111

وجال في خاطره: «هل وعد الناس البسطاء مملكة السماء على الأرض - هذا اللغو الريائي - لمجرد أن يحتملوا مثل هؤلاء الأوغاد. كلا! كفانا من حكم الجمال هذا! إني أقسم على العمل في سبيل الثورة الشاملة، يجب قلب كل شيء ظهرا لبطن. يجب أن يثور الناس ضد الطفيليين، ضد من يستغلون مناصبهم الحكومية، والعاطلين الذين يحسن إرسالهم لفلاحة الأرض. لا بد أن يأخذ كل واحد نصيبه من الدمار! الدمار! الدمار! لن يحتفظ أي عميل منهم برأسه.»

وحدد لرحيله الساعة العاشرة من مساء تلك الليلة، وفقا لترتيب اتخذ من مهرب من أصدقاء عائلة الأخوات الثلاث. وحرر الجنرال خطابات عدة، منها خطاب عاجل إلى ابنته. واتفق على أن يحمل الهندي الخطاب ثم يعود من الطريق الرئيسي. ولم يقل أحد وداعا. ومضت الجياد وحوافرها ملفوفة بالخرق، بينما وقفت الأخوات عند الحائط، يبكين بحرقة في عتمة حارة مظلمة. وحين بلغ الجنرال الطريق الواسع شعر بيد تمسك بلجام جواده. وسمع وقع أقدام. وهمس له المهرب: «لشد ما أفزعوني. لقد ضاعت أنفاسي. ولكن لا تقلق، إنهم بعض الرجال يصحبون الطبيب للغناء تحت شرفة خطيبته!»

وكان ثمة مشعل مضاء عند نهاية الطريق، يرسل ألسنة من اللهيب تنضم على نورها ثم تتفرق أشكال البيوت والأشجار وخمسة أو ستة رجال يقفون معا تحت إحدى النوافذ.

وسأل الجنرال ومسدسه في يده: «من فيهم الطبيب؟» وشد المهرب عنان جواده، ورفع ذراعه وأشار إلى رجل يحمل جيتارا. وشقت طلقة رصاص الهواء، وسقط رجل على الأرض كما تسقط موزة من قرطها. - يا إله السماوات! انظر ماذا فعلت! لا بد أن نهرب، سريعا، وإلا قبضوا علينا! هيا، اهمز حصانك! - إن هذا ... هو ما يجب ... على كل شخص أن يفعله ... يحرر الشعب!

نطق «كاناليس » بهذه الكلمات بصوت متقطع بين خبب حصانه الراكض. وأيقظت جلبة حوافر الجوادين الكلاب، وأيقظت الكلاب الدجاج . وأيقظ الدجاج الديكة، وأيقظت الديكة الفلاحين، الذين عادوا إلى الحياة في تثاقل، يتثاءبون ويتمطون ويشعرون بالخوف.

ورفعت جماعة المغنين الليليين جسد الطبيب الميت. وخرج الناس بقناديلهم من المنازل المجاورة. ولم تستطع الفتاة التي كانوا يغنون لها البكاء، بل وقفت مشدوهة من فعل الصدمة في ملابس نومها تمسك بقنديل صيني في يدها البيضاء، ونظراتها ضائعة في الظلمة القاتلة. - نحن الآن محاذون للنهر يا جنرال، ولكن علي أن أقول لك إنه لا يقدر على عبوره في المكان الذي نريد عبوره فيه إلا الرجال الشجعان. آه أيتها الحياة، لو أنك تدومين إلى الأبد!

فرد «كاناليس» الذي كان يركب جوادا أسود وراءه: ومن يخاف؟ - برافو! إن المرء يحس بشجاعة الأسود لو أن ثمة رجلا وراءه. أمسك بي جيدا، جيدا، وإلا ضللت طريقك.

كان كل شيء مبهم المعالم حولهما، وكان الهواء دافئا، وإنما تجري فيه تيارات ثلجية. وكانا يسمعان النهر جائشا خلال أعواد البوص.

وترجلا وقفزا إلى المجرى. وعقل المهرب الجوادين في مكان يعرفه جيدا حتى يمكنه أخذهما عندما يعود. ووسط الظلال، عكست رقاع النهر السماء المرصعة بالنجوم. وكانت تطفو على صفحته نباتات غريبة تتساقط من أشجار خضراء، لها عيون بلون التلك وأسنان بيضاء. وقرقرت المياه عبر الضفاف الدهنية الغافية، تعبق برائحة الضفادع.

وطفق المهرب والجنرال يقفزان من جزيرة إلى أخرى في صمت، وكل منهما حامل مسدسه في يده. وتبعهما ظلاهما كالتماسيح، وتبعتهما التماسيح كظليهما. ووزخزتهما سحائب من الحشرات، وكان ثمة سم مجنح يحلق في الهواء. وعبقت في الجو رائحة البحر، البحر واقعا في شبكة الغابة، بكل سمكاته، ونجومه، ومرجانه، وشعابه، وبأعماقه وتياراته. وكانت الطحالب تتدلى فوق رأسيهما كأنها مجسمات مخاطية لأخطبوطات تحتضر. وحتى الوحوش المتوحشة لم تكن تجرؤ على الذهاب حيثما كانا ذاهبين. وطفق «كاناليس» يدير رأسه في كل اتجاه، ضائعا في هذه الطبيعة المشئومة التي لا يصل إليها أحد والمتوحشة توحش روح حيواناتها. وهاجم تمساح المهرب، وبدا واضحا أنه قد ذاق طعم اللحم البشري من قبل، ولكن المهرب قفز من طريقه في الوقت المناسب. بيد أن الجنرال لم يكن سعيد الحظ بالمثل؛ إذ استدار يدافع عن نفسه وجمد مصعوقا إذ وجد تمساحا آخر ينتظره فاغر الفكين. لقد كانت لحظة حاسمة. وشعر برعشة مميتة تسري في عموده الفقري، وانتصب شعره، وفقد النطق من فرط الهلع. وشد على قبضتيه. ودوت ثلاث طلقات متتابعة رددها الصدى، قبل أن ينتهز الجنرال فرصة هروب الوحش الجريح كيما يقفز إلى مكان آمن. وأطلق المهرب طلقة أخرى. وحين استعاد الجنرال توازنه جرى إلى الأمام وصافح المهرب، مما أحرق أصابعه من جراء لمسه فوهة المسدس.

نامعلوم صفحہ