
وأرسل طاهر إلى المأمون يبشره بذلك الفوز، وأرسل البشرى مع رجل من رجال البريد، فوصلت إلى المأمون في ثلاثة أيام وبينهما مسيرة مائتين وخمسين فرسخا.
ومن الغريب أن الطاهر في كتابه الذي بشر به بذلك الظفر، أوجز غاية الإيجاز مع الإلمام بالموضوع من جميع وجوهه وهذه نسخته:
أما بعد فهذا كتابي إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ورأس علي بن عيسى بين يدي، وكان خاتمه في يدي وجنده تحت أمري والسلام.
وقديما فعل ذلك «جول سيزار» عندما تغلب على قبائل الغول ودخل مدينة «لوتاس» وهي المدينة الأثرية التي بنيت على أطلالها باريس، فقد كتب إلى مجلس الأعيان بروما ثلاث كلمات فيهن كل وصف وإطناب وهي:
جئت فرأيت فقضيت.
لقد اغتاظ الفضل من انتصار المأمون وأطلق لغضبه العنان إلى حد مصادرة أمواله وعقاره وحجز ولديه الصغيرين ببغداد، ولقد هم أن يقتلهما لولا ممالقة الأمين، ثم توالت البعوث من جانب الأمين بعد هزيمته المنكرة وكانت الغلبة للمأمون في كل مرة، وفي سنة ثمان وتسعين ومائة، هجم طاهر بن الحسين على بغداد بعد قتال شديد وحاصرها عدة أشهر وأخذ الأمين أمه وأولاده إلى عنده بمدينة المنصور وتحصن بها، ولقد أشاروا عليه بالفرار إلى الشام فلم يفعل ارتكانا على مروءة أخيه وشهامته إن هو سلم نفسه إليه وبادر في مذكرات الصلح وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه، وحصره طاهر هناك وأخذ عليه الأبواب والمنافذ، ولما أشرف على أخذه طلب الأمين الأمان من «هرثمة» وأن يطلع إليه فروجع في الطلوع إلى طاهر فأبى ذلك، فلما كانت ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، خرج الأمين بعد العشاء الآخرة وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود فأرسل إليه هرثمة يقول: إني غير مستعد لحفظك وأخشى أن أغلب عنك فأقم إلى الليلة القابلة، فأبى الأمين إلا الخروج تلك الليلة، ثم جاء راكبا إلى الشط فوجد حراقة هرثمة، فصعد إليها فاحتضنه هرثمة وضمه إليه، ثم شد أصحاب طاهر من الأعجام على حراقة هرثمة حتى أغرقوها، فسبح الأمين وهرثمة حتى وصلا إلى الساحل بكل جهد ومشقة والتجأا إلى بيت صغير، وكان هرثمة قد غطى الأمين بطيلسانه حفظا له عن الأعين وعمل ما في وسعه لنجاته، ولكن كيف يستطيع ذلك بمفرده؟ وأنى له أن يثبت أمام مشيئة الأقدار؟ إن «لكل أجل كتابا»، فقد وصل الأعجام إلى الأمين في مكمنه، وهجموا عليه بسيوفهم المصلتة حتى قتلوه، ولقد غضب المأمون من جراء ذلك على القتلة وأمر بجمعهم ومجازاتهم لما ارتكبوه وأجرى النفقات على الموجودين في قصر أخيه وألحق ولدي الأمين بزبيدة لتربيتهما، وهكذا عمل ما في الإمكان لتلافي ما حدث بغير رضاه وبلا أمر منه.
قتل الأمين، ولد زبيدة المحبوب في الثامنة والعشرين من حياته، وكانت مدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسر.
لقد أقسم الأمين أمام أبيه بحفظ وصيته وعاهد ربه ثلاثا أمام جمع حافل أن يكون مستحقا لغضب المولى - عز وجل - وقهره إذا هو خان الأمانة؛ ثم نكث بالعهد وحنث بالقسم ولم يعبأ بشرف الوعد، أفلا يكون في ذلك دليل على الغباوة والجهل وقلة التدبر؟
الفصل السابع
اضمحل نفوذ زبيدة وتلاشى شأنها بعد خلافة المأمون ولم يبق لعظمتها مجال ومتسع، ولقد اضطرت أن تعيش في دائرة محدودة تحت ظلال السكون والاستكانة والنسيان على غير ما تعودت وبخلاف ما نشأت عليه؛ لأن طاهر بن الحسين قائد المأمون ذلك الذي تغلب على ابنها الأمين وقهر جيوشه وكسر شوكته لم ينس ما لحق المأمون من الإهانة وما ناله من الأذى وما تجشمه من المشقة في سبيل الأمين، فاضطهد زبيدة وعمل على تعذيبها وإذاقتها ألوان التحقير والإهانات، ولقد صبرت زبيدة على الأذى وتحملت كل ذلك بصبر وثبات جأش، وإنها لجديرة بالتقدير لثباتها هذا؛ لأن زبيدة العظيمة «امرأة الرشيد» تلك التي عاشت مكرمة معززة مرفهة طول حياتها دون أن يصيبها مكروه أو يعكر صفو حياتها أذى أو تسمع أو ترى ما يشعر بهوانها ومذلتها لم تذق طعم الهوان قبل ذلك اليوم.
لم يرض طاهر أن يسمح لنفسه بالنسيان عن أحوال زبيدة وحركاتها التي بدرت منها أيام ابنها الأمين؛ فحكم عليها على امرأة الرشيد الأصيلة النجيبة بأن تعيش في ضيق وشدة، إنه الانتقام ليس من الشرف في شيء بل هو ضرب من ضروب النذالة، ولقد تألمت زبيدة من تلك المعاملة ولم تدر ما تفعله إزاءها لأن يد الأقدار التي ضربتها تلك الضربة القاسية جعلتها في حيرة من أمرها لا تهتدي إلى سواء السبيل؛ ولأنها ما كان يخطر على بالها أن تظل كذلك متروكة منسية في بغداد، وعندما فاض إناء صبرها وضاق ذرعها تجلدت فأمسكت القلم بيمينها وسطرت تستعطف المأمون وتقول: «كل ذنب يا أمير المؤمنين وإن عظم صغير في جانب عفوك، وكل إساءة وإن جلت يسيرة لدى حلمك، وذلك الذي عودكه الله، أطال مدتك، وتمم نعمتك، وأدام بك الخير، ودفع عنك الشر والضير، وبعد، فهذه رقعة الولهى، التي ترجوك في الحياة لنوائب الدهر، وفي الممات لجميل الذكر، فإن رأيت أن ترحم ضعفي واستكانتي وقلة حيلتي وتصل رحمي وتحتسب فيما جعلك الله له طالبا وفيه راغبا فافعل، وتذكر من لو كان حيا لكان شفيعي لديك.» ثم أضافت إلى ذلك أقوالا شرحت فيها معاملة طاهر واضطهاده لها وقالت: «فإن كان ما يفعله صادرا عن رضاك رضيت بنصيبي من الأقدار، وإن كان يعتسف بغير رأيك فإنك قادر على تغيير الحال.»
وقد أرسلت الرقعة مع جارية لها تدعى خالصة وأوصتها أن تسلمها إلى المأمون يدا بيد.
وما كاد المأمون يقرأها حتى بكى، وقال لمن حوله قول علي - عليه السلام - عندما وصل إليه خبر استشهاد عثمان - رضي الله عنه: «والله ما كان ذلك برأيي ولا علمي.» ثم أجاب زبيدة بكتاب لطيف ورد إليها أموالها وضياعها وعمل على رفع قدرها وإصلاح شأنها ليمحو من نفسها أثر الأحزان التي انتابتها، كما وبخ طاهرا على ما فعله.
بعد ذلك نرى زبيدة في عيش رضي ونعمة تامة، تستعيد بهجتها السابقة وعظمتها السالفة، وتعمل على نسيان الإساءة التي لحقتها على يد طاهر بن الحسين، تحت ظلال وارفة من نعم المأمون وإحساناته المتوالية.
الفصل الثامن
بعد انتهاء الحادثة بتلك الخاتمة الحسنة، يظهر اسم زبيدة مرة ثانية في صفحات التاريخ، يسطع بإشراقه السابق وروائه السالف، وقد ظل هذا الطابع مظهرا لحياتها الباقية الممتدة حتى عام 210 من الهجرة.
وكما أن الجماعات التي تمر أوقاتها في سعادة ورفاهة، قل أن توجد في سلسلة وقوعاتها حادثة مكدرة أو واقعة تحرك كوامن الألم، كذلك الأفراد الذين تتوالى سلسلة أيامهم بالسرور والصفاء لا يجد الرائي خلالها من الحوادث المؤلمة والوقائع المكدرة ما نسجلها عليهم، وهكذا الحال مع زبيدة، ظلت هنيئة مغتبطة بعيشها بعد خلاصها من شر طاهر بن الحسين وأذاه، فقد تعاقبت عليها الأيام بصفاء غير ممزوج بأكدار الحياة، وهذه حالة طبيعية في حياة امرأة عظيمة تعيش في كنف خليفة عالي الهمة، رقيق الحس، جميل الشيم، كالمأمون.
من الحوادث التاريخية البارزة في تلك الفترة من حياة زبيدة، عقد قران المأمون على بوران بنت وزيره الحسن بن سهل، فقد كانت زبيدة من أكابر الرءوس التي حضرت تلك الوليمة وظهرت فيها بمظاهر الأبهة والجلال، ولم تكتف بهدية الجهاز التي قدمتها للعروسين مما كلفها 35 مليونا من الدراهم، وإنما تبرعت كذلك لبوران بإحدى ضياعها الكبيرة في ولاية «البلخ».
لقد كانت وليمة الزفاف في مدينة «مرو» في شهر رمضان المبارك من العام العاشر بعد المائتين للهجرة وانتهت بأبهة فخمة لا مثيل لها في حوادث التاريخ، حتى لقد قيل: إن أيام العرس دامت سبعة عشر يوما تجلى فيها الشرق واستفحاله في الأبهة والفخامة مما لا يقع تحت وصف أو حصر، ولقد كانت كبريات السيدات من نساء بغداد وغيرها من عواصم الإسلام وأمصاره يختلن في الحفلة بالثياب الفخمة والحلى الثمينة التي يأخذ بريقها بالأبصار، ومن لنا بتصوير حالة زبيدة ونفسيتها في ذلك الموقف، وهي تشاهد تلك الحفلة، لقد تذكرت بلا ريب بشيء من اللوعة والمرارة المعنوية حفلة زفافها في قصر الخلد منذ خمس وأربعين سنة مضت، ومن يدري إلى أي حد ذهبت بها ذكريات تلك الأيام الذهبية الماضية، لقد كانت إذ ذاك واحدة بغداد في الحسن والجمال وقرة عين جدها المنصور عميد آل بني العباس، ولقد خيل إليها وهي في تلك الحال من الرفاهة وما يحيط بها من أنواع الحفاوة والدلال أن الحال سيدوم معها على ذلك المنوال وأن حسن الطالع سيلازمها طول الوقت ومدى العمر.
لقد كانت صبية حسناء في السابعة عشرة من عمرها، ولقد كانت محبوبة معززة من عريسها الرشيد الذي يبسم له حسن المستقبل فكان اليوم يومها، ومن البديهي أنه لم يكن في تلك الحفلة امرأة أشد ذهابا مع الذكريات وأكثر استعراضا للحوادث منها، تلك الحوادث التي تمر في المخيلة تباعا كما تمر الوقائع في شريط السينما.
أما عروس اليوم فهي بوران محبوبة المأمون أكبر رأس تنحني له الرءوس، والشعراء الذين تهافتوا على وصف جمالها وتدبيج القصائد في ذكر كمالها، يتهافتون اليوم على وصف بوران وقدح زناد الفكر في ترصيع آيات التمجيد والإعظام لها.
لقد كان اليوم يوم بوران، فزبيدة في تلك الحفلة تمثال الماضي وبوران صورة الحاضر، ووجود هاتين المرأتين معا جنبا إلى جنب في الحفلة لوحة بديعة ذات معان سامية تصور منظرا من أغرب مناظر الحياة.
كان المأمون يحب بوران إلى درجة بعيدة المدى، فأراد أن يظهر له حبه متجليا في إعزازها وتكريمها بتلك الحفلة، فتم له ما أراد وظهرت حفلة زفافها عظيمة بليغة بقدر حبه العظيم.
لقد كانت حفلة مشرقة باهرة، سطعت فيها القلائد على النحور، والأقراط في الآذان والحلي على المعاصم ببهاء ورواء، ولكن شخصية بوران كانت أكثر إشراقا من أي شيء آخر، وجمالها الساطع فاق روعة تلك المجوهرات والنفائس: ولقد قيل: إنه عندما أخذ المأمون بيدها إلى الغرفة المخصصة لها نثرت جدة العروس قطعا من اللآلئ الكبيرة من على صينية من الذهب فوق رأسيهما، وقد جمعت فيما بعد فصارت عقدا بديعا زينوا به جيد بوران الناصع، وقد قيل كذلك: إن جدتها أوقدت في غرفتها شمعة عنبر تزن أربعين منا، وكتب الحسن بن سهل أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد، فمن وقعت له رقعة أخذ الضيعة المسماة فيها، هذا خلاف الذهب والجواهر الذي نثره على عامة الناس في ذلك اليوم مما بلغت تكاليفه خمسين مليونا من الدراهم، ولقد هال ذاك المأمون وأراد أن يعوض على وزيره ما أتلفه في سبيل إعظامه، فوهبه إيراد سنة واحدة من دخل إحدى ضياعه الخاصة.
على هذا النسق البديع من الفخامة والعظمة انتهت حفلة زفاف بوران، وبهذه الصورة البديعة بدأت حياة الزوجين السعيدين، وبعد هذه الحادثة بست سنوات ارتحلت زبيدة إلى دار البقاء في التاسعة والستين من عمرها.
هذه الفاضلة الممتازة من بنات بني العباس، من أجل نساء الإسلام ذكرا، وحياتها التي دامت تسعة وستين عاما، صفحة ممتازة من صفحات التاريخ الإسلامي.
كانت ذات شخصية بارزة وصفات سامية ونفس جذابة، ولقد سار ذكر جمالها مسار الأمثال ببغداد، وتغنى الناس بذكائها وفطنتها في سائر الأمصار، أما حديث غناها فمما أدهش أهل التوحيد وذكر خيراتها مما وقع موقع القبول والشكر في قلوب جميع المسلمين.
لقد أتت من عظائم الخيرات ما لا يدخل تحت حصر أو قياس، فأصبح اسمها مرادفا لمعاني البر والمعونة والإحسان، فهي لهذا السبب من الأميرات الجليلات اللواتي يفتخر الإسلام بهن على الدوام.
لقد أحبها الخلق لجمالها ولصفاتها المعنوية ولعرفانها وسمو أدبها، ولكن شهرتها الخالدة جاءتها من طريق خيراتها العديدة وببركة الدعوات الصالحة الصادرة من القلوب المكلومة التي عملت على تخفيف ويلاتها، ظل اسمها خالدا عظيما وسوف يظل كذلك تلهج به الألسنة بالمحمدة والتمجيد إلى ما شاء الله.
أما أثرها في عصرها فظاهر جلي؛ فقد كانت قطب رحى الظرف، والمبتدعة لأنواع كثيرة من ضروب الزينة، حتى لقد يمكن وضعها في صفوف كبار أهل الفن العاملين على إحيائه وإنمائه في ذلك العصر.
في سيرتها شيء من الزلل وجانب من الخطأ، ولكن لو وضعت حسناتها إلى جانب تلك الهفوات لرجحت كفة خيراتها رجحانا كبيرا، وأي امرئ من أبناء البشر مبرأ من العيب، معصوم من الخطأ؟
فزبيدة هذه من ملكات الشرق ذات الأثر الباهر، ومن مخدرات الإسلام التي كانت عونا على رفع كلمة الشرق، فإذا ما ذكر اسمها وجب أن يذكر مقرونا برفاهة الشرق وفخامته، وما كان له من علو شأن وارتفاع في العصر الثاني للهجرة.
ولهذا الاسم أثر كبير من الإعجاز، فإن له سحرا خاصا يجذبنا إليه ويجبرنا على الانحناء بإعظام أمام شخصيته لنقول من صميم أفئدتنا: «لقد كانت امرأة عظيمة.»
بهذا الخشوع والإعظام فحسب نطوي سجل هذه الحياة الصالحة.
الأميرة صبيحة ملكة قرطبة
الفصل الأول
عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله، ثامن ملوك بني أمية في الأندلس، ناصية معروفة في التاريخ الإسلامي، وعلم من أعلام الأندلس، ما كاد يجلس على عرش الخلافة حتى بذل ما في وسعه لترقية المملكة وإعلاء شأنها، إلى أن وصلت أعلى درجات الرقي وفاقت ممالك أوروبا مدنية وحضارة في المدة التي تقلد أثناءها الحكم وتقدر بنصف قرن.
عاش هذا الخليفة المقتدر وله أمل واحد، سعى لإدراكه وتحقيقه طول الحياة، ذلك الأمل: هو مجد الأندلس وعظمتها، وقد كانت همته أكبر من أن تكل، فواصل ليله بنهاره مجدا مجتهدا حتى صير قرطبة جنة فيحاء، تتخللها القصور الشاهقة والمساجد الكبيرة والمدارس العالية والمستشفيات العديدة ودور الكتب الحاوية لأنفس الآثار والمآثر، أراد ترقية العلم في ربوع بلاده؛ فأحضر لها العلماء والحكماء من سائر ممالك العلم،
1
ورغب كذلك في زينتها وبهرجتها فلم يأل جهده في تخطيط الشوارع وغرس الأشجار وحفر الترع والجداول الموصلة للأنهار، وإن هي إلا عشية وضحاها حتى كانت قرطبة تنافس بغداد في أبهة الحضارة وأسباب الرفاهة والعمران، وأصبحت موضع إعجاب كل من يقصدها من الزوار بحسن نظامها وبديع ترتيبها، واجتمعت كلمتهم على أنها عروس المدائن ومعدن الظرف ومنبع أنواع الكمالات،
2
وإن التاريخ لن ينسى أياديه البيضاء على العلوم والفنون وترويجه الزراعة والتجارة في تلك البلاد الجميلة التي أضاءت نفوس أهلها من رجال ونساء بأنوار العلم والعرفان
3
حتى أصبحت ترفل في تلك الحلل الجميلة، حلل المدنية في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في ظلمات الجهل، تتلمس لنفسها سبيل النور والضياء.
وجه همته إلى تنظيم الجيش وبناء الأساطيل؛
4
وبذا أصبح صاحب الكلمة العليا في مياه البحر الأبيض، ولم يكتف بما كان يحرزه في ميادين الحرب والقتال، بل تطلع أيضا إلى التغلب في ميادين السياسة، فما لبث أن نال فيها قصب السبق وعقدت له بها ألوية الظفر والفخار.
أكبر المسلمون من كافة أنحاء العالم ما كانوا يرونه فيه من أمارات الذكاء ودلائل العدل مع ما كان عليه من حسن التدبير ووفرة الجاه وقوة السلطان وعزة الملك، فعظمت منزلة قرطبة في أعينهم وأصبحت بمثابة القلب النابض لأجزاء الممالك الإسلامية الأخرى المنتشرة من أقصى المعمورة لأقصاها.
كان عصر نهضة وزمان تجدد وانتباه، وكان للعلوم والفنون وقتئذ تجارة نافقة، وللأندلس من هذه النهضة نصيب وافر حيث كانت مطمحا لأنظار الشعراء والعلماء وقبلة أهل الأدب وغيرهم من الوجوه ورجال الفضل من كل صوب وحدب.
5
قال عبد الرحمن الناصر يخاطب ابنه الحكم: «كلما طال عهدي قصر زمانك يا بني.» وقد طال حقيقة عهد عبد الرحمن، وكان ذلك لمجد الإسلام وعظمته؛ لأنه من أحسن الأزمنة التي عادت على الأمة الإسلامية بالخير العميم، بل أقول: بأنه كان بلا مراء العصر الذهبي للإسلام المتوج تاريخه بإكليل المجد والفخار.
حسبك حسنة من حسنات عبد الرحمن؛ جامع قرطبة الشهير والقصر المعروف ببيت الزهراء،
6
ذلك القصر المشيد على مقربة من قرطبة في أجمل بقعة من بقاع الأندلس.
لقد عجز المؤرخون عن وصف هذا القصر، وأوقع قلوب زائريه من أهل الفن في الدهشة والإعجاب؛ لأنه كان أجل من أن يوصف وأبدع من أن يصور؛ كان مملوءا بضروب الصناعة وصنوف البهرجة وأنواع الزينة من الداخل والخارج بحيث لا تقع العين إلا على آية من آيات الفن أو منظر من المناظر الرائعة الجديرة بالإجلال والتقدير.
كان ما يراه الإنسان خارج القصر لا يقاس بما تقع العين داخله؛ فقد كان لكل زخرفة من زخارفها حالة جذابة خاصة بها، وبالإجمال فهو من تلك القصور التي لا نسمع عن نظائره إلا في أقاصيص الجان وأساطير الأولين.
كانت الحديقة المحيطة بالقصر من أجمل البساتين البالغة غاية الكمال في التنسيق والترتيب، تزينها أبسطة زمردية خضراء وأشجار باسقة شامخة بأنفها في الفضاء، وأحواض رخامية تحيط بها صنوف شتى من الورد والأزاهير.
وقد كان في القصر مائتان وألف عمود من أفخر الرخام، وقاعة استقباله مزينة بالذهب مطرزة باللؤلؤ، والأبواب من خشب الأرز منقوشة نقشا يحير الألباب، والعمد غاية في الإتقان والإحكام كأنها أفرغت في قوالب، وكان بها برك عظيمة يجري منها الماء الصافي إلى أبدان تماثيل غريبة الشكل والصنعة تكاد المخيلة تعجز عن تصورها.
قال «المقري» يصف أحد مجالس هذا القصر: «سقفه من الذهب والرخام الغليظ الصافي لونه، المتلونة أجناسه وكانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك، وجعلت في وسطه اليتيمة التي أهداها «لاون» ملك القسطنطينية إلى الناصر، وكانت قراميد هذا القصر من الذهب والفضة وفي وسطه صهريج مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر قامت على سوار من الرخام الملون ذي البللور الصافي، وكانت الشمس تدخل تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار.»
7
كل زينات هذا القصر كانت بديعة مونقة، وكل النقوش التي تزينه دقيقة ومحكمة، أما الحوائط فقد كانت لوحات فنية نفيسة والأعمدة شفافة رقيقة ذات قوام جاذب، وجماع هذه النفائس كان ينبعث منها نور وجلال يتضاءل أمامها أبهة قصر الخلد الذي بناه الرشيد في بغداد.
قصر الزهراء تاج أعمال عبد الرحمن الناصر، شيده لتخليد اسم زوجته المحبوبة، فزاد بذلك من شأن قرطبة وأهميتها وكان سببا في لفت أنظار العلماء والأدباء إليه واكتسابه محبة الشعب ونواله حمد أهل المشرق واستحسان أهل الغرب، هذا إلى تخليد اسمه في طيات التاريخ بطريقة لا يمكن محوها إلى أبد الآبدين.
ولقد توفي سنة ثلاثمائة وخمسين هجرية وهو في الثانية والسبعين من عمره بعد أن سلخ خمسين حجة في حكم بلاده.
كانت قرطبة عند وفاته تحتوي على 130 ألف مسكن وثلاثة آلاف جامع وخمسين مستشفى وثمانمائة مدرسة وتسعمائة حمام وستمائة خان، بينما كانت المكتبة الملوكية تضم بين جدرانها كتبا يتراوح عددها بين 400 ألف و700 ألف مجلد،
8
إلا أنه ترك ما هو أبلغ من ذلك وأعظم شأنا؛ فقد ترك بين أوراقه الخصوصية جملة حكمية ضربت بها الأمثال وسارت بذكرها الركبان، هي قوله: «أحصيت أيام حياتي التي عشتها في صفو وهناء لا تظللها سحب الأكدار فإذا هي أربعة عشر يوما فقط.»
ملك عظيم دانت له الرقاب وتوفرت له أسباب العز والجاه عاش مبجلا، معززا، ترمقه العيون بالمهابة وتحفه الأنظار بالإجلال ولم يتمتع من أيام حياته الطويلة إلا بجزء صغير - أربعة عشر يوما فقط - فما أبلغ هذه الحكمة السامية التي تتضاءل أمامها جلائل المعاني!
الفصل الثاني
مات عبد الرحمن وبموته طوي بساط ذلك الزمن الزاهر وفتح للأندلس أبواب عهد جديد هي: أيام الحكم المستنصر بالله.
كان الحكم قبل تقلده منصب الخلافة عالما وقورا محبوبا من الشعب، وفي مصاف أكابر الأمراء في عهده،
1
ذا دراية بتدبير الملك وفنون السياسة، خاض غمار الحرب بنفسه واشترك في إدارة دفة الأحكام على عهد أبيه؛ ولذلك قابل أهل الأندلس خبر توليته وهو في الثامنة والأربعين من عمره بمظاهر الارتياح والسرور؛ إذ كان خير خلف لخير سلف.
كان - رحمه الله - من حماة العلوم وأنصار الفنون، يعتبر الكتاب من أحسن الندماء ويلذ له الاعتكاف في مكتبته الحاوية لنفائس الآثار الساعات الطوال، يقطع أوقات فراغه من العمل بالدرس والمطالعة، وكان للشعر والموسيقى في نفسه منزلة لا تقل عن منزلة الكتب، وبالإجمال كان موسيقي الطبع، مغرما بكل أمر معنوي نفيس، تخلبه نغمة العود والناي ويستهوي لبه الصوت الموسيقي الرنان، سمع ذات يوم وهو يروض النفس في حدائق بيت الزهراء تلك الحدائق الوارفة الظلال المزينة بالورد والأزهار، صوتا جميلا نفذ إلى أعماق قلبه وملك كل جارحة من جوارح نفسه، فبحث عن مصدره وعلم أنه صوت فتاة جذابة الملامح، جمال صورتها يضارع حسن صوتها،
2
تلك الفتاة هي: صبيحة التي ملكت على الخليفة حواسه وجعلته يتطرف معها إلى حد الجنون في الحب، هاجرا مكتبته ناسيا كل شيء في العالم حتى كتبه، وقد كانت أحب الأشياء لديه.
كثيرا ما يصادف الإنسان في حياته وجوها جميلة تترك جاذبيتها أثرا في النفس لا يمكن نسيانه إلى الأبد، وصبيحة كانت إحدى هذه الخوارق، ذات جمال ساحر ونفس جذابة وروح حلوة ذات لطافة ورقة ففتنت الخليفة بخفة روحها وجميل صورتها، فغدا أسير اللحاظ مكبلا بقيود الهوى.
كانت الفتاة على شيء من الأدب؛ أدب العلم والنفس، وكانت تسامر الخليفة بأحاديثها الحلوة وفكاهاتها العذبة فلا يطيق مفارقتها طول يومه، أما الليالي فكانا يقضيانها في حدائق الزهراء الخيالية تحت ظلال أشجارها العطرة جنبا لجنب، وهي تسكب في نفسه كئوسا من صوتها الرخيم لتزيده سكرا وهياما.
كان لصبيحة جسم شفاف ذات طراوة تحاكي نداوة الفجر؛ ولذا كان الخليفة يدعوها على الدوام باسم «صبح»، فهل أراد بهذا النداء المصغر المحبوب، ذكرى تلك السهرات المسكرة والأوقات اللذيذة؟ أم أنه أراد بذلك أن يعيد إلى ذاكرته أحلام الفجر المشوبة بحمرة الشفق؟ لا أدري! وإنما يخيل لي أنه إذا ذكر اسم صبيحة لأي إنسان تمثلت له صورة متوردة وتجسمت في مخيلته مناظر تلك الحدائق العطرة، حدائق الزهراء فتحيا في ذهنه صورة الأندلس بخواطرها العذبة وذكرياتها اللذيذة بكل ما فيها من لطف وظرف.
أراد الله أن يتم نعمته على صبيحة فرزقت من الخليفة غلاما كان موضع سروره وفرحه، كأنما ملك به الدنيا بأسرها، ومبعثا لسعادة الوالدة حيث كانت هذه الحادثة سببا في عقد نكاح الخليفة عليها، وقد اشترك الشعب في أفراح الخليفة وعد هذا العام، عام 352 من الهجرة النبوية، أحسن الأعوام في تاريخ الأندلس، فتهافت الشعراء على مدح المولود وتخليد ذكراه، وهرع الكبار والأعيان لتهنئة مليكهم والقيام بفروض التبريك، حتى إن وزير الحكم خاطب الخليفة بقوله: «إن هذا المولود الشريف، سليل ملوك بني أمية ليسطع علينا بنوره منذ الآن، فلماذا لا تشرق علينا كذلك الأميرة صبيحة التي منها هذه الشمس المنيرة؟»
3
ومنذ ذلك اليوم توطد مركز صبيحة وعرف أهل القصر قدرها فأحلوها المقام اللائق بها.
وبعد عامين؛ أي في سنة ثلاثمائة وأربعة وخمسين هجرية ابتسم لها الدهر مرة ثانية، فولدت للخليفة غلاما آخر سمي هشاما فعظمت منزلتها في نفس الحكم، وازداد حبه لها إلى حد بعيد المدى؛ لأن مولوده الجديد ضمن له حصر الملك في أولاده وذراريه.
كان الحكم يعد نفسه إذ ذاك أسعد مخلوقات الأرض؛ له زوجة محبوبة هي صبيحة، وله من زينة الحياة الدنيا كل ما تصبو إليه النفوس؛ مال وبنون، فلم يبق شيء بعد ذلك يرغب فيه، فكان يخصص مقدارا من وقته لإدارة أمور المملكة، والجزء الأكبر من أوقاته كان مصروفا إلى مشغوليته المحبوبة لنفسه وهي المطالعة واقتناء نفائس الكتب، وبذلك أخذت مكتبته تزداد قدرا.
4
كان الخليفة عبد الرحمن ملكا جليل القدر وحاكما مقطوع القرين، أما ابنه الحكم فكان عالما يجل العلم ويحترم أهل الفضل، ولا يحجم في سبيل نصرة العلم والأدب عن تضحية أمور دولته، فانتهزت صبيحة هذه الفرصة وأخذت تشارك زوجها في إدارة الحكومة، ولم يمض على ذلك زمن كبير حتى كانت تشغل مركزا ساميا في ميداني السياسة والإدارة، وتمكنت من إظهار ذكائها الفطري وقدرتها على ممارسة الأحكام بشكل أدهش رجال الدولة، وكان الحكم من أولئك الذين يقدرون الأشياء قدرها ويقيمون للأمور أوزانها، ففطن إلى مزايا زوجته في مسائل الحكم والإدارة فأشركها في الحكم علنا ووسع المجال لدائرة نفوذها وتأثيرها .
كانت صبيحة في أول أمرها صاحبة السلطان المطلق على عقل الخليفة وقلبه، ثم أصبحت بعد ذلك بفطنتها وذكائها تملك روحه، وما زالت تتدرج في مراتب الكمال حتى صارت الملكة النافذة الكلمة في كل بلاد الأندلس.
الفصل الثالث
أخذ عهد الحكم يمر براحة وسكون تظلله رايات الأمن والسلام؛ لأن أمراء الفرنجة الذين ناوءوه في مبدأ حكمه كانوا قد تعبوا من كثرة ما لقوه من الهزائم المنكرة والاندحارات المتوالية، فلم يروا بدا من إعادة السيف إلى نصابه والإخلاد إلى السكينة والمسالمة، وقد كان لهذه الحالة أثر بين في توطيد أسباب الراحة في أطراف البلاد الإسلامية؛ مما جعل المسلمين من أهل الأندلس يرتعون في بحبوحة الأمن داعين لخليفتهم بالعز والإقبال، أما الخليفة نفسه فقد انكب على مكتبته يرتبها ويزيد في نفائسها، حتى بلغت قائمة ما فيها من الكتب ثمانية وأربعين مجلدا، قنع بهذه الحالة ولذ له أن يغوص في لجج من العلوم لا حد لها، ناسيا كل شأن من شئون الحياة اللهم إلا مقابلة جماعات العلماء الوافدين إليه من سائر أطراف الممالك الإسلامية، لا سيما من بغداد ودمشق والقاهرة، فازدادت بذلك شهرة قرطبة وأخذت جامعاتها تنافس الأزهر والمدرسة النظامية في أهميتهما العلمية.
يقولون: إن العلم ليس له جنس ولا يمت إلى وطن أو دين بآصرة قرابة أو نسب؛ ولذا كان الخليفة يشجع كل عالم ويأخذ بيده من أي جنس كان، لا فرق لديه بين مسلم أو نصراني، وكثيرا ما جادت يده بالعطايا والهبات لكتاب قيم أو مجلد نفيس، أما الكتب النادرة التي لا يرى سبيلا إلى مشتراها فكان يأمر بنسخها وأخذ صورها، وبهذه الوسيلة أصبحت مكتبة قرطبة شعلة نور يستضيء العالم بأنوارها.
في أيامه وصلت الآداب العربية إلى ذروة عزها وسامق مجدها، كما نضجت علوم كالفلسفة والبلاغة والشعر، وكما تعددت الطرائق وسبل التحسين في علمي الجغرافيا والتاريخ وفني الرصد والكيمياء، أما دروس الفقه والتشريع فكانا يدرسان بشرح وتطويل، ويهرع الطلبة إلى ورود مناهلها باشتياق كبير من كل حدب وصوب، فقد كان عدد الطلبة الذين أموا حلقات دروس الفقه في ذلك المعهد يتجاوز عدة آلاف، أجل، إن جامع قرطبة هو مهبط النور والهدى، فيه كان يعظ أبو بكر بن معاوية ليملأ قلوب الموحدين بأنوار الدين الإسلامي، بينما كان ابن رشد وابن سينا والمسعودي وأحمد بن سعيد الحمداني وغيرهم من أقطاب الحكمة وأولياء الحجى يزينون عهد الحكم ومن وليه من الخلفاء بثمار قرائحهم وأنوار معارفهم.
في هذا المعهد الزاهر الساطع بأشعة الحكمة، كنت ترى طالبا منكبا على دروس الجامعة بكليته، يميل إليه الطلبة وتخدمه الأساتذة، كان هذا الطالب شابا ذكي الفؤاد جميل الصورة، إذا صادف وجوده وسط جماعة من الناس أصبح هدفا لأنظارهم، وإذا مر على قوم جذب إليه التفاتهم، كنت ترى في عينيه بريقا من صور الآمال وفي حاله وطوره وكلامه حالة خاصة به، كانت تظهر عليه أمارات عظمة تترك الناظر إليه في دهشة وحيرة، فكل من رأى هذا الشاب يحكم لأول وهلة وبدون أن يعرف أصله بأنه أحد أولئك الذين سيرتفع شأنهم في بلاد الأندلس ويحرزون مقاما ساميا في مناصبها العالية.
هذا الشاب هو محمد بن أبي عامر، فخر الإسلام والشرق الذي أصبح بعد حين وزير الأندلس الملقب بالمنصور.
الفصل الرابع
محمد بن عبد الله بن أبي عامر يمني المولد، ينتسب إلى قبيلة بني معاذ الشهيرة،
1
وأسلافه من مشاهير الأبطال ذوي الذكر العاطر في تاريخ الفتح الأندلسي.
كان شابا نشطا ذكي الفؤاد، جميل الصورة، تلوح عليه أمارات العزم والإقدام،
2
ويرى المتفرس في أسارير وجهه رجلا لا يعرف لليأس معنى، لا يعزم على أمر حتى يمضي فيه غير هياب ولا وجل، أتم دروس الجامعة ثم احترف بعدها مهنة الكتابة واتخذ لنفسه حانوتا صغيرا أمام القصر السلطاني لكتابة العرائض وتنميق المظالم وتحبير الشكاوى، وقد كان له بين نفوس خدمة القصر المترددين عليه مكانة رفيعة، واشتهر بينهم ونبه ذكره عندهم حتى كنت ترى حانوته على صغر حجمه غاصا بهم، إلا أن نفسه كانت تطمح إلى ما فوق ذلك، كان يفتش عن سعادته في ركن واحد من أركان الأمل ، جعله نصب عينيه ليله ونهاره، فقد كان يسعى جهده إلى الالتحاق بإحدى الوظائف في القصر.
جلس ذات يوم في حانوته يحادث أصدقاءه ومعارفه كالمعتاد، فإذا به وقد غاص في لجج من الأفكار وطار محلقا في سماء الآمال ثم انتبه فجأة لنفسه بعد حين وخاطبهم قائلا: «سأكون يوما ما حاكم هذه الدولة فليسرد لي كل منكم آماله وأمانيه والوظائف التي يصبو إليها منذ الآن فإنني محقق مطالبكم عند نوال بغيتي إن شاء الله.» فتضاحك رفقاؤه وأخذوا يذكرون له - على سبيل الممازحة - الوظائف التي تطمح إليها أبصارهم.
بعد هذه الحادثة بزمن قصير طلب ابن أبي عامر إلى قصر الخليفة كأنما الأقدار أرادت مداعبته، وكان الحكم راغبا في انتخاب كاتب بارع لزوجته صبيحة، فطلبوا بضعة أشخاص ممن توسموا فيهم القدرة على هذا العمل ليكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلة الخليفة لهذا الغرض وبينهم ابن أبي عامر، الصديق المعروف من خدم القصر وحاشيته.
ولقد كانت أجوبته بين يدي الخليفة من أحكم الأجوبة وأدلها على الفهم والروية، فنال قصب السبق وفاز على المتقدمين معه إلى تلك الوظيفة بدرجة فائقة لفتت إليه أنظار الأميرة نفسها، فقد كانت له حالة خاصة به تجذب أنظار المتطلع إليه لأول وهلة،
3
ومع ذلك فالخليفة التبس عليه الأمر وتردد مبدئيا في قبول شاب جميل كهذا لتلك الخدمة، وفي النهاية لم ير بدا من أن يكل أمر الاختيار إلى الأميرة نفسها صاحبة الشأن فوقع اختيارها عليه؛ لأنها لم تجد بين المتقدمين أليق منه للوظيفة المطلوبة، وانتهى الأمر بموافقة الخليفة على تعيين ابن أبي عامر رئيسا لكتاب الأميرة.
ألا تعترف معي أيها القارئ بأن كاتب الأميرة هذا سعيد الحظ موفق الطالع، فها قد نال أول أمنية من أمانيه العذبة التي طالما قضى الساعات الطوال مفكرا بها تحت ظلال حدائق قرطبة بسهولة ما كان يحلم بها.
قد خدمه حظه ورقي أولى الدرجات المؤدية إلى ذلك القصر البديع، قصر الآمال والتصورات فكان يرى بعين الخيال أنه سيدخل ذات يوم ذلك القصر ويمتع أنظاره بزينته وبديع رياشه وجميل أثاثه، بل إن الأمل كان يذهب به إلى أبعد من ذلك؛ فقد كان يرى أنه سيفتخر بأبهته وسلطانه ويكون صاحب الكلمة بين سكانه.
كان يحلم بمثل هذه الآمال، وكلما لج به الفكر ازداد سروره واشتدت بهجته.
وبينما كان الخليفة الحكم المنتصر بالله منعكفا في مكتبته النادرة، كانت الأميرة صبيحة تدير دفة الأمور بمعونة حاجب الدولة عثمان بن جعفر المصحفي،
4
وكان كاتبها الخاص محمد بن أبي عامر يحرر أوامرها ويقوم بتبليغها إلى مختلف الجهات.
كان الحكم خليفة البلاد اسميا، أما السلطان الفعلي فكان بيد صبيحة؛ فزينة الأندلس ورفاهيتها والنظر في شئون الشعب واحتياجاته وتعليم أولياء العهد وتثقيف أذهانهم وتربية مداركهم كل هذه أمور كانت تقوم بها الأميرة.
وهي التي كان من رأيها جعل قرطبة محطا لرحال أهل العلم ورجال الفضل والأدب، وهي التي كانت تقوم بترتيب الحفلات المتعددة داخل القصر، وتدبير الخطط اللازمة للدفاع عن البلاد خارجا، وهي هي التي كانت تعقد الجلسة تلو الجلسة بالاشتراك مع المصحفي وابن أبي عامر للمذاكرة والمداولة والمشاورة في أحوال البلاد وتدبير الخطط اللازمة لمكافحة شر الأعداء والتنكيل بهم.
كانت لسان بيت الزهراء الناطق وحياة قرطبة الزاهرة وروح الأندلس النابض، فانتشرت أنوار ذكائها في كل صوب وناحية، وقد اشتهرت بين الجميع بالكياسة وإصابة الرأي حتى لم يبق إنسان لم يعجب بحسن إدارتها وقيامها بالشئون العامة.
5
كانت الأميرة صبيحة معجبة بمقدرة ابن أبي عامر لا تدري كيف تكافئ كاتبا نشطا مثله! أما هو فكان يلازمها بخفة روحه وطلاقة لسانه ويظهر لها الرغبة في استخدامه ليس في الأمور الكتابية فحسب، بل في كل شأن من شئونها.
وكان إخلاصه في العمل مما يزيدها إعجابا به إلى حد بعيد
6
المدى.
اكتسب ابن أبي عامر ثقة الجميع واستأنس به الكل حتى أصبح شخصا لا يمكن الاستغناء عنه، وفي الحقيقة كانت أهميته تزداد من يوم لآخر حتى بدأ الناس يتوددون إليه، وقد كان يتزلف إلى أصغرهم شأنا من قبل، وما كاد حاجب الخليفة جعفر المصحفي يستشيره ويعتمد عليه في بعض أموره حتى ازدادت منزلته رفعة بين أهل القصر الذين بدءوا يعقدون عليه الآمال، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الخليفة نفسه لم يتمالك من الإعجاب به وقد رأى إخلاصه في العمل وأدرك مواهبه ومزاياه.
في هذه الفترة، وقد ابتسم له الدهر، عهدت إليه الأميرة إدارة ضياعها وممتلكاتها، فأصبح مديرا بعد أن كان كاتبا، وبعد مضي زمن قصير احتاج الخليفة إلى شخص أمين يعهد إليه إدارة الضياع الخاصة بولي العهد، ولما كان مترددا في انتخاب الشخص اللائق لهذه الوظيفة عرضت عليه الأميرة تعيين ابن أبي عامر لهذا الغرض، تردد الخليفة بادئ ذي بدء؛ لأنه صاحب الرأي الأول في قبول أو رفض المرشح لهذه الوظيفة، حيث ما زال له نصيب في حكم البلاد، ومع ذلك فقد كان يعلم قبل أي إنسان أن الرجل الذي يعهد إليه أملاك ابنه يجب أن تتوفر فيه مزايا جمة، وأن كل هذه المزايا مجموعة في شخص ابن أبي عامر، وإلا فهل هناك امرؤ أقدر منه على العمل وأشد منه إخلاصا؟
7
فكان لزاما على الخليفة أن يقبله بلا تردد؛ ولذا انتهى الأمر بنزوله عند رأي الأميرة وإصدار الأمر بتعيينه مديرا عاما على تلك الأملاك والضياع، ففي عام 356 من الهجرة اجتمعت لابن أبي عامر ثلاث وظائف بمعونة الأميرة وحمايتها جعلته يطأ الدرجة الثانية من عرش آماله وأمانيه وهو في السادسة والعشرين من عمره.
كان ابن أبي عامر سعيد الحظ فخورا بوظائفه الثلاثة، يصرف في سبيل القيام بأعبائها كل ما لديه من وقت وجهد، كان أفق المستقبل يبدو لناظره منيرا مشرقا وأحلامه زاهية زاهرة، فاطمأن ولم يقلق من المستقبل، أما كان يشعر بأن الحظ سيواليه بنعم أكثر ما دام ينسج على هذا المنوال؟ وإلا فمن ينكر رقيه السريع في زمن قصير؟ ألم يتقلد سلطة واسعة لا تخطر على البال وهو في مثل هذ السن، في عامه السادس والعشرين؟ وهل لم يكتسب ثقة المصحفي وصداقته؟ ألم يكن أهل القصر بما فيهم الأميرات يعجبون بظرفه ورقة شمائله؟ وفوق هذا ألم تكن الأميرة نفسها تظهر له ضعفا وميلا شديدين وتبذل ما في وسعها لرعايته وحمايته؟ أجل، كانت تفعل كل ذلك لدرجة اضطرته إلى طرق أبواب الحيل ولبس ثياب المداهنة؛ لأنه كان مضطرا في حالته تلك إلى ملاطفة أهل القصر ومراضاتهم جميعا، فكان يبسم لهذا ويلاطف ذاك ويعطف على تلك مراعاة للجميع حرصا على إبقاء الظواهر على حالتها، وهذه حالة أكسبته رضا الجميع وجعلته محبوبا منهم يتقبلون هداياه بسرور وابتهاج، وكان الخليفة يقول لأحد مقربيه: «إن كاتب صبيحة هذا رجل غريب الأطوار، قد استمال إليه جميع من في القصر، وإنني لأرى بعيني رأسي كيف يجلون هداياه التافهة ويفضلونها على أثمن هدية تقدم مني إليهم، فلست أدري هل أعده من المخلصين إلينا أم أعتبره ساحرا محتالا؟» ومع ذلك فإن ابن أبي عامر استمر يتقدم حتى أصبح بمساعي الأميرة ناظرا لخزينة الدولة ثم عين بعدها المدير المطلق لإدارة «صك النقود»، وبذلك أصبح في مصاف كبار الموظفين في الأندلس، وكانت الأميرة تباركه في سرها وتهتم برقيه السريع، وكم كانت شاكرة لمحاسن الصدف التي وضعت في طريقها مثل هذا الكاتب الحائز لمزايا عديدة، فلشد ما انتفعت بمواهبه، وكثر ما اهتم هو بكل شأن من شئونها! فهو إليها الشخص الوحيد الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو الركون إلى غيره، إنه ليعلم آداب المعاشرة أكثر من المتربين بين جدران القصور، ظريف لبق، تطربه النغمة الحلوة، ذو إلمام بالموسيقى قادر على مزاولة أي عمل يكلف به، أضف إلى ذلك علمه بحالة الأميرة الروحية وإدراكه للأشياء التي تبهجها وتقع من نفسها موقع الرضا والقبول، فلله دره من شخص رقيق الحس عالي الفكر!
كل هذه صفات كانت الأميرة تفكر فيها وتراجع نفسها عما إذا كانت متغالية في تقديرها، كلا كلا، إن ابن أبي عامر ليستحق منها هذا التقدير ... هنا يتساءل القارئ هل كان ذلك مجرد تقدير فحسب، أم أنها تميل إليه دون أن تعترف حتى لنفسها بهذا الميل؟ جوابا على ذلك نقول: إنها كانت تحبه
8
تحبه لدرجة أنها أصبحت تجد لذة سائغة في إعطاء الأوامر إليه وتكليفه بكتابة التحريرات المهمة وغير المهمة، إلى غير ذلك من الأسباب والمعاذير المؤدية إلى مقابلته والاحتكاك به، ولكن هل كان هو يشعر نحوها بمثل هذا الميل؟ ألم تكن في ريعان شبابها وعز جمالها ذات صوت رخيم وملاحة جاذبة؟ أليست هي الأميرة صبيحة ملكة قرطبة المحبوبة؟ فهل يمكن ألا تحب؟
نعم، إن ابن أبي عامر كان يطيعها لدرجة العبادة لا لجمالها أو لمحاسن نفسها، بل لوجاهتها ونفوذها، وكانت هي لا تميز فيه هذه الحالة؛ لأنها أحبته من أعماق نفسها حبا ناريا تغلب على كل ما لديها من إرادة وعقلية.
كانت تحبه محبة غير محدودة، كحب شجرة الدر لعز الدين بن أيبك، كلتاهما، صبيحة وشجرة الدر وقعتا بين براثن محبة قاسية، قوضت أركان شخصيتهما الممتازة وتركتهما تعانيان مرائر السلوى وآلام الهجران، كلتاهما بذلتا ما في وسعيهما لإرضاء حبيبيهما إلى حد أن أسقط ما لهما من كرامة وهوى بهما من سماء الرفعة والعز إلى حضيض الذل ليمتزجا بالشخصين العزيزين لديهما، فكل رغبة لهما أو كل أمل كان مقيدا بهواهما، كلتاهما كانتا شمسا تتألق في سماء دولتها تحيط بها نجوم وسيارات، ثم انعكست الآية بعد أن تجرعتا كأس الحب فتبدل الحال بغير الحال، وانحطتا إلى دركة السيارات بعد أن كانتا في دائرة الشموس والأقمار، وارتفع تبعا لذلك شأن حبيبيهما؛ محمد بن أبي عامر وعز الدين بن أيبك حتى أصبح كل منهما الشمس الساطعة في دولته، أجل، استفاد كل منهما من حالة حبيبته الروحية وجعلها ساعدا لأغراضه ومراميه، وتم لهما ما أرادا بخاتمة مؤلمة تكتنفها الدموع وتحيط بها الآلام.
تولى ابن أبي عامر منصبه الجديد وأظهر امتنانه وشكره لأميرته وولية نعمته بهدية ذات قيمة سارت بذكرها الركبان، كانت هديته نموذجا صغيرا لإحدى قصور الأندلس الجميلة مصنوعا من الفضة ومنقوشا بغاية الدقة والإحكام، وقد كان يوم نقلها من بيته إلى القصر الملكي يوما مشهودا اجتمعت فيه آلاف الجماهير لمشاهدة هذه التحفة اليتيمة،
9
وقد سرت الأميرة من هذه الهدية الثمينة التي كلفت ابن أبي عامر مبالغ طائلة وكان لها أثر بليغ في نفسها، من ذلك الحين بدأ يقدم لها الهدية تلو الهدية مراعيا في ذلك أن تكون هديته الثانية أثمن وأرفع قدرا من الأولى، كل هذه أمور زادت سرور الأميرة وضاعفت من شكرها وامتنانها له، إلا أن تكرار هذه الهدايا على وجه من الإسراف لا يطابق حالة أبي عامر، فك ألسنة الجمهور من عقال السكون وأخذوا يتساءلون ويتهامسون في المجامع عن مصدر تلك الأموال الباهظة التي أنفقت في سبيل مجاملة الأميرة، فكانوا يقولون في أنفسهم: إن هي إلا من مال الأمة ومتوفرات بيت المال، وإلا فمن أين له كل هذه الأموال؟ وقد اتسعت دائرة تلك الإشاعات وتماوجت حتى اتصلت بمسامع الخليفة نفسه فأرسل يطلب ابن أبي عامر إلى بيت الزهراء.
أرسل الخليفة بطلب أبي عامر إلى بيت الزهراء لتقديم الحساب عن أموال الحكومة المودعة تحت تصرفه.
هذه صدمة لم تكن في الحسبان ارتعدت لها فرائص أبي عامر؛ لأن الخزائن كان بها عجز ظاهر لا يعوضه إلا مال وفير، ففكر في الأمر وقدح زناد الفكر فلم يجد أمامه سوى الالتجاء إلى صديقه العزيز ابن خضير، وقد التجأ إليه وطلب منه يد المعونة فكان عند حسن ظنه به؛ لأن ابن خضير أعانه على أمره وأقرضه المال الناقص، وبذا أتم ابن أبي عامر شئونه وأكمل حسابه ويمم نحو بيت الزهراء آمنا مطمئنا، وهناك أمام مولاه قدم حسابا دقيقا برهن به على أمانته وأظهر إخلاصه وقطع ألسنة المخرصين والعداة؛ كانت دفاتره مرتبة منسقة وخزائن الدولة ملأى بالأموال ودار الضرب تتوهج بسبائك الذهب والفضة، فخجل الخليفة من نفسه ولم يسعه إلا تقديم عبارات الشكر والإعجاب بناظر ماليته القدير، ودفعا للشبهة وسوء الظن عهد إليه بوظيفة جديدة هي وظيفة التفتيش العام.
وفي اليوم الثاني لهذه الحادثة أعاد ابن أبي عامر ما اقترضه إلى صديقه الحميم، وكان عمله هذا معجزة ألجمت ألسنة أعدائه وأوقعتهم في مهاوي الدهشة والحيرة، إن حسن الطالع ما زال يناصره ويشد أزره وينجده أكثر من ذي قبل، فها هو قد أظهر إخلاصه لخليفته وخرج من تهمته نقي اليد عالي الرأس، وازدادت مكانته في نفس الأميرة، وعلت كلمته في طول البلاد وعرضها حتى أصبح أوسع رجال الدولة نفوذا وأعلاهم كلمة.
إن انتصاره على أعدائه بتلك الكيفية زاد من محاباة الأميرة له فتمكنت من تقريبه إلى الخليفة أكثر من ذي قبل، وأخذت تنشر محاسنه بين الناس جهارا ولا ترى بأسا من المضي معه في تيار الهوى، فصار ما بينهما حديث القوم في سمرهم ومجالس أنسهم ولهوهم،
10
حتى أصبح يخشى من وصول ذلك إلى مسامع الخليفة؛ ولذلك ارتأى المصحفي بعد موافقة الأميرة أن يذهب ابن أبي عامر إلى إشبيلية
11
كحاكم مطلق، فتم ذلك في شهر ذي الحجة سنة ثلاثمائة وثمان وخمسين هجرية، وبعد أن أقام بها مدة عبر إلى مراكش عن طريق جبل طارق.
فرح أعداؤه بهذا الإبعاد واختلقوا عليه أكاذيب شتى كادت أن تمحو ما له من شهرة وبعد صيت، إلا أن صبيحة كانت ترمقه بعين رعايتها وتظلله بجناح حمايتها وهو بعيد عنها، فقد كانت تذيع سرا أن الخليفة أرسله لمراكش لمراقبة دفاتر بيت المال وكشف أحوال القائد الأكبر غالب، كان المصحفي يحقد على غالب؛ ولذا اغتبط بمهمة أبي عامر لعلمه بأن هذا الأمر يضايقه ويحرج مركزه إلا أن غالبا كان قائدا جسورا مقتدرا، وما كاد يجتمع بأبي عامر حتى تفاهما وتآلفا وقد ذكره ابن أبي عامر بخير وأثنى عليه في حضرة الخليفة وبين ما له من المآثر في قمع الثورات وتسكين الاضطرابات في ربوع مراكش؛ مما سبب رجوعه مكرما محترما إلى قرطبة رغم اعتراض المصحفي وإصراره في ذلك.
ظهرت لأبي عامر في هذه المرحلة خدمات جليلة دلت على إخلاصه لأمته وحببته من نفوس مواطنيه الذين عرفوا له فضل هذه الخدمات والمساعي، وقد ظل يراسل الأميرة طول غيابه في مراكش ويخلد ذكراه في نفسها بالهدايا النفيسة
12
والذكريات المعنوية الجميلة؛ مما جعلها تظن في أنها تشغل مكانا ساميا من مخيلته، فلم تطق صبرا على بعاده، وكان أهل القصر يواصلون سعيهم ويكررون أمنيتهم في عودة محبوبهم الظريف.
وحدث إذ ذاك أن ولي عهد السلطنة توفي وخلفه هشام في ولاية العهد واحتاج الأمر إلى من يدير حركة ضياعه وتدبير شئون أمواله، فأشارت الأميرة باستدعاء أبي عامر لإلقاء إدارتها إلى عهدته، وفي سنة ثلاثمائة وتسع وخمسين هجرية عاد ابن أبي عامر إلى قرطبة بعد أن لهجت الألسنة بأفول شمسه وسقوط شأنه، ودخلها ظافرا شامخ الرأس، حيث عهد إليه بإدارة ضياع ولي العهد وبتولي إدارة الشرطة والدرك.
الفصل الخامس
في العام الخامس والستين بعد الثلاثمائة مرض الخليفة الحكم واشتدت عليه وطأة المرض حتى لزم فراشه، ولما أيقن من نفسه أنه في مرض الموت وأنه أصبح من المنية على قاب قوسين أو أدنى، اضطرب باله وازداد قلقه لأمر واحد: هو أمر ابنه هشام البالغ من العمر إذ ذاك أحد عشر عاما، وكانت العادة المتبعة إلى عهده في أمر الخلافة هو انتقالها بالإرث من الأرشد إلى الأرشد، غير أن الحكم كان لا يطيق أن يرى أخاه المغيرة متقلدا زمامها يوما ما، أضف إلى ذلك أن كاهنا تنبأ له بأن الخلافة قد يتزلزل ركنها في بني أمية وتتقوض دعائمها إن لم يتقلدها أولاد من صلبه، وهذه النبوءة جعلته يعتقد بأنه من أكبر الواجبات عليه نحو أمته إقناعها بقبول خلافة ابنه هشام من بعده.
وأخذت زوجته صبيحة تناصره في هذا الأمر وعضدته فيما ذهب إليه من وجوب حصر الملك في ذريته من بعده، فإن فكرة تنحية هشام عن منصب الخلافة هيجت عواطفها وأثارت ما في نفسها من كوامن الذكاء والفطنة، فقدحت زناد الفكر أملا في الوصول إلى حل مرض، وكانت كلما أمعنت في البحث هالها الأمر وأضناها لهيب الفكر، كانت تقول في نفسها: كيف تكون النتيجة إذا لم يرض الشعب بخلافة هشام؟ وكيف تكون العاقبة إذا ثارت ثائرة الأندلسيين ألا ينتهز أمراء الفرنجة هذه الفرصة لسوق جيوشهم على قرطبة؟ وكيف تكون حالتها هي إذا لم يصبح ابنها الخليفة؟ ألا تكون في هذه الحالة كمية مهملة مقضيا عليها بالانقراض والتلاشي؟
كانت قد يئست من شفاء زوجها وأيقنت بأن كل يوم يمضي يدنيه من حافة القبر؛ ولذا شعرت بوجوب الإسراع في التدبير وإعمال الرأي لإيجاد طريقة تحل هذه العقدة، وما زالت تفكر وتقلب الرأي على وجوهه حتى توصلت أخيرا إلى رأي صائب أوحت به إلى الخليفة فسارع إلى تنفيذه في الحال، وفي غرة جمادى الأولى من سنة ثلاثمائة وخمس وستين هجرية انعقد مجلس كبير
1
ضم كل ما في الأندلس من الأشراف والأعيان وأصحاب الكلمة العليا وذوي الحيثيات، حيث قرأ الخليفة عليهم إقرارا بقبولهم تولي هشام للخلافة من بعده للتوقيع عليه ممن حضر ذلك المجلس.
لم يجبرهم الخليفة على توقيع الإقرار ولم يستعمل نفوذه أو تأثيره للضغط على حريتهم في قبول التوقيع، غير أنهم لم يجدوا من اللياقة عصيان أمر رئيسهم وخليفتهم المحبوب فوقعوه عن رضا نفس وطيب خاطر، وفي تلك الجلسة أمر رئيس الكتاب وكان من مماليك الأميرة بنسخ هذا الإقرار وأخذ جملة صور منه لتوزيعها في جهات مختلفة من الأندلس للتوقيع عليها من وجوه البلاد وأصحاب الشأن فيها تحت إشراف ابن أبي عامر مأمور الضبط ورئيس شرطة البلاد، وقد أرسلت نسخ متعددة إلى جهات أخرى غير بلاد الأندلس، مثل مراكش وأفريقيا فكنت ترى عامة الشعب يتسابقون إلى توقيعها من الكبراء والأعيان حبا في إظهار إخلاصهم وولائهم لخليفتهم.
سر الخليفة من نجاح المشروع وقدر عمل زوجته هذا حق قدره، أما هي وقد رأت انحلال قواه ودنوه من الموت، فقد بذلت ما في وسعها ليكون ابن أبي عامر المفتش العام للقصر السلطاني ووصلت إلى ما تريد كما كان منتظرا.
2
الآن وقد تم توقيع الإقرار وبدئ بذكر هشام في خطب الجمعة بعد اسم الخليفة، اطمأن بال كل من الحكم وصبيحة إلا أن الظروف كانت لا تزال خطيرة، فإن للمغيرة أعوانا ومريدين على أهبة الاستعداد عند ظهور أي حركة تنبئ بسوء التدبير، أضف إلى ذلك أن أمراء الفرنجة المقيمين في شمال الأندلس كانوا على ساق وقدم لتعبئة الجيوش وإعداد الرجال، يتربصون سنوح الفرص وقد سمعوا بمرض الخليفة.
أخذت وطأة هذه الأحوال تزداد شدة وازداد تبعا لها قلق الأميرة فإنها كانت تنظر إلى المستقبل، إلى يوم وفاة الحكم فترى أفق السياسة ملبدا بالغيوم، فبدأت بالتدبير والتجهيز استعدادا للطوارئ بكل ما فيها من قوة وعزم، غير أنها كانت رغم كل وقاية واحتياط لا تدري كيف يكون خروجها من تلك المشاكل، فهناك المغيرة، أخو الخليفة هل يجب منازلته أولا؟ أم الأجدر مجابهة أمراء الفرنجة والاهتمام بما قد يحدث من الموقعين على الإقرار ظاهرا والمتمردين على الحالة باطنا؟ كل هذه أمور خطيرة تستحق النظر والاهتمام، لا تدري أية طريقة تتبع للتخلص منها، فحصت هذه المشاكل ودققت النظر بمعونة المصحفي وباستمداد الرأي من أبي عامر لترتيب الخطط اللازمة، وكانت وطأة المرض قد اشتدت على الخليفة ولم يبق لديها أمل في شفائه، وما كادت تطلع شمس اليوم الثالث من شهر صفر سنة ثلاثمائة وست وستين هجرية حتى فاضت روحه إلى بارئها.
مات الحكم وقد حكم ستة عشر عاما كلها أمان وسلام، بالغا من العمر أربعة وستين عاما، محبوبا من الشعب مبكيا عليه من أقاربه وأهله لفضله ومكانته بينهم، تاركا دولته وهشامه وديعة في أيادي زوجته المحبوبة صبيحة وحاجبه الأمين المصحفي وكاتبه النشط محمد بن أبي عامر، مات مطمئن البال، مرتاح الضمير لوثوقه من حسن سياستهم وجميل تدبيرهم، ولعلمه بأنه ترك وديعته لأشخاص أكفاء لا تغمض أعينهم لحظة واحدة عن حفظها ووقايتها من كوارث الدهر ونوازل الزمان.
في اللحظة التي توفي فيها الخليفة لم يعلم بوفاته سوى صبيحة والمصحفي وابن أبي عامر ومملوكان يسميان جوهرا وفائقا، أما أهل القصر عدا هؤلاء فكانوا يعتقدون بأنه ما زال في فراش المرض؛ لأن صبيحة بذلت ما في وسعها لكتمان الخبر، ولعبت دورها بكل إتقان إلى أن وفقها الله لتخليص الدولة من اختلال كبير يهدد البلاد، اهتمت أولا بالمملوكين وتدبرت معهما أمر كتمان الخبر عن الشعب وعن أهل القصر، أما المصحفي وابن أبي عامر فكانت واثقة من صداقتهما مطمئنة لإخلاصهما ، هنا في هذه اللحظة ظهرت صبيحة بكل ما فيها من نبوغ ودهاء، حيث كان مستقبل الأندلس في يدها وأقل إهمال أو خلاف يكفي لإنتاج أخطر العواقب ويوقع بيت الزهراء في يد المغيرة وقرطبة لحكم الحزب المخالف، ثم تقع الأندلس جميعها بعد ذلك فريسة في يد الأعداء، غير أن حسن الحظ خدمها ومكنها من إتمام دورها بإتقان خلد لها شهرة ذائعة في صفحات التاريخ، أجل، إنها جاهدت وكافحت ولكنها انتصرت وتوفقت لتخليص التاج والعرش لابنها هشام؛ وبذا تمكنت من الاحتفاظ بمكانتها ووقاية شوكتها ونفوذها بعد أن كانت من السقوط قاب قوسين أو أدنى.
الفصل السادس
كان المملوكان، فائق وجوهر، من الجنس السلافي، يحكمان على ألف مملوك آخر في القصر ومتصفان بالظلم والغدر والعمل لما فيه نكاية أهل الأندلس، وكانا يحقدان على المصحفي وهو أيضا يحقد عليهما، ويعلمان بأن نفوذهما سيذهب أدراج الرياح منذ اليوم الذي يستولي فيه هشام على تاج الخلافة، وعندما علما بموت الحكم خطر ببالهما أمر تآمرا عليه سرا وعقدا النية على تنفيذه في الحال، فاستدعيا الحاجب بدون علم أبي عامر وأفضيا إليه بواقعة الأمر وأعلماه بأنهما غير راغبين في خلافة هشام وطلبا إليه مساعدتهما في ذلك.
أسقط في يد الحاجب وعلم بأن أقل معارضة تورده حتفه في مكانه فلم ير بدا من التظاهر بالانحياز إليهما وأنه راض عن خطتهما، ثم أفهمهما أنه من صالح العمل تركه في مكانه كحارس بينما هما يذهبان لإخراج الفكرة من حيز القول إلى دائرة العمل.
كان المصحفي يعلم بأن الأندلسيين الذين لم يذوقوا طعما لحكم الأوصياء بعد، يصعب عليهم قبول مثل هذه السنة الآن، إن صغر سن هشام حجة قوية في يد الخصوم لرفض خلافته، فلا يبعد إذن أن تروح فكرة تنصيب المغيرة للعرش، اضطرب المصحفي لهذا الأمر وأخذ يقلب الأمر على وجوهه ليتبين وجها للخلاص، فعول على أن يستدعي ابن أبي عامر إلى تلك البقعة سرا ليتشاور معه في هذه الكارثة المقبلة، ثم التحقت بهما صبيحة عندما علمت بوجودهما هناك وشاركتهما في التدبير والتفكير ، لم تكن هناك إلا طريقة واحدة لحل هذه المعضلة، هو إزالة المغيرة من الطريق، حقا إنها الطريقة المثلى ولكن من يقدر على تنفيذها؟ اتجهت الأنظار إلى أبي عامر؛ لأنه أقدر الثلاثة على إتيان هذا العمل.
إذا قبل ابن أبي عامر تنفيذ ذلك فإنه ينقذ صبيحة من أشد الأزمات وأحرج المسالك في حياتها، بل هناك ما هو أهم من ذلك أنه ينتشل ولي العهد من وهدة السقوط وبالأحرى ينتشل الأندلس من أحضان الفوضى والانحلال، إنها لفرصة سانحة تجرب بها الأميرة صداقة محسوبها وربيب نعمتها.
أمام هذه الظروف وإصرار المصحفي لم يسع ابن أبي عامر إلا الإذعان، فشمر عن ساعد الجد وذهب توا إلى قصر المغيرة يصحبه العدد اللازم من الجنود الأشداء للقضاء على حياة المغيرة.
كان المغيرة شابا في السابعة والعشرين من عمره، إلا أنه جبان رعديد، فما كاد يرى وجه أبي عامر ويده على قبضة السيف حتى قال له ونبرات صوته تدل على الخوف والاستسلام: «إنني طوع إرادتكم فافعلوا بي ما شئتم.» فأخبره ابن أبي عامر بوفاة أخيه الحكم وبتنصيب هشام ابن أخيه للخلافة فأجاب: «إنني أقسمت سابقا على مبايعته أطال الله بقاءه.»
حركت هذه الحالة عاطفة الشفقة في نفس أبي عامر وجعلته يمسك عن قتله، حتى إنه خرج إلى ناحية من القصر وكتب إلى المصحفي رسالة يخبره فيها بعدم موافقته على الأمر المتفق، وأرسل الرسالة مع رسول خاص، فلما قرأ المصحفي رسالته اضطرب؛ لأن المجال كان لا يتسع لإظهار مثل هذا التألم والإشفاق، فكتب إليه في الحال يقول: «إنك بمثل هذا التردد توقعنا في ورطة أشد مما نتحملها الآن، فهل أنت عازم على خيانتنا أيضا؟»
وصل الكتاب إلى أبي عامر مع الرسول نفسه فأنعم نظره في الأمر وقد جاشت عواطفه ولم يتمكن من إسكات ثائرة الشفقة القائمة بين جوانحه إلا أنه مع ذلك لم ير بدا من إصدار الأمر إلى جنوده بالإجهاز عليه، فانقضوا عليه وكتموا أنفاسه ثم واروا جثته في إحدى زوايا القصر. •••
علم المصحفي بتنفيذ المشروع فسر في نفسه وأبدى ارتياحه، أما الأميرة فكان سرورها أشد وكان يلوح عليها مظاهر الامتنان والشكر لهذا العمل الذي كان سببا في زيادة تعلقها به.
أذيع بعد ذلك خبر موت الخليفة وتقلد هشام منصب الخلافة مكان أبيه في اليوم الثاني كما كان مقررا وبايعه الناس في حفلة عظيمة سمي فيها بلقب «المؤيد بالله»، وهو إذ ذاك لم يتم الحادية عشرة من عمره، وقدم كذلك المملوكان، فائق وجوهر، طاعتهما للخليفة ومن ثم اختفى هشام عن العيان في إحدى زوايا القصر مع مربيه الذي عهد إليه في أمر تربيته.
تم الأمر كما أرادت صبيحة وكما شاء ابن أبي عامر والمصحفي وظهرت الأميرة على مسرح الحكم علنا؛
1
إذ كانت الآن تحكم باسم الخليفة ابنها؛ لأنها أصبحت الوصية عليه فكان اليوم يومها والزمان زمانها، كانت الحاكمة المدبرة لكل أمر منذ عشر سنوات إلا أنها كانت تحكم من وراء ستار، وكان لها نفوذ واسع ولكنه نفوذ عار عن الصبغة الشرعية، أما الآن فقد استكملت نفوذها وظهرت بمظهر الوصية، صاحبة الأمر والنهي.
أخذت في دورها العملي تنظر في قرارات المجلس الأعلى وتبحث عن الوسائل المؤدية لاستتباب الأمن في ربوع الأندلس، وكان من أول أعمالها تخفيض الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهل الأهالي مما جعلها محبوبة لدى الشعب مرعية الجانب لدى الخواص؛ لأن رجال الدولة لم يقع اختيارهم عليها كوصية عبثا؛ بل لأنها كانت مشهورة بينهم بذكائها، معروفة لديهم بحسن درايتها في سياسة البلاد.
2
كتب التاريخ المصورة لتلك الأيام مشحونة بذكر سجاياها وسرد فضائلها ومزاياها، أما شعراء عهدها فقد نظموا لها عقود مدح سارت بذكرها الركبان، وشبهوها بالنجوم وأعلوا قدرها إلى السماكين حتى طبقت شهرتها كل ربوع الأندلس.
كل شيء في تاريخ حياتها جميل ظريف، سوى أمر واحد يؤسف له جد الأسف، هو عدم كتابة خواطرها في مذكرات تعبر عما كان يخالجها من المشاعر والإحساسات في الظروف المختلفة التي تقلبت أثناءها، لو كتبت مثل هذه الخواطر فمن يدري أي الأساليب الشعرية الخالدة وأي المعاني السامية الخلابة كنا نجده فيها ، كنا نجد لذة في تصفح حياة تلك الأميرة، وهي تروض النفس في حدائق قصر الزهراء وتفكر في ماضيها، هل كانت تتأثر الآن بذكر لياليها الغرامية التي قضتها مع الحكم في نفس ذلك المكان؟
هل تذكر الآن أيام شبابها وتلك السويعات السعيدة التي كانت تشعر فيها بمحبة الحكم لها؟ وهل لتلك الأويقات أثر في نفسها أو هي نسيت حتى الأيام التي كانت فيها تتغنى بين تلك الخمائل والأفنان؟
لو كانت لها مذكرات لكنا علمنا في أي مركز إحساسها الآن، أو كنا علمنا فيما تفكر وهي تمر في طرقات تلك الحدائق.
هل كانت أفكارها معطوفة إلى المستقبل أو أنها تحترم الماضي أيضا فتلتفت إليه من حين لآخر؟ من يمكنه إدراك ما في خفايا هذه المرأة المتعلمة القادرة ومن يعلم وجهة أفكارها الآن؟ ربما كانت تحسب ضحاياها، وربما كانت تتأمل في حسن طالعها، وربما كانت الآن تقلب صفحات حياتها الصفحة بعد الأخرى بلا قيد ولا روية.
يحفظ لنا التاريخ أنها بعد الفراغ من أعمالها السياسة كانت تجلس على مقربة من بركة مزخرفة وسط الحديقة لاستنشاق نسيم المساء المعطر بروائح الزهور والرياحين، في ذلك الوقت الذي يطير فيه المرء سابحا في عالم الخيالات، في عالم أثيري بعيد عن ماديات هذا العالم الأرضي.
كم يشتاق الإنسان إلى معرفة تصوراتها وما يدور بخلدها في تلك اللحظات اللذيذة القصيرة! هل كانت أفكارها موجهة إلى ابنها وأمر تربيته؟ أو أنها كانت تفكر في أمر الحياة لتعرف حقيقتها فتقول في نفسها: إن هي إلا رؤيا نرى فيها الحقيقة في ثوب الخيال والخيال في لباس الحقيقة، أو أن تصوراتها تنحدر بها في تلك اللحظة إلى مظاهر الوجاهة وآثار النعيم والترف التي تقلبت في أحضانها منذ الساعة التي كانت تغنت فيها بين خمائل الحديقة؟ أو أنها تحصي الحوادث والصدمات التي تحملتها منذ ستة عشر عاما؟ كلا كلا، إنها في تلك الجلسات بجانب البركة كانت تنظر إلى النجوم اللامعة في صفحة السماء لتقارن بينها وبين القصائد التي نظمت في مدحها ، والتشبيهات التي قيلت من أجلها، وربما كانت لا تفكر إلا في شيء واحد ولا يشغل ذهنها إلا أمر واحد هو غرامها وهيامها بأبي عامر.
آه، من يدري ذلك، كل هذه أسئلة لا يمكن الإجابة عنها وستبقى سرا غامضا إلى الأبد.
لم أجد في أي كتاب حبا يشابه حب صبيحة ولا نفسية كنفسيتها.
وقد علمت بالبحث والتنقيب أن ابن أبي عامر كان روحها وحياتها، ولكنني بكل أسف عجزت عن وصف تصوراتها وأفكارها في تلك الساعات القصيرة التي كانت تتنزه فيها في حدائق بيت الزهراء.
الفصل السابع
قدم المملوكان فروض الطاعة ورضخا لحكم الزمان مؤقتا، إلا أنهما لم ينسيا قتل المغيرة ومدبري تلك المؤامرة؛ ولذلك لم ينفكا عن تحريك الفتنة وإذكاء نارها الخامدة كلما استطاعا إلى ذلك سبيلا، اندفعا في هذا السبيل حبا في الانتقام من المصحفي وابن أبي عامر، وأوشكت ثمار أعمالهما تنضج؛ فإن الشعب بدأ يشكو من احتجاب الخليفة عنه، وأخذ الناس في مجامعهم يتحدثون عن صغر سنه، وقد كان لهم بعض العذر في التذمر؛ لأنهم في عهد عبد الرحمن وابنه الحكم اعتادوا أن يروا خليفتهم من وقت لآخر، أما هشام فقد بقي منزويا في حجرات القصر منذ يوم المبايعة.
اغتبط لهذه النتيجة مدبروها وقلقت لها صبيحة التي كانت تراقب مجرى الحوادث بعين يقظة، فاستدعت المصحفي وابن أبي عامر وطلبت منهما إبداء الرأي في هذه الصدمة، فقر رأيهما على إخراج الخليفة لشعبه، وفعلا ظهر هشام للأندلسيين في حفلة عظيمة جمعت كل دواعي الهيبة والعظمة، وكان ممتطيا جواده وعلى يمينه حاجبه المصحفي وعلى يساره ابن أبي عامر، وقد زاد أبهة المهرجان اشتراك فرق عديدة من الجنود في الموكب، وفي نفس هذا اليوم ألغيت إحدى الضرائب «ضريبة السمن» عن كاهل الأندلسيين، فهلل القرطبيون لرؤية خليفتهم وكبروا، وقد ازدادوا محبة له والتفافا حول عرشه.
لم يفت ذلك في عضد المملوكين، بل أغراهما على التمادي في إشعال نار الفتن، وقد أدت بهما الجرأة إلى نصب حبائل مكيدة داخل القصر كانت سببا في فضيحتهما ونفيهما إلى الجزيرة ، أما أعوانهما وأتباعهما فقد نالوا الجزاء الصارم من أبي عامر، وبينما كانت الأحوال في داخل البلاد على هذا الوجه كان أمراء الفرنجة في الخارج قد اشتدت قوتهم وتعددت منهم حوادث النهب في البلاد الآمنة، فقلقت صبيحة لهذه الحالة لعلمها أن قيام هؤلاء الأقيال دفعة واحدة بعد سكونهم مدة طويلة منذ عهد الحكم ينذر بقرب وقوع حروب شديدة بينها وبينهم، فأمعنت الفكر في ذلك واستمدت كعادتها برأي الحاجب وصنيعتها أبي عامر، فأشارا عليها بعرض الأمر على وجوه الأمة وأعيانها، فجمعتهم في مجلس عام وطرحت المسألة على بساط البحث والتدقيق، وكان رأي سوادهم فصل المشكلة بحد السيف وقد خطبهم ابن عامر خطبة بليغة شرح فيها الأسباب الموجبة لشن الغارة على الأعداء وتأديبهم قبل استفحال الأمر، فاستهوت الخطبة ألبابهم، ولم يبق في المجلس نفر على غير رأيه، غير أنهم لفتوا نظره إلى نفقات الحملة وما تستدعيه من المصاريف، فطلب منهم بيانا بجملتها فلم يحر أحدهم جوابا، عند ذلك أجابهم بأنها ربما بلغت مائة ألف دينار تقريبا، فرد عليه أحد الحاضرين مستعظما ذلك فأجابه على الفور: «خذ إذا شئت مائتي ألف وتول قيادة الحملة وخفف عن عاتقي هذه المسئولية.» فأفحمت هذه الكلمات قول المعترض، وبعد أن وصل المجلس إلى هذا الحد أخذ يفكر في تعيين من يعهد إليه بقيادة الجيش، وكانت هذه مشكلة جديرة بالبحث حيث لم يقبل أحد من الحاضرين أن يتولى مثل هذه المأمورية، إلا أن ابن أبي عامر فض الإشكال بأن قبل القيام بذلك على شرط أن يدفع إليه مقدار النفقات وأن تكون له الحرية
1
في انتخاب رؤساء الجيش، فرضي الحاضرون وباركته صبيحة ولم تتمالك من المجاهرة بأنها تؤمل النجاح في مهمته وأنها مطمئنة على سلامة الدولة ما دام يعضدها في إدارة الملك والدفاع عن حقوق السلطنة أمثاله من الرجال العاملين، فرد عليها شاكرا حسن ظنها، وقد ضمن كلامه بعض التلميح في ضعف سياسة المصحفي ولين جانبها إزاء هذه الصعاب، فلم تجبه صبيحة إلا أنه فهم ما لكلامه من الأثر في نفسها.
تحرك جيش الأندلسيين وعلى رأسه ابن أبي عامر حتى تقابل بأمراء الفرنجة والتحم بجيوشهم في معارك شديدة انجلت عن هزيمة الأعداء وانتصار المسلمين واستيلائهم على بعض المدن عدا الأسلاب الوافرة والغنائم الكثيرة، وبعد حروب دامت خمسين يوما عاد ابن أبي عامر إلى قرطبة مقر الملك، منصورا غانما، تحف به رايات الفوز والظفر،
2
لقد برهن على دراية تامة في قيادة الجيوش، وأظهر صفاته الحربية المغروسة في نفسه ومواهب الفروسية الموروثة عن آبائه فأحبته الجنود، ودهش من أمره من كان يظنه على جهل بأمور الحرب، وقد أعد القرطبيون لاستقباله يوما مشهودا، وكان في مقدمة المحتفلين بقدومه الأميرة وابنها الخليفة هشام وقد أغرقاه بطوفان من الإنعامات وحسن الاستقبال، وكان هو كعادته في كل الأمور البطل الموفق، مظهر احترام الأعيان والأشراف ومعقد آمال أهل القصر ورمز أماني العامة وطبقة الشعب، وقد أجمع الكل على تسميته بالمنصور؛ إعزازا له وإكبارا لشأنه، واعترافا بخدمته في تلك الحروب.
أصبح الآن لا يحفل كثيرا بالمصحفي، وعلاقاته بالخليفة رسمية محضة؛ لعدم بلوغه سن الرشد أما صبيحة فحدث عن منزلته لديها ولا حرج، فهل يوجد في العالم مخلوق أسعد من المنصور؟
ها قد تحققت آماله الذهبية الواحدة تلو الأخرى بقوة ساحرة، وها لم يمض على حديثه مع رفقائه في الجامعة أمد كبير حتى نال ما تمنى، ها هو الآن أكبر رجل في قرطبة وها هي الأنظار موجهة إليه، وها هو التاريخ خص له في طياته صحيفة بيضاء لتدوين أعماله المجيدة، إن الآمال التي كان يتصورها والمشاريع التي كان يرسمها وهو جالس في حانوته الصغير بميدان قرطبة أمام القصر قد تحققت جميعها، ذكر ذات يوم لأصدقائه بأنه سيكون حاكم الأندلس الفذ، وها هو الآن الحاكم الحقيقي للأندلس ومن أكبر رجالات العالم الإسلامي.
الفصل الثامن
استفحل نفوذ المنصور وارتفعت كلمته في شئون الإدارة والسياسة،
1
وبنى له قصرا فخما بجوار قرطبة، بل قل: مدينته الصغيرة التي سماها «الظاهرة» فنقل مأمورو الدولة مساكنهم بجوارها، وأسس التجار والباعة أماكن لهم على مقربة منها حتى أصبحت تضارع في شهرتها بيت الزهراء.
كانت الظاهرة محاطة بالحدائق الغناء والبساتين الزاهرة والأحواض الجميلة، وبها من دواعي الأنس وموجبات السرور ما يشهد لمنسقها بالذوق، وكم شهدت هذه المدينة من ولائم المنصور واحتفالاته العظيمة، تلك الأعراس التي بهرت أنظار الأندلسيين وأوقعتهم في دهشة من مظاهر تلك الرفاهة!
هل كان المنصور، وقد وصل إلى هذه المكانة وارتفع إلى تلك الغاية التي ليست وراءها غاية يحب صبيحة وهو في حالته هذه؟ أم أن ما يجيش بصدره من الإحساس لها هو أثر من آثار الشكر والامتنان لحسن صنيعها معه؟
كانت الأميرة صبيحة تحبه وتقدس ذاته إلى درجة الهيام، ولكن هل كان لشعورها هذا رجع صدى؟ وهل كان محمد المنصور يخصها بمحبة تكافئ هذا الحب؟
إنني استنادا على أعماله وعلى ما أظهره بعد تمكنه من إدارة الأندلس أقول: إنه لا يحبها! وإنما كان يحترمها ويظهر لها دلائل المودة والاعتبار؛ لأنها سبب نعمته ومنشأ رقيه وإليها يرجع الفضل في السعادة التي يرفل في بحبوحتها الآن.
قد ظهر الآن أمامها بثوبه الحقيقي وأصبح يأنف من رؤية يدها - تلك اليد التي طالما قبلها بإعزاز وتقديس - تشترك معه في الحكم منذ أصبح يشعر بأنه في غنى عن حياتها، نعم كان يتوق إلى رؤية الأوامر غفلا من اسمها ليس عليها إلا كلمة المنصور، غير أنه لم يستطع أن يرفع لواء عصيانه دفعة واحدة، فظل محافظا على سابق مودته لها، يكلمها بلسانه العذب ويعاملها بلطفه المعهود ولا يقصر في أمر يكون فيه راحتها، وهو هو في كل أطواره وحركاته التابع الأمين والخادم المخلص للعرش والخلافة.
عرضت عليه ذات يوم جارية ليشتريها، وكان نخاسها قد لقنها بعض أبيات وأمرها بإنشادها بين يديه.
دخلت الجارية قصر المنصور، وهناك في حضرته أمام جمع حافل من جلسائه غنت تلك الأبيات بصوت رخيم، فاسترعت الأغنية مسامعه وأخذ يصغي إليها باهتمام زائد وهو يرتجف من غضبه، وما كادت تتم الإنشاد حتى هجم عليها شاهرا سيفه وألقاها على الأرض تتضرج بدمائها.
2
لماذا؟ لأن الجارية نطقت بأبيات مضمونها التلميح بعلاقته مع صبيحة، فلم يحتمل أن يرى اسم الأميرة مضغة في أفواه الناس فأنزل العقاب بمن تجرأ على تلويث ذلك الاسم أمامه، وأمر بجمع وإحراق ما قيل في حقها من الهجاء ومجازاة قائليها بشدة دلت على مكانة الأميرة من نفسه.
كان لا يشغل باله في هذه الفترة إلا أمر واحد أقلقه غاية القلق، هو استكانة المصحفي وظهوره بمظهر الضعف، أراد أن يتخلص منه؛ لأن حاجب البلاد ترك مصالح الأمة ليلتفت إلى مصالحه الشخصية، وكان المنصور يظهر هذا الأمر لصبيحة ويشير إليه من طرف خفي، وكانت هي كلما أمعنت النظر في أحوال المصحفي ازدادت وثوقا بصدق أقوال المنصور الذي كان يجتهد بإعلاء شخص آخر بنسبة اجتهاده في إسقاط الحاجب، هذا الشخص هو القائد غالب، وقد تمكن أخيرا بمعونة المنصور وحسن وصايته أن ينال رتبة الوزارتين.
3
بعد هذا وضع المنصور يده في يد غالب واخترقا حدود المملكة في سبيل شن الغارة على أعداء البلاد، حيث كان أمله الوحيد جعل إسبانيا جميعها في قبضة يده،
4
وسرعان ما تكللت أعمالهما بالنجاح، وأعقب غزوتهما هذه غزوات أخرى عقد للمنصور في جميعها رايات الظفر، حتى أصبح شخصه طلسم النصر لجيوش المسلمين لا يشن على الأعداء غارة إلا يعود منها غانما رابحا.
وإذ هما منهمكان في خوض غمار الحروب وإعلاء شأن الأندلس خارجا، كانت صبيحة تدبر شئون البلاد وتشيد ما يخلد ذكرها في التاريخ،
5
أما المصحفي فلم يبق له بعد ذلك أدنى نفوذ وأصبح يشعر متألما بأفول نجمه وإدبار طالعه، لقد انفض من حوله الناس ولم يبق من يعضده من الأمراء
6
والكبراء، وقد آذى الكثيرين منهم بغروره وكبريائه أيام أن كانت له الدنيا، ومع ذلك عز عليه أن يترك مركزه بسهولة وانقياد، فأراد أن يجرب حظه ويقامر بآخر جهوده، علم شأن غالب فأراد أن يتقرب إليه بأن يزوج ابنته أسماء من ابنه عثمان، وما كاد يخطر في باله هذا المشروع حتى كتب إليه في الحال يعرض عليه ذلك.
فكر غالب في الأمر مليا وقلبه على وجوه كثيرة، وفي النهاية اقتنع بنفع هذا الزواج فكتب إليه يخبره بالقبول، ففرح المصحفي بذلك وقد كاد يطير من شدة ما ناله من السرور وشاع خبر هذه الخطبة وذاع حتى وصل أسماع المنصور، فلم يشأ أن يصدق بادئ ذي بدء، إلا أنه عندما تحقق صحتها استشاط غضبا والتجأ إلى كل باب من الأبواب التي رآها مؤدية إلى منع هذا الزواج، وكان منه أن استدعى غالبا ووسوس إليه بالضرر العائد عليه من أمر الخطبة، وأن زواج ابنته من مثل عثمان لا يولد شرفا ولا يكسبه فخرا؛ لأن المصحفي لا ينتسب إلى بيت حسب ونسب، فاحتار غالب في أمره ولم يجد لنفسه مخرجا من ذلك المأزق، لم تكن حفلة الزفاف قد جرت بعد، إلا أن الخطوبة كانت قد تمت، فماذا يفعل الآن ولقد ندم ولا ندامة الكسعي؟ ولكن لات حين مندم! فما كاد المنصور يرى منه ذلك حتى أضرم في نفسه ما يذكي نيران ندمه بقوله: «إن ابنتك جديرة بمثلي، فهل تقبل أن تزوجها مني؟»
أدهشه هذا التصريح؛ لأنه ما كان يعتقد بنوال مثل ذلك الشرف، فقبل مسرورا أن تزف ابنته إلى أكبر رجل تعرفه الأندلس، أما المنصور فكان فرحا في سره لتمكنه من إحباط خطة منافسه المصحفي، فأصبح بعد ذلك من أسهل الأمور عليه عزله من منصبه، لا سيما وقد كانت أغلاطه ظهرت لصبيحة، فتم له ما أراد وزاد من نكايته له رجوع غالب عن كلمته ورفضه زواج أسماء من ابنه عثمان.
ارتقى المنصور إلى درجة حاجب، أي وزير الوزراء، كما كان المنتظر! فيكون قد وصل الدرجة الأخيرة من عرش آماله الذهبية وجلس مفتخرا على أريكتها العلياء، ولقد أصبح بعد تلك الحادثة معكس أنظار العالم الإسلامي في جميع الأقطار؛ إذ كان رقيه سريعا مدهشا لدرجة أنه هو نفسه كان في حيرة من أمر هذه السعادة وحسن ذلك الطالع.
أرأيت أيها القارئ كيف يكون سحر الحب وفعله العجيب؟!
الحب هو الذي خلق هذه المعجزة، والحب هو الذي أخذ بيد كاتب صغير لم تحنكه التجارب إلى ذروة المجد وسنام العظمة.
المحتكون بالمنصور الحائمون حوله ذهلوا من رقيه السريع، بينما كانت صبيحة تبارك نفسها لإتحافها الأندلس بنابغة قل أن تجود الأجيال بمثله.
7
مصاهرة المنصور لقائد مثل غالب، صاحب المنزلة الكبيرة في نفوس القبائل القاطنة مراكش وشمال إفريقية أمر ارتاح إليه جد الارتياح، حيث كان يطمع في مد نفوذه وشهرته حتى تلك الأصقاع، فكم سهر الليالي وهو يذهب بتصوراته إلى تلك البلاد ويبني القصور والعلالي لإدارتها وتسخيرها لحكمه كما يريد ويشاء، فها هي الآن في مقدوره ومتناول يده.
لندع المنصور جانبا بين آماله وأمانيه ونفكر قليلا في حالة صبيحة الروحية في تلك الفترة؟ فإلى أي حد وصلت تصوراتها يا ترى؟ وكيف قابلت تلك الصدمة؛ صدمة زواج حبيبها وأعز مخلوق لديها بامرأة أخرى؟ وكيف رضيت هي بمثل هذا الأمر وأمكنها إسكات النزاع القائم في نفسها وامتلاك شعورها والتوقيع على عقد النكاح بيدها ودعوة غالب وابنته إلى قرطبة ومقابلتهما بحفاوة وسرور؟
لم يكن في مقدورها تدبير أمر يعكس هذه الحالة؛ لأنها لم تستطع أن تجري مع عواطفها، لقد منعها مركزها السامي من إظهار ما في نفسها من الآلام والآمال، إن سمو مقامها وقف في سبيل منع المنصور من مثل هذا الأمر المؤلم، فلم تر بدا من الاستسلام لحكم الأقدار ومقابلة الضربة بشجاعة وثبات، لقد أبدت شجاعة تفوق حد التصور والإدراك في كتم عواطفها، وظهرت بمظهر الرزانة الجديرة بملكة جليلة القدر عظيمة الشأن، فأشرفت بنفسها على حفلة الزفاف التي دفع الخليفة جميع نفقاتها، قد يكون في نفسها بقية من الأمل ولم لا؟ ألم يكن الغرض من هذا الزواج سياسيا؟ إن الزواج المبني على غرض مخصوص يكون ذا أساس واه لا يبشر بدوام البقاء والخلود، كان الغرض من هذا الزواج أن يكون سهام تحقير مسددة إلى صدر المصحفي، فليس في الأمر ما يوجب القلق.
بمثل هذه الآمال كانت صبيحة تعلل النفس إلى أن تم الأمر وزفت أسماء إلى المنصور، حبيب الأميرة وأقرب الناس إلى نفسها، في العام السابع والستين بعد الثلاثمائة من الهجرة النبوية.
كانت الحفلة من أحسن حفلات الأندلس في التاريخ، وذات أبهة ملوكية قل أن يسمح الزمان بمثلها، وقد زاد من بهائها أن الأميرة نفسها كانت زينتها وبهجتها، أما موكب العروس فحدث عن فخامته ولا حرج، تقاطر الناس لرؤيته من كل صوب وناحية مدهوشين من عظمته وجلاله، ولقد شاءت الأقدار أن يكون ختام العرس السياسي مقرونا باليمن والسعادة، فقد كانت العروس ذات جمال نادر، على جانب عظيم من الظرف والكياسة والأدب فافتتن المنصور بها وملأت نفسه بملاحتها الروحية، حتى أصبح لا يرى غيرها من النساء ولا يصبر عنها ساعة واحدة، لقد أحبها محبة غير محدودة، حبا يماثل غرام صبيحة له، فتصور حالة الأميرة الروحية إذ ذاك وهي منعزلة في بيت الزهراء، تقاسي مرارة الهجران؟
لم تكن صبيحة إذ ذاك في نضارة الشباب، لقد انقضى موسم الأماني العذبة وفات أوان الاسترسال في التأمل والتخيل، لقد انطفأت شعلة آمالها ولم يبق لديها ما يذكي نيرانها، فليس أمامها إلا رماد من اليأس، لقد أنزلت بمحض اختيارها الستار على رؤيا غرامها، واضطرت أن تفتح عينها في نور الحقيقة المؤلمة.
ولكن بعد هذا ماذا هي فاعلة؟ وما الذي تستطيعه وبأي الألوان تصبغ حياتها الآن؟ هل تنزل إلى حدائق قصرها وترمي بنفسها في أحضان الورود والزنابق والياسمين لتجد التسلية في مناظرها وما يتصاعد من شذاها وعبيرها؟ إنها الآن في خريف العمر ومن كان في مثل سنها لا تسليه هذه الأشياء، إن هي إلا امرأة بائسة كسيرة الخاطر انتهى غرامها على غير ما تشتهي، ولكن قد حم القضاء ووقعت الواقعة فتزلزل بنيان عشقها وانهار، فهي الآن تشاهد بين الأنات والآهات أنقاض ما تخرب من إحساسها، وتنظر وعيناها مملوءتان بالدموع في القطع المبعثرة من آمالها المحطمة، فتشفق على نفسها عندما ترى الأجنحة الدامية من خيالاتها السابقة ترفرف حائرة على تلك الخرائب.
كان تقهقرها مدهشا فيا لهول الهزيمة! ما أقرب الاتصال بين نقطتي الفوز والاندحار! ليست السعادة إذن إلا غشاء واهي الجدران، مؤسسة دعائمه على شفا هاوية عميقة، ولكن ما الفائدة؟ كل هذه ملاحظات ترد الخاطر بعد فوات الوقت وضياع الفرصة. •••
تحملت صبيحة ما أصابها وتلقت الضربة بشجاعة نادرة، ولكنها بذلت في سبيل ذلك ثمنا غاليا، هي دموع القلب التي كانت تسكبها وهي جالسة على عرش الحكم والإدارة، يالله! كم كانت أناشيدها التي ترنمت بها في ليالي الصيف مؤثرة حزينة ذات نغمة محرقة! لا ريب أنها بعد الانتهاء من أناشيدها كانت تفتح غرفتها تترحب بالنسيم، وربما ألقت في مسامعه ما يخفف من لوعة قلبها.
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست
على كبد حراء قلت همومها
من لنا الآن بمعرفة كلماتها في تلك الساعات التي كانت تخلو فيها إلى النجوى، ولكن هيهات قد أطارت نسمات الأندلس تلك الكلمات وقذفت بها إلى أعماق اللانهاية.
الفصل التاسع
أخذ المنصور يمهد على مهل سبيل حصر النفوذ في يده، فأبعد الذين توسم فيهم روح التمرد والعصيان ومجابهة ما كان يتصوره من الآمال والأحلام، ونفاهم من قرطبة مركز الحكم والخلافة حتى لا يكون بينه وبين ما يرمي إليه حاجز أو عقبة، فضرب بيد من حديد أولئك الذين أرادوا الدخول في شئون الإدارة وإحداث القلاقل والاضطرابات حول عرش سلطانه المطلق.
كان لا يقبل نصيحة إنسان، ويفهم الذين حوله بكل حركاته وأطواره أنه في غنى عنهم وعن مشورتهم وما يقدمونه من مناصرة ومعاضدة.
أصبح الآن يتضايق حتى من نفوذ حماه القائد غالب، وقد تمكن أيضا من إبعاده كما أبعد المصحفي من قبل.
هنا في هذا الموقف لم يبق بينه وبين أن يعيش حر التصرف كما يشاء ويهوى إلا ظل شخص واحد، ذلك الظل هو الأميرة صبيحة.
نعم، أصبح لا يهتم كثيرا بما لها من نفوذ ولا يعبأ بسيطرتها، ففكر في أن يتخلص من نفوذ هذا الظل أيضا وسعى باحثا عن الوسائل المؤدية لدفعه دفعا حثيثا إلى أن توفق إلى هذه الغاية أيضا وتكللت مساعيه بالنجاح.
إنه كان مضطرا إلى التظاهر بالاحترام والخضوع لولية نعمته، ولكن نظرات الأميرة كانت تتخلل ما وراء هذه المظاهر من حقيقة مؤلمة فتشعر بما يخالف هذا الاحترام من فتور واضح، قضي الأمر فليس ثمت داع لإعادة الماضي بذكرياته العذبة وخواطره اللذيذة أمام أبهة الحاضر!
لم يكن المنصور من أولئك الذين يتأثرون بالذكريات الماضية من أيام صباهم وأزمان لهوهم، إن الوقائع لتمر به تاركة أثرا خفيفا في حياته، إنها لأسطر مكتوبة على الرمال تعبث بنظامها أخف الرياح هبوبا؛ فلذلك أمر بأن يقرأ اسمه في خطب الجمعة مع اسم الخليفة، غير مكترث لنقد الناس وما تلوكه ألسنتهم.
صار الناس يقرءون اسمه على النقود ويشاهدون توقيعه في ذيل الأوامر والقرارات.
ولكن ألم يعمل على راحة الشعب وطمأنينته؟ أليس هو الساعي في نصب ميزان العدل في ربوع الأندلس، فلا نستكثر عليه إذن طموحه إلى لقب «الملك الكريم» بعد أن كان حاجبا.
الأمة لا تنسى خدماته ومآثره فلا تستغرب سكوتها الآن إزاء هذه المظاهر الجديدة، أما الخليفة هشام فكان في هذا الوقت العصيب منزويا في مجاهل القصر، بعيدا عن أضواء السياسة وضجيج الإدارة، منقادا لهواه مخربا أيام شبابه بلا نفع ولا جدوى.
قد تمر عليه فترات يحلو له فيها التجرد عن الماديات والغوص في لجج الروحانيات فيزهد رؤية الناس كثيرا وينكمش منزويا لمدة طويلة، هذا هو الخليفة هشام بن صبيحة، وعلى هذا الطراز كان يقضي أيام حياته.
قال مربيه: «ظهرت عليه في صغره علائم الذكاء والفطنة»، إلا أن تربيته التي تلقاها منذ وفاة أبيه لم تكن كافية لإنضاج مداركه وإكمال مواهبه، فظل ابن الحكم وحفيد عبد الرحمن الثالث خاملا، وعاش عاجزا جبانا مترددا عاريا عن العزم والإرادة، أقل الملوك شأنا في أسرة بني أمية.
هذه الأخلاق الضعيفة حركت عوامل الطمع في نفس المنصور، وحدت به إلى الطموح نحو العرش، وجعلته يعزم على ارتقائه العرش في بيت الزهراء بدلا من هشام، كان «الملك الكريم» فأراد أن يكون الخليفة.
اختلف المؤرخون في هذا الأمر؛ لأن معظمهم يقول بقيام هذا الأمل في نفس المنصور وأنه سعى جهده لإخراج مشروعه من دائرة الفكر إلى حيز العمل، ولولا خشيته من النتائج لتم له ما أراد.
اهتم أولا أن يكون الخليفة منسيا من شعبه دون أن يزعزع أركان الخلافة، فسعى في أن يقلل خروج الخليفة من قصره وكانت الظروف في جانبه؛ لأن هشاما كان لا يراه الناس في الجامع إلا قليلا، وإذا خرج من قصر لآخر متنزها خرج وهو ملتف بالبرنس، فكان يرى بعين الخيال وهو مسرور منشرح الفؤاد أن آماله ستتحقق بلا اضطراب ولا شغف.
فهمت صبيحة مراميه وشعرت بأغراضه ومقاصده، فأرادت أن تراقبه من كثب ولم تطق بعد ذلك استبداده ولم تستطع صبرا على رؤية العرش مهددا، فزجت بنفسها في الميدان لتحافظ على كيان ابنها وتنقذ عرشه.
بذلت كل ما في نفسها من جهد وعزم، إلا أنه لم يكن في يدها الآن شيء من القوة.
وقد شعرت بهذه الحقيقة عندما تقدمت إلى الميدان ورأت أن رجال المنصور وأعوانه شاغلون أهم المناصب في أقلام الحكومة وإداراتها وفي كل ركن من أركان الإدارة، حتى في قصرها بيت الزهراء.
كانت تهم فيصادفها ألف عقبة وعقبة، تتقدم خطوة إلى الأمام فتقابلها عثرات وموانع، لم تكن مالكة لاستقلالها، لقد كبلها المنصور بخيوط دقيقة تخفى على الناظرين، ولكنها خيوط قوية يصعب الإفلات منها، فصبرت حتى اشتدت عزيمتها وقام في أعماق نفسها دافع يسوقها إلى رفع لواء التمرد والعصيان؛ إذ كانت تقول في سرها: ما هذه الجرأة؟ ومن أين لأبي عامر كل هذا النفوذ؟ أين كنت أنا؟ وكيف أرى ذلك بنفسي؟ آه! إن الرجال الشاغلين للوظائف في قصري كلهم معروفون لدي ولكنني أعلم أنهم من أتباع المنصور.
كيف لها أن تعلم ذلك؟ لم يكن وقتئذ فرق وأحزاب ورجال تتحيز لرجال، كانت متحدة مع المنصور فكرا وعقلا، متفقة معه قلبا ولسانا، كانت يدها مع يده في كل أمر وكل مشروع، فترى فيمن يعينهم المنصور أنهم رجالها الصادقون، فليس سبيل إلى سوء الظن، كان الزمان زمان إخلاص واتحاد، أما اليوم وقد زال ما بينهم من طمأنينة فابتدآ يراقبان حركات بعضهما وقد تنقب كل منهما ببرقع النفاق فهي الآن تنصب له الفخاخ سرا، وقد علمت بآماله وأمانيه فسعت أولا في جعل رجال القصر محببين منها، وقد أظهرت في هذا السبيل همة جديرة بالتقدير والإعجاب.
تبدلت الحال بغير الحال وصار قصر الزهراء مسرحا للفتن والدسائس، وصبيحة تراقب ذلك بسرور ولا تألو جهدها لإنقاذ ابنها ونفخ روح الحياة في نفسه الخامدة.
ما كانت تهتم بذلك قبل الآن وتسعى في إيقاظه من ذلك الخمول، فقد كان عاجزا خاملا لا يشعر بالحاجة إلى سؤال الوزراء عما يفعلونه أو يديرونه من الأمور.
لم يسبق لصبيحة أن اهتمت بشأن ذلك العاجز المسكين وأن ترجع إليه في الشئون الخطيرة، أما الآن فإنها تشعر بعد أن وقعت الواقعة ورأت اقتراب العاصفة التي تكاد تقتلع عرش ابنها أنه محتم عليها أن توقظ هشاما من غفلته العميقة، وقد تم لها ما أرادت فسعت في تنفيذ خطتها سرا دون أن تدع محمدا المنصور يعلم؛ فإنها كانت تذهب صباح كل يوم لزيارة ابنها في غرفته الخاصة وتورد له الأحاديث الطويلة والمباحث المهمة لتزيل ما على قلبه الغافل من صدأ العطالة والخمود.
تعبت في سبيل غرضها وسهرت الليالي الطوال ترتب الدروس المؤثرة التي تحرك النشاط في هذا الدماغ العاطل، فشقت وتألمت وكدت، لكن مساعيها أثمرت وظهرت لها نتائج خطيرة ذات بال، فقد حدثت معجزة في بيت الزهراء؛ استيقظ هشام من نومه، استيقظ الخليفة المنهمك في أذواقه من تلك الغفلة، دبت في نفسه عوامل الحياة وأراد أن يدخل المعترك ويشترك في الحكم وأن يفهم ويشعر وتكون له إرادة وسلطان.
استمرت صبيحة تلقي على ابنها دروس الانتباه واليقظة حتى استفاق من سبات غفلته وتذوق طعم الرياسة وحلاوة الأمر والنهي بدرجة استرعت أنظار الملتفين حوله بما فيهم المنصور، وهو أكثرهم دهشة وأشدهم حيرة، وقد علم أن هذه المعجزة الباهرة إنما هي أثر من آثار صبيحة.
صار الخليفة الآن يشدد النكير ويبحث وينقب ويطلب الإيضاحات اللازمة عن حساب بيت المال، ويوجه إلى المنصور أسئلة دقيقة ما كانت لتخطر له ببال حتى انتهى به الأمر إلى أن يعامله بفتور وبرود.
لم يكلف المنصور نفسه عناء البحث عن سبب ذلك، كيف يسأل عن السبب وهو لا يرى مولاه الخليفة ولا يتقابل به إلا بحضور والدته صبيحة؟ أظلمت الدنيا في وجهه وشرع يتلمس سبيلا لمقاومة الخطر، فصال صولة في ميدان الكفاح انتهت بطرد وإبعاد بعض من اشتبه في إخلاصهم من موظفي قصر الزهراء، ولقد غضبت صبيحة لهذه الصدمة غضبة مضرية، كانت سببا في اشتداد عزيمتها وزيادة همتها، فأعملت فكرها لتنتقم لنفسها من هذا الغريم الشديد البأس واهتدت أخيرا إلى فكرة سديدة، فاستدعت بعض عبيدها المحررين وكلفتهم بالتوجه إلى جهات مختلفة من الأندلس وإفريقية ومراكش لإفهام الشعب بمركز خليفتهم وإذاعة خبر ضعفه وطموح المنصور إلى مقام الخلافة، فراجت إشاعتهم وانتشرت في طول البلاد وعرضها، ومنها علم الناس أن خليفتهم واقع في أسر ظلم معنوي وأنه راغب في التخلص من هذه القيود ليحكم شعبه على سنن العدل ومناهج الإنصاف لولا حيلولة المنصور بينه وبين ما يريد.
أدى رجال صبيحة ما كلفتهم به بأمانة وإخلاص؛ فاجتازوا جبل طارق إلى إفريقية وتمكنوا من اكتساب مودة ومظاهرة والي مراكش لهم، وهو يومئذ زبري بن عطية الشهير زعيم قبيلة الزبرين، وما كاد يسمع بهذه الحوادث ويعلم أن الخليفة تحت أسر المنصور واستبداده المعنوي، حتى احتدم غيظا وشرع في تجريد قوة من رجاله ليرفع لواء العصيان والتمرد في وجه المنصور؛ انتصارا لخليفة البلاد، ولكن كان يعوزه المال لتنفيذ العمل، فسرت صبيحة بهذه النتيجة وبادرت بإسعافه.
كانت خزينة الدولة في دائرة خاصة داخل قصر الزهراء وبها من الأموال ما يقدر بنحو ستة ملايين دينار، فسحبت الأميرة من المال مبلغا قدره ثمانون ألف دينار وضعته في مائة جرة مختومة أفمامها بالعسل دفعا للظنون والشبهات، ودفعت هذه الجرار إلى رجال أمناء لتوصيلها إلى مكان معين؛ وبذلك تمكنت من إيصال المال إلى مراكش بأمان وسلام.
كانت صبيحة تعلم قدر والي مراكش، وتعلم أنه الرجل الوحيد الذي يستطيع مقاومة عدوها المنصور، وبذلك لم تأل جهدا في مساعدته، على أن خبر هذه المساعدة اتصلت بمسامع المنصور، فأفرغ في روعه؛ لأنه لم يتوقع حدوثها، وكأني به يقول: هل للخليفة علم بذلك؟ وإلا كيف تمكن وأخرج المال من أبواب القصر؟ اشتدت حيرته واضطرمت أحشاؤه بنيران الغيظ والكمد، وأصبح ينظر إلى أفق المستقبل فيراه متلبدا بسحب الأكدار وغيوم الاضطرابات، فهل هو الآن أمام عاصفة قريبة تقتلعه من مركزه؟ كل هذه أمور فكر المنصور فيها مليا، وبعد طول البحث وإجهاد الفكر استدعى وزراء الحكومة ووكلاء الدولة لمجلس عام عقده في قصره، حيث أبلغهم بحدوث سرقة مبالغ كبيرة من مال الدولة، وأنه علم بعد البحث والتنقيب أن السرقة تمت بدلالة نساء من قصر الخليفة، وعلى أثر دهشة الوزراء بذلك اقترح عليهم نقل الخزينة إلى دائرة أخرى بعيدة عن مكانها الحالي فأقره المجتمعون على ذلك، وبينما كان الرجال المكلفون بتنفيذ الاقتراح على وشك نقل الأموال المودعة بالخزينة، دخلت عليهم صبيحة وصاحت فيهم تقول: «ما هذه الجرأة؟ كيف تقدمون على ارتكاب مثل هذا الأمر دون إذن الخليفة، إنني آمركم ألا تمسوا الخزينة؛ لأنه غير راض عن نقلها إلى مكان آخر.»
لم يجد أتباع المنصور بدا من إطاعة الأمر، أما الملك الكريم - أي المنصور - فاشتدت حيرته وزادت همومه حينما بلغه الأمر، ولكنه كتمه في أعماق نفسه مكرها مرغما، وإلا فما الذي يستطيعه؟ وكيف يخالف أمر الخليفة جهارا ويرفع لواء العصيان في ظروف قاسية لا تسمح بأدنى خلاف بينه وبين العرش، لا سيما وقد طرقت مسامعه الإشاعات التي اجتهدت صبيحة في ترويجها بين عموم الشعب؟
لا يعرف الناس شيئا عن هشام ولا يذكرون إلا اسمه، ولكنهم ما زالوا يقدسونه في نفوسهم؛ لأنه ابن الحكم وحفيد عبد الرحمن وسليل الأسرة الأموية، إذن ليس في الإمكان إظهار التمرد جهارا بيانا، فما هو الطريق المؤدي إلى تحويل مجرى الحوادث؟ هل يقبل المنصور على نفسه الانكسار والخضوع بعد أن وصل بكده وبسعيه أوج العز والإقبال؟ أيخفض الآن جناحيه بعد أن كان يبسطهما لحماية سواه؟ كان لا يحني رأسه ولا يرضى بالمذلة يوما ما، كان سلطان الماضي وهو الآن أمير الحاضر، فيجب على المستقبل أيضا أن يطيعه، كيف يرضى المنصور ذلك البطل الذي رفع لنفسه لواء فخر دائم الخفقان في طول البلاد الإسلامية من أقصاها لأقصاها أن يذهب ضحية حيلة سياسية أتمتها صبيحة؟ كيف يستطيع صبرا على الانحدار بعد تقدم دام عشرين عاما؟ كان عليه أن يواجه الخليفة بمفرده، إن هشاما لينحني أمام وزيره إذا تقابلا على حدة دون أن تكون معه والدته تعضده وتظاهره، كان المنصور يعلم موضع الضعف من مولاه الخليفة، ويعلم أنه لا يستطيع أن يقابله ببرود وأن يشدد عليه النكير إلا إذا كانت معه الأميرة، أما إذا لم تكن هي بجانبه فكل عزم ينقلب إلى ضعف وكل شجاعة تنقلب إلى جبن وانهزام، وكانت صبيحة تعلم هذا الأمر وترى أن ابنها لا يستطيع الثبات أمام نظرات وزيره الحادة، ولا يتمكن من الدفاع عندما يسل عليه لسان طلاقته وسلاح بيانه؛ ولذا كانت تخشى عاقبة تلاقيهما على انفراد وتخاف أن ينهدم بناء سياستها رأسا على عقب في لحظة واحدة، إنما المنصور سعى واجتهد حتى توصل بمعونة رجال القصر أنفسهم إلى مقابلة مولاه مقابلة سرية دون أن يعلم به أحد، كانت الأميرة صبيحة ملكة ذات سياسة وتدبير حنكتها الظروف والأيام وزادتها التجارب خبرة في الحياة، وإنما لم تكن سعيدة الحظ مثل المنصور؛ ولذا كتب عليها الاندحار والفشل في نهاية الأمر.
عندما مثل المنصور بين يدي الخليفة لم يعبأ لما نال مولاه من الدهشة والاضطراب، بل ابتدأ الكلام بما يريده من القول بسلاسة وطلاقة اشتهر بها حتى أثر على الخليفة وضيق دونه المذاهب، فنسي أنه الخليفة وأنه صاحب النهي والأمر وأن في يده قوة غير محدودة، ونسي تعليمات والدته ووصاياها أمام نظرات المنصور وأمام سحر بيانه وطلاقته، ولم يتردد في الاعتراف بعجزه
1
عن الحكم وتدبير الملك، وأنه سيتنازل له عن كل سيطرة وسلطان ولا يتداخل في شئون البلاد، وأنه يرضى بنقل الخزينة خارج قصره إذا شاء وزيره المنصور، لم يكتف المنصور بهذا الإقرار بل انتهز هذه الفرصة واستدعى بعض وكلاء الدولة وأشهدهم على هذا الاعتراف بعهد موقع عليه من الخليفة ومدون فيه ما تعهد به لوزيره شفويا،
2
وقد أمضى عليه الوكلاء لإثبات شهادتهم.
حدث هذا الأمر في العام السابع والثمانين بعد الثلاثمائة من الهجرة، وبهذه الحادثة نال المنصور أكثر مما كان يتمناه ويحلم به بسهولة لا تخطر على بال.
أعلن العهد بعد ذلك وعلم الناس بخبره فأصبح من العبث التمرد والعصيان في سبيل سلطان عاجز عن الحكم، يعترف بلسانه أنه ضعيف فاتر العزيمة، يكل أمور الدولة ومهام السلطنة إلى وزير صادق هو المنصور، لم يكتف بهذا الانتصار، بل أراد أن يظهر للناس أن خليفتهم وقع على العهد باختياره وإرادته وأنه لا يوجد ثمت خلاف أو نفور بينهما، فاستصوب أن يخرج إليهم بجانب الخليفة راكبا فرسه في موكب عظيم لهذا الغرض وقد تم له ما أراد، ما الذي يستطيع أن يعمله الإنسان لأسير لا يشكو من أسره، يعيش باختياره تحت النير، لحاكم يعترف بعجزه عن الحكم، لسلطان لا يتأثر من التنازل عن نفوذه واقتداره لغيره، لخليفة لا يرى بأسا من الخروج إلى شعبه غداة اعترافه المخجل، اللهم لا شيء سوى الأسف والتألم، ولقد كان من حسن حظ المسلمين أن وجد في عصر حاكم عديم الحس مثل هشام وزير مقتدر مثل المنصور ليستبد بأمور الدولة، فلو بقي زمام الحكم في يد الخليفة لما تردد من فتح أبواب قلاعه لأمراء الفرنجة، وإن التاريخ لا ينسى قوله للعصاة وهو في محبسه بعد وفاة المنصور: «أنقذوني وأنا أعدكم حتى بالعرش.»
3
فهل هناك
4
أمل في إنقاذ حاكم هوى بنفسه إلى هذه الدركة ورضي بأن يشرب كأس الهوان حتى الثمالة؟ لم يكتب المؤرخون شيئا عن حالة الأميرة عند سماعها باعتراف الخليفة، وماذا عساها أن تقول فيمن لا يخجل من ترجيح الأسر على الحرية بعد سعيها المتواصل في سبيل ذلك؟ فإذا استطاعت أن تعمل شيئا بعد ذلك فلمن؟ هل لابنها القائل بنفسه: «لا أريد أن أحكم في بلادي.» إن دناءة ابنها كان انكسارا ثانيا لآمالها، لم تكد جراحها التي أدماها المنصور تلتئم حتى أصابها ابنها بجرح آخر في صميم قلبها أدمى إحساسها الوالدي.
مع كل ما مر بها من الآلام وما عانته من المتاعب لم تشأ أن تريح نفسها حتى في أيامها الأخيرة، انهدمت قصور آمالها وضاع نفوذها وانخفض جناحها، ولكنها مع ذلك لم ترض أن تقبض يد همتها عن شعبها؛ أهالي قرطبة المحبوبين منها، همة صبيحة أكبر من أن تكل ونفسها العالية لا ترضى بحياة العطالة والكسل، لم تتداخل في شئون الإدارة ولكنها خدمت أمتها من طريق آخر، وعملت على سعادتهم ورفاهتهم من سبيل غير سبيل السياسة؛ فقد بذلت ما في وسعها لإنشاء المساجد والمستشفيات وبناء المدارس والملاجئ، وبينما كان المنصور يدير حركة البلاد بمهارة وحذق ويختم حروبه بالنصر والظفر، كانت هي تحفر الجداول والعيون وتنشئ القناطر والجسور، وتجتهد في اكتساب حسن الأحدوثة وجميل الذكرى بين قومها، إن أعمالها النافعة وحسناتها العديدة أدهشت حتى جيرانها أمراء الفرنجة الذين لم يتمالكوا من إعظامها وإجلالها والاعتراف بما لها من فضل وخير؛ فأقاموا الحفلات بشرف ذكرها عند إتمام طريق مائي مهم، وقد ركزوا عليه لوحة لتخليد ذكرها بهذه العبارات:
بني هذا الطريق المائي بهمة الأميرة صبيحة أم أمير المؤمنين الخليفة هشام جزاها الله خيرا، فبمروءتها وفضلها لم تحرم ولايتا «السيجيا وكارمونا»
5
من الماء.
أما المنصور فقد وجه همته إلى رفع شأن الأندلس بالغزو والحروبات، فاستتب الأمن داخلا وارتفع شأن البلاد خارجا، وأصبح هو حاكمها المعروف بالشجاعة والكرم والمتصف بالعدل وحسن الإدارة، وفي العام الثاني والتسعين بعد الثلاثمائة خرج المنصور غازيا للمرة الثانية والخمسين
6
لقمع فتنة بالقرب من مدينة سليم من ولاية قشتالة، وقد أبدى العاصون مقاومة كبيرة واشتد القتال حتى اضطر ابن أبي عامر للوثوب إلى الصفوف الأمامية
7
مستبسلا والسيف بيده لبث روح العزم في أفراد جيشه، وبعد كفاح شديد أحرزوا النصر ولكن بعد أن أصيب قائدهم المنصور بجراح بليغة، استشهد على أثرها في الخامس والعشرين من شهر رمضان ودفن بمدينة سليم حسب وصيته.
مات محمد المنصور وبموته فقد الأندلسيون ركنا من أركان شوكتهم، توفي رجلهم العظيم، وبوفاته انصدع بنيان اتحادهم، فيا لهول المستقبل المخيف! المستقبل المظلم الذي يهدد كيان الأندلس، لبسوا عليه ثياب الحداد وشقوا الجيوب كأنما كان حزنهم وحدادهم على نحس طالعهم الذي بدا في أفق السياسة، لم تعش صبيحة كثيرا بعد المنصور فقد توفيت في العام الثامن والتسعين
8
بعد الثلاثمائة، أي بعد تلك النكبة بستة أعوام، لقد تصالحا قبل وفاة المنصور، ولكن صلحهما كان ظاهريا اقتضته الظروف، وإلا فإن الدموع التي ذرفتها قد جعلت بينهما هوة من الآلام يصعب اجتيازها، فإن الأعوام الأخيرة من حياتها مضت بين جدران النسك والعبادة، وقد كان لموتها صدى حزن عميق في نفس الشعب لا يقل أثرا عن حزنهم لدى موت المنصور، وقد رثاها كثير من الشعراء وفيهم ابن دراج حيث شبهها بنجمة الأندلس، حقا إن «صبح» كانت من أشد النجوم تألقا في سماء الأندلس، كان هناك أمل في أن تحيا الأندلس حياة رغد ورفاهة طول حياتها، أما وقد أفل نجمها ولم يبق أثر لسلطان المنصور ولا بأس الحكم ولا شوكة عبد الرحمن، فلم يبق أمام الأندلس سوى السقوط والاندحار، لماذا؟ لأن الخلافة انتقلت إلى يد هشام، ذلك الخليفة الجبان العاجز الذي كان الأندلسيون يخشون حكمه، وليس هيبة منه وإنما خوفا من عجزه وضعفه.
لم تر صبيحة بعينها خاتمة قرطبة، تلك الخاتمة السوداء التي تهز حتى اليوم أوتار القلوب في بلاد الإسلام بضربات الحزن والألم، لو قدر لها أن تعيش بضعة أعوام أخرى لترى تقسيم عاصمتها لانهمرت عيناها بالدم بدل الدموع، ماتت دون أن ترى شيئا من ذلك، ماتت في بيت الزهراء وهي تنظر إلى نجمة تلمع على صفحة حوض من أحواض حديقتها الزهراء في مساء يوم لطيف حزين مؤلم، وقد كان آخر المشاهد انطباعا في نظرها، منظر تلك النجمة التي تستحم مرتعشة في أحواض بيت الزهراء.
الخاتمة
كتب موسى بن نصير والي المغرب، إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، يصف له الأندلس ترغيبا في فتحها، فقال:
الأندلس جنة فيحاء تشابه الشام بحسن موقعها، واليمن باعتدال مناخها، والهند بأزهارها ونباتها، ومصر بخصوبتها ونمائها، والصين بأحجارها الكريمة ومعادنها النفيسة.
وأعقب ذلك خروج طارق بن زياد لغزوها وتحت إمرته اثنا عشر ألفا من المجاهدين، وإن هي إلا أيام قلائل حتى تم فتحها، مضى على هذا العهد عصور ثلاث تمكن الفاتحون أثناءها من إيقاظ أمة جاهلة خامدة وأخذوا بيدها إلى مناهج العلم والعرفان تحت أشعة النور الإسلامي، فلم يمض إلا القليل حتى اعتلى الأندلسيون، اعتلت تلك الأمة التي كان القساوسة تسوقها كالأغنام ويذيقها الحكام صنوف العسف وألوان الاضطهاد، وأصبحت بعد زمن وجيز مطمح أنظار أوروبا وموضع الدهشة والإعجاب من أهلها.
دهشت أوروبا من مدنية إسبانيا، ثم أخذت تقترب منها على مهل
1
وترد مناهل علمها وعرفانها وحياض مدنيتها إرواء لظمئها، وبعد فتح الأندلس وجه العرب همتهم إلى عمرانها وزينتها، وكانت الحروب قاصرة إما على دعوة الأمراء المسيحيين القاطنين في شمالها إلى الهداية، وإما على رد هجماتهم من حين لآخر، إن المسلمين الشغفين بالأمور الزراعية شغفهم بالحروب صيروا الأندلس حديقة جميلة.
2
الصناعة والتجارة، العلم والعرفان، الشهامة والمروءة كل هذه مزايا كان مسلمو تلك الأيام يتهافتون على التحلي بها واكتسابها، أما أخلاقهم الحسنة وشرف نفوسهم فكانت عالية تفوق أخلاق المسيحيين حسنا، حتى إن أعداءهم أمراء الشمال كانوا لا يستنكفون من مداواة مرضاهم ومجروحيهم في البيوت الإسلامية بمعرفة أطباء المسلمين ارتكانا على مروءتهم وشهامتهم.
في تلك الأيام وقد اتسعت دوائر العلوم والفنون ارتقت الأمة تبعا لذلك، وأصبحت المروءة وعزة النفس غريزة في نفس كل مسلم، إن الخصال الحميدة التي كان يتصف بها طائفة الفرسان في أوروبا، تلك الخصال التي تقرأ وصفها في كتب الفرنسيين فتعجب بها هي خصال المسلمين الحقيقيين، ولو علمنا مقدار ما كان يبذله المسلمون في تلك الأيام من الاحترام والاعتبار للمخدرات الإسلامية، بل لكل النساء مسيحيات كن أو مسلمات،
3
لو علمنا مقدار احترامهم واعتبارهم لهن، ثم نظرنا إلى حالتنا اليوم فلا أدري كم يكون الأسف مرا أليما!
عندما حاصر والي قرطبة مدينة «توليدو» عام 1139 ميلادية، كانت الملكة «برانجر» محصورة في قلعة «آزاقا» داخل المدينة، وعندما هجم الوالي بعساكره على المدينة يريد فتحها أرسلت الملكة تقول: «ليس من الشهامة الإسلامية محاصرة امرأة في مدينة والهجوم على القلعة التي هي بها.» فاستصوب الوالي رأيها وغض النظر عن الهجوم، وإنما طلب أن تظهر نفسها لهم من إحدى شرفات قصرها وبمجرد إظهار نفسها لهم قدم الوالي احترامه وعاد بعسكره إلى قرطبة بعد أن اعتذر لها، فقل لي بربك: ألا تستحق أن تضاف هذه الحادثة إلى سجل الشهامات والمروءات؟ وهل تقل درجة عن أعمال «بايارا» و«سيدني»؟
سمع محمد المنصور بعد رجوعه من غزوة «قومبوستال» أن امرأة مسلمة محبوسة داخل القلعة، فأمر بإحضار ملك النافار أمامه ليقدم المعذرة على هذا العمل الفظيع وهو على ركبتيه، فحضر الملك وطلب العفو والمعذرة جاثيا على ركبتيه،
4
وبعد أن تم تخليص المرأة المسلمة على هذه الصورة عاد بجنوده إلى العاصمة.
كان الزمان زمان عظمة وقدرة وجلال، وكانت الأخلاق الإسلامية على أصلها لم يتطرق إليها عوامل الضعف وبذور الفساد، وكان المسلمون أصحاب القوة والسطوة، وكانت الأيام أيام نور وخير ونماء، وكانت الأمة المحمدية أمة العلوم والصناعات، وصلت مدنية الأندلس أيام عبد الرحمن وابنه الحكم وفي عهد صبيحة والمنصور إلى ذروتها وغايتها، حتى إن إسبانيا لم تر قبل أو بعد هذا العهد مثل ما رأته في أيام هؤلاء الأبطال؛
5
الزراعة والصناعة والتجارة وزخرفة الذهب والفضة والنسيج والحياكة لم تكن في قرطبة فقط، بل كانت منتشرة في غرناطة وإشبيلية ومرسيه، وقد كانت هذه المدن أشهر من نار على علم في صناعة الأسلحة.
كتب «دون بدرو» في وصية له في القرن الرابع عشر للميلاد، يقول:
بين المخلفات التي أتركها يا بني سيف مصنوع في إشبيلية محلى بالنقوش الذهبية ومرصع بالأحجار الكريمة، فأوصيك بالمحافظة عليه.
أما اشتغالهم بالصنائع النفيسة وفي العمارات والعلوم الفلكية فقد أوقع أوروبا في مهاوي الحيرة والإعجاب.
سفراء أوروبا وملوكها وملكاتها الذين أموها للزيارة كانوا يفتتنون بأبهة قصور عبد الرحمن وما فيها من آلات النعمة ورياش الترف، لم تكن قرطبة زينة الأندلس فحسب، بل كانوا يعدونها أعجوبة العالم،
6
لم يبق إنسان لم تدهشه المدارس المنشأة في عهد الحكم الثاني وما تجلى في عصره من مظاهر العلوم والفنون،
7
لم يبق إنسان في ذلك الزمن لا يعرف القراءة والكتابة، أما كفاءة المنصور وقدرته وعدله فقد سار بذكرها الركبان حتى أصبحت إسبانيا من أقصاها لأقصاها ترتجف فرقا من صولته وبأسه، يذكرون عنه أنه في غزوة من غزواته لإخضاع إحدى المدن الثائرة، نسي أحد الجنود وكان من حملة اللواء لواءه في المعسكر أمام المدينة، وبعد انتهاء الغزوة وعودة المنصور بجنوده ظل اللواء في مكانه منسيا وأخذ الإسبانيون يرمقون اللواء ولا يستطيعون الوصول إليه خوفا من عودة المنصور بجنوده، ولم يتمكنوا أخذه إلا بعد مضي أيام عديدة واطمئنانهم من عدم رجوع الجيش.
أما سياسة صبيحة ومهارتها في الأحكام وآثار الرحمة والشفقة التي كانت تبديها للفقراء والمحتاجين وبذل ما في وسعها لعمران المملكة بإنشاء الجسور وحفر الترع وعيون الماء وتأسيس المدارس والجوامع؛ فهذه أمور مسجلة بالفخر والثناء، ليس في التواريخ الإسلامية وحدها، بل في التواريخ الإفرنجية، لا سيما ما كان متعلقا منها بتاريخ إسبانيا.
إن ظهور صبيحة في مثل هذا العصر المشرق المنير برهان كاف على فضلها وجميل مزاياها. لو أردت أن أحصي الشهيرات من نابغات الإسلام في ذلك العصر لاحتاج الأمر إلى عدة صفحات.
كانوا في هذا العهد شغفين بالعلوم والمعارف، حتى إنهم جميعا، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، وقفوا حياتهم في سبيل العلم والنور، في ذلك العهد لم يكن للرجال فضل على النساء في العلوم والفنون، بل إن النساء كن المرشدات الملقنات، وكان الرجال يستفيدون من هذا الإرشاد أيما فائدة، كان الرجال يخدمون نساءهم في الأندلس لاقتدارهن وذكائهن وفضلهن، وإنهن لجديرات بذلك.
8
هذه هي الأندلس في عصورها الثلاثة، أما وقد ماتت صبيحة وظل هشام على العرش كما يريد ويهوى فقد ابتدأ أساس السلطنة في التزلزل، وتطرقت إليه عوامل الفساد، أراد كل إنسان أن يستفيد ويعمل لنفسه على حساب هذا الخليفة العاجز، وفي النهاية دبت عوامل النزاع والشقاق بين عائلته ووزرائه وأمرائه وتابعيه، وعصفت عواصف الفتن والدسائس في بيت الزهراء، وصار الخليفة ألعوبة بينهم يجلسونه على العرش ويخلعونه منه من حين لآخر، وصارت غرفة العرش مسرحا يتقاتلون فيه ويتنازعون في أرجائه، وفي مدة وجيزة جلس على العرش عشرون خليفة على التوالي بسرعة يصعب على الإنسان تمييز المدة التي يستغرقونها بين الجلوس والخلع وبين الارتقاء، وولي ذلك ظهور القلاقل واندلع لسان اللهيب إلى أطراف الأندلس قاطبة، فاستقل كل وال بولايته ثم تشاحن الولاة فيما بينهم وتقاتلوا وظهرت على أثرها المذابح، فتخربت المدارس والمكاتب وانهدمت المساكن والقصور، ثم التجأ بعضهم إلى أمراء الفرنجة وطلبوا معونتهم، ولم يمض إلا أشهر قلائل حتى استولى العدو على نحو عشرين مدينة وقلعة،
9
أما بيت الزهراء وقصر الظاهرة فأصابهما ما أصاب غيرهما من الخراب والدمار وأصبحا في أربعة أيام أثرا بعد عين، احترقا ولم يبق من أنقاضهما إلا الرماد، وتعاقبت في قرطبة فرق وأحزاب وشيع، فمضى ذلك العهد كالأحلام السارة التي يراها المرء في منامه، ولم يبق من آثاره إلا حسرة في النفس نرددها من حين لآخر.
بينما كان محمد المنصور جالسا في قصر الظاهرة ذات يوم نظر إلى أطرافه بحزن وتأوه يقول: «أيتها الظاهرة التعسة أي يد ستشعل النار في أطرافك؟ وأي حرص سيسبب خرابك ودمارك؟» لم يمض على قوله زمن كبير حتى أحرقتها أيدي أحزاب مختلفة؛ فذهبت ضحية الفتن.
10
فهل خطر مثل ذلك على بال صبيحة أيضا؟ من يدري؟ ربما تأوهت مثلما تأوه المنصور، وربما قالت تناجي نفسها: «أي يد ظالمة سوف تتحكم فيك يا قصر الزهراء ويا نجمة الغروب؟ في أي الأحواض تعكسين شعاعك الضئيل وقت حصول هذه الفاجعة؟» ولكن لا لا، أنا لا أريد أن أحدثكم بمصائب الأندلس، ولا أريد أن أدمي جراحكم بأحزانها، لا أستطيع ذلك لأنني لا أملك من الكفاءة أو العرفان ما يؤهلني لدخول هذا الميدان، إنما أريد أن أقول: إن أبهة الأندلس وبهرجتها ماتت وانطفأت بموت الأميرة صبيحة .
بعد أن مر على قرطبة عاصمة الأندلس المشرقة أزمان خاضت فيها في الدماء والأحزان، لم يبق للسلطنة ثمت نفس أو روح، فانطفأت أنوارها في قرطبة، ولم يظهر فيها قبس من الضوء بعد ذلك، وإنما ظلت عائشة كجمهورية إشبيلية.
وظهرت بعض الأنوار في ربوع غرناطة، ولكن لم يجد ذلك أي نفع؛ لأن بذور التفرقة كانت قد نمت في نفوس المسلمين، وثمار المصائب كانت قد أينعت، فأجبروا على ترك الأندلس بعد حكم دام ستمائة عام.
عندما سودت هذه الصفحات من ترجمة حياة صبيحة لم أتمالك نفسي من الخروج عن الصدد، ولكن كان لزاما علي إجمال أدوار ثلاث، كنت أستطيع أن أهمل هذه الأدوار، ولكن كان لها تماس بشخصية صبيحة ومحيطها؛ ولذا لم أبال من قيدها بكل فروعها وتفصيلاتها، فالقصة وإن طالت إلا أنني أؤمل أن قرائي وقارئاتي لم يتطرق إليهم الملل أثناء تصفحها.
لا أقصد أن أكتب تاريخا، وإنما الغرض الذي أرمي إليه هو النهضة النسائية في عصرنا هذا، وهذا الأمر لا يأتي إلا من طريق العظة والعبرة، فسعيت جهد استطاعتي للوصول إلى هذه الغاية، والله أسأل سواء القصد.
نامعلوم صفحہ