فقال أبو فراس: وهذا أيضا سرقته من قول العجلي:
إذا لم أميز بين نور وظلمة
بعيني فالعينان زور وباطل
ومن قول محمد بن أحمد المكي:
إذا المرء لم يدرك بعينيه ما يرى
فما الفرق بين العمى والبصراء؟
وهنا ضجر سيف الدولة من كثرة مباهاة المتنبي بنفسه، وكثرة دعاويه، فمد يده إلى دواة كانت أمامه، فضرب بها المتنبي فسال المداد على ثيابه، ولكن المتنبي وقف شامخ الرأس كأن لم يمس بأذى، وشرع يقول:
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
فاهتز سيف الدولة للبيت، وحسن عنده موقعه، وقام مهرولا نحو المتنبي يعانقه، ويقبل رأسه، وأخذ يشده من ذراعه حتى أجلسه بجانبه. فلما أتم أبو الطيب القصيدة وهو جالس، أجازه بألف دينار، ثم أردفها بألف أخرى، استعادة لمودته وإعلاء لمنزلته، والناس مع الزمان، والإقبال يجلب الإقبال، فما كاد يرى من بالمجلس فعل سيف الدولة حتى أقبلوا على المتنبي يكيلون له المديح، ويخلعون عليه من الثناء حللا، ويشيدون بعبقريته، ويحمدون فيه الإباء والشمم والجرأة على ممدوحه، وأنه يرفع فنه إلى قمة دونها منازل الملوك، ويضع نفسه حيث يجب أن تكون، وقال له أبو الحصين الرقي وهو يشد على يده: حياك الله يا أبا الطيب! لقد كنت اليوم الفارس المعلم فلم تدع مصالا لصائل، ولقد كان نصرك مبينا مؤزرا، فاحرص على هذا الانتصار يا أبا محسد، فقد يكبو الجواد وقد قارب القصب! فرد عليه المتنبي بكلمات ضاعت معانيها بين صيحات المعجبين. أما أبو فراس وأبو العشائر وأنصارهما من آل حمدان فقد حبست الهزيمة ألسنتهم، وأكل الغيظ قلوبهم فتسللوا من المجلس، وفي أعينهم لمحات الغضب والحقد والعزم على الانتقام؛ لما نالهم من احتقار المتنبي وتعريضه بهم في قصيدته.
نامعلوم صفحہ