علي بن أبي طالب
علي بن أبي طالب أول من أسلم من الصبيان، تربى في بيت النبوة، وقدم نفسه فداءً للنبي ﵊ يوم الهجرة، فكان من أشجع الرجال.
كانت له مواقف بطولية معروفة كموقفه في غزوة الخندق، وكذلك موقفه في غزوة خيبر الذي دل على محبة الله له، وكان موقفه الأخير -وهو من أعظم المواقف- في الفتنة، حيث كان الحق حليفه، وقد قتل ﵁ وأرضاه غدرًا.
1 / 1
مواقف من حياة الإمام علي بن أبي طالب
الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبيًا عن أمته ورسولًا عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة وزكى الله هذه الأنفس المطمئنة بالإيمان، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائمًا وأبدًا على طاعته، وفي الآخرة في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله: مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ونحن اليوم على موعد مع العابد التقي الورع الذي تفوَّق على إغراء دنيا البشر، إننا اليوم على موعد مع خليفة آخر، من طراز عمر في شدته وعدله واستقامته وورعه وزهده وتواضعه، إنه الرجل والخطيب المفوه البارع الذي تهتز الدنيا لكلماته، وهي تخرج من وراء شفتيه كأنها نور يبدد الظلماء، إنه الفقيه العالم الذي يجري الحق على لسانه وقلبه، إنه تلميذ بيت النبوة الذي تربى في حجر المصطفى ﷺ وكفى، إنه الرجل الذي أحب الله ورسوله وأحبه الله ورسوله، إنه الرجل الذي اضطر يومًا لأن يفخر بهذه الفضائل وبتلك المكارم فقال:
محمدٌ النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر من يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي
إننا اليوم على موعد مع الشهيد المظلوم علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه.
أحبتي في الله! الحق أقول لكم: لقد صحبت التاريخ طوال الأسبوع الماضي في مراجعه وأمهاته الكبار، لكي أدرس من جديد حياة الإمام دراسة دقيقة في فترة حرجة من أحرج فترات التاريخ الإسلامي، بيد أن محاولة تلخيص حياة الإمام في هذه الدقائق المعدودات محاولة صعبة وعسيرة، فحياة الإمام لاسيما في مراحلها الأخيرة التي بدأت باستخلافه وانتهت باستشهاده لم تكن حياة عادية وإنما كانت تتفجر بالعظمة والجلال، وتموج بالأسى والهول موجًا في آن واحد.
فهيا بنا سريعًا إلى هذه الحياة الحافلة بالبطولة والألم والعظمة والمأساة، والبأساء والضراء، والنصر والهزيمة، والرخاء والشدة، والبسمة والدمعة، والفرح والحزن، هيا بنا إلى حياة الإمام علي ﵁ وأرضاه، وتعالوا بنا لنستهل هذه الحياة العامرة المباركة الكريمة بشهادات الحق وأوسمة الصدق التي منحها الحبيب المصطفى ﷺ عليًا ﵁ وأرضاه.
1 / 2
علي أول من أسلم من الصبيان
في أيام الرسالة الأولى يوم أن تنزل جبريل لأول مرة بوحي السماء على أرض مكة، كان هناك علي بن أبي طالب في بيت النبوة يستمع إلى القرآن غضًا طريًا من فم رسول الله ﷺ، وسرعان ما نطق هذا الصبي الصغير التقي النقي بشهادة الحق وقولة الصدق ليكون أول صبي يدخل في دين الله جل وعلا، كما ورد في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن صحيح من حديث زيد بن أرقم أنه قال: (أول من أسلم علي) وليس هناك تناقض؛ فإن عليًا هو أول من أسلم من الصبيان، وإن أبا بكر هو أول من أسلم من الرجال.
1 / 3
علي في غزوة خيبر
وأنتقل سريعًا مع مواقف علي في حياته قبل الخلافة في غزوة خيبر، في السنة السابعة من الهجرة برزت وتجلت بطولة أسد الله، وظهرت مكانته عند الله وعند رسوله ﷺ، فلقد خرج النبي ﷺ إلى حصون خيبر آخر المعاقل لليهود في المدينة المنورة وحاصرها النبي حصارًا شديدًا وطال الحصار، فقال النبي ﷺ يومًا -كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم -: (لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه) .
أسمعتم أيها الأحبة؟! رجل يحب الله ورسوله أمر عادي على أصحاب رسول الله ﷺ، ولكن رجل يحبه الله ورسوله إنه أمر تشرئب إليه الأعناق، ولذا ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن عمر بن الخطاب ﵁ قال: [والله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذٍ] يقول سهل بن سعد راوي الحديث: [فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها] أي: يخوضون ويتحدثون، يا ترى من سيكون هذا الرجل الذي سيفتح الله على يديه حصون خيبر المنيعة؟ يا ترى من سيكون هذا الرجل الذي يحبه الله ورسوله؟ فلما أصبح الناس غدوا إلى رسول الله ﷺ واشرأبت الأعناق، وحاول كل فارس مغوار أن يقول لرسول الله: هأنذا، وسكن الجميع وصمت الجمع وشق هذا الصمت الرهيب وهذا السكون الدائم صوت رسول الله ﷺ وهو يقول: (أين علي بن أبي طالب؟ -إنه رجل الموقف وصاحب الراية- فقالوا: يا رسول الله! إنه يشتكي عينيه) لقد رمد علي وتخلف؛ لأنه يشتكي اليوم عينيه فقال النبي ﷺ: (فأرسلوا إليه، فأتي به ﵁ وأرضاه، فمسح النبي ﷺ على عينيه ودعا له فبرئ وكأنه لم يكن به وجع، وأعطاه الراية، فقال علي: على ماذا أقاتل الناس يا رسول الله؟ -وهذا لفظ مسلم من حديث أبي هريرة - فقال ﷺ: قاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وفي لفظ البخاري: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًاَ خير لك من حمر النعم) .
وانطلق البطل المغوار والفدائي العظيم الذي علَّم الدنيا شرف البطولة وحقيقة الفداء، وسرعان ما علا صوت النصر على لسان هذا البطل الكبير والفدائي العظيم الذي صرخ بأعلى صوته في وسط حصون خيبر: الله أكبر! خربت خيبر، وتم الفتح بموعود الله وبكلام رسول الله ﷺ على يد هذا الأسد والبطل الشريف والفدائي الكبير.
1 / 4
علي في غزوة تبوك
وفي السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي ﷺ لغزوة تبوك، وأمر النبي ﷺ عليًا أن يخلفه في أهله، وخرج علي يشتكي كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ﵁، وقال: (يا رسول الله! تخلفني في النساء والصبيان؟) أعيروني القلوب وأصغوا الأسماع لتستمعوا إلى هذه الشهادة، ولتأخذوا هذا الوسام الذي علقه النبي ﷺ بيده الكريمة على صدر علي بن أبي طالب، فيقول له الحبيب: (يا علي! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي)، الله أكبر! أي طراز من البشر كان علي؛ لينال هذه الشهادة الكريمة، وليحصل على هذه المنقبة الكبيرة العظيمة؟
1 / 5
دراسة تحليلية لأحداث الفتنة بين علي ومعاوية
ولن أتوقف طويلًا -أيها الأحبة- عند حياة الإمام قبل الخلافة -فإني أرى عقارب الساعة بين يدي تطاردني لنخلِّف سريعًا الأحداث المؤلمة- لنعيش مع البطل في أحداث الفتنة الصماء البكماء العمياء؛ لنستخرج الحق من وسط هذا الركام الهائل من الأخبار الموضوعة والأقوال المكذوبة المصنوعة، التي شحنت بها الكتب والأسفار على أيدي الشيعة والخوارج وغيرهم من فرق الباطل والضلال.
وأعيروني القلوب فإن هذا العنصر من أخطر عناصر اللقاء والموضوع، ولو لم أتوقف في هذا اللقاء إلا معه لكفى، فلقد شوهت حقائق التاريخ، وشوهت صور هؤلاء الأطهار الأبطال الأبرار والعدول الثقات، الذين زكاهم وعدلهم محمد ﷺ.
1 / 6
كُتَّاب التاريخ في الميزان مع الأحداث
يجب أن نعلم -أيها الأحبة- أن التاريخ الإسلامي لم يبدأ في تدوينه إلا بعد زوال دولة بني أمية، وقام على تدوينه ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: طائفة طلبت العيش والرزق والكسب بما تكتبه وما تؤلفه، بالتقرب والتودد إلى مبغضي بني أمية من دولة بني العباس.
الطائفة الثانية: طائفة ظنت أن التقرب إلى الله جل وعلا لا يكون إلا بإطراء علي بالباطل والكذب، وبتشويه صورة أبي بكر وعمر وعثمان بل وبتكفيرهم.
الطائفة الثالثة: من أهل الصلاح وأهل الدين والاستقامة؛ كأمثال الأئمة الفطاحل الكبار كـ ابن جرير الطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير.
ولكن هؤلاء لظروف سياسية لا يتسع المجال لذكرها رأوا أن يجمعوا التاريخ كله ويسجلوا الحق؛ أن يجمعوا أخبار الإخباريين على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم ومشاربهم، مع ذكر أسماء الرواة؛ ليرجع الباحث بعد ذلك إلى الخبر برجال إسناده؛ فيتعرف على صحة هذا الخبر من خلال معرفته بهؤلاء الرواة.
ولكن من الذي سيتعرف على ذلك؟ إنه لا يتعرف على ذلك إلا جهابذة النقاد والصيارفة من علماء الجرح والتعديل، وهكذا نقلت إلينا هذه التركة على أنها التاريخ الإسلامي بغثها وسمينها، وقام من لا يجيد النزال في وسط هذا الميدان اللجب الكبير؛ لينقل من هذه التركة بغير ميزان وبدون قيد ولا ضابط، فنقل الغث والسمين والصحيح والخاطئ والباطل والكذب وهو لا يدري، على أنها سيرة الصحابة وتاريخ الإسلام، وهو بريء من كل هذه التهم ومن كل هذه الأخبار التي دس معظمها الشيعة من ناحية، والخوارج من ناحية أخرى.
فلا بد من العودة إلى هذه التركة الضخمة لنستخلص الحق من الباطل والصحيح من الخطأ والصدق من الكذب، وإنها لمهمة صعبة، فإن هؤلاء الأبرار الذين زكاهم وعدلهم النبي ﷺ، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنه ﷺ قال -وهذا لفظ مسلم -: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وفي رواية الترمذي في كتاب المناقب -وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه- أنه ﷺ قال: (الله الله في أصحابي؛ لا تتخذوهم غرضًا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله أن يأخذه)، شوه تاريخهم في هذه الفترة الحرجة وكذب عليهم، وهم أهل الصدق وأهل العدالة ﵃، وإن من أشد الفترات التي شوهت تاريخهم هذه الفترة التي تبدأ تقريبًا من النصف الثاني في خلافة عثمان ﵁ وأرضاه والتي انتهت بمقتله ومقتل علي والحسن والحسين ومقتل عدد كبير رهيب من المسلمين، نسأل الله جل وعلا أن يتجاوز عنا وعنهم بمنه وكرمه.
1 / 7
محاولات علي بن أبي طالب في إخماد الفتنة
السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو دور علي في هذه الفتنة الصماء البكماء العمياء؟ وانتبهوا -أيها الأحبة الأخيار- فلقد بدأ علي بدور الوساطة الصادقة الأمينة بين عثمان بن عفان وبين الموتورين من الثوار المجرمين الذين حاصروا بيت الخليفة ﵁، ولكن عليًا رأى الفتنة تشتد، ورأى النار تتأجج وتشتعل، ورأى الموتورين من الثوار يحاصرون بيت الخليفة ﵁ وأرضاه، فخرج من بيته معتمًا بعمامة رسول الله ﷺ متقلدًا سيفه مع نفر من الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ من بينهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وأبو هريرة وغيرهم من موالي عثمان ﵁، وكانوا تقريبًا لا يزيدون على سبعمائة رجل، ولو تركهم عثمان لمنعوه، ولكن عثمان هو الذي رفض أن تهراق قطرة دم واحدة في مدينة رسول الله ﷺ، وأن يكون سببًا في الفتنة التي لم يغلق بابها بعد.
فدخل علي بن أبي طالب على عثمان في داره وقال: [يا أمير المؤمنين! ما أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل]-لا تنسوا هذه العبارة- فقال عثمان الأواب التواب التقي الحيي النقي الذي علم أن رسول الله ﷺ قد بشره بالشهادة بل وجاءه في الليلة السالفة الماضية ليقول له: (أفطر عندنا غدًا يا عثمان) وهو ابن الثمانين فلماذا يقاتل؟ ولماذا تهراق الدماء بسببه؟ فنظر عثمان إلى علي وإلى رقيقه ومواليه وقال: [أقسم بالله على كل من لي عليه حق أن يغمد سيفه وأن يكف يده وأن يرجع إلى منزله]، ونظر إلى مواليه وقد شهروا السيوف فقال لهم: [من أغمد سيفه فهو حر]، وهكذا أعلن عثمان قولته الخالدة: [ما أحب أن ألقى الله وفي عنقي قطرة دم لامرئ مسلم]، وآثر الشهادة في سبيل الله وألا تبدأ الفتنة ﵁ وأرضاه.
وانطلق علي بن أبي طالب إلى المسجد فحان وقت الصلاة؛ فقال الناس: تقدم يا أبا الحسن! فصلِّ بالناس فقال: [والله ما كنت لأصلي بكم والإمام محصور] وصلّى علي وحده وتركهم وانصرف، ووقع ما قدر الله جل وعلا وكان؛ فقتل عثمان ﵁ وأرضاه بعد أن حصره المجرمون في داره وكاد الظمأ أن يقتله لو أمهلوه بضعة أيام، وظلت المدينة خمسة أيام كاملة بلا خليفة، وأميرها الغافقي الوقح قاتل عثمان، وحار الناس واضطرب الأمر، وقال الجميع على صوت رجل واحد: لا يصلح لهذا الأمر إلا علي، وذهب المهاجرون والأنصار فأبى، ثم ذهبوا إليه مرة أخرى فأبى، ثم ذهبوا إليه مرة ثالثة فأبى، فقالوا: إنه واجب! وانقاد علي بن أبي طالب لضغوط المهاجرين والأنصار، وعلم أن هذه التبعة قدر عليه أن يكون هو حاملها، وأن يكون هو رجلها الآن، فمن يحملها إن لم يحملها علي؟ والحق يقال: إنه لم يكن على ظهر الأرض قاطبة بعد عثمان ﵁ من هو أحق بالخلافة من علي ﵁ وأرضاه.
1 / 8
تولي علي الخلافة ومطالبة معاوية والناس بدم عثمان
وتولى علي الخلافة في وقت عصيب رهيب، وخرج إلى المسجد ليبايع الناس فبايعه المهاجرون والأنصار جميعًا، وما لبث علي أن بويع إلا ودخل عليه طلحة والزبير ﵄ مع رءوس الصحابة الكبار في المدينة المنورة وقالوا: يا أمير المؤمنين لا بد من قتل قتلة عثمان؟ -سبحان الله! - وهنا يبدأ الخلاف؛ فكل فريق له وجهة نظره، وكل فريق له اجتهاده، من الذي يقتله؟ وأي قوة تستطيع الآن أن تقتل قتلة عثمان؟! لقد تعصب وغضب إليهم كثير من الناس حتى زاد عددهم عن عشرة آلاف فارس مدججين بالسلاح ينتشرون في مدينة رسول الله ﷺ، فمن الذي يستطيع أن يقيم عليهم حد الله بالثأر لقتل دم عثمان في هذا الظرف؟ واعتذر علي وقال ﵁ وأرضاه: [إن قتلة عثمان كثرة ولهم مدد وأعوان] والحق معه بكل المقاييس، إذًا أين القوة التي تستطيع أن تقيم عليهم الحد ولم تستطع أن تحول بينهم وبين قتل الخليفة؟ وخرج الصحابة في غضب وفي ثورة شديدة على علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه، وكان من بين هؤلاء الذين ثاروا ثورة شديدة لدم عثمان ﵁؛ معاوية بن أبي سفيان ﵁ وأرضاه، وحذار حذار من الخوض في هؤلاء الأطهار الأبرار، فإننا نسمع الآن ونقرأ من يتكلم على هؤلاء الأخيار كلامًا تقشعر له الأبدان وتضطرب له الأفئدة، وهم السابقون الأولون.
ثار معاوية وازدادت ثورته بعدما أرسلت نائلة زوجة عثمان بقميص عثمان الذي قتل فيه، ووضعت فيه أصابعها التي قطعت وهي تدافع عنه، وأرسلت بالقميص والأصابع إلى معاوية بن أبي سفيان ﵁ وأرضاه الذي كان يعتبر نفسه من أوائل الناس ومن أحق الناس مطالبة بدم الخليفة الراحل، ولما رأى معاوية القميص بكى، وأخذ القميص وعلق فيه أصابع نائلة، وعلق القميص على منبر المسجد الدمشقي ولما رآه الناس والصحابة بكوا بكاءً شديدًا، وارتفعت الأصوات بالنحيب على موت عثمان ﵁ وأرضاه، وبايعوا معاوية على الثأر لـ عثمان ولم يبايعوه على الخلافة، ما بويع معاوية على الخلافة ولم يطلب معاوية الخلافة قط، وإنما كان يطلب الثأر لدم عثمان أو أن يسلم علي لـ معاوية قتلة عثمان ليقتص منهم لـ عثمان ﵁ وأرضاه، وهنا بدأ الخلاف الكبير.
فخرج طلحة والزبير إلى مكة المكرمة إلى أم المؤمنين عائشة ﵂ فلقد كانت عائشة بـ مكة لأداء مناسك الحج في هذا العام، ولما سمعت عائشة بخبر مقتل عثمان قامت تدعو الناس وتحث الناس للثأر لدم عثمان، وقد تأولت قول الله جل وعلا الذي رددته كثيرًا: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:١١٤] فخرجت عائشة ﵂ فالتف الناس حولها وقالوا: يا أماه! نحن معك حيث سرت للمطالبة بدم عثمان، واتفق هذا الجمع كله على الذهاب إلى البصرة ليكونوا قريبين من معاوية ﵁، وقد ضمن الأمر في المدينة علي بن أبي طالب ليستسمعوا همم الناس للمطالبة بدم عثمان ﵁، وخرجوا جميعًا إلى البصرة، ولما سمع علي بذلك عزم على أن يخرج بنفسه، فقام عبد الله بن سلام الصحابي الجليل وأخذ بعنان فرسه وقال: [يا أمير المؤمنين! لا تخرج من مدينة رسول الله؛ فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدًا بعد اليوم] ورفض الحسن أن يخرج أبوه ﵁، ولكن عليًا قال: [والله ما خرجنا إلا لأنا نريد الإصلاح بين الناس لا نريد قتالًا] .
وإن أعظم دليل على ذلك أن عليًا خرج من المدينة مع تسعمائة رجل، فهل هذا جيش يريد القتال؟ وفي الطريق التف حوله الناس من كل البقاع واجتمع عليه عدد كبير، ولما وصل إلى البصرة، وكان قد اجتمع على عائشة وعلى طلحة والزبير عدد كبير من أهل البصرة للمطالبة بدم عثمان أرسل علي إليهما -أي: إلى طلحة والزبير - القعقاع بن عمرو التميمي ﵁ وأرضاه.
فبدأ القعقاع بأم المؤمنين عائشة ﵂ فقال: يا أماه! ما الذي جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقالت: أي بني! ما جئت إلا لأصلح بين الناس.
فقال القعقاع: فأرسلي إلى طلحة والزبير ليحضرا، فحضرا طلحة والزبير.
فقال القعقاع بن عمرو: لقد سألت أمنا ما الذي أقدمك إلى هذه البلاد؟ فقالت: ما جئت إلا لأصلح بين الناس.
فنطق طلحة والزبير ﵄ وقالا: والله ما جئنا نحن إلا لذلك.
فقال القعقاع بن عمرو: إذًا فما الذي تريدون؟ نحقق ونتفق على الإصلاح فإن اتفقنا عليه اصطلحنا.
فقال طلحة والزبير ﵄: لا نريد إلا أن نقتل قتلة عثمان، فإن تركنا قتلهم فقد تركنا القرآن الكريم.
فقال القعقاع بن عمرو: لقد أتيتم أنتم إلى البصرة فقتلتم قتلة عثمان من البصرة، فغضب لهم ستة آلاف فارس، فتركتموهم فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن حاربتموهم وقعت مفسدة هي أربى من الأولى، فاقتنع طلحة واقتنع الزبير.
فقالت عائشة ﵂: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ فقال القعقاع ﵁: أقول: بأن الدواء لهذا الأمر التسكين، وكونوا مفاتيح خير ولا تضيعونا، فإن ما حدث أمر عظيم، وإن كلمة الناس قد اختلفت في جميع الأمصار، وإن عليًا ﵁ وأرضاه معذور في تأخير قتلة عثمان حتى يتمكن منهم ويقدر عليهم.
1 / 9
موقعة الجمل
واقتنع الجميع، واتفق الطرفان على الصلح، واصطف الفريقان للصلح في الصبح الباكر وبات الفريقان بخير ليلة وأسعد ليلة.
بات قتلة عثمان بشر ليلة، -انظروا من أين تأتي الفتن؟ - وعلى رأسهم ابن السوداء عبد الله بن سبأ اليهودي الذي قال قولة عجيبة: والله إن عليًا هو أعلم الناس بكتاب الله من المطالبين بدم عثمان، وغدًا يتفق الفريقان على الصلح ويجمع علي الناس عليكم، وإن القوم جميعًا لا يطلبون إلا أنتم، فوالله لئن كان ذلك لنلحقن عليًا بـ عثمان، فأجمعوا الأمر وفكروا ما الذي نفعل وما الذي نصنع! فاتفقوا جميعًا على أن ينقضوا في ظلمة الليل البهيم الدامس على فريق علي وعلى فريق طلحة والزبير ليضربوهم وليقاتلوهم ليظن كل فريق من الفريقين في ظلمة الليل أن أمر الصلح الذي كان بالأمس إنما هو خدعة، وأن كل فريق من الفريقين قد غدر بالآخر، ونشب القتال كفوران ماء يغلي بدون أسباب منطقية إطلاقًا، ونشبت موقعة الجمل الضارية التي صرخ فيها علي بن أبي طالب وهو يقول: [والله لوددت أني قد مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة] .
وانتهت المعركة سريعًا كما بدأت سريعًا وذهب علي بنفسه إلى أم المؤمنين عائشة ليطمئن عليها، فقال لها: السلام عليك يا أماه! كيف حالك؟ فقالت: بخير.
فقال علي: غفر الله لك، وأمدها بالمراكب والمتاع وسير معها محمد بن أبي بكر ﵁ إلى مكة ثم إلى المدينة.
1 / 10
موقعة صفين بين علي ومعاوية
رجع علي بن أبي طالب إلى الكوفة لتبدأ فتنة أخرى حالكة في لقاء علي ﵁ مع معاوية؛ يوم أن صمم علي على أن يذهب بنفسه إلى الشام وشاور وأرسل رسالة إلى معاوية يطلب فيها البيعة، فقد بايع عليًا كل الناس وكل الولاة إلا معاوية ﵁.
فجمع معاوية رءوس الناس في الشام وعرض عليهم رسالة علي ﵁، فقالوا جميعًا: لا، لا نبايع عليًا إلا إذا قتل قتلة عثمان، أو سلمهم إلينا لنقتلهم، وخرج علي بنفسه واستعد أهل الشام ونشبت فتنة القتال مرة أخرى وإنا لله وإنا إليه راجعون.
! ودارت الحرب الطاحنة -سبحان الله! - ولما رأى أهل الشام أن الحرب ضروس رفعوا المصاحف على أسنة السيوف والرماح، وقالوا: نحكم بيننا كتاب الله، وقبل الفريقان تحكيم كتاب الله جل وعلا، قبل أهل العراق مع علي وقبل أهل الشام مع معاوية بعدما رُفع كتاب الله جل وعلا بينهما، واختار الفريقان حكمين، اختار علي: أبا موسى الأشعري، واختار معاوية: عمرو، ولقد قال الناس ما قالوا في مسألة التحكيم، وشبهوها بلعبة سياسية حقيرة قذرة لا تتم إلا في مؤتمر من مؤتمرات الكذب والبهتان، وقالوا في أبي موسى وفي عمرو كلامًا لا ينبغي على الإطلاق أن يقال في أشراف الناس فضلًا عن أصحاب رسول الله ﷺ، ولا يخلو كتاب من كتب التاريخ من هذه الأكذوبة الكبيرة، قالوا: لقد اتفق عمرو وأبو موسى على خلع علي ومعاوية، وهل كان معاوية خليفة أو ادعى الخلافة ليخلعه أبو موسى أو عمرو؟ كلا.
انظروا إلى مغالطات التاريخ، وإنما الذي حدث أن قالوا: بأن أبا موسى وعمروًا قالا: نخلع عليًا ونخلع معاوية ونترك الأمر شورى للمسلمين، هذا صحيح وهذا صدق وحق، ولكن البهتان يأتي، قالوا: فلما اتفقا على ذلك واجتمعا في الموعد المضروب بينهما، قال عمرو: تكلم يا أبا موسى، فقام أبو موسى فقال: لقد اتفقت أنا وصاحبي على أن نخلع عليًا ومعاوية، وعلى أن يترك الأمر شورى للمسلمين ليختاروا من يشاءون، فلما انتهى أبو موسى من بيانه، قام عمرو بن العاص وقال: لقد خلع صاحبي عليًا ومعاوية، أما أنا فإني أخلع عليًا وأثبت معاوية، ما هذا.
؟! هذا يليق بمؤتمرات الكذب والبهتان، يليق بألاعيب السياسة.
أما مع هؤلاء الأطهار الأبرار؛ فلا وألف لا، ولدينا من الأدلة الصحيحة من روايات الأئمة الثقات الأثبات ما ينفي ذلك الكذب والبهتان عن هؤلاء الأطهار الأبرار والأخيار الأعلام، واقرءوا ما رواه الإمام العلم الثبت الدارقطني بسنده الصحيح أن حضير بن المنذر ﵁ وأرضاه أرسله معاوية بن أبي سفيان إلى عمرو ﵁ ليتحقق مما حدث، فذهب حضير بن المنذر ولقي عمروًا، فقال: يا عمرو ما الذي صنعتماه أنت وأبو موسى؟ -أتدرون ماذا قال عمرو؟ قال: أنتركه ونذهب إلى هذا الغدر والكذب الذي لا يليق بأصحاب رسول الله ﷺ فقال عمرو: ماذا ترى يا أبا موسى فقال أبو موسى ﵁ وأرضاه: أرى أن نخلع عليًا ومعاوية وأن يبقى هذا الأمر في النفر الذي توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض، فقال عمرو: فما تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال أبو موسى الأشعري ﵁: أنتما إن طلب منكما، إن يستعن بكما ففيكما المعونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما، وانتهى الأمر.
أما هذه الأكاذيب والافتراءات فلا دخل لها إطلاقًا ولا وجود لها في عالم هؤلاء الأطهار، ليس معنى ذلك -أو لا يفهم من كلامي- أنني أقول: إن العصمة للصحابة! كلا، بل إننا على يقين أن منهم من قد زل باجتهاده! وهو اجتهاد مأجور عليه حتى وإن أخطأ؛ لأنه لا ينشد إلا الحق كما قال الأئمة الأعلام كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أحمد وجميع أئمة أهل السنة والجماعة ﵏ جميعًا: إن كل فريق منهما قد اجتهد وهو مأجور على اجتهاده حتى وإن أخطأ، مع أننا نقول بيقين جازم مطلق بأن أولى الطائفتين بالحق كان عليًا ﵁ وأرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
1 / 11
مروق فرقة الخوارج
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: وهنا -أيها الأحبة- مرقت فرقة الضلال من بين جيش علي ﵁ وأرضاه؛ هؤلاء الذين قبلوا التحكيم في أول الأمر، بل وهم الذين أصروا على علي أن يذعن لكتاب الله، وهل عارض أو عاند، علي الذي تربى في أحضان الكتاب وبين آياته؟ هل أنكر حدود الله وضيع كتاب الله؟! خرجت هذه الفرقة فرقة الضلال، الخوارج الذين اعترضوا على علي وخرجوا عليه، وحكموا عليه بالكفر، قالوا: تحكم في كتاب الله بشرًا -سبحان الله! - من أصحابك؟ إن الحكم إلا لله، وكفروا عليًا بهذه المقولة حتى قال علي قولته الخالدة: [كلمة حق يراد بها باطل] .
وانطلقوا يعيثون في الأرض تقتيلًا وفسادًا، هذه الفرقة التي قال عنها الحبيب الصادق المصدوق ﷺ في أحاديث بلغت حد التواتر: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية) .
وفي حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم أنه ﷺ قال: (يقتل هذه الفرقة أولى الطائفتين بالحق)، فشهد النبي للطائفتين، لطائفة علي ولطائفة معاوية بأنهما على الحق، ولكن هناك فرقة هي أولى بالحق من فرقة، وهي فرقة علي ﵁ وأرضاه، وهذا هو ما يدين الله به أهل السنة والجماعة بأن الطائفتين على الحق، وأولى الطائفتين بالحق طائفة علي، وكلاهما مجتهد مأجور إلا أن اجتهاد علي ضعف اجتهاد معاوية ومن معه ﵃ جميعًا وأرضاهم.
1 / 12
مقتل علي بن أبي طالب على يد الخوارج
أيها الأحباب: اتفق الخوارج على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، ونجح عبد الرحمن بن ملجم في مهمته الحقيرة الخطيرة، وطعن عليًا ﵁ بسيف مسموم سمه شهرًا كاملًا، طعنه وهو في الكوفة يخرج ليمشي في الشوارع والطرقات ليوقظ الناس بنفسه -وهو أمير المؤمنين- لصلاة الفجر، فطعنه المجرم الذي طعنه وهو يقول: يا علي! أتريد أن تحكم في كتاب الله أصحابك؟ إن الحكم إلا لله.
وظل يردد هذا الوقح قول الله جل وعلا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة:٢٠٧] أسمعتم إلى هذا الهراء وإلى هذا الكذب؟ باسم الدين يقتل علي؟! باسم الدين يقتل عثمان؟! باسم الدين يقتل الحسن والحسين؟! إنه الكذب والزهد الكاذب، والورع المغلوط المقلوب، يقرأ قول الله وهو يقتل عليًا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة:٢٠٧] .
وقتل علي ﵁ ونام على فراش الموت وهو يردد: لا إله إلا الله، وظل يرددها مرات كثيرة حتى لقي الله جل وعلا ولسانه غظ طري بكلمة التوحيد.
1 / 13
اجتماع الأمة على معاوية
ولما مات علي ذهب الناس إلى الحسن ليبايعوه، فبايعوا الحسن بن علي ﵁ وأرضاه، إلا أن الحسن تعالى على كل هذه الدماء والأشلاء، وحقن دماء المسلمين، وحقق ما قاله من قبل الصادق المصدوق ﷺ، فتنازل الحسن عن الأمر لـ معاوية بن أبي سفيان ﵃ جميعًا وحقن الحسن الدماء، وانتقل الملك إلى معاوية بن أبي سفيان ﵁ وأرضاه، ليحقق الحسن دليلًا من دلائل النبوة الخالدة كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري، أن النبي ﷺ صعد يومًا على المنبر وأجلس إلى جانبه الحسن بن علي ثم نظر النبي إلى الناس ونظر إلى الحسن وقال: (أيها الناس! إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، بأبي هو وأمي ﷺ.
وأصلح الحسن بين فئتين عظيمتين من المسلمين، بل وحكم الله جل وعلا للفئتين بالإيمان إلا من مرق من مارقة فرق الضلال والباطل من الخوارج والشيعة وقتلة عثمان وغيرهم؛ فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فلم يخرجهم بالقتال والحرب من دائرة الإيمان، بل ولا من دائرة الأخوة- اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:٩]، ويحكم الله لهم جميعًا بالأخوة فيقول جلا وعلا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات:١٠] .
أحبتي في الله: أختم هذا اللقاء الساخن بهذه العبارة حتى لا تنسى وأقول: هذه فتنة عظيمة سلمت منها أيدينا فلتسلم منها ألسنتنا، وحذار أن نكون من الخائضين، وأن نكون من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله يوم القيامة أمام رب العالمين.
أسأل الله جل وعلا أن يتجاوز عنا وعنهم بمنه وكرمه، وأن يغفر لنا ولهم وأن يجزيهم عنا خير الجزاء.
اللهم ارض عن أبي بكر وعثمان وعمر وعلي، اللهم ارض عنهم يا رب العالمين، وتجاوز عنا وعنهم بكرمك وأنت على كل شيء قدير.
اللهم اجمعنا بهم في دار كرامتك ومستقر رحمتك، مع إمام الهدى ومصباح الدجى وإمام النبيين وخاتم المرسلين محمد ﵊.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.
اللهم اجمع شملهم.
اللهم وحد صفهم، وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم بقدرتك يا أرحم الراحمين.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وما كان من توفيق في هذا اللقاء فمن الله جل وعلا وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
1 / 14
خالد بن الوليد
لقد شرف الله منزلة الجهاد والمجاهدين، وجعل الجهاد ذروة سنام الإسلام وعز هذه الأمة، ويوم أن ضيعت الأمة الجهاد ضاع شرفها، وضاعت هويتها، وأصبحت الأمة ذليلة كسيرة مهيضة الجناح، وحتمًا لن يعود للأمة مجدها وهويتها إلا إذا رفعت لواء الجهاد في سبيل الله، وسارت على ما سار عليه الأبطال المجاهدون وإن من خير من ترسم خطاه في هذا الشأن ذلك البطل الأشم الذي كسر شوكة الأكاسرة وقصم ظهور القياصرة إنه سيف الله المسلول على أعدائه خالد بن الوليد.
2 / 1
الجهاد ذروة سنام الإسلام
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا في الدنيا دائمًا وأبدًا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله: مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، تلك السلسلة الكريمة المباركة التي نقدمها في هذه الأيام لأبناء الصحوة الإسلامية خاصة، وللمسلمين عامة، للعبرة والعظة من ناحية، ولتقديم القدوة الصالحة الطيبة لتربية الأجيال عليها من ناحية أخرى، لا سيما بعد فترة التغريب الطويلة التي مسخت الهوية، وشوهت الفكر والتاريخ، وزعزعت الانتماء.
أحبتي في الله: رسالة رقيقة مؤثرة من ساحة الوغى، وميدان البطولة والشرف والجهاد، تلك الرسالة التي أرسل بها الإمام المجاهد العلم: عبد الله بن المبارك إلى أخيه التقي الزاهد الورع عابد الحرمين: الفضيل بن عياض يذكره فيها بشرف الجهاد في سبيل الله فيقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يُكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميتٍ لا يكذب
ذلكم هو شرف الجهاد أيها الأحباب الذي أمر الله جل وعلا به الأمة أمرًا صريحًا صحيحًا واضحًا؛ لتعيش الأمة عزيزة، ولتلقى ربها سعيدة حميدة، فقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف:١٠-١٣] ذلكم هو شرف الجهاد الذي جعله الحبيب المصطفى ﷺ ذروة سنام الإسلام، كما في حديث معاذ بن جبل الذي رواه الترمذي وقال: حسنٌ صحيح، وفيه أن النبي ﷺ قال لـ معاذ: (يا معاذ! ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال ﷺ: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) ذلكم هو الجهاد الذي ضمن الله به السعادة والسيادة والريادة والقيادة لهذه الأمة.
ويوم أن ضيعت الأمة الجهاد ضاع شرفها، وضاعت هويتها، وأصبحت الأمة ذليلةً كسيرةً، مهيضة الجناح، مبعثرة كالغنم الشاتية في الليلة الممطرة.
وحتمًا لن تعود للأمة هويتها إلا إذا عادت إلى الجهاد ورفعت لواءه في سبيل الله، ومن ثم حرص أعداء ديننا على أن يحولوا بين الأمة والجهاد، وعلى ألا تربى الأجيال المسلمة على الجهاد وسير الأبطال المجاهدين والقادة الفاتحين.
2 / 2
سيرة خالد بن الوليد ﵁
نقضي هذه الدقائق المعدودة مع قائد المجاهدين، وسيف من سيوف رب العالمين، وأستاذ فن الحروب والميادين، الفاتك بالمسلمين يوم أحد، والفاتك بأعداء الإسلام بقية الأيام، إنه فارس الإسلام والمسلمين، وسيف من سيوف رب العالمين، وترياق وساوس الشياطين من الكفار والمنافقين، والبطل القوي العنيد، والفارس القوي الرشيد.
إنه: خالد بن الوليد ﵁ وأرضاه.
علم من أعلام الجهاد في سبيل الله، وعالم وحده في فن القيادة وإدارة الحروب، أحب المسلمون سيفه، وخافه أعداء الإسلام، وأقبل قادة الدنيا في كل زمان ومكان إلى عصر نابليون ينهلون من مورد خالد الخالد في فن القيادة، وإدارة الحروب، وقواعد القتال.
خالد بن الوليد ﵁ وأرضاه الذي تحول في عالم الحرب ودنيا الميادين إلى أسطورة، وما زالت الأبحاث والدراسات إلى عصرنا هذا تنهل من مورد قيادة خالد، وفن إدارته للحروب والقتال، فمن هو خالد؟ وما الذي نعرفه نحن المسلمين عن خالد؟ والله لا نعرف عنه إلا القليل، في الوقت الذي نجد فيه كثيرًا من المسلمون يعرفون الكثير والكثير عن نابليون، ولينين واستالين، وبسمر وغيرهم وغيرهم من هؤلاء الأقزام.
فمن هو خالد بن الوليد أيها الأحباب؟
2 / 3
نشأة خالد بن الوليد ﵁
نشأ خالد بن الوليد في بيئة غنية ثرية مترفة، فأبوه هو: الوليد بن المغيرة الذي كان أغنى الناس في زمانه، وكان من كبريائه في جوده أنه كان ينهى عن أن توقد نارٌ في منى غير ناره لإطعام الحجيج، الوليد بن المغيرة الذي تحدث الله عنه وعن ثرائه وغناه في سورة المدثر فقال: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ [المدثر:١١-١٦] ذلكم هو الوليد بن المغيرة، وتلك هي البيئة التي نشأ فيها خالد بن الوليد ﵁.
ومع هذا الغنى، وهذا الثراء نشأ خالد بن الوليد نشأةً خشنة، مروض نفسه على الغلظة، والقساوة، والخشونة، وحياة البداوة، لماذا؟ لأنه نشأ من صغره يحب الفروسية والقتال، وترك خالد هذا الثراء والمال والغنى، إلا أنه ورث الكره الشديد للإسلام من أبيه، فهو قائد الميمنة، وصاحب الحملة الشرسة في غزوة أحد التي شتت شمل المسلمين، وبعثرت صفوفهم، حتى جرح النبي ﷺ، بل وأشيع في الميدان أن رسول الله قد قتل، بعد المباغتة السريعة لـ خالد بن الوليد الذي طوق من خلالها الرماة على الجبل، بعدما خالفوا أمر رسول الله ﷺ.
وخالد بن الوليد هو الذي تولى قيادة الخيل في غزوة الخندق، ووكلت له مع كتيبة من الفرسان يركبون الخيول في هذه المعركة مهمةً عسيرة خطيرة ألا وهي: قتل النبي ﷺ، إلا أن الله نصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وتصدى خالد بعد ذلك في مائتي فارس إلى النبي ﷺ وأصحابه وهو في طريقه إلى مكة في عام الحديبية، ولما رآه النبي ﷺ اضطر أن يصلي بأصحابه يومها صلاة الخوف.
ولما اصطلح النبي مع مكة وعاد في عمرة القضاء لم يقبل خالد أن يرى النبي ﷺ وأصحابه يطوفون ببيت الله الحرام، فترك خالد مكة وخرج حتى لا يرى هذا المشهد بعينيه.
2 / 4
إسلام خالد بن الوليد
تأتي كراهية خالد بن الوليد بعد كراهية أبيه للإسلام مباشرة، إلا أنه مع هذا كان يعيش صراعًا داخليًا رهيبًا بين بيئته بموروثاتها الجاهلية، وبين هذا النداء الذي يصرخ في أعماقه على أنه الحق، ويقول له: إن الإسلام هو دين الله، وأن محمدًا هو رسول الله، وأن الذي تركع وتسجد له يا خالد إنما هي حجارة لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
وسرعان ما انتهى هذا الصراع الذي طال حقًا، وشرح الله صدر خالد، وقذف في قلبه حب الإسلام، وعلى الفور ينطلق خالد بن الوليد من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ ليبدأ حياةً جديدة من تلك اللحظة الباهرة الرائعة التي خشع فيها قلبه، وسكنت فيها جوارحه، وامتدت يده لتبايع الحبيب ﷺ، وليشهد بين يدي رسول الله شهادة الحق والصدق وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
ويبتسم الحبيب ﷺ، ويمد يده ليصافح خالد بن الوليد بوجه طلقٍ وهو يقول: (الحمد لله الذي هداك يا خالد، فلقد كنت أرى لك عقلًا، ورجوت ألا يسلمك إلا لخير) انظروا إلى شهادة النبي ﵊: (فلقد كنت أرى لك عقلًا، ورجوت ألا يسلمك إلا لخير) .
2 / 5
مشاركة خالد بن الوليد في غزوة مؤتة وفتح مكة
بعد شهرين أو ثلاثة فقط ينطلق خالد بن الوليد جنديًا في صفوف كتائب التوحيد والإيمان، مع هذا الجيش الذي ذهب لمناطحة الصخور الصماء على حدود الشام في غزوة مؤتة، تلك الغزوة التي خرج النبي ﷺ بنفسه يختار لها القادة، فقال كما ورد في صحيح البخاري في كتاب المغازي من حديث عبد الله بن عمر قال: (أمَّر رسول الله ﷺ على غزوة مؤتة زيد بن حارثة، ثم قال ﵊: إن قتل زيد فـ جعفر بن أبي طالب، ثم قال ﵊: إن قتل جعفر فـ عبد الله بن رواحة) وانطلق الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، ولما وصل الجيش إلى حدود الشام أذهلتهم المفاجئة الكبرى، فلقد رأوا الروم قد أعدوا لهم وجهزوا جيشًا جرارًا يزيد على مائة ألف مقاتل، وهنا تردد المسلمون في القتال! كيف يدخلون هذه المعركة التي لا يمكن على الإطلاق أن نرى فيها ذرة من ذرات التكافؤ العددي والعُددي، وتردد الناس في القتال، مائة ألف إلى ثلاثة آلاف! وهنا قام الشهيد الشاعر صاحب السرير الذهبي: عبد الله بن رواحة ﵁ وأرضاه ووقف في صفوف الجيش مناديًا بأعلى صوته وهو يقول: [يا قوم! إن التي تخشون للتي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة في سبيل الله، ووالله ما نقاتل عدونا بكثرةٍ ولا عدد، وإنما نقاتل عدونا بهذا الدين الذي أكرمنا به الله ﷿، فانطلقوا، فإنها إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة] .
وانطلق الناس للقتال، انطلق ثلاثة آلاف لقتال مائة ألف مقاتل، وتولى القيادة زيد بن حارثة وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، فانقض إليه سريعًا جعفر بن أبي طالب وقاتل حتى سقط اللواء وسقط بعده طيار الشهداء، فانقض على اللواء عبد الله بن رواحة ورفع اللواء وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، ودب الرعب والذعر في قلوب المسلمين، لا سيما بعد قتل القادة الثلاثة الذين حددهم واختارهم رسول الله ﷺ، وهنا انقض بسرعة الضوء ثابت بن أقرم ﵁ على اللواء ليرفع اللواء خفاقًا عاليًا، وأسرع ثابت بن أقرم ليبحث عن قائد الساعة وعن بطل الميدان عن أبي سليمان خالد بن الوليد ﵁، وذهب إليه ثابت وقال: [خذ اللواء يا خالد، فقال خالد -المؤدب المهذب- لا -وأبى أن يتقدم، هؤلاء الذين فيهم السابقون من المهاجرين والأنصار- وقال خالد المهذب لـ ثابت بن أقرم: أنت أولى به مني يا ثابت فأنت من السابقين الأولين، ممن شهدوا بدرًا، لست أحق بهذا اللواء منك، فقال ثابت بن أقرم: خذ اللواء يا خالد والله أنت أدرى بالقتال مني، وما أخذت اللواء من على الأرض إلا لك يا أبا سليمان] .
ونادى ثابت بن أقرم في المسلمين بأعلى صوته وقال: [أيها المسلمون! هل ترضون إمرة خالد؟ قالوا: اللهم نعم] واعتلى العبقري جواده بعدما قد تحدد مصير المعركة بكل المقاييس، ودب الذعر والرعب، ومات قواد المعركة الثلاثة، وإن شئت فقل: لقد انتهت المعركة، واعتلى العبقري جواده، ودفع الراية عن يمينه كأنما يقرع بها أبوابًا مغلقة قد آن لها أن تفتح بإذن الله على يد هذا البطل المغوار.
ونظر العبقري نظرةً سريعة إلى أرض الميدان بعينين كعيني الصقر، وعاد تنظيم الصفوف، وثبت خالد في هذا اليوم ثبوت الجبال الرواسي، حتى خيم الليل بظلامه، وهنا ظهرت عبقرية خالد، وظهر دهاؤه وبلاؤه وقتاله الذي قال عن نفسه: [والله لقد اندكت وتحطمت في يدي تسعة سيوف في يوم مؤتة] والحديث رواه البخاري، تسعة سيوف تحطمت في يد سيف الله، وأسد الله خالد بن الوليد ﵁.
نظر خالد بن الوليد وفي ظلام الليل وفي سرعة البرق والضوء وعدل صفوف الجيش، فجعل الميمنة مكان الميسرة، وجعل الميسرة مكان الميمنة، وجعل الساقة في المقدمة وأخر المقدمة إلى الساقة، وكلف طائفة من الجنود أن يتأخروا خلف الجيش، وعند مطلع الصباح أمرهم أن يثيروا غبارًا، وأن يحدثوا صوتًا وصياحًا وجلبةً وضوضاء.
وفي الصباح الباكر بعدما بزغ الفجر، وجدت كتائب الروم وجوهًا غير الوجوه التي كانت تحاربها بالأمس، ورأت أعلامًا جديدة، ونظرت فوجدت غبارًا، وسمعت صيحةً وصوتًا وجلبةً وضجيجًا، فظن الروم أن مددًا جديدًا قد أقبل إلى جيوش المسلمين فدب الرعب في قلوبهم، وبدءوا في الانسحاب المذهل المروع، واستطاع خالد بذكائه وعبقريته أن يفتح ثغرة فسيحة في قلب هذا الجيش العرمرم الكبير الرهيب، وانسحب بجيشه انسحابًا آمنًا دون أن يصيب الجيش بأي أذى.
وبلغت البشارة إلى رسول الله ﷺ ممن يعلم السر وأخفى، فلقد وقف الحبيب في المدينة المنورة يقص على المسلمين خبر غزوة مؤتة قبل أن يبلغه الخبر، فلقد أخبره علام الغيوب ﷻ كما ورد في صحيح البخاري من حديث أنس: (وقف النبي ﷺ ينعي للناس قادة غزوة مؤتة وعيناه تذرفان بأبي هو وأمي ﷺ، فقال ﵊: لقد أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم) وانظروا إلى هذه العبارة النبوية، سمى النبي انتصار خالد فتحًا، وأي نصر؟ وأي فتح؟ ولما خرج المسلمون يقولون لهم: يا فرار قال لهم النبي ﵊: (لا تقولوا هذا ولكنهم الكرار وليسوا فرارًا) سمى النبي انتصار خالد فتحًا (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله) ذلكم هو الوسام الذي عاد خالد إلى المدينة ليعلقه النبي على صدره، والله إنه وسامٌ لا تقوم له الدنيا، ومن يومها أحبتي سمي خالد بن الوليد بسيف الله المسلول.
ولم تمض إلا أشهرًا معدودات حتى تقدم النبي في جيشه الكبير الجرار لفتح مكة، وولى النبي خالد بن الوليد وجعله قائدًا للميمنة، وها هو خالد يدخل إلى مكة المكرمة قائدًا من قواد جيش التوحيد، بعد أن كان بالأمس القريب قائدًا من قواد جيش الشرك.
2 / 6