119

بيد أن الطالب هتف يقاطعه: ما جدوى الصلاة! ينبغي لنا ألا نصلي. ينبغي لنا أن نسعى إلى تحطيم هذا الباب ونخرج لننضم إلى الثورة!

وامتدت ذراعا شخص لم يكن بمستطاعه أن يراه، وطوقه في حرارة، وشعر على خده بالملمس الخشن للحية صغيرة مخضلة بالدموع، وصوت يقول: بإمكانك الآن أن تموت في سلام أيها القائد السابق لمدرسة «سان خوسيه» للمشاة، فلا يزال ثمة أمل في بلد يتحدث شبابه على هذا النحو!

الصوت الثالث: تكلموا، استمروا في الكلام، استمروا في الكلام!

الفصل التاسع والعشرون

مجلس عسكري

بلغ نص اللائحة الجنائية التي تتهم «كاناليس» و«كرفخال» بالعصيان والتمرد والخيانة، بكل ما يحمله ذلك من ظروف مشددة ممكنة، صفحات عديدة لدرجة لم يكن معها ممكنا تلاوته حتى آخره في جلسة واحدة. وقد قرر أربعة عشر شاهدا بالإجماع بعد حلف اليمين أنهم في ليلة 21 أبريل كانوا موجودين في «رواق الرب» حيث تعودوا قضاء الليل نظرا لفقرهم الشديد، وأنهم رأوا الجنرال كاناليس والمحامي قابيل كرفخال يهجمان على ضابط، عرفوا فيما بعد أنه الكولونيل خوسيه بيراليس سونرينتي، ويخنقانه بالرغم من المقاومة الباسلة التي أبداها لهما، فقد ناضل ضدهما يدا بيد كالليث الهصور، بيد أنه كان عاجزا عن استعمال أسلحته للدفاع عن نفسه ضد قوتهما الغاشمة. وقرروا أيضا أنه حالما تمت الجريمة، خاطب «كرفخال» «كاناليس» بالعبارات التالية أو بما يفيد معناها: «الآن وقد قتلنا» «الرجل ذا البغل الصغير»، يتعين على القادة العسكريين أن يسلموا أسلحتهم ويعترفوا بك يا جنرال رئيسا أعلى للجيش. سيطلع الفجر بعد برهة، فلنسرع بنقل الأنباء إلى الذين تجمعوا في منزلي، حتى يمكنهم المضي في اعتقال رئيس الجمهورية وإعدامه وتشكيل حكومة جديدة.

وذهل كرفخال. لقد كانت ثمة مفاجأة في انتظاره في كل صفحة من صفحات الاتهام. ولو لم يكن الاتهام خطيرا للغاية لكان الأمر مدعاة للضحك. ومضى يقرأ. كان يقرأ على الضوء المترامي من نافذة تطل على فناء مغلق، في الغرفة الصغيرة العارية المخصصة للمحكوم عليهم بالإعدام. وكان المجلس العسكري الذي سيحقق في الموضوع سينعقد في تلك الليلة، وقد تركوه وحيدا مع صفحات الاتهام كيما يعد دفاعه. ولكنهم أخروا ذلك حتى اللحظة الأخيرة. كان يرتجف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ويقرأ دونما وعي أو توقف، تعذبه فكرة أن الظلام قد أخذ يقرض الأوراق التي كانت تبدو كأنما هي تذوب إلى رماد رطب بين يديه. ولم ينجح في قراءة الكثير منها. كانت الشمس تغرب، ونورها يتحول إلى العتمة؛ وكان الأسى يظلل عينيه لفقدانها. سطر أخير، كلمتان، ضربة قلم، تاريخ، رقم صفحة ... وجاهد عبثا كيما يقرأ رقم الصفحة؛ كانت الظلمة تفيض على الصفحة كلطلخة حبر أسود. بيد أنه تشبث بالملف في لهفة كأنما، بدلا من اضطراره إلى قراءاته، سوف يلف حول عنقه كالحجر قبل إلقائه إلى الهاوية. وكانت تسمع صلصلة قيود السجناء غير السياسيين على طول الأفنية غير المرئية، وفيما وراءها أيضا تأتي الأصوات المختنقة لجلبة المرور في شوارع المدينة. «آه يا إلهي ... إن جسدي المتجمد البائس في حاجة إلى الدفء، وعيني تحتاجان للنور احتياجا أمس من حاجة جميع سكان نصف الكرة التي تشرق الشمس عليهم الآن مجتمعين. لو أنهم علموا معاناتي لكانوا أشفق علي منك، يا إلهي ولردوا علي الشمس حتى أتمكن من إنهاء القراءة.»

وأعاد إحصاء الصفحات التي لم يقرأها مرات ومرات، باللمس فحسب، واحدة وتسعين. مرات ومرات مر بأصابعه على سطح الصفحات خشنة الملمس، محاولا القراءة كما يفعل الأعمى في مداومة اليأس. كانوا قد نقلوه في الليلة الماضية في أوائل المساء، في عربة مغلقة، وسط مظاهر استعراض كبير للقوات من مركز الشرطة الثاني إلى السجن المركزي. ورغم ذلك، كان سروره عظيما بمشاهدة الشارع من حوله وسماعه والإحساس به، حتى لقد شعر برهة أنهم إنما يقودونه إلى منزله: وماتت الكلمات على شفتيه في بحر من الدموع والاشتياق.

ووجده رجال الأمن وصحيفة الاتهام الجنائي بين ذراعيه والمذاق العذب للطرق المبتلة في فمه، فنزعوا الوثائق منه ودفعوه دونما كلمة إلى الحجرة التي كان المجلس العسكري منعقدا بها.

واستجمع كرفخال شجاعته ليقول للجنرال الذي كان يترأس المجلس «ولكن، سيدي الرئيس، كيف يمكنني الدفاع عن نفسي وأنتم لا؟ لمجرد قراءة لائحة اتهامي؟»

نامعلوم صفحہ