Secularism: Concept, Aspects, and Causes
العلمانية المفهوم والمظاهر والأسباب
ناشر
جريدة السبيل
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
پبلشر کا مقام
المغرب
اصناف
سلسلة: بحوث في العلمانية
(١)
طليعة السلسلة:
العلمانية
المفهوم والمظاهر والأسباب
مصطفى باحو
نامعلوم صفحہ
الطبعة الأولى: رمضان ١٤٣٢ - غشت ٢٠١١
الناشر: جريدة السبيل. سلا. المغرب.
الإيداع القانوني: ٢٠١١ MO٢٢٤٠
1 / 2
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
وبعد، فهذه سلسلة متتابعة حول العلمانية أبدؤها بهذه الرسالة، التي جعلتها طليعة لباقي السلسلة، أي: بمثابة المقدمة العامة لها، تمهيدا لبحوثها وتأسيسا لمواضعها، ولهذا تمحورت حول مفهوم العلمانية وأسبابها ومظاهرها وتاريخها وتطورها وآثارها وغير ذلك.
وستتلوها إن شاء الله سلسلة تضم أبحاثا عديدة نَجَز بعضها، وبعضها في الطريق إلى الإنجاز. منها:
١. الإسلام في نظر العلمانيين. وهو تحت الطبع بحمد الله.
٢. موقف القرآن من العلمانية. وقد فرغت منه.
٣. موقف السنة من العلمانية.
٤. ماذا تريد العلمانية؟. وقد فرغت منه.
٥. ماذا يعني تطبيق الشريعة؟
٦. العلمانية والمذهب المالكي.
٧. المذهب المالكي والقوانين المغربية.
٨. النصوص الواردة في الفقه السياسي الإسلامي.
٩. الأخبار الواردة في جمع المصحف وتدوينه. دراسة حديثية نقدية.
١٠. الأخبار الواردة في الحنفاء: دراسة حديثية نقدية.
١١. الأخبار الواردة في الخلافة الراشدة. دراسة حديثية نقدية.
١٢. المعتزلة والصوفية، والتوظيف العلماني.
1 / 3
وستصدر تباعا إن شاء الله، وقد يحصل فيها تقديم وتأخير.
هذا وتبقى بحوث كثيرة في حاجة إلى من يتصدى لها، لأنها تعتبر أحد أهم ركائز المشروع العلماني منها:
١ - دراسة تاريخ الأديان، وبيان أن الأديان سماوية، وليست مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري، ودحض جميع الشبهات التي تثار حول الموضوع.
وعلم تاريخ الأديان علم غربي، نشأ في وسط إلحادي ينكر الأديان، ويبحث لها عن مبررات وجودها، ولهذا اصطبغ بصبغة إيديولوجية أكثر منها علمية معرفية.
فأغلب الباحثين الغربيين فيه وقبل كتابة بحوثهم لا يرون في الدين إلا خرافة نسجها العقل البشري، فكيف نتحدث عن نزاهة البحث العلمي وحياديته؟ هنا يكون البحث العلمي محكوما بآراء مسبقة يصعب تجاهلها (١).
٢ - دراسة علوم قراءة النص كالسميولوجيا، والهرمنيوطيقا، والألسنية، والأسلوبية، وعلم السرد، وبيان ما لها وما عليها وإبراز اختلاف اجتهادات رموزها، وأن ما فيها من مناهج صحيحة لقراءة النص لا يمكن أن تؤدي إلا إلى قراءة صحيحة للنص الديني، وأن الآفة من القارئ لا من المنهج، الذي يريد أن يقرأ ما يريد هو في النص لا ما يريد أن يقوله النص.
_________
(١) وقد اعترف حسن حنفي بأن تاريخ علم الأديان فيه اجتهادات عديدة، وكلها آراء ظنية. الأسطورة والتراث (٢٨٣).
1 / 4
وطالما تبجح أركون ونصر أبو زيد بهذه الآليات، وأن اعتمادها كاف لتجاوز النص الديني برمته.
وطوال عصور الإسلام الخالدة بما فيها عصور الضعف والانحطاط والوهن كان لا يسمع في أرجاء العالم الإسلامي إلا القرآن والسنة وأحكامهما وما تفرع عنهما من فقه واستنباط. ولم يكن يُرفع صوت فوق صوت القرآن والسنة، وأن أحكامهما فوق كل حكم وكل تشريع وكل قانون. وهكذا صار الحال في المغرب، فكان إلى فقهاء المالكية المفزع والمرجع في كل شيء، منهم القضاة والحكام، ولا نعرف في تاريخ المغرب خروجا عن أحكام المذهب المالكي لا في البيوع ولا في قضاء الأسرة، ولا في الحدود ولا غيرها. وهذه تواريخ المغرب مدونة ومنشورة. وهذه كتب النوازل والأحكام للونشريسي والعلمي والوزاني والبرزلي وغيرها، يظهر فيها جليا أن الشريعة الإسلامية هي الحكم في كل شيء.
وهذه كتب الوثائق وأحكام القضاء مدونة معروفة كتبصرة ابن فرحون والمتيطية وغيرها، بل حتى حكام المغرب إلى ما قبل الاستعمار لم يعرف في تاريخهم الطويل تحكيم غير الشريعة الإسلامية، ممثلة في المذهب المالكي، ولم يعرف عن واحد منهم أنه ألغى أحكام الشريعة واستبدلها بقوانين أخرى مناقضة لها ومعارضة لأحكامها.
إلى أن جاء الاستعمار فأحكم سيطرته، وفرض أحكامه، وألغى حكم الشريعة واستبدلها بقوانينه الوضعية، ثم بعد الاستقلال الصوري بقي الحال على ما هو عليه، وإلى الله المشتكى وحده لا شريك له.
وخلف الاستعمار خلفه فلولا من العلمانيين يسهرون على تنفيذ خططه والإجهاز على ما تبقى من أحكام الشريعة «مدونة الأسرة»، ثم لا زالت شوكة
1 / 5
العلمانيين تشتد مع مرور الوقت إلى أن جاهروا بعقائدهم وآرائهم، فدافعوا على علمانية الدولة وفصلوا الشريعة التي حكمت المغرب لقرون عديدة عن الحياة العامة.
لهذه الأسباب شرعت في إصدار هذه السلسة التي ستستمر ﴿حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.
ولا يفوتني التنبيه هنا إلى ضرورة إنشاء مركز لدراسة العلمانية، من كافة جوانبها، ودراسة تطبيق الشريعة الإسلامية ومعوقاته ومشاكله وحلوله، ودراسة مناهج النقد الغربية المعاصرة والمذاهب الفلسفية التي لها علاقة بموضوع العلمانية، ومذاهب قراءة النص، ومذاهب المستشرقين.
فهذه ثلاثة محاور رئيسة مترابطة فيما بينها:
- العلمانية.
- تطبيق الشريعة.
- المذاهب الفلسفية والنقدية الغربية.
وإن كان الموضوع الأول كُتِبت فيه بحوث عديدة، فإن المبحث الثاني أقل عناية، والمبحث الثالث تقل فيه البحوث أكثر.
وإنما قلت مترابطة، لأن العلمانية تقف على أسس فلسفية غربية، كما سيأتي، وهدفها تنحية الشريعة من الوجود الفعلي وإقصاؤها. ولبلوغ هذا الإقصاء يتم استدعاء جملة من المناهج النقدية التفكيكية.
ويقوم المشروع العلماني في نقده للإسلام على ثلاث ركائز:
1 / 6
١ - النصوص الدينية ومفاهيمها القروسطية (١) متناقضة ومختلة، وهذا دور الاستشراق وأذنابه العرب.
٢ - المناهج الإسلامية لقراءة النص الديني (أصول الفقه وعلوم اللغة وعلوم القرآن) أصبحت متجاوزة وغير علمية. بينما المناهج النقدية الغربية لقراءة النصوص فهي علمية وعلى درجة كبيرة من الاحترافية والمصداقية.
٣ - تطبيق النصوص الدينية عبر التاريخ لم يجلب للبشرية إلا الشر والخراب والدمار (٢).
تحليل هذه المسائل ودراستها دراسة معمقة أكاديمية يمثل نقطة البدء في مواجهة المشروع العلماني وتفكيك خطابه من أجل تجاوزه وتهميشه.
وأنا أرى أن تأسيس مركز علمي أكاديمي راق لكشف حقيقة العلمانية وبيان خطرها على الإسلام والمسلمين أفضل عند الله من إفطار مليون مسلم، وخير من ١٠٠٠ محاضرة. لأن ذاك واجب، وهذا مستحب.
_________
(١) هذا المصطلح يستعمله عدد من العلمانيين اختصارا للقرون الوسطى.
(٢) ويرى علمانيون كأركون أن الإسلام لم يطبق طوال عهوده، وبالتالي فالمناداة بالدولة الإسلامية حلم لا غير. قضايا في نقد العقل الديني (١٢٧).
وهذا يحتاج إلى رصد تاريخي لمسألة تطبيق الشريعة الإسلامية عبر العصور المختلفة، وأنها طبقت بنسب متفاوتة، وأنها كانت حاضرة بقوة في كل المجالات الحيوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وظل الإسلام هو المرجع الوحيد للخلفاء والتجار والحرفيين والصناع والعلماء وكافة طبقات المجتمع.
وأن الأمر ليس قاصرا على الأحوال الشخصية كما زعم خليل عبد الكريم في أعماله (٢٢٥ - ٣٦٣) وأركون في الإسلام الأخلاق والسياسة وغيرهم.
1 / 7
ولابد من حشد الطاقات العلمية اللازمة لهذا المركز منها مثلا:
- متخصصون في اللغة والترجمة التي لها علاقة بهذا الموضوع كالفرنسية والإنجليزية والألمانية.
- متخصصون في العلوم الإنسانية المعاصرة.
- متخصصون في الفلسفة وخاصة الغربية.
- متخصصون في العلمانية.
- متخصصون في التاريخ.
- متخصصون في الاستشراق.
- متخصصون في علوم الشريعة المختلفة.
ولابد من وضع خطة متكاملة للعمل، ووضع استراتيجية شاملة للمشروع.
ولابد من ضمان التمويل الضروري بعيدا عن الحكومات حتى لا يبقى المركز تحت سيطرة أحد أو لخدمة أجندة خاصة.
ولابد من توفير مكتبة متكالمة لهذه المهمة.
يكون المركز تحت إشراف هيئة رفيعة المستوى يرأسها مدير وتحته لجان متعددة متخصصة. ويجب أن يكون كل العاملين في المركز متفرغين.
والله أسأل التوفيق والسداد في هذه البحوث، عسى -إن لم أُوَفق للتمام فيها- أن أقاربه وأدانيه. وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين.
1 / 8
مقدمة
بعد سقوط الشيوعية تحول الإسلام إلى عدو استراتيجي للغرب باعتراف نصر حامد أبي زيد (١) ومحمد أركون (٢).
فلم يجد سلاحا أمضى من سلاح العلمانية لإزاحة الإسلام وزعزعته من المجتمعات الإسلامية والحد من هيمنته على الحياة العامة للمسلمين، وتحجيم دوره وتهميشه داخل جدران المساجد والزوايا، وتحويله في النهاية إلى نوع من الفولكلور أو التراث الشعبي.
فجُندت وحشدت جحافل من العلمانيين العرب للقيام بدور الطليعة الأولى والنيابة عن الغرب في نشر المشروع الحضاري الغربي.
ولا تعدو العلمانية في تقديري أن تكون واجهة للرجل الأبيض المتفوق، ومقدمة لهيمنة الحضارة الغالبة وتركيع باقي الحضارات.
وقد بين العلماني تركي علي الربيعو كيف سعى الخطاب الغربي عموما إلى إبراز تفوق الرجل الأبيض أو قل تبرير التمركز الأوربي عن طريق تبرير المعجزة الأوربية الحالية بأنها تستند إلى معجزة عريقة في تاريخ البشرية ألا وهي المعجزة الإغريقية، وبالتالي تبرير العرقية والعنصرية (٣).
_________
(١) دوائر الخوف (٥٥).
(٢) قضايا في نقد العقل الديني (٢٠٢).
(٣) أزمة الخطاب التقدمي (١٦٠).
1 / 9
من هنا جاء تبرير الاستعمار، وأن الرجل الأبيض المتفوق حضاريا يسعى إلى تحضير وتحديث الشعوب المتخلفة ونقلها إلى جنته.
وقد ظل الفكر الحداثي «هو الفكر الذي أُوكل إليه أو أوكل إلى نفسه مهمة إعادة تركيب النسيج الثقافي الاجتماعي العربي والإسلامي وفقا لنموذج أرقى، النموذج الغربي المكتمل للتاريخ للثقافة للمجتمع للعلمنة للدولة الأمة» (١).
وحاولت جوقة العلمانيين العرب القفز على هذه الحقائق وتسويق علمانيتهم كفهم تنويري تجديدي للإسلام، مرفقة ذلك بهجمة شرسة على الإسلام وأصوله وأحكامه، وتصوير مخالفيهم من العلماء الرسميين والإسلاميين بمثابة قطيع أو حثالة من الناس دوغمائيين متحجرين متزمتين لا عقلانيين متعطشين للدماء، خارج التاريخ وفوق الواقع.
والنقد في الخطاب العلماني دائما يتوجه إلى «الأنا» أي: إلى ذلك الموروث الثقيل الخرافي المكبل للحركة وللتقدم. وينسى أو يتناسى ذاك «الآخر» الغربي المترصد الباحث عن الهيمنة والسيطرة والإلحاق الحضاري. فالتراث هو الشيطان الأكبر، بل والوحيد، وهو الظلام الدامس الغارق في كل أصناف الرجعية والتخلف. والنور الوحيد والأمل الوحيد هو ذاك الغرب بفكره التنويري الحداثي، ولا يهم أنه هو الذي احتل أرضنا ونهب ثرواتنا وقسم بلادنا ولازال يعرقل حركتنا ويساند عدونا ويتآمر على مصالحنا.
والعلمانية ليست فصل الدين عن الدولة فقط كما يروج عدد من العلمانيين تسترا وتزييفا، بل هي كما سيأتي مفصلا فلسفة عامة للوجود، لها رؤية
_________
(١) الخطاب العربي المعاصر (١٤).
1 / 10
للكون وللإنسان، تعتبر فيه الإنسان مركزا رئيسا ووحيدا لهذا الكون، ولا مكان فيها للماورائيات والغيبيات والأساطير الدينية. والتي تتحول إلى شيء فردي وشخصي شأنه شأن الأكل والشرب واللباس.
«الأمر الذي تبدو فيه قضية السياسة مجرد جزئية في المشروع العلماني، الذي يقوم أساسا على تهميش المقدس كحد أدنى، أو إلغائه وإنكاره تماما كحد أقصى. إن شئت الدقة فقل: إن الدين في ظل ذلك المشروع: إما محال إلى التقاعد، وإما مفصول من الخدمة» (١).
«ولا ريب أن موجة العلمنة التي شهدت نوعا من الصعود منذ بدايات القرن الماضي تتجه اليوم نحو مزيد من الضمور والانكماش، وخصوصا في أوساط المثقفين والقطاعات الشبابية الحديثة، ولعل هذا ما يفسر حرص بعض القوى العلمانية الجذرية على الاستنجاد بأدوات الدولة للتعويض عن انكماش قاعدتها الاجتماعية في محاولة لفرض نمط من العلمنة الفوقية والقسرية عبر المؤسسات الرسمية» (٢).
فيما سعى آخرون إلى الاستنجاد بالدين نفسه وبعلومه ورموزه وتاريخه، حتى زعم حسن حنفي أن الإسلام في جوهره علماني (٣).
بينما فضل علماني آخر القول بأن العلمنة بدأت بعد موت النبي ﷺ.
وزعم آخر أنها بدأت بمجيء الدولة الأموية.
_________
(١) المفترون (٢٤٦).
(٢) في العلمانية والدين والديمقراطية (١٢٥).
(٣) حوار المشرق والمغرب مواقف (٥٨) (ص ٨٠ - ٩٠). واعتبر الجابري هذا قفزا على مسألة العلمانية وأنه طرح لا يحل المشكل.
1 / 11
وزعم آخرون أن التاريخ الإسلامي عرف نماذج علمانية فقط كالمعتزلة والفلاسفة وابن مسكويه وابن خلدون وابن عربي وآخرين (١). وهذا رأي محمد أركون وغيره.
وأكد كثيرون أن العلمانية لم تعرفها البلدان الإسلامية إلا مع الاستعمار، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
و«بذريعة مواجهة التطرف ظهرت في العقدين الأخيرين «ميلشيات» ضمت نفرا من المثقفين كانت مهمتهم ومازالت محاولة قطع الطريق على تقدم المسيرة الإسلامية بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وبشكل أساسي فإن الذين انخرطوا في تلك الميلشيات كانوا خليطا من غلاة العلمانيين والماركسيين وغيرهم من الذين نجحت حملات التعبئة في تخويفهم من الإسلام والمسلمين، أو الذين استقرت في أعماقهم كراهية الاثنين، ووجدوا أن مكانهم الطبيعي هو في معسكر «الضد» الرافض لكل ما هو إسلامي» (٢).
وقد نجح الخطاب الرسمي في استقطاب أعداد هائلة من العلمانيين وجيشهم في صفه، مستثمرا موجة العداء للإرهاب، وبث في روعهم أن الخطر الداهم هو خطر الإسلاميين، ولذلك أصبحت ترى كيف أن المثقف التقدمي الماركسي الذي كان بالأمس يزعم مناصرة الطبقة الكادحة والمستضعفة كيف تحول إلى بوق من أبواق مَنْ هُم في نظره قوى رجعية تعادي التقدم.
_________
(١) وإذا استثنينا الفلاسفة أو بعضهم لا تسلم لأركون ومن معه تلك المزاعم. وللعلمانيين تعلق شديد بالمعتزلة ظنا منهم أن كل الصيد في جوف الفرا، كما يقول المثل، لقلة خبرتهم بمذاهب الاعتزال.
(٢) المفترون (٦).
1 / 12
فغدت حرية التعبير وتأسيس الأحزاب والجمعيات حكرا على الطائفة العلمانية، أما الإسلامي فهو الخطر الداهم.
إنها الديمقراطية الانتقائية أو ديمقراطية الاستثناءات.
لقد اختار كثير من العلمانيين الماركسيين الانحياز إلى الأنظمة المستبدة واختاروا أن يدعموها بتبرير سياستها تجاه الإسلاميين وابتلاع خطاياها وتحسين صورتها. لأنه بعد فشل مشروعهم وجدوا أن التعلق بأهداب الأنظمة الحاكمة بذريعة الدفاع عنها ضد الخطر الأصولي باب يكسبهم بعض الشرعية ودور يفتعل لهم قضية (١).
ولهذا لم تكن العلمانية يوما ما خيارا شعبيا ولا تتمتع برضى جماهيري، بل هي قرينة التسلط السياسي وانعكاس لمصالح بعض الفئات العلمانية النخبوية المتسلحة بمخالب الدولة، ثم بحماية القوى الخارجية (٢).
وغالبا ما غازل الساسة العرب التيار العلماني لتشاركهم في مصالح فئوية ونخبوية ضيقة، وكره متطرف للآخر الإسلامي.
كان أغلب العلمانيين التونسيين يمثلون الطابور الخامس لحكم الطاغية ابن علي الذي أطاح به الشعب التونسي.
فعبد المجيد الشرفي ومحمد الشرفي وعبد الوهاب المؤدب والعفيف الأخضر وغيرهم من التونسيين لم يجدوا أمامهم من يستحق النقد والتجريح إلا
_________
(١) المفترون.
(٢) في العلمانية والدين والديمقراطية.
1 / 13
القرآن والسنة وعلوم المسلمين وأحكام الشريعة وصحابة رسول الله وعلماء الأمة على مر التاريخ.
ولم يسلم من عضاتهم ونهشاتهم إلا الطاغية ابن علي وزبانيته. بل كان الثاني منهم وزيرا في حكومته.
وقد انكشف للعالم الآن بعد الثورة التونسية حجم الفساد والطغيان والقهر والظلم والتسلط التي كان يتمتع بها النظام التونسي الديكتاتوري الذي روج له الإعلام العلماني العالمي والمغربي بمثابة النظام العلماني الناجح، بل دعا كتَّاب الأحداث المغربية والاتحاد الاشتراكي عندنا في المغرب إلى استيراد النموذج التونسي وتعميمه.
ولذلك فأنا دائما أنبه إلى أن حراس الهيكل العلماني وسدنته غالبا ما يغطي بعضهم على بعض ويسكت بعضهم عن جرائم بعض، مهما قمع وقتل وسفك، ما دام يذب عن الهيكل.
والطغمة العلمانية الفاسدة سياسيا وماليا واجتماعيا تساندها وتبارك خطواتها مليشيات علمانية فاسدة فكريا وسياسيا ودينيا.
وأكثر العلمانيين في تناولهم للإسلام محكومون بسلف وبرؤية حاقدة مسبقة. كما سيأتي.
ويغلب على كتابات كثير منهم طابع التشنج والتصميم الإيديولوجي القبلي والجاهز، الرافض للآخر والمصمم على إقصائه وتهميشه، بل تصويره كحثالة من الذباب الهائج، كما سيأتي تفصيله في محله.
1 / 14
ولنؤجل الكلام عن سيد القمامة القمني الآن فهو فارس هذا الميدان بلا منازع، ولنختر علمانيا جزائريا يُسَوق له العلمانيون على أنه مؤرخ الفكر الإسلامي، إنه محمد أركون.
يظهر جليا لمتتبع كتبه وأبحاثه أنه محكوم برؤية استشراقية مغلفة بغلاف النقد التاريخي العلمي.
فهو كغيره من العلمانيين يكن عداءا عميقا وجذريا للإسلاميين، بل ولرجال الدين والعلماء والفقهاء على مر العصور، لكن هو أكثر عدائية مع الإسلاميين.
وعامة كتبه وخاصة «قضايا في نقد العقل الديني» مليء بالتهجمات الرخيصة، وطافح بأطنان من التهم البئيسة والاتهامات المجانية الخسيسة، ولا يفرق بين إسلامي وآخر، فالكل متطرفون دوغمائيون دمويون.
بينما نراه إذا ذكر أستاذه بلاشير ونحوه من الغربيين والمستشرقين انْحَلَّت حُبْوَتُه وانطلق لسانه كالسيل الجارف تمجيدا وتبجيلا.
بل الأكثر من هذا كتب في الكتاب (٢٢٩) مقالا مطولا حول التسامح واللاتسامح. وفي نفس الكتاب كان نصيب الإسلام قرآنا وسنة وفقهاء: اللاتسامح. وكال لهم مختلف أنواع الاتهامات من مثل: إن الإسلام عنيف ويؤصل للعنف من خلال مصدره الرئيسي القرآن، وخاصة سورة التوبة.
فهو من جهة يؤصل لثقافة التسامح مع الآخر، ويعاتب القرآن والسنة لإشاعتها ثقافة اللاتسامح. ومن جهة يمارس اللاتسامح مع دينه وقرآنه وسنته تحت ستار النقد التاريخي.
1 / 15
فهو ليس معنيا بالتسامح مع غرمائه التقليديين، وإنما عليهم هم أن يتسامحوا معه ومع اليهود المحاربين والغاصبين وسندهم الدائم النصراني.
ثم أين التسامح في الفكر العلماني الحداثي عموما، ولا منهج له في دولنا إلا الاستئصال والنبذ والإقصاء؟
وأين التسامح في العلمانية الفرنسية مع أبناء بلده الجزائر لما كان تحت الاحتلال؟
وأين التسامح فيما يجري في العراق وأفغانستان وفلسطين؟
أليست العلمانية هناك هي القاتلة الناهبة المستعمرة؟
أين التسامح لما كانت الشيوعية تبيد الملايين، وتحول المساجد إلى اصطبلات؟
أليست فرنسا العلمانية داعما مركزيا للصهيونية العنصرية؟
كان العلمانيون يهدفون إلى توجيه ضربات موجعة للإسلام وعقائده وعلومه ورموزه عبر ترسانة ضخمة من المفاهيم والآليات النقدية الغربية.
لكن أثبتت التجارب والملاحظات فشل هذا المشروع التغريبي، وثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه كلما زادت جرعات العلمنة في المجتمع زادت قوة التدين، وأن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه (١). مما يؤكد ما قاله جماعة من الغربيين إن الإسلام يشكل استثناء في قبول العلمنة.
_________
(١) قال فرانسوا بورجا في كتابه الإسلام السياسي: إن مقدار ضغط الغرب على المسلمين هو نفسه مقدار صحوة المسلمين مرة أخرى. الجديد في المخطط الغربي تجاه المسلمين (٣٨).
1 / 16
مشكلة التيار العلماني أنه مصمم لرؤية واحدة ذات هدف واحد. يجعل من ديننا مشكلة، فلا يرى فيه إلا ظلامية وتطرفا وعنفا وتخلفا ورجعية، بينما يتغاضى عن جرائم أولياء نعمته.
فالعسكر الذي يتحكم في الجزائر، ومن خلفه فرنسا، التي تتحكم في مصائر شعوب إفريقية عديدة، وتتدخل فيها تدخلا سافرا وتحول دون تقدمها ونهضتها وتدعم الديكتاتوريات فيها التي تحتاج إلى ترسانة أركون الجزائري الضخمة من المناهج لسبر أغوارها وتفكيكها وفضحها. علما أن دينه المعشوق «العلمانية» هي السبب في جميع تلك الجرائم.
ألم تكن فرنسا لما احتلت الجزائر وقتلت وشردت ونهبت علمانية إلى النخاع؟.
قتل ونهب ودعم للظلم والطغيان والاستبداد، كل ذلك في صحيفة العلمانية التي احتضنت أغلب العلمانيين وربتهم على عينها ودججتهم بالأسلحة الفلسفية والمعرفية، وجَيَّشت معهم مُطَّوعين للإجهاز على ما تبقى من القوة الحضارية للمسلمين المتمثلة في هذا الدين العظيم (١).
_________
(١) وبهذه المناسبة أدعو الباحثين الإسلاميين إلى تأسيس علم جديد اسمه علم الاستلاب الفكري، يهدف هذا العلم إلى دراسة الاستلاب الغربي للعقول العربية والإسلامية وتدجينها لخدمة مشروعه الحضاري التغريبي، والبحث في مناهجه وأساليبه وطرقه وأهدافه ومخططاته وتاريخه، بدءا من زعيم التغريب رفاعة الطهطاوي ومرورا بطه حسين وقاسم أمين وانتهاء بأبناء السربون أركون وحنفي وغيرهم ..
1 / 17
وقد دلت الشواهد التاريخية العديدة والوثائق المنشورة أن العلمانية سلاح غربي للهيمنة ومقدمة للغزو الفكري والإلحاق الحضاري والتبعية الثقافية وذوبان الهوية، أو لنقل بعبارة أدق كما سماها بعض الكتاب: العمالة الحضارية.
وإن التجديد الذي يزعم العلمانيون أنهم يمارسونه للدين ليس أكثر من عملية نقل أو سطو على ما هو شائع في الثقافة الغربية الوضعية، وعرضه في الساحة الثقافية العربية والإسلامية على أنه إبداع أصيل (١).
الأمر الذي جعل العلمانيين يتحولون إلى أسرى للغزو الفكري، ينظرون بنظارات غربية سميكة لا ترى في ديننا وحضارتنا وتاريخنا إلا صورا كربونية للحضارة الغربية ودينها وتاريخها (٢).
ولو أزالوا تلك النظارات من أعينهم لتبين لهم أن الشريعة الإسلامية تمثل الطاقة المحركة للأمة نحو التحرر الوطني والعزة الوطنية والقومية، وصمام الأمان نحو التمايز الثقافي والحضاري، الذي يكرس التنوع والتعدد، لا الذوبان والتبعية والإلحاق الحضاري للحضارة الغربية (٣).
والعلمانية هي الرمز لاستسلام الأمة الإسلامية لخيار التبعية للغرب الاستعماري والذوبان في الحضارة الغربية الوضعية المادية (٤).
_________
(١) العلمانيون والقرآن (٦٣٧).
(٢) الغزو الفكري وهم أم حقيقة (٨٧).
(٣) الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (٨).
(٤) نفس المرجع.
1 / 18
وقد عبر العلماني اللبناني علي حرب عن هذه الحقيقة بقوله عن منجزات الفكر الغربي: لأننا نتغذى منه، بل نحن ثمرة من ثمراته. الممنوع والممتنع (٢٣١).
فالنموذج الغربي المحتذى يسكن في تلافيف دماغ المثقف العربي يمنعه من رؤية واقعه ويدفعه للتفكير وفق النموذج المحتذى (١).
وسيأتي مزيد بسط في محله لهذه المسألة إن شاء الله.
ولكن لننقل الآن ثلاثة نقول هامة في هذا الصدد:
الأول: قال المستشرق جب في كتابه «حيثما يتجه الإسلام»: إن جعل العالم الإسلامي غربيا، أو حمله على حضارة الغرب لا يتوقف على المظاهر الخارجية للتقليد والاقتباس، بل يجب علينا أن نبحث عن الآراء الجريئة والحركات المستحدثة التي ابتكرت بدافع من التأثر (٢) بالأساليب الغربية، وينتهي إلى ضرورة خضوع العالم الإسلامي لقيم الغرب وعاداته. ويقول: المدارس والمعاهد ليست إلا خطوة في الطريق (٣).
والثاني: قال السيناتور الأمريكي جوزيف ليبرمان المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات الأمريكية سنة ٢٠٠٠م: إنه لا حل مع الدول العربية والإسلامية إلا أن تفرض عليها أمريكا القيم والنظم والسياسات
_________
(١) الحركات الإسلامية (١٢٤).
(٢) في المطبوع: التأثير. ولعل الصواب ما أثبت.
(٣) تهافت العلمانية (١٧).
1 / 19
التي نراها ضرورية. فالشعارات التي أعلنتها أمريكا عند استقلالها لا تنتهي عند الحدود الأمريكية بل تتعداها إلى الدول الأخرى (١).
والثالث: في كتاب الأقليات بين العروبة والإسلام لمحمد السماك (ص ٥٧ - ٥٩) أن فلاسفة الاستعمار الفرنسي ومنظروه أعلنوا أن الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية، وهذا يخولنا اختيار التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد!. . ويجب فصل الدين الإسلامي عن القانون المدني. . وحصر الإسلام في الاعتقاد وحده. . والحيلولة دون اندماج العادات والأعراف في الشرع الإسلامي، ليتيسر دمجها في القانون الفرنسي بدلا من القانون الإسلامي (٢).
ومن ناحية أكد جمع من الكتاب الغربيين والعرب العلمانيين أن الإسلام يمثل استثناء فريدا في الممانعة ضد العلمنة، وأنه رغم الهجمة الاستعمارية الشرسة والحملات التغريبية المتعددة والدعم اللامشروط للمليشيات العلمانية، ظل الإسلام عصيا على أي اختراق علماني باعتراف العلمانيين كما سيأتي بيانه في فصل خاص إن شاء الله.
مما أوقع العلمانية في أزمة ومأزق حقيقي حتى صارت مرادفة للكفر والإلحاد عند جماهير الناس، وشاع في الإعلام والجرائد والمجلات ومراكز البحوث والأوساط السياسية مقابلة الإسلام بالعلمانية والإسلاميين بالعلمانيين.
ولهذا سارع عدد منهم إلى محاولة التمظهر بالتدين وأن هدفهم فقط هو إبعاد الدين عن أي استغلال سياسي.
_________
(١) الغرب والإسلام (٨٤) نقلا عن صحيفة الأهرام في ١٦/ ٠١/٢٠٠٢.
(٢) الغرب والإسلام (٧٣).
1 / 20