وصل عمارة وأهله إلى مكة فقيرا بائسا، بعد أن كان في بسطة من الرزق، وظل من السعادة، يعيش عيشة الترف، ويتقلب في أكناف العز والنعيم، فاكترى دارا بالقرب من البيت المحرم، وأخذ ينفق على أهله في ضيق وشدة مما بقي له من مال، انتشله من يد الزمان، وجلس ذات يوم في المسجد، وبدأ درسا في التفسير، فأقبل الناس إلى الاستماع له، فسحرهم ببيانه وفصاحته، وقوة عارضته، ورنين صوته، فتحدث أهل مكه بالشيخ اليمني، وسار ذكره، وتنقل اسمه من لسان إلى لسان، وأقبل عليه عظماء مكة كبار تجارها، يبذلون له ودهم، ويتسابقون إلى إكرامه بالهدايا والأموال.
بقي عمارة على تلك الحال أشهرا، وفي أصيل يوم وهو في داره، أقبل عليه رسول أمير الحرمين - قاسم بن هاشم - يدعوه إلى لقاء الأمير.
فلبس خير ثيابه وتطيب، وأخذ يحدث نفسه ويقول: ليت شعري لم دعاك ابن هاشم؟؟ لقد جربت معاشرة الأمراء والملوك فلم تعد منها إلا بصفقة المغبون!! ... ولكنك يا عمارة لم تخلق لتلقي درسا في مسجد على أغرار مهازيل ... إنما خلقت لتكون زعيما، ولتترك في الدنيا دويا ... ولا بد لهذا من صحبة الأمراء والملوك، سر إليه يا عمارة، فلعل الدهر أراد أن يستغفر من زلته!! ولعله - وأنت من أبنائه - أراد أن يؤدبك تأديب الآباء لأبنائهم!! ثم عاد فأدركه عطف الأبوة وحنانها.
سار عمارة حتى بلغ دار الأمير ، فاستقبله عبيده وخدمه، وأوصلوه إلى حجرة ثمينة الأثاث، أنيقة الترتيب.
حتى إذا استقر به المجلس، أقبل الأمير بين حاشيته ورجاله، فحياه عمارة في أدب وخشوع.
وأمره ابن هاشم بالجلوس، فجلس بعيدا، فدعاه للجلوس إلى جنبه، وأقبل عليه يسأله عن حاله، وكثير من شئونه، ثم قال: إننا هنا لا نرى الدنيا إلا في موسم الحج، حتى إذا انقضى الموسم عدنا إلى عزلتنا، كأننا في صومعة راهب.
فقال عمارة: هذه يا مولاي نفحة من نفحات البيت الحرام، وبركة من بركاته، ألا ترى أن الدنيا جميعها تسعى إلى أهله وهم لا يسعون إليها؟! ... هنا يا مولاي نرى جميع أمم الأرض في أحسن حوالهم ... نرى هنا: اليمني، والمصري، والمغربي، والعراقي، والهندي، وأبناء كل قطر، ترف عليهم راية الإسلام. هنا البحيرة العظمي المقدسة التي تصب فيها أنهار الدين القيم الحنيف ... هذه يا مولاي دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حين قال:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . - حياك الله يا شيخ!! إن لحديثك لسحرا!! ولو أن علماء الإسلام كان لهم هذا البيان الرائع، وتلك القوة النادرة في التفكير، واتجهوا إلى هداية الناس وإرشاد الأمراء لكان للإسلام شأن غير شأنه اليوم ... أزرت مصر يا مولانا الشيخ؟؟ - لم أزرها يا مولاي، وقد عزمت على مجاورة بيت الله الحرام، حتى ألقى الله على عتبته. - لا ... لا ... أنت لا تزال في قوة شبابك، ومثلك - فيما أرى - من تضيق بآماله الدنيا إذا اتسع بها صدره.
حدثت في العام الماضي بموسم الحج بعض حوادث صغيرة للحجاج المصريين، بلغت إلي في حينها فلم آبه لها، ولكن يظهر أن الخلافة الفاطمية بالقاهرة، قد عدت وقوعها تعديا عليها، واستهانة بسلطانها؛ لذلك منعت في هذا العام الصدقات التي كانت تبعث بها لفقراء مكة، والمنقطعين إلى مجاورة البيت. - ماذا كان نوع هذه الحوادث يا مولاي؟ - حوادث تافهة ... أغار بعض خدمي على التجار المصريين، واستلبوا جميع أموالهم. - حقا إنها حوادث تافهة!! ... وما مقدار ما كان يرسله الخليفة إلى مكة في كل سنة من الصدقات؟؟ - كان يرسل عشرين ألف جريب من الحنطة، ومائة ألف دينار. - هذا مقدار عظيم. - نعم هو مقدار عظيم، أحس أهل مكة فقده، وقد جاءني وكيلي منذ أيام، يرجوني في عمل شيء لاسترضاء الخليفة الفاطمي، ووزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك، وقد توسمت فيك مما سمعت ورأيت أنك خير من يستعان به في مثل هذه الأمور. - إنني طوع أمرك لولا ... - لا تقل «لولا»؛ فإنني أعددت لك خمسمائة دينار، تعصف بكل ما تجره «لولا» من معاذير، ثم إنني أعددت الرواحل لك ولأهلك، وأمرت أن تصرف لك مئونة السفر بسعة وإغداق ... أرضيت أبا محمد؟؟ - رضيت يا مولاي شاكرا. - تذهب إلى سيدة القصور: عمة الخليفة الفائز، وإلى وزيره: طلائع بن رزيك، وتلقي إليهما بسحرك، وما وهب لك الله من فصاحة وبيان، وقوة حجة وبرهان، وكلما زاد ما يرسلان به إلى البيت الحرام زدناك. - وهل لسيدة القصور شأن كبير في إدارة شئون الدولة الفاطمية؟؟ - لها كل الشأن: فهي العقل المفكر، واليد الباطشة، ولها فنون من الحيل والخداع يعجر عن إدراكها أذكياء الرجال، ثم إنها تتخذ من أنوثتها ستارا لدسائسها، ومن جمالها البارع شباكا لاقتناص أعدائها، فقد سمعت من حجيج مصر: أنها في الحسن والرشاقة واجتذاب العقول آيه الله في خلقه، وأنها فتنة لكل من رآها، ولا يزال العهد قريبا بما كان من قتل نصر بن عباس لابن أخيها الخليفة الظافر، وفراره وفرار أبيه عباس الصنهاجي إلى الشام، أتدري ما فعلت سيدة القصور؟ لم تبك كما تبكي النساء، ولم تضرب كفا بكف كما تفعل العجائز، ولكنها أرسلت رسلها إلى قائد الإفرنج بعسقلان، ومعهم مائة ألف دينار على أن يقضي على عباس وابنه؛ فقتل القائد عباسا، وأرسل ابنه نصرا إلى سيدة القصور، وأظنه الآن في طريقه إلى القاهرة. - إنها حقا امرأة داهية!! - فوق ما تظن!! ... والخليفة الفائز الآن في يدها، وهو صبي لا تزيد سنه على ست سنوات، وهي لذلك تلعب برجال الدولة، هذا مرة، وذاك أخرى ... فاحترس منها أبا محمد. - وما حال الوزير طلائع بن رزيك معها؟؟ - لا أدري ... ولكنه لا يقل عنها دهاء وخبثا، وسنشهد قريبا صراعا بين ثعبانين.
وهناك رجل آخر أعيذك بالله منه ومن مكره ومحاله: هو مؤتمن الخلافة، خادم الخليفة وسيدة القصور، ورئيس الخدم والجنود السودانية. هذا رجل لو أراد إبليس أن يتخذ له خليفة في الأرض ما اختار غيره ... فاحذره أبا محمد!!
نامعلوم صفحہ