چوان رامون خيمنيز1
يقول الشاعر الكوبي الحديث سنتيو فيتير
Cintio Vitier
عن خيمنيز: «إنه أبونا الشعري: أبونا في الأدب الذي فتح لنا أبواب الحياة الحقة، وأرانا الريف وخلائقه الطالعة من ضباب فجرها الأصيل، وسمى لنا الأشياء بأسمائها، ووضعها في أيدينا المتلهفة المرتجفة، تلك الأشياء في أصباغها الطيفية، حزينة أو سعيدة بكونها في هذه الدنيا كما هي كائنة ... فإذا كان داريو قد صنع لنا لغة من ذهب فقد صنع لنا خيمنيز لغة من ضياء.»
هذه مكانة «للشاعر الأب» توليها إياه أذهان المعجبين به، كما تمحضها له قلوب المحبين الشاكرين له من تلاميذه ومريديه، وقد يزاحمه في هذه المكانة جهابذة من أدباء عصره، وشعراء جيله يضارعونه في العلم والبلاغة ويفوقونه في الأثر والشهرة، ولكن تاريخ الأدب الإسباني الحديث لم يعرف أحدا يزاحمه في المكانة الأبوية التي جاءته من فيض الود، ولم يطلبها بسعيه واختياره؛ لأنه لم يكن يعلم أحدا غير ما تعلمه واستفاده وبدا فيه لتلاميذه كأنه التلميذ الأول الذي يردد لنفسه ما يسرهم أن يرددوه، وإن لم يسألهم ترديده ولم يدعهم إليه إذا خالفوه.
أبوة أدبية أو أستاذية فنية نالها من تلاميذه؛ لأنهم شاركوه كما شاركهم في دروسها الطيعة التي سبقهم إلى اقتباسها بخبرته واجتهاده، ولم يسلمها إليهم إلا كما يتسلم التلاميذ في حلقة المذاكرة توفيقات زميلهم السابق الذي يحسبون نجاحه من نجاحهم، ويضيفون اجتهاده إلى اجتهادهم، ولو قالوا إنه أخ لهم يحل منهم محل الأب المحبوب باختيارهم وعطفهم لما جاوزوا الصواب.
فالأستاذ الأب أو الأستاذ الأخ قد نشأ في عهد المدارس المتعددة، وكان تلميذا لكل مدرسة منها في أوانها، ثم شفعت له المشاركة في التجربة بعد التجربة عند الناشئين الذين سبقهم قليلا إلى معاناتها فأعفاهم من أكثر العناء وأقنعهم لأنه سلم قبلهم للتجربة الغالية فلم يحسبوا أنهم يسلمون له بهداية لم يشتركوا فيها، وكلهم - صفا بعد صف - متلاحقون في التقدم وفي التسليم.
ونحن لم نقرأ للشاعر الناقد كتابا كاملا غير كتابه عن بلاتيرو الذي اقتبسنا منه طرفا صالحا في الصفحات التالية، فكل ما قرأناه له مقصور على المختارات المترجمة له إلى اللغة الإنجليزية، وجملتها لا تزيد على كتاب واحد معتدل الصفحات، ولكننا نحس ونحن ننتقل من إحدى قصائده إلى الأخرى، ومن إحدى مقالاته إلى المقالة التي تليها أننا ننتقل بين الجهات الأربع في غير اتجاه واحد إلى اليمين أو إلى اليسار وإلى الأمام أو إلى الوراء. فلولا الوحدة الروحية التي تتشابه في أساليبه على تنوعها وتبدلها لخطر لنا أن المجموعة خليط من المختارات لأشتات من الشعراء والأدباء، وربما سرت في الأساليب المتعددة روح أخرى تلحقها بوحدة فنية مشتركة غير الوحدة التي تحافظ عليها سليقة الشاعر في أدوار حياته وفي تجارب فكره وقلمه؛ فإن روح العصر الحديث أظهر في جملة منظوماته ومنثوراته من أن يختلط بأساليب الشعر والنثر في عصر آخر من عصور الآداب الإسبانية أو الآداب الأوروبية على عمومها، ولكن الاختلاف بين الأساليب - بعد ما يشملها من تشابه السليقة وتشابه العصر - وشيك أن يفرقها بين الجهات الأربع ولو في مكان محدود. •••
وقد تعددت مناهج الشاعر الناثر ومدارسه القلمية على قدر تعدد مطالعاته في الآداب المأثورة بين أبناء زمنه، وقد كانت له مطالعات تكثر كلما اقتربت من العصر الذي عاش فيه. فربما كان محصوله من المطالعات السلفية من تراث اليونان واللاتين وأدباء القرون الوسطى أقل من المألوف بين جلة الأدباء القراء في جيله، ولكنه كان أوفر محصولا من أدب القرن السابع عشر بعد عصر النهضة وفي مقدمته أدب شكسبير، وكان محصوله من أدب القرن التاسع عشر في القارة الأوروبية برمتها أوفر من كل محصول تجمع له من بقايا القرون الغابرة. فاطلع على آداب المدارس الفرنسية المعاصرة وآداب الأمريكتين في لغاتها المختلفة، ولم يفته الاطلاع على أدب تاجور وبعض المترجمات عن المأثورات الأسيوية، وجمعت بينه وبين الشاعر الهندي قرابة نفسية لا تخفى على من يقرأ الشاعرين في وقت واحد، فإنهما زميلان في مدرسة التصوف الحديث وإن يكن تصوف تاجور أقرب إلى الروح وقداسة الدين، وتصوف خيمنيز أقرب إلى الذوق وجمال الفن والسكون إلى جوار الطبيعة، ولكنهما مدرسة واحدة في خليقة الطيبة والدماثة التي يتسم بها المتصوفة من كل قبيل.
وكانت هذه الدماثة في روح الشاعر أشبه شيء بخاصة السلاسة التي تجعل الجسم الطبيعي مطواعا للتشكل بشكل الوعاء الذي يحتويه، وكأنها كانت في أثرها المزدوج سر تلك السهولة أراحته من مقاومته للناس ومن مقاومة الناس إياه، فلم يكن من طبيعة أدبه أن يقاوم المخالفين أو يثير المقاومة من جانبهم، وقمين بهذه السلاسة أن تقترن في النظر بملامح السلامة والسلام.
نامعلوم صفحہ