فاتجه إلي ولمحات الغضب في عينيه، وقال: اعلم يا بني أن العقل عقلان: مولود، ومكتسب. فأخذتني الدهشة، وقلت: إذا كانت عقبى قراءة الكتب يا أبي، أن تزعم أن العقل عقلان، فهذا في الحق ما كنت أخشى عليك منه؛ فضحك أبي، وهزني من كتفي، وقال: هون عليك أبا عوف، أنت ثور وحشي صغير! - وقد أصبحت الآن ثورا كبيرا. - ذاك مزاح مضى وقته ... أليس من العجب ألا يفهمني الناس؟، وأنني كلما صدعت برأي، تهامسوا أو ابتسموا كأن الله أنزل عليهم حكمة داود دوني!! منذ شهرين عزم ابني محمد على التزوج بفتاة نصرانية شغفته حبا، فذهبنا إلى قاضي العقود، فلما هم بعقد الزواج طلب شاهدين، فبصرته بأنه يجب أن يكون أحدهما نصرانيا؛ ليكون المسلم شاهدا على الزوج، والنصراني شاهدا على الزوجة. فابتسم وصرف وجهه عني في صلف وغرور يعرف هؤلاء الفقهاء كيف يتقنونه، فلما ألححت، مد عينيه في من قمة رأسي إلى جوف أخمصي، وقال: ما لك ولهذا أبا عوف؟! إنما أنت رجل حرب وجلاد، فدع ما لغيرك لغيرك. فغضبت وقلت: لو لم أكن رجل حرب، ولو لم أدفع عنك وعن أمثالك صولة الإسبان بسيفي وبساعدي، لكنت اليوم من سكان القبور، وما استطعت أن تنظر إلي - كما تفعل الآن - نظراتك إلى حيوان عجيب الخلق، ولذهب علمك وفقهك اللذان تتبجح بهما طعمة للسيف والنار. فسكت الرجل على دخل، ومن العجب أنه تمسك برأيه، وعقد الزواج بشاهدين مسلمين. - دعنا من هؤلاء الفقهاء أبا عوف، فإن بينك وبينهم بعد ما بين باجة وأربونة ... أسمعت تلك البومة التي أخذت تولول بصوت مفزع مليء بالأحزان؟! - سمعتها وتشاءمت منها أشد التشاؤم، وأعتقد أنها نذير سوء. - تلك أوهام أبا عوف، فإن ما كان يكون:
وما غراب البين
إلا ناقة أو جمل
وبينما هما في حديثهما؛ إذ سمعا خطوات أشباح في الظلام، يدنو صوتها إلى حيث وقفا، فقال أبو عبد الله: لا بد أن أمرا ذا بال دفع هؤلاء الناس إلى النزول في هذه الليلة القاسية.
وما كاد يأخذ في الحديث، حتى مرت بهما طائفة من حرس الوالي عباد بن أبي القاسم وبينهم امرأة متلففة بالصوف، مجللة بالسواد، وقد حملها الخدم في محفة غطيت بنسيج من الكتان الغليظ لا يكاد ينفذ منه المطر. فوقفت المحفة قليلا، وسأل أبو عبد الله عن الخبر، فأجابه جوهر السوداني: بأن امرأة الأمير جاءها المخاض في منتصف الليل، وأنهم أحضروا لها نزهة الغرناطية القابلة (وأشار إلى المرأة التي بالمحفة). حينئذ ساروا جميعا إلى قصر الأمير، وكان قصرا فخما بني على الطراز العربي، وزخرف بعجائب الصنعة ودائع الفنون، وقد أطل النور من جميع نوافذه ومشارفه، وكان الخدم والجواري في شغل شاغل يجيئون ويذهبون.
فدخلت القابلة القصر، وجلس أبو عوف مع الحراس في بناء أعد لهم، حتى إذا مضت ساعة أو ساعتان، علت الأصوات في القصر، وانبسطت الوجوه، ونزلت جارية تثب فوق درجات السلم وثبا، وهي تصيح في لغة عربية متكسرة تمتزج بالرطانة الإسبانية: البشرى ... البشرى ... ولدت الأميرة ... ولدت بنت مجاهد ... إنه غلام ... إنه غلام ... إنه جميل جدا. حينئذ سحب أبو عوف عصاه، وهو يردد: إنه غلام ... إنه غلام.
فندق
بزغت شمس اليوم الثاني مشرقة وضاءة، وانحسرت الغيوم عن السماء وصحا الجو، كأن لم يكن نوء، وكأن لم يكن أمطار، وكأن لم يكن رياح هوج، ومضى الناس في شوارع باجة مستبشرين بعد ما دهمهم من الغم والعرب في الليلة الفائتة.
ولم يكن لهم من حديث إلا ما كان حول السقوف وكيف نفذ منها المطر، والشرفات وكيف أطاحت بها العواصف، والبرق وما كان من خوف أولادهم ونسائهم من توهجه، والرعد وما ترك في النفوس من رعب وفزع ... وجلست طائفة من الشبان المثقفين بفندق يتناشدون الشعر ويتطارحون النوادر وطرائف الأحاديث، وكان يقيم بالفندق شيخ جاوز الأربعين هو العالم الزاهد أبو حفص عمر الهوزني، قدم من إشبيلية لينسخ بعض كتب الحديث التي بخزائن باجة.
جلس الشيخ في صمت وإطراق، تتحرك شفتاه بما لا يكاد يسمع من أدعية أو تسبيح، وقد كان عرفه أحد الفتيان حينما كان يدرس العلم بإشبيلية، فاتجه إليه سائلا: كيف كانت ليلة الشيخ أمس؟ فأجاب الشيخ: الحمد لله على كل حال ... صدق الله العظيم:
نامعلوم صفحہ