وتماما كما غادرت مكمنها تحت السرير منذ فترة بعيدة، غادرت دار الصور المتحركة وعيناها مفعمتان بالدموع، وسط جمهرة من الناس كانت تغادر مقاعدها وتهرع إلى باب الخروج وسط الظلام. ولم تتوقف هي والمربية حتى بلغتا «رواق التجار» وهناك علمت كميلة أن النظارة قد غادرت الدار كي تتجنب الحرمان الديني من الكنيسة؛ فقد ظهرت على الشاشة صورة امرأة في ثوب يلتصق بجسدها ترقص التانجو الأرجنتيني مع رجل طويل الشعر ذي شارب كث يرتدي ربطة عنق فنان. •••
وخرج «فاسكيز» إلى الطريق وهو لا يزال يحمل القضيب الحديدي الذي أخرس به المربية. وأعطى إشارة بيده فظهر ذو الوجه الملائكي وراءه يحمل ابنة الجنرال بين ذراعيه. واختفيا داخل حانة «الخطوتان» في نفس الوقت الذي بدأ رجال الشرطة يهربون بما يحملون من أسلاب. وكان أولئك الذين لم تقع أيديهم على سروج جياد يحملون على ظهورهم ساعة حائط، أو مرآة كبيرة، أو تمثالا، منضدة، تمثال المسيح، سلحفاة، دجاجا، بطا، حماما، أو أيا من مخلوقات الله الأخرى؛ ملابس رجال، أحذية حريم، أدوات من الصيني، زهورا، صور قديسين، أحواضا، جرادل، مصابيح، نجف، زجاجات دواء، صورا زيتية، كتبا، مظلات لمياه السماء ومبولات لمياه الإنسان.
وكانت صاحبة الحانة تنتظر في الداخل وفي يدها قضيب حديدي، جاهزة لتغلق به الباب خلفهم.
ولم تكن كميلة لتتصور وجود مثل هذه «الزريبة» التي تفوح منها رائحة الفراش العفن، لا تبعد سوى أمتار قليلة من البيت الذي عاشت فيه في سعادة غامرة، يدللها ذلك الجندي العجوز (وكان من المستحيل تصور أنه كان سعيدا بالأمس فقط)، وترعاها مربيتها (وكان من المستحيل تصور أنها ترقد الآن مصابة بجراح مميتة). والزهور التي كانت بالأمس ناضرة أصبحت الآن على الأرض مداسة بالأقدام، وقطتها هربت، وعصفورها الكناري مات بعد أن ديس بالأقدام مع قفصه. وحين أزاح المحبوب الوشاح الأسود من على عيني كميلة، خامرها شعور بأنها بعيدة جدا عن منزلها. ومرت بيدها على وجهها مرتين أو ثلاثا وهي تتطلع فيما حولها لترى أين هي، وتوقفت أصابعها عن الحركة كي تخنق صيحة استياء كادت تصدر عنها حين تحققت أن محنتها حقيقة واقعة وليست حلما أو خيالا.
وجاءها صوت الرجل الذي نقل إليها الأنباء المشئومة ذلك المساء، طافيا نحو جسدها الثقيل الخدر: «آنستي، على الأقل ليس من خطر يتهددك هنا. ماذا نستطيع أن نفعل كي نهدئ من مخاوفك؟»
فصاحت صاحبة الحانة: «ماء ونيران!» وأسرعت تحرك بضع جمرات في أعلى وعاء فخاري تستخدمه فرنا، في حين انتهز «فاسكيز» الفرصة لمهاجمة قنينة من البراندي القوي، وابتلع ما فيها دون أن يذوقه، كأنما هو يشرب سم فئران.
وأنعشت صاحبة الحانة النيران عن طريق النفخ فيها، وهي تتمتم طوال الوقت: «اشتعلي سريعا! اشتعلي سريعا!» وتراءى خلفها، على جدار الغرفة الخلفية التي كانت تتوهج الآن بالنور الأحمر المنبعث من جمرات النار، ظل فاسكيز وهو ينسل في طريقه إلى الفناء.
وأسقطت «لامسكواتا» جمرة مشتعلة في صحن مليء بالماء، فقعقعت وهسهست كالشخص المرتعب، ثم طفت الفحمة المنطفئة على سطحها كنواة ثمرة جهنمية سوداء، فالتقطتها المرأة بالملقاط. وبعد أن احتست كميلة شيئا من هذه المياه، عاد إليها صوتها ثانيا.
وكان أول ما قالته: ماذا حدث لوالدي؟
فرد ذو الوجه الملائكي: «اهدئي، لا تقلقي، اشربي مزيدا من مياه الفحم، إن الجنرال بخير.» - هل أنت متأكد؟ - أعتقد ذلك. - إن المصيبة ... - «هس! لا تجلبي الحظ السيئ!»
نامعلوم صفحہ