ماذا تقول يا سيدي في هذه السرقة الصارخة، وتلك الإغارة الوقحة، التي لا تقل عن إغارات اللصوص، وقطاع الطريق؟ - لقد نظر المتنبي إلى معنى الطائي ما في ذلك شك. - ثم إن هذا السارق لا ينكس رأسه خزيا، بل ينفخ خياشيمه، ويتحدى كل شاعر من شعراء مولاي في جبرية وعجب، إنه في هذه القصيدة التي استشهد مولاي ببيت منها يقول:
خليلي ما لي لا أرى غير شاعر
فلم منهم الدعوى ومني القصائد؟
ويقول في أول قصيدة أنشدها بين يدي سيدي:
غضبت له لما رأيت صفاته
بلا واصف، والشعر تهذي طماطمه
فيصف جميع شعراء مملكته بأنهم عجم لا يبينون، وعلوج لا يفهمون، وأشهد أن الشعراء لم يغضوا عنه عجزا عن معارضته، فإن لكل منهم لسانا لو ضرب به حجرا لفلقه، وإن في شاعرك المغرور المتشدق من وضاعة النسب، وسماجة الخلق، ولؤم العنصر، ما يغري ضواري الشعراء، وما تتحلب له نهما أفواه الهجاء، ولكنهم سكتوا مرغمين محزونين؛ لأنه في كنف مولاي وحمايته، ولأنهم يظنون أن ثلبه، وتمريغه في التراب، قد يغضب مولاهم، فتركوه لك يا سيدي ولكنك تركته عليهم يمزق أعراضهم، ويسخر من فنهم، ويتحداهم في بذاءة وجبروت، وقد كان من أثر هذا أن انصرف الشعراء عن مدحك، فلا يحييك منهم شاعر بكلمة، وتفرد بك هذا الشاعر الدخيل فأخذ يتيه عليك، ويخاطبك مخاطبة الند والنظير، ويمر العام فلا يجود عليك إلا بقصيدة أو قصيدتين، بعد أن تلح في الطلب، وتلحف في المسألة، وبذلك انقلب الوضع، وعكس الأمر، وأصبح الأمير يستجدي شاعره، وأصبح الشاعر يراوغ ويماطل في العطاء ، ما هذه الحال يا مولاي؟! - لقد قلت حقا يا ابن العم، ولكني أخشى إذا انصرفنا عن هذا الشاعر أو صرفناه، أن يلحق بأعدائنا، فيرفع من شأنهم، ويشيد بمجدهم، وقد علمت أن عبد الإخشيد بمصر يبذل الآن فوق ما يستطاع لاستهوائه وإغرائه بالجاه والمال؛ ليصل إلى أرض مصر، ولست تجهل يا أبا فراس ما بيننا وبين الإخشيد من عداء محتدم، فقد وثبت علينا جيوشه منذ سنوات فاستولت على دمشق زينة العواصم، وغرة جبين الشام.
فإذا ذهب المتنبي إلى العبد زاد دولته قوة، ومسح عنه عار الرق ووصل نسبه بمعد بن عدنان. ثم إني أخشى، وهو لدود الخصام علقمي اللسان ألا يتعفف عن أن ينال بهجائه، وهو نفسه الذي يقول:
ومكايد السفهاء واقعة بهم
وعداوة الشعراء بئس المقتنى - إنه لن يذهب إلى مصر يا مولاي، كن من ذلك على يقين. إنه يذهب إلى العراق؛ ليتصل بالخليفة والوزير المهلبي فإن كبره سيزين له أنه أحق شعراء الأرض بالاتصال بالخليفة، وأن شعره أغلى من أن يبعثر على الأمراء وحكام الأطراف، وإذا بلغ بغداد يا ابن العم فإن مائة دينار من خزانتك هذه، ترسل إلى ابن الحجاج وابن سكرة، وهما أقذع الشعراء هجاء، وأفحشهم سبابا كفيلة بأن تشغله عن هجاء الناس جميعا، وتدفعه إلى الانصراف إلى نفسه. - لا أكذبك أبا فراس إني سئمت كبره وإدلاله وتجنيه، ولن أنسى ما اشترطه علي ذلك الأحمق عند أول اتصاله بي من ألا يكلف تقبيل الأرض بين يدي، وألا يخلع سيفه في حضرتي، وألا ينشدني شعرا إلا وهو جالس، ولقد قبلت منه كل ذلك على مضض، حين ظننت أن إغداقي عليه، وإحساني إيه يروضان من نفسه الجامحة، فما أجدى ذلك فتيلا. - إنك يا مولاي تمنحه كل عام ثلاثة آلاف دينار، غير ما تفيض عليه من الصلات والهبات، ثم إنك لا تظفر منه بعد كل هذا إلا بثلاث قصائد، نصف أبياتها في مدح نفسه، والازدهاء بمواهبه، ولو فرقت في كل عام مائتي دينار على عشرين شاعرا لأتوا بالمعجز المطرب، ولبزوا ذلك الوقع في كل ما يتبجح به من إجادة وإعجاز، وإن شعراء مملكتك، والشعراء الوافدين عليك قد يزيدون على المائة وهم يا ابن العم يرتقبون منك نظرة عطف؛ ليملئوا الدنيا باسمك دويا، ويرسلوا أجنحة الشعر بمديحك خفاقة في الآفاق. - صدقت أبا فراس لن يكون لهذا الشاعر الزنيم مكان من رعايتي بعد اليوم! غير أني أرى أن نخرج من هذا الأمر بكياسة ورفق، كما دخلنا فيه بكياسة ورفق. - هذا ما أشير به يا مولاي، ويكفي أن تصد عنه شهرا حتى يزمع الرحيل.
نامعلوم صفحہ