Sermons of the Companions by Omar Al-Muqbel
مواعظ الصحابة لعمر المقبل
ناشر
مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٥ هـ
پبلشر کا مقام
الرياض - المملكة العربية السعودية
اصناف
مواعظ الصَّحَابَة ﵃ «مَوَاعِظُ عِلميَّةٌ مَنهَجِيَّةٌ وَتَرْبَوِيَّةٌ»
تأليف
د. عُمر بن عَبدِ الله بنِ مُحَمَّد الْمقبل
الْأُسْتَاذ المشَارك بقسم السّنة وعلومها بكلية الشَّرِيعَة - جَامِعَة القصيم
مكتبة دَار الْمِنْهَاج
نامعلوم صفحہ
المقدمة
الحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وذكرى للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا وإمامنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، الذي كان يتخوَّل أصحابه بالموعظة، وينوِّعها عليهم حالًا، وزمانًا ومكانًا، فكان بحقِّ سيد الواعظين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته الذين كانوا للمواعظ خير مستمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين؛ أمَّا بعد:
فلقد أخذ الوعظ في كتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ مكانًا بارزًا، ومحلًّا كبيرًا؛ وما ذاك إلا لعظيم أثره على القلوب، وحاجة النفوس إليهن خاصةً مع كثرة ملابسة الأمور التي تقسِّي القلب، وتشتِّت الذهن؛ ولهذا كان نبيُّنا ﷺ يتخوَّل أصحابه بالموعظة، والسؤال: من الواعظ؟ ومن الموعوظ؟ فإذا كان الأمر كذلك، فحاجتنا نحن إلى الوعظ أكثر وأكبر؛ فالوعظ طريقٌ من الطُّرق الموصلة إلى الجنَّة، ينير العقل، ويصلح القلب، وأثره في حصوله المحبَّة والألفة بين المسلمين أشهر من أن ينوَّه به (١).
_________
(١) يُنظر: نضرة النعيم (٨/ ٣٦٣٧).
1 / 5
يقول محمد بن عبادة المعافريُّ؛ كنَّا عند أبي شريحٍ المعافريِّ ﵀ فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حميدٍ المهريِّ، استقلُّوا قلوبكم، وتعلَّموا هذه الرغائب والرقائق؛ فإنَّها تجدِّد العبادة، وتورث الزَّهادة، وتجرُّ الصَّداقة، وأقلُّوا المسائل؛ فإنَّها في غير ما نزل تقسِّي القلب، وتورث العداوة (١).
والمتأمِّل في الهدي النبويِّ في الوعظ، يمكنه تلخيص منهجه ﷺ فيما يلي:
(١) - ممارسة الوعظ بأنواعه؛ القوليِّ والفعليِّ.
(٢) - عدم الإملال بالوعظ، كما في الصحيحين من حديث أبي وائلٍ شقيق بن سلمة، قال: كان عبد الله بن مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن، إنَّا نحبُّ حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ، فقال: ما يمنعني أن أحدِّثكم إلا كراهية أن أملَّكم؛ «إنَّ رسول الله ﷺ كان يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السآمة علينا» (٢).
(٣) - اغتنام المناسبات، واهتبال الفرص، فهو ﷺ لم يكن يجعل للوعظ هيئةً معيَّنةً لا يخرج عنها، بل كانت حياته دعوةً، ودعوته حياةً، فهو يرى مشهدًا من المشاهد، فيغتنمه ليربط الصحابة بمعنى من المعاني الشريفة، فمثلًا: يقول جابر ﵁ مرَّ رسول الله ﷺ بالسوق، داخلًا من بعض العالية، والناس كَنَفَتَهُ، فمرَّ بجدي أسكَّ - يعني: صغير الأذنين - ميِّتٍ، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: (أيُّكم يحبُّ أنَّ هذا له بدرهم؟)، فقالوا: ما نحبُّ أنَّه لنا بشيءٍ، وما نصنع به؟ قال: (أتحبُّون أنَّه لكم؟)،
_________
(١) سير أعلام النبلاء (٧/ (١٨٢».
(٢) البخاري «٧٠»، مسلم «٢٨٢١».
1 / 6
قالوا: والله لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه؛ لأنَّه أسكُّ، فكيف وهو ميِّتٌ؟ فقال: (فوالله للدُّنيا أهون على الله، من هذا عليكم) (١).
وفي إحدى الغزوات قدم على رسول الله ﷺ بسبيٍ، فإذا امرأةٌ من السبي تبحث عن صبيِّها الصغير الذي فقدته، فوجدته فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله ﷺ: (أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النَّار؟)، قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألاَّ تطرحه، فقال رسول الله ﷺ: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)» (٢).
(٤) - ومن الهدي النبويِّ في الوعظ: التعميم في الخطاب: (ما بال أقوام)، هذا هو الأصل المطَّرد، والأعمُّ الأغلب في وعظه ﷺ، ويندر أن ينصَّ على شخصٍ بعينه؛ فإنَّ النفوس تكره وتنفر من مثل هذا.
٥ - الإيجاز والاختصار، وعدم الإطالة إلا نادرًا لمصلحةٍ عارضةٍ.
ومن تأمَّل في مواعظ الصحابة ﵃، وجدهم قد ساروا على هذا الهدي العظيم، فهم خير هذه الأمة، وأبرُّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا - كما وصفهم بذلك الحسن البصريُّ ﵀ (٣).
ولما سبقت الإشارة إليه؛ وقع الاختيار على مواعظهم، للتعليق على ما تيسَّر منها؛ لتميُّزها بعدة مزايا:
١ - أنها مواعظ صادرةٌ عن تلاميذ سيِّد الواعظين ﷺ.
٢ - أنَّهم جمعوا بين العلم العميق المؤصَّل، وسهولة العبارة التي جعلتهم يتكلَّمون بكلامٍ يفهمه عامة الناس في عصرنا فضلًا عمَّن
_________
(١) صحيح مسلم (٤/ ٢٢٧٢).
(٢) البخاري (٥٩٩٩)، مسلم (٢٧٥٤).
(٣) الشريعة، للآجري (٤/ ١٦٨٦)
1 / 7
قبلهم، بينما تجد في بعض عبارات العبَّاد الذين عاشوا في قرونٍ بعدهم شيئًا من التكلُّف، والغموض، وأحيانًا لا تسلم من إشكالاتٍ شرعيَّةٍ.
(٣) - قصر مواعظهم، وسهولة فهمها، وتطبيقها.
(٤) - أنَّها مواعظ مترجمةٌ عمليًّا في واقعهم، فلا يعجز الباحث أن يجد في سيرهم الترجمة العمليَّة لها، وهذا له أثره في الإفادة منها. قيل لحمدونٍ القصَّار: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنَّهم تكلَّموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلَّم لعزِّ النفوس، وطلب الدُّنيا، ورضا الخلق (١).
يقول ابن القيِّم ﵀ مبيِّنًا هذا المعنى في حقِّ الصحابة ﵃: «ولا ريب أنَّهم كانوا أبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأقرب إلى أن يوفَّقوا لما لم نوفَّق له نحن؛ لما خصَّهم الله تعالى به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الربِّ تعالى؛ فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزةٌ في فطرهم وعقول».اهـ (٢).
إذا تبيَّن هذا، فلنبيِّن على وجه الاختصار معنى الوعظ وحقيقته:
فالوعظ في اللُّغة يدور على الترغيب، والترهيب، قال ابن فارسٍ: الوعظ: التخويف، والعظة الاسم منه، وقال الخليل: هو التذكير بالخير وما يرقُّ له قلبه (٣).
_________
(١) صفة الصفوة (٢/ ٣١٣).
(٢) إعلام الموقعين (٤/ ١١٣).
(٣) مقاييس اللغة (٦/ ١٢٦).
1 / 8
وقال الذَّهبيُّ: «الوعظ فنٌّ بذاته، يحتاج إلى مشاركةٍ جيِّدةٍ في العلم، ويستدعي معرفةً حسنةً بالتفسير، وإكثارًا من حكايات الفقراء والزُّهاد» (١).
وههنا معنى مهمُّ يتعلَّق بالوعظ، شكا منه الصحابة ﵃ وخافوا على أنفسهم من النِّفاق بسببه، فبيَّن لهم النبيُّ ﷺ وجه الصواب؛ ذلك أنَّ حنظلة الأسيِّديَّ ﵁ قال: لقينى أبو بكرٍ، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قال: قلت: نكون عند رسول الله ﷺ يذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عند رسول الله ﷺ، عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنَّا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكرٍ، حتى دخلنا على رسول الله ﷺ، قلت: نافق حنظلة، يا رسول الله! فقال رسول الله ﷺ (وما ذاك؟)، قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا! فقال رسول الله ﷺ: (والَّذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً) ثلاث مرَّاتٍ (٢).
يوضِّح ابن الجوزي ﵀ هذا المعنى فيقول:
«قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظةٌ، فإذا انفصل عن مجلس الذِّكر، عادت القسوة والغفلة، فتدبَّرت السبب في ذلك، فعرفته، ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أنَّ القلب لا يكون على صفه من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها؛ لسببين:
_________
(١) زغل العلم (ص٤٩).
(٢) صحيح مسلم (٤/ ٢١٠٦).
1 / 9
أحدهما: أنَّ المواعظ كالسِّياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها.
والثَّاني: أنَّ حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلَّة، قد تخلَّى بجسمه وفكره عن أسباب الدُّنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، فكيف يصحُّ أن يكون كما كان؟!
وهذه حالةٌ تعمُّ الخلق! إلا أنَّ أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر، فمنهم من يعزم بلا تردُّدٍ، ويمضي من غير التفاتٍ، فلو توقَّف بهم ركب الطبع لضجُّوا، كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة!
ومنهم أقوامٌ يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحيانًا، ويدعوهم ما تقدَّم من المواعظ إلى العمل أحيانًا، فهم كالسُّنبلة تميلها الرِّياح.
وأقوامٌ لا يؤثِّر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماءٍ دحرجته على صفوانٍ» (١).اهـ.
ولا يفوتني هنا أن أنوِّه بالجهد الكبير الذي بذله الشيخ صالحٌ الشامي - أثابه الله - في كتابه «مواعظ الصحابة»، والذي جمع فيه جملةً كبيرةً من مواعظهم، واستفدتُّ منه كثيرًا، لكنَّ الكتاب لم يتعرَّض لها بالتعليق والشرح، بل كان هدفه الجمع - وهو هدفٌ نبيلٌ.
أما هذا الكتاب، فهدفه الأكبر: جمع بعض هذه المواعظ، والتعليق عليها، بما يوضِّح شيئًا من دلالتها، مع الحرص على ربطها بواقعنا الذي نعيشه.
ومن أهمِّ النتائج التي خرجت بها - بعد هذا التَّطواف في مئات
_________
(١) صيد الخاطر (ص٢٣).
1 / 10
المواعظ - أنَّ عددًا ليس بالقليل من الأحاديث الموقوفة على الصحابة، يرويها بعض الضعفاء مرفوعةً، فيجعلها من كلام النبيِّ ﷺ.
ومن نافلة القول: أنَّ الأئمة في مثل هذه الأبواب لا يشدِّدون في الأسانيد، من حيث تطبيق قواعد المحدِّثين عليها، وهذا ما جعلني أتأسَّى بهم، مع وقوفي على أسانيد تلك المواعظ التي رويت في الكتب المسندة.
وقد اجتهدتُّ في عدم إيراد ما قد يستنكر من متون هذه الموا عظ، وحرصت على إيراد ما له أصلٌ صحيحٌ، أو لا تمنع منه القواعد الشرعيَّة، والأصول المرعيَّة لهذه الشريعة العظيمة.
وقد قدَّمت بين يدي المواعظ بتمهيدٍ، أشرت فيه إلى جملةٍ من النصوص الشرعيَّة، وكلام الأئمة في فضل الصحابة وخطورة تنقُّصهم.
اللَّهمَّ إنِّي أحببت من اخترتهم لصحبة نبيِّك ﷺ حبًا كبيرًا؛ لنصرتهم لدينك، ودفاعهم عن نبيِّك ﷺ حيًا وميتًا، اللَّهمَّ أسلكني - وقارئ هذه الأحرف- فيمن قلت فيهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر:١٠].
اللَّهمَّ فاحشرني ووالديَّ، وأهل بيتي، ومشايخي، ومن له حقٌّ عليَّ، وقارئ هذه المواعظ في زمرتهم، وارزقنا الانتفاع بمواعظهم! والحمد لله ربِّ العالمين.
كتبه عمر بن عبد الله بن محمد المقبل في ١٩/ ١٢/١٤٣٤ هـ للمراسلة
للتواصل الموقع الرسمي: www.almuqbil.com للتواصل على تويتر: dr_almuqbil
البريد العادي: السعودية - القصيم - المذنب
الرمز البريدي ٥١٩٣١ - ص. ب: ١٦
1 / 11
تمهيدٌ
بين يدي مواعظ خير أصحابٍ ﵃ لخير نبيٍّ ﷺ
لعلَّ من المناسب أن أقدِّم بين يدي هذه المواعظ بذكر بعض فضائل الصحابة ... - رضوان الله عليهم - وشيءٍ من كلام الأئمة في بيان مكانتهم، فأقول:
إنَّ من الأصول المقرَّرة في الشرع المطهَّر، ومن سمات أهل السُّنَّة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة الأخيار، وحملة الشريعة الأتقياء الأبرار، والذبَّ عن حرماتهم وأعراضهم.
فلولاهم ما وصلنا الدِّين كاملًا - وأصله القرآن - غضًّا طريًّا كأنَّما أنزل اليوم.
إنهم خير الناس للناس، وأفضل تابعٍ لخير متبوعٍ ﷺ، هم الذين فتحوا البلاد بالسِّنان، والقلوب بالإيمان.
لم يعرف - التاريخ البشر أعظم من تاريخهم، ولا رجالًا - بعد الأنبياء - أفضل منهم.
هم الذين استرخصوا في سبيل نصر الدِّين أنفسهم وأموالهم! وفارقوا أهلهم وأوطانهم! حين ضنَّ غيرهم بالنفس والمال، واستثقلوا مُفارقة الأهل والولدان، فلا كان ولا يكون مثلهم والله!
1 / 13
هم الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيِّه ﷺ. ونشر دينه، فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدُّنيا إلى سعتها، ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر، وتحطَّمت شعائر الإلحاد، وذلَّت رقاب الجبابرة والطغاة، ودانت لهم الممالك.
إنَّهم أصحاب محمدٍ ﷺ: «الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله ﷾ لصحبة نبيِّه ﷺ ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلامًا وقدوةً، فحفظوا عنه ﷺ ما بلَّغهم عن الله ﷿، وما سنَّ وما شرع، وحكم وقضى وندب، وأمر ونهى وأدَّب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدِّين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله ﷺ ... ونفى عنهم الشكَّ والكذب والغلط والريبة والغمز، وسمَّاهم عدول الأمَّة، فقال - عزَّ ذكره - في محكم كتابه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣]» (١).
إنَّهم أصحاب محمدٍ ﷺ الذين: «سمحت نفوسهم ﵃ بالنفس والمال والولد والأهل والدار، ففارقوا الأوطان، وهاجروا الإخوان، وقتلوا الآباء والإخوان، وبذلوا النفوس صابرين، وأنفقوا الأموال محتسبين، وناصبوا من ناوأهم متوكِّلين، فآثروا رضاء الله على الغناء، والذلَّ على العزِّ، والغربة على الوطن، هم المهاجرون: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: ٨] حقًّا، ثمَّ إخوانهم من
_________
(١) الجرح والتعديل (١/ ٧).
1 / 14
الأنصار، أهل المواساة والإيثار، أعزُّ قبائل العرب جارًا، واتَّخذ الرسول ﷺ دارهم أمنًا وقرارًا، الأعفَّاء الصُّبر، والأصدقاء الزهر، الذين ﴿تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩].
فمن انطوت سريرته على محبتهم، ودان الله تعالى بتفضيلهم ومودَّتهم، وتبرَّأ ممَّن أضمر بغضهم؛ فهو الفائز بالمدح الذي مدحهم الله تعالى به فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠].
إنَّهم الصحابة ﵃ الذين تولَّى الله شرح صدورهم فأنزل السكينة على قلوبهم، وبشَّرهم برضوانه ورحمته فقال: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ [التوبة: ٢١].
جعلهم الله خير أمةٍ أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله، فجعلهم مثلًا للكتابين؛ لأهل التوراة والإنجيل، خير الأمم أمَّته، وخير القرون قرنه، يرفع الله من أقدارهم؛ إذ أمر الرسول ﷺ بمشاورتهم؛ لما علم من صدقهم، وصحة إيمانهم، وخالص مودَّتهم، ووفور عقلهم، ونبالة رأيهم، وكمال نصيحتهم، وتبيُّن أمانتهم، ﵃ أجمعين» (١).
«فكلُّ خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة؛ من الإيمان والإسلام، والقرآن والعلم، والمعارف والعبادات، ودخول الجنة والنجاة من النار،
_________
(١) الإمامة والرد على الرافضة (٢٠٩ - ٢١١).
1 / 15
وانتصارهم على الكفار، وعلوِّ كلمة الله ﷿ فإنَّما هو ببركة ما فعله الصحابة ﵃ الذين بلَّغوا الدِّين، وجاهدوا في سبيل الله، وكلُّ مؤمنٍ آمن بالله فللصحابة ﵃ عليه فضلٌ إلى يوم القيامة» (١). وقد قال تعالى - في فضلهم ومآلهم-: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:١٠٠]. وقال تعالى في مدحهم - ومن أصدق من الله قيلًا وحديثًا؟! -: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: ٢٩]. وبعد هذا الثناء السماويِّ، تأتي التزكية من أصدق الخلق كلامًا، وأفصحهم بيانًا ﷺ في أحاديث كثيرةٍ، جمعها بعض العلماء في مجلداتٍ كبارٍ ... فماذا عسى الإنسان أن يقول في هذا المقام؟!
لقد زكَّاهم - بأبي هو وأمِّي - بقوله: (خير الناس قرني، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم) (٢). وزكَّاهم ﷺ فقال: (النُّجوم أمنةٌ للسَّماء، فإذا ذهبت النُّجوم أتى السَّماء ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمَّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعدون) (٣).
ونهى عن التعرُّض لهم، فقال ﷺ: (لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي؛ فو الَّذي نفسي بيده، لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا، ما أدرك
_________
(١) منهاج السُّنَّة (٦/ ٣٧٦).
(٢) البخاري ح (٢٦٥٢)، مسلم ح (٢٥٣٣).
(٣) صحيح مسلم ح (٢٥٣١).
1 / 16
مدَّ أحدهم، ولا نصيفه) (١).
ولأجل ما تقدَّم من نصوص الوحيين في فضائل الصحابة ﵃ كان أئمة السلف ﵏ يحذِّرون أشدَّ التحذير من الخوض في شيءٍ من أخطاء الصحابة ﵃ مع اعتقادهم بأنَّهم ليسوا بمعصومين على مستوى أفرادهم، وقد يوجد من آحادهم أخطاءٌ، هم فيها بين الأجر والأجرين ﵃ وإنَّما قال السلف هذا وأكَّدوه؛ لأنَّهم أدركوا ورأوا بأعينهم أنَّ الوالج في هذا الباب لا ينتهي به الأمر إلا إلى هدم الشريعة!
يقول الإمام الجليل أبو زرعة ﵀: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول لله ﷺ، فاعلم أنه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ الرسول ﷺ عندنا حقٌّ، والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحاب رسول الله ﷺ! وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسُّنَّة! والجرح بهم أولى، وهم زنادقةٌ».
وقال الإمام أحمد ﵀: «ومن انتقص أحدًا من أصحاب رسول الله أو أبغضه لحدثٍ كان منه، أو ذكر مساويه، كان مبتدعًا حتى يترحَّم عليهم، ويكون قلبه لهم سليمًا» (٢).
وقال شيخ الإسلام ﵀ فيمن زعم: «أنهم ارتدُّوا بعد الرسول ﷺ إلا نفرًا قليلًا لا يبلغون بضعة عشر نفسًا، أو أنَّهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضًا في كفره؛ فإنَّه مكذِّبٌ لما نصَّه القرآن في غير موضع من الرِّضا عنهم والثناء عليهم، بل من يشكُّ في كفر مثل هذا، فإنَّ كفره
_________
(١) البخاري ح (٣٦٧٣)، مسلم ح (٢٥٤٠).
(٢) أصول السُّنَّة؛ لأحمد بن حنبل (ص٥٤).
1 / 17
متعينٌ؛ فإنَّ مضمون هذه المقالة أنَّ نقلة الكتاب والسُّنَّة كفارٌ أو فسَّاقٌ، وأنَّ هذه الأمة التي هي: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وخيرها هو القرآن الأوَّل - كان عامتهم كفارًا أو فساقًا - ومضمونها أنَّ هذه الأمة شرُّ الأمم، وأنَّ سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيءٌ من هذه الأقوال، فإنَّه يتبيَّن أنَّه زنديقٌ، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلاثٌ» (١).اهـ.
ومن دقيق فهم الإمام مالك ﵀ للقرآن أنَّه قال في قوله تعالى عن الصحابة: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ إلى قوله: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: ٢٩]، قال ﵀: «من أصبح من الناس في قلبه غيظٌ على أحد من أصحاب رسول الله ﷺ، فقد أصابته هذه الآية» (٢).
فليعرف المؤمن لأصحاب نبيِّه ﷺ قدرهم، وليحذر من الاستماع أو المشاهدة لتلك القنوات، التي تثير الشُّبه حول أصحاب النبيِّ ﷺ، فخيرٌ للمؤمن - والله - أن يلقى ربَّه وقلبه سليمٌ لعموم المؤمنين، فكيف بأصحاب النبيِّ ﷺ؟! وليحفظ المسلم ثناء الله على أصحاب نبيِّه ﷺ ورضاه عنهم، ولا يكن في قلبه غلٌّ على أحدٍ منهم؛ فإنَّ هذا من أعظم خبث القلوب.
اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن دخل في قولك: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا
_________
(١) الصارم المسلول (٣/ ١١١٠ - ١١١١).
(٢) الرواة عن مالك؛ للرشيد العطار (ص٢٥٩)، وانظر: «الشفا»؛ للقاضي عياض (٢/ ١٢٠).
1 / 18
غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر:١٠]، واجمعنا بصحابة نبيِّك ﷺ في دار الكرامة؛ فإنَّا - وأنت خير الشاهدين - قد أحببناهم، وواليناهم، وكرهنا وأبغضنا من أبغضهم.
***
1 / 19
من مواعظ الصِّدِّيق ﵁ -
إنَّه خليفة رسول الله ﷺ (١): عبد الله (٢) بن أبي قحافة - واسمه عثمان - بن عامرٍ، القرشيُّ، التَّيميُّ، يلتقي مع رسول الله ﷺ في مرَّة (٣).
ولد بمكة، ونشأ سيِّدًا من سادات قريشٍ، وغنيًّا من كبار موسريهم، وعالمًا بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكانت العرب تلقِّبه بـ «عالم قريشٍ» (٤)، وحرَّم على نفسه الخمر في الجاهليَّة فلم يشربها، ثم كانت له في عصر النبوة - وما بعده - مواقف كبيرةٌ؛ فشهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال (٥)، له في كتب الحديث ١٤٢ حديثًا (٦).
_________
(١) تاريخ الإسلام (٢/ ٦٦): وقال أبو بكر بن عيَّاشٍ: أبو بكر خليفة رسول الله ﷺ في القرآن؛ لأنَّ في القرآن في المهاجرين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥]، فمن سمَّاه الله صادقًا لم يكذب، هم سمَّوه وقالوا: يا خليفة رسول الله!
(٢) الاستيعاب (٣/ ٩٦٣): كان اسمه في الجاهلية: عبد الكعبة، فسمَّاه رسول الله ﷺ: عبد الله، هذا قول أهل النسب: الزُّبيريِّ وغيره.
(٣) تاريخ الخلفاء؛ للسيوطي (ص٢٦).
(٤) إكمال تهذيب الكمال (٨/ ٦٠): وعند التاريخي عن ابن عباس: كانت قريشٌ تألف منزل أبي بكر لخصلتين: الطعام، والعلم، فلما أسلم، أسلم عليه من كان يجالسه.
(٥) إكمال تهذيب الكمال (٨/ ٦٤): وقال السهيليُّ: كان يسمَّى أمير الشاكرين؛ لقوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ إلى قوله: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤].
(٦) الأعلام؛ للزِّركلي (٤/ ١٠٢).
1 / 21
وهو أول من جمع القرآن في اللَّوحين (١).
وتوفِّي مساء ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة (١٣هـ)، وكانت خلافته سنتين ومئة يومٍ (٢).
والمتأمِّل فيما روي من المواعظ عن الصِّدِّيق ﵁؛ يلحظ تنوُّعها بتنوُّع المناسبات، كما هو هدي النبيِّ ﷺ، ومن تلكم المواعظ (٣):
• خطب أبو بكرٍ ﵁ الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال:
«إنَّه ستفتح لكم الشام، فتأتون أرضًا رفيعةً حيث تمتَّعون فيها من الخبز والزيت، وستبنى لكم بها مساجد، فإيَّاكم أن يعلم الله ﷿ أنَّكم إنَّما تأتونها تلهِّيًا! إنَّما بنيت للذِّكر».
ففي هذه الموعظة تنبيهٌ من الصِّدِّيق ﵁ على أنَّ الانهماك في الدُّنيا- أو التوسُّع فيها- مظنَّة الغفلة عن الذِّكر.
وفيها: أنَّ النِّعم إذا استعملت في اللَّهو الذي يصدُّ عن ذكر الله، فهي نقمٌ واستدراجٌ.
• وقال الصِّدِّيق ﵁ (٤):
«إذا عمل قومٌ بالمعاصي بين ظهراني قومٍ هم أعزُّ منهم، فلم يغيِّروه عليهم، انزل الله عليهم بلاءً، ثم لم ينزعه منهم».
_________
(١) تاريخ الإسلام (٢/ ٦٨).
(٢) انظر: تاريخ الإسلام (٢/ ٦٨).
(٣) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص٩٣).
(٤) مقولة أبي بكر رواها البيهقيُّ في شعب الإيمان (١٠/ ٥٠)، وحديث: (إنَّ الناس إذا رأوا الظَّالم ...) أخرجه أبو داود ح (٤٣٣٨).
1 / 22
• وقال ﵁ بعد أن حمد الله وأثنى عليه -:
«يا أيَّها الناس، إنَّكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]! وإنَّا سمعنا النبيَّ ﷺ يقول: (إنَّ النَّاس إذا رأوا الظَّالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ)».
وما ذكره الصِّدِّيق ﵁ في هاتين الموعظتين دلَّت عليه نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٨، ٧٩].
وفي الترمذيِّ - وقال: حديثٌ حسنٌ - عن حذيفة بن اليمان، عن النبيِّ ﷺ قال (والَّذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثمَّ تدعونه فلا يستجاب لكم).
بل إنَّ من أعمق التشبيهات التي تبيِّن أهمية الاحتساب، وقيام شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطورة تركه أو التقصير فيه - قوله ﷺ من حديث النُّعمان بن بشير ﵄: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الَّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا» (١).
_________
(١) البخاري ح (٢٤٩٣).
1 / 23
إنَّه لخليقٌ والله ونحن نقرأ هذه الموعظة النبويَّة ثم الصِّدِّيقيَّة- أن نكون من أسرع الناس للقيام بشعيرة الاحتساب حسب القدرة والطاقة؛ حتى لا نهلك، أو تغرق سفينة مجتمعنا.
• وعن زيد بن أسلم، عن أبيه قال (١):
رأيت أبا بكرٍ ﵁ آخذًا بلسانه يقول: «هذا أوردني الموارد».
الله أكبر! هذا كلام الصِّدِّيق عن لسانه، فماذا نقول نحن؟! ولك أن تتصوَّر- أخي القارئ - ما هي الكلمات التي خشي منها أبو بكرٍ؟ وما الكلام الذي جعله يقول مثل هذا الكلام؟! إنَّها خشية الله، التي جعلته يفكِّر في كلامٍ مباحٍ قاله ولا حاجه له، أو قال كلامًا في غير موضعه اجتهادًا وتأوُّلًا!
أما والله، إنَّا لأحقُّ بهذه الكلمة من الصِّدِّيق ﵁! ونحن الذين نتكلَّم أكثر مما نعمل، وقلَّ أن نسلم من الغيبة، فإن سلمنا منها لم نسلم من استماعها والسكوت عنها!
• وقال الصِّدِّيق ﵁ (٢):
«بلغنا أنَّه إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين أهل العفو؟ فيكافئهم الله تعالى بما كان من عفوهم عن الناس».
إنَّ من أعظم المواعظ العمليَّة في حياة الصِّدِّيق ﵁ في باب العفو - أنَّه حين أقسم أن يقطع النفقة عن ابن خالته مسطح بن أثاثة ﵁
_________
(١) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص٩٠).
(٢) مسند الصديق (ص٧٣)؛ لأبي بكر المروزي.
1 / 24
بعد أن جرى لسانه بمقال أهل الإفك، ثم نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور:٢٢]، لم يزد عل أن قال: بلى والله! ثم أعاد النَّفقة إلى مسطح.
حين تتأمل هذا الموقف، فإنَّك ستجد لقوله هذا موقعًا عظيمًا.
• وقال الصِّدِّيق ﵁ عن آل بيت رسول الله (١):
«يا أيُّها النَّاس، ارقبوا محمَّدًا ﷺ في أهل بيته».
وفي الصحيحين عنه ﵁ أنَّه قال: والله لقرابة رسول الله ﷺ أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي! (٢).
هذه كلماتٌ كان يعظ بها الناس، ويذكِّرهم على المنبر، وفي مناسباتٍ متنوِّعةٍ، ليبيِّن منزلة آل بيته ﷺ في نفسه، وأقسم ﵁ وهو الصادق أنَّ صلته لقرابة النبيِّ ﷺ أحبُّ إليه من أن يصل قرابته، فأين من يطعن فيه ويتَّهمه بعداوته لآل البيت الأطهار الكرام؟!
• وقال ﵁ (٣):
«أطوع الناس لله أشدُّهم بغضًا لمعصيته».
وهذا معنى دقيقٌ؛ فإنَّ كثيرًا من الناس قد يفعل جملة من
_________
(١) مصنَّف ابن أبي شيبة (٦/ ٣٧٤).
(٢) البخاري ح (٣٨١٠)، مسلم ح (١٧٥٩).
(٣) جمهرة خطب العرب (١/ ٤٤٦).
1 / 25