وبين الواقع والحلم، تابع الأبله جريه، تطارده الكلاب ويلسعه رذاذ المطر الحاد . كان يجري بلا هدف، فاغر الفم وقد تدلى لسانه، سائل اللعاب، لاهثا ، ملوحا بذراعيه في الهواء. وكانت تترى وراءه أبواب وأبواب وأبواب ونوافذ وأبواب ونوافذ. وكان يقف فجأة ويغطي وجهه بيديه ليحمي نفسه من عمود من أعمدة البرق، ثم يتبين له أن لا ضرر منه على نفسه فينفجر ضاحكا ويستمر في جريه، كأنما هو إنسان يهرب من سجن صنعت جدرانه من الضباب، بحيث إنه كلما زاد جريا، ابتعدت عنه هذه الجدران.
وحين وصل إلى الضواحي، حيث تستسلم المدينة إلى الريف المحيط بها، ارتمى على كومة من النفايات كأنه شخص بلغ مخدعه آخر الأمر، واستغرق في النوم. وكان يعلو كومة النفايات شبكة عنكبوتية من فروع الأشجار الميتة، تغطيها كوكبة من النسور. وحين لمحت تلك الطيور الجارحة السوداء الأبله يرقد هناك بلا حراك، حدقت إليه بعيونها الزرقاء، وحطت على الأرض بجانبه وهي تتقافز إلى جواره - قفزة هنا وقفزة هناك - في رقصة جنائزية. وكانت النسور تتطلع حواليها دونما انقطاع، وهي متأهبة لأن تطير عند أقل حركة تصدر عن ورقة شجر أو عن الرياح التي تصطفق في القمامة - قفزة هنا وقفزة هناك - ثم أطبقت على الأبله شكل دائرة إلى أن أصبح في متناول مناقيرها. وأعطى نعيب وحشي إشارة البدء بالهجوم. ونهض الأبله على قدميه إذ أفاق، مستعدا للدفاع عن نفسه. وكان واحد من تلك الطيور قد تشجع وألصق منقاره بالشفة العليا للأبله وأخذ ينقرها وينفذ منها إلى أسنانه كأنما هو سهم حاد، بينما أخذت الجوارح الأخرى تتنازع أيها ينقر عينيه وأيها قلبه. وجاهد الطير الذي أنشب منقاره في شفته كيما ينتزع لحمها، لا يهمه في شيء أن فريسته إنسان حي، وكان سيفلح في ذلك لو لم يتراجع الأبله خطوة إلى الوراء فسقط في وهدة مستودع للقمامة، مثيرا حوله سحبا من الغبار ومن قطع الأحجار الثقيلة. •••
كان الظلام ينسدل. سماء خضراء، وريف أخضر، وفي الثكنات، كان النفير يدوي معلنا تمام السادسة، مرددا أصداء تماثل القلق الذي تشعر به قبيلة في حالة طوارئ، أو قرية محاصرة في القرون الوسطى. وفي السجون، بدأت آلام الأسرى الذين يموتون موتا بطيئا على مر السنين تتجدد ثانية. وسحب الأفق رءوسه الصغيرة من شوارع المدينة، كأنما هي ثعبان بألف رأس. وكان الناس عائدين من مقابلات مع رئيس الجمهورية، بعضهم وقد أفلح في مساعيه، والآخر وقد خاب رجاؤه؛ وكانت الأضواء المتسربة من نوافذ أوكار القمار تطعن الظلمة في الصميم.
وكان الأبله لا يزال يصارع شبح النسر الذي ما فتئ يشعر به وهو يهاجمه، وآلام ساقه التي انكسرت وهو يسقط في وهدة مستودع القمامة، آلام لا تطاق، حالكة، تمزق أساسه تمزيقا. وأخذ يئن طوال الليل كالكلب الجريح، أنينا بدأ خافتا ثم استحال صراخا، وأخذ تعالي هنا يا فتاة يتردد خافتا مرة، وصراخا مرة أخرى: آآآآآ ... ه، ... آآآآ ... ه!
وكانت أظافر الحمى الحديدية تخمش جبهته. انفصال في الأفكار. عالم متماوج يتراءى في مرآة. تفاوت خرافي. عاصفة من الهذيان، طيران مخيف، أفقي، رأسي، مائل، هذيان حديث الولادة وميت في حلزون صاعد. وغرق في هذيان الحمى.
منعطفمنعطفمنعطف إلى منعطفمنعطفمنعطف إلى منعطفمنعطفمنعطف إلى زوجة لوط (هل هي التي اخترعت اللوتارية؟) وكانت البغال التي تجر الترام تتحول إلى زوجة لوط، وضاق السائقان ذرعا بجمودها، فلم يكتفيا بكسر سوطيهما على ظهور البغال وإلقاء الحجارة عليها، بل إنهما دعيا السادة الركاب إلى استخدام أسلحتهم أيضا؛ وكان أعلاهم شأنا يحملون خناجر جعلوا ينخسون البغال بها فتسير. - «آآآآ ... ه ... آآآآ ...!» - «يا أبله. ... يا أبله!»
ويشحذ شاحذ السكاكين أسنانه قبل أن يبتسم! شاحذو البسمة. أسنان شاحذ السكاكين. - «أماه!»
وأيقظته صيحة السكير التي سمعها في هذيانه. - «أماه!»
وكان القمر يسطع متألقا بين السحب الإسفنجية، وسقط نوره الأبيض على الأوراق الرطبة فخلع عليها بريق الخزف وجموده. - «إنهم يحملون ...» - «إنهم يحملون ...» - إنهم يحملون القديسين من الكنيسة كيما يدفنوهم! آه، يا لها من متعة! سوف يدفنونهم، سوف يدفنونهم، آه، يا لها من متعة!
المقابر أكثر بهجة من المدينة وأكثر نظافة منها! آه، يا لها من متعة، سوف يدفنونهم! - «تارارا، تارارا، بووم!»
نامعلوم صفحہ