Series of Ambitions - The Prelude
سلسلة علو الهمة - المقدم
اصناف
جهود جماعة التبليغ في الدعوة إلى الله ﷿
ونبدأ بذكر جماعة من الجماعات في ساحة الدعوة، وهي جماعة التبليغ والدعوة، ولا شك في أن هناك مآخذ كثيرة على فكرها، وعلى منهاجها، وأن في هذه الجماعة بدعًا غليظة، سواء في المنهاج أو في مستوى العقيدة أو في النواحي التطبيقية، كبعض الرسوم والصور والهيئات والقوانين التي وضعوها وقدسوها فلا يخرجون عنها وكأنها دين منزل! وليس هذا الآن موضوعنا، لكننا نصدر الكلام بهذه الجماعة باعتبار تعلقها بما نحن بصدده الآن؛ فإنها -بلا شك- أوفر الجماعات الإسلامية حظًا من علو الهمة في الحركة الواسعة الدءوبة.
وحينما نريد أن ننصف هذه الجماعة ونتحدث عن آثارها فإنه يكفيها الثمار الكبيرة التي لم تضارعها فيها جماعة أخرى، خاصة إسلام كثير من المشركين، وهداية كثير من الفاسقين، وتبليغ دين الله ﷿ في آفاق المعمورة.
وفيما يتعلق بفكر جماعة التبليغ نذكر هنا كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث يقول: لو أن جماعة مسلمة وهي على شيء كبير من البدع، ومع ذلك تتسبب في دعوة كافر إلى الإسلام، وتدعوه إلى الإسلام وتدخله في الإسلام فهذا أفضل من أن يبقى على كفره، فدخوله في دائرة الإسلام مع البدعة أهون من بقائه في ظلمات الكفر؛ لأنه إذا دخل في الإسلام وفي التوحيد يرجى له النجاة بإذن الله بفضل هذا التوحيد، ويكون قد اقترب أكثر من المنهج الحق.
فجماعة التبليغ لهم مواقف كثيرة، والحقيقة هي أن المآخذ على جماعة التبليغ نسبية، مع وجود قواسم مشتركة بين الجماعة في كل بقاع الأرض، لكن تتفاوت ما بين الأعاجم والعرب؛ ولا شك في أن البدع أغلظ وأظلم وأشد سوادًا في الأعاجم منها في العرب؛ لأن العرب قربهم من اللغة العربية وقربهم من العلماء ومن مصادر العلم الشريف جعل البدع فيهم أقل وأخف؛ لأنه يسهل تنظيف مفاهيمهم ومناهجهم، أما الأعاجم فالأمر مؤلم إلى حد بعيد.
ولقد حكى رجل شهد مجلسًا من مجالسهم فقال: جلسنا يومًا في المسجد للتعارف، فقام شيخ وقور قد اشتعل رأسه ولحيته شيبًا، فوقف في هذه المجموعة يعرف نفسه وقد جاوز السبعين من عمره فقال: اسمي الحاج وحيد الدين، وأعمل في التجارة، وعمري الآن تسع سنوات.
قال: فاستغربنا، وقلنا له في دهشة: تسع سنوات؟! قال: نعم؛ لأني أحفظ عمري من تاريخ دخولي في هذه الدعوة، أما قبل ذلك فإني أعتبر عمري ضائعًا.
وكان هذا الرجل إذا وقف ليلقي موعظته يقول: لا تضيعوا أعماركم مثلي، واشتغلوا بالدعوة إلى الله ﵎.
يقول الحاكي: حدث أن سألنا أميرهم: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟! ولا شك في أن هذه من أبرز السمات الإيجابية في جماعة التبليغ، وأي إنسان يجحد هذه الخصيصة يعتبر مكابرًا للواقع الملموس، فلا شك في أنهم أكثر الناس إيجابية في التعامل مع الباطل، فهم يتحركون إليه، ولا يكتفون بأن يأتيهم الناس إلى المساجد.
فسئل أميرهم مرة: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟! فقال: أرأيت إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له؟ قلنا: إن كان مرضه ثقيلًا نحضر له الطبيب في المنزل، وإما إذا كان مرضه خفيفًا فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب.
قال: فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد مرضهم الإيماني ثقيل، فنحن نذهب إليهم.
يعني: كما يذهب الطبيب إلى المريض الشديد المرض الذي لا يقوى على الحركة إلى منزله.
وحكى بعض مشايخهم نماذج من حركتهم في الدعوة وقال: إنه خرج مرة للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبية، واستهدف رجلًا مسلمًا كان يجالس امرأة وهو يشرب الخمر، فوعظه ونصحه وذكره بالله حتى لان قلبه ودمعت عيناه، فأخذ بذراعه ليقوده -مع أنه كان في حالة سكر- إلى المسجد، وأخذت المرأة بذارعه الآخر تنازعه فيه، فهو يجذب من جهة بأحد الذارعين والمرأة تجذبه من جهة أخرى، وكانت الغلبة له بعد تجاذب شديد بين الطرفين، وأتى به إلى المسجد، وعلمه كيف يتطهر ويصلي، ثم تاب وحسنت توبته.
ويلاحظ -أيضًا- أنهم يجتهدون في ابتكار الحيل الخيرية التي تجذب الناس إلى الدين، مثل ذلك التبليغي الذي أراد أن يبلغ الدعوة إلى طبيب مشهور في البلد، فذهب ودفع قيمة الفحص الطبي، ثم انتظر الدور إلى أن جاءت نوبته، فدخل على الطبيب، فتهيأ الطبيب لفحصه فإذا به يخبره أنه ليس بمريض، وإنما رغب أن يذكره بالله ﷾ وينصحه في الدين، وأخذ ينصحه ويذكره بالله ﷿ إلى أن رق قلب هذا الطبيب وتأثر بموعظته، وأراد أن يرد إليه ثمن الكشف، فأبى قائلًا: هذه قيمة ما استغرقته من وقتك.
وكأنهم يقتدون في ذلك بمؤسس الجماعة، وبداية دعوة التبليغ كانت في الهند، وإن كان الشيخ إلياس مؤسس جماعة التبليغ عليه مآخذ، لكن كأنهم يقتدون به في هذا؛ لأنه كان في بداية الدعوة يفعل هذا، وبداية دعوته كانت على أساس رؤيا رآها في المنام أن الرسول ﷺ يقول له: افعل كما فعلت أنا، واخرج إلى الناس.
فالمهم أنهم يقولون: إنه بدأ ببعض عمال البناء فجمعهم كي يستمعوا إليه، فقالوا: لا نستطيع؛ لأننا نعمل ونتكسب، وهذا مصدر رزقنا.
فأتى بهم، وكان يبذل لهم من المال مقابل الأجر الذي يفوتهم حينما يجلسون إليه، فكان يفعل ذلك معهم باستمرار، فيعطيهم تعويضًا عن الأجر الذي يفوتهم بالجلوس عنده، إلى أن دخلت الدعوة وتمكنت في قلوبهم، فحينئذٍ تنزهوا عن أخذ هذا المال، وبدأت على أكتافهم هذه الحركة وهذه الدعوة.
ولما صعد الإنسان إلى القمر في أوائل الستينات وكثر الكلام والافتراضات في ذلك الوقت أن الناس يمكنهم أن يقيموا في القمر وأن يسكنوا هناك قالوا: لو صعدوا إلى القمر واتخذوا مساكن هناك لنرسلن وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله وتصعد إلى القمر لتدعوهم.
وأحد الدعاة الأفاضل يخالف جماعة التبليغ في منهجهم، لكنه مع ذلك لم يعدمهم إنصافًا، وهو الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله، حيث يقول عن هذه الجماعة: أجادت غرس الثقة في دعاتها، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع.
وهذا من التأثيرات الملاحظة، حيث إن الواحد أول ما ينتمي إلى الجماعة يكسر الحاجز النفسي الذي يمنع الإنسان من مواجهة الناس والخطابة فيهم بحماس، كما يفعل الذي يعلم الشخص السباحة، حيث يلقيه في البحر ويقول له: تصرف.
فيخرج كل طاقته، ومن ثم يتعلم رغم أنفه؛ لأنه يبذل طاقته وإلا غرق، فكذلك هؤلاء، فمن أول ما يتعرفون على الشخص يبرزونه، فينكسر الحاجز النفسي في مواجهة الناس، ويعلمونه كيف يخاطبهم.
يقول: وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع، وآخرون -يعني: من جماعات أخرى- يأمرون إخوانهم بضم الرءوس، ويقولون لفتى الصحوة: أنت في خندق، احترس وأتقن الاختباء.
وكأنهم ينظرون إلى قوله ﵎: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء:٧١] فحسب فيظل الواحد منهم مجتهدًا في تطبيق ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء:٧١]، وينسى ما بعد، وهو قوله تعالى: ﴿فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا﴾ [النساء:٧١]، أما الذي ينظر إلى قوله تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء:٧١] فحسب ويظل يعيش في أوهام وهذيانات ووساوس فإنه ينسى أن كل نفس يحصى عليه، وأن كل سكنة وحركة تكتب عليه، وأنه مرصود بها، فلا يتحرك مثل هذا في سبيل الدين.
10 / 4