ثم همست في أذن كرستيان قائلة له: ألا ترى أنني أحسن قراءة الرسائل؟ قال: اسكتي، فإنني أكاد أموت فرحا!
أما الكاهن فقد تهلل وجهه وانبسطت أساريره، وظل يقول: له الله من سيد نبيل كريم! ما خاب ظني فيه وفي حسن مقاصده وشرف أغراضه! ثم رفع المصباح إلى وجه سيرانو وقال له: لعلك الزوج يا سيدي؟ فامتقع لون سيرانو، وأشاح بوجهه عنه، فتقدم نحوه كرستيان وقال: لا، بل أنا يا سيدي! فأدنى المصباح من وجهه، فرأى وجها جميلا مشرقا، فظل يهز رأسه كالمرتاب، ثم التفت إلى روكسان وقال لها: يخيل إلي يا سيدتي أن مصيبتك في هذا الزواج ليست عظيمة كما تتوهمين! فارتعدت وخفق قلبها خفقا شديدا، مخافة أن يكون قد فهم شيئا، ثم ما لبثت أن عرفت وجه الحيلة في ذلك، ففتحت الكتاب بلهفة وقالت: لقد فاتني يا أبت أن أقرأ عليك الحاشية التي كتبها الكونت في كتابه، وهي تتعلق بديركم المقدس فاستمعها، وقرأت ما يأتي:
ويأمرك صاحب القداسة أيضا أن تتبرعي للدير من مالك الخاص بعشرة آلاف فرانك، فائتمري بأمره، وادخريها يدا عند الله صالحة.
فتلألأ وجه الكاهن واستطير فرحا وسرورا، ولم يبق لتلك الريبة التي خالجته أثر في نفسه، وقال لها: لا مناص لك يا بنيتي من الإذعان لأمر صاحب القداسة، والله يتولاك برعايته. فقالت: سأذعن لأمره وأمرك يا أبت، ثم هتفت براجنو، فأمرته أن يمشي أمامهم بمصباحه ففعل، فدخلوا المنزل جميعا، وتراجعت روكسان قليلا قبل دخولها، فجذبت سيرانو من يده وأسرت في أذنه قائلة: أما أنت فابق هنا حتى يأتي الكونت فامنعه من الدخول ودافعه بكل حيلة، وترفق في الأمر ما استطعت حتى يتم عقد الزواج. فقال: سأفعل ما يرضيك يا روكسان، فكوني مطمئنة، فتركته ولحقت بالقوم، وبقي هو وحده يفكر في الطريقة التي يمنع بها الكونت من الدخول إذا جاء.
سياحة في القمر
وما هي إلا هنيهة حتى رأى شبح الكونت مقبلا من بعيد، فخلع سيفه والتف بمعطفه وأنزل قبعته على عينيه، وتسلق شجرة الياسمين وكمن بين أغصانها، وأقبل الكونت واضعا على وجهه نقابا أسود وهو يتلمس الطريق في هذا الظلام الحالك، ويقول: ليت شعري أين ذهب ذلك الكاهن المنحوس؟ وماذا صنع بالرسالة التي بعثته بها؟ لا بد أن يكون قد بلغها روكسان وانصرف لشأنه، ولا بد أنها تنتظرني الساعة داخل المنزل!
واتجه جهة الباب، فما دنا منه حتى سقط جسم عظيم بين يديه سقطة هائلة دوت بها جوانب الميدان، كأنما هو هابط من علياء السماء؛ فتأمله، فإذا هو رجل متلفع ملثم، فذعر وتراجع وقال: من هذا؟ فتقدم نحوه سيرانو بخطوات بطيئة متثاقلة، وقال له بنغمة أشبه بنغمة الحالم المستغرق: كم الساعة الآن أيها الإنسان؟ فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل من سكان كوكب القمر، سقطت منه من زمن لا أعلم مقداره، هل هو يوم أو ساعة أو دقيقة أو عام أو أعوام؛ لأن صدمة السقوط أذهلتني عن نفسي فلم أفق إلا في هذه اللحظة، ولا أعلم هل سقطت في كوكب الأرض أم في كوكب آخر غيره، فقل لي أين أنا؟ وفي أي عام وفي أي يوم وفي أي ساعة؟ فعلم الكونت أنه مجنون أو ثمل، فأراد ملاينته ومداورته. فقال له: اسمح لي بالمرور أولا وسأخبرك فيما بعد عما تريد. قال: يخيل إلي أنك تظنني معتوها أو مخبولا، فاعلم أنني لا أحدثك عن خيال، بل عن حقيقة لا ريب فيها، وأنني قد سقطت من كوكب القمر سقوطا اضطراريا لم أملك فيه الخيار لنفسي، فظللت أتخبط بين الكواكب والنجوم والمذنبات والشهب، حتى وقعت في هذا المكان الذي أجهله ولا أعلم أين موقعه من العالم!
ثم رفع نظره إلى وجه الكونت وصرخ صرخة هائلة، فزع لها الرجل وتراجع بضع خطوات، وظل يسأله: ما بالك؟ فقال: دلني سواد وجهك وظلمته على أنني قد سقطت في خط الاستواء بين قبائل الزنوج! فوا أسفاه! ووا سوء حظاه! فلمس الكونت وجهه بيده، وكان قد ذهل عن نقابه، فحسره عنه وقال له: لا تخف، إنما هو نقاب أسود كنت أسدلته على وجهي لبعض الأسباب الخاصة، فهدأ سيرانو قليلا وقال له: عفوا يا سيدي، إذن أنا في فينيسيا أو فينا، فقل لي: في أي المدينتين أنا؟ فضجر الكونت، وقال له: سواء أكنت في هذه أم في تلك فدعني أمر، فإن إحدى السيدات تنتظرني! فقال: آه! لقد فهمت الآن، لا بد أن أكون في باريس بلد الوعود والمقابلات، والأسياد والسيدات، فالحمد لله على ذلك! ومد يده إلى ردائه وظل يمسحه كأنما ينفض الغبار عنه، ثم وقف متأدبا وأحنى رأسه بين يديه وقال له: اغفر لي يا سيدي مقابلتي إياك بهذه الملابس الرثة المغبرة، فقد كان سقوطي مع الزوبعة الأخيرة، فانتشر غبار الأثير على ملابسي، وامتلأت عيناي بذرات الضوء، وعلقت بنعلي بضع ريشات من ريش «النسر الطائر»، ثم مد يده إلى نعله كأنما يتناول ريشة عالقة بها، وظل ينفخها في الهواء.
فازداد غيظ الكونت وعظم ضجره، وقال له: تنح عن طريقي يا سيدي، فإني أريد الدخول، وظل يدفعه أمامه حتى بلغا الباب، فترامى سيرانو على الأرض ومد ساقه في مدخل الباب وكشف عنها، وقال له: انظر يا سيدي إلى ساقي، فقد عضني فيها «الدب الأكبر» عضة مؤلمة لا يزال أثرها باقيا حتى الآن، ولقد وقع لي ذلك في الساعة التي كان يطاردني فيها «السمك الرامح» برمحه المثلث الأسنة، وما أفلت من مخالب الدب حتى سقطت فوق حمة العقرب، فلدغتني في ساقي الثانية، وانظر ها هو ذا أثرها، ومد ساقه الثانية أيضا، فاستحال على الكونت المرور، ثم قال له: وأؤكد لك يا سيدي أنني لو عصرت أنفي الآن لجرى منه سيل دافق يغمر هذا الميدان جميعه، أتدري لماذا؟ قال: لا؛ لأني سقطت بعد ذلك في نهر «المجرة» فظللت أسبح فيه حتى أعياني الجهد، ولولا أن «الدب الأصغر» مد يده إلي فأنقذني لما نجوت، واعلم أنه لم يفعل ذلك تكرمة منه وتفضلا، بل كان يريد أن يعضني أيضا كما عضني أخوه من قبله، فعجز عن ذلك؛ لأن أسنانه صغيرة جدا كأنها حبب الكأس، فاستطعت الإفلات منه، وانحدرت إلى «القيثارة» فاخترمتها وعلقت يدي بوتر من أوتارها فانقطع، وظل معي حتى الآن، وسأريكه إذا أردت، ومد يده إلى جيبه كأنما يريد أن يخرجه، ثم قال: لا لزوم لذلك الآن، فقد عزمت على أن أؤلف كتابا أسميه «سياحة في القمر» أدون فيه هذه الرحلة جميعها، وسأرصع دفتيه بالشهب الصغيرة التي اصطدتها في معطفي من غابات السماء!
فاشتد جزع الكونت ونفد صبره، وقال له: ثم ماذا؟ قال: أظن أنك تريد أن تعرف الآن شيئا من أخبار سكان ذلك الكوكب، الذي عشت فيه حقبة من الزمان ... فقاطعه الكونت وقال: لا، لا أريد أن أعرف شيئا، فدعني أمر، فإن بيني وبين أصحاب هذا المنزل ميعادا لا بد لي من الوفاء به! قال: ولكنك وقد عرفت كيف نزلت من السماء لا بد لك أن تعرف كيف صعدت إليها، إنني صعدت إليها بطريقة عجيبة جدا، أنا الذي اخترعتها وابتكرتها، فلم ألجأ إلى النسر البليد كما فعل «رجيومونتانوس»، ولا إلى الحمامة البلهاء كما فعل «أركيتاس» ...
نامعلوم صفحہ