وما هو أن عرف المهدي أن الجيش قد شرع في السير حتى أذاع المنشورات بين القبائل يدعوهم فيها إلى الجهاد، ويعد فيها المطيع بالمكافأة والعاصي بالعقاب. وغادر هو الأبيض وضرب خيمته تحت شجرة كبيرة ينتظر قدوم الجيش المصري، واقتدى به خلفاؤه وأمراؤه فتكون من ذلك معسكر ضخم. وكانت جيوش المهدي تعرض كل يوم وتقرع الطبول وتطلق المدافع وتدرب الجنود والخيول، وكلهم يستعد للمعركة الكبرى. وكان المهدي قد أرسل الأمراء: الحاج محمد أبو جوجة، وعمر واد إلياس باشا، وعبد الحليم مسعد، إلى الدويم لكي يراقبوا تقدم الجيش ويقطعوا مواصلاته، ولكنهم أمروا بألا يهاجموا الجيش بالذات، وقد علموا قبل سفرهم مقدار القوة المصرية ورجوا المهدي في أن يسمح لهم بمهاجمتها ولكنه رفض.
وقبل أن تصل القوة إلى رهاد رأى جوستاف كلوتز - وهو صف ضابط ألماني وكان قبلا خادم البارون سكندروف ثم صار خادما عند مستر أودنفان - أن المهدي سيقضي عليها إذا التقى بها، ففر من الجيش بنية أن يذهب إلى المهدي لكي ينضم إليه، وكان يجهل البلاد، فأخذ يجول في صباح اليوم التالي وعثر عليه المهديون وكانوا يوشكون أن يقتلوه، ولكنه صار يجاهد بالقليل الذي يعرفه من العربية لكي يفهمهم أنه يرغب في مقابلة المهدي، فأرسل مع الحرس إلى الأبيض، وكان لابسا ملابس الخدم، ومع ذلك توافد عليه الناس زرافات لكي يروا هذا الإنجليزي الذي جاء للمهدي يرجوه في طلب الصلح، ولما أحضر إلى المهدي صار هذا يسأله عن التجريدة أمام الأوروبيين الحاضرين ، ولم يتردد جوستاف في وصف الجيش أسوأ وصف وأن صفوفه خلو من الشجاعة والوفاق، وارتاح المهدي إلى هذه الأخبار، ولكن جوستاف أخبره أيضا أن الجيش لن يسلم وأنه لا بد من معركة يباد فيها عن آخره، ودعا المهدي جوستاف إلى الإسلام فأجاب وأسلم، ثم وكل المهدي به عثمان واد الحاج خالد.
ووثق المهدي من الظفر إلى حد أنه وضع المنشورات العديدة في طريق الجيش يدعو هكس باشا إلى التسليم، وبدهي أن هكس باشا وضباطه لم يجيبوه، ولكن كان لهذه المنشورات بعض التأثير في أولئك الذين كانوا يخافون على حياتهم، واستعمل بعضهم هذه المنشورات لأغراض وبطريقة اغتاظ منها المهدي أشد الغيظ، وكان بعد ذلك يعاقب الذين نجوا من القتل بأشد العقوبات إذا علم أنهم دنسوا هذه المنشورات الملهمة بأية طريقة!
وقبل أن يبرح هكس باشا الدويم كانت الحكومة قد أبلغته أنه سينضم إليه ستة آلاف رجل من جبل تاج الله وبضع مئات من عرب الحبانية، وكان كل يوم يتشوف لرؤية هذه القوة لكي ينشط بها جنوده الذين خارت قواهم وضعفت آمالهم، ولكن هذه القوة لم تصل إليه بل لم يصل إليه أي خبر عنها.
وعندما غادر هكس رهاد قصد إلى علوية في دار غدايات أملا في أن يجد هناك ماء يستقي منه الجيش، وفي 3 نوفمبر وصل إلى كشجيل التي تقع على بعد 30 ميلا في جنوبي الأبيض.
وكان المهدي في هذه الأثناء قد حمس جنوده، وأخبرهم أن النبي قد أوحى إليه أن عشرين ألفا من الملائكة سيقاتلون الكفار مع جنوده يوم المعركة. وفي أول نوفمبر برح الأبيض قاصدا إلى بركة، فانضمت قواته إلى جيش الأمراء الذي كان قد أرسله قبلا، وأخذ الجميع في مناوشة المصريين والتضييق عليهم، وكان العطش والإعياء قد فعلا فيهم فعلهما. وفي 3 نوفمبر كان أبو أنجة والجهادية السود مختبئين في غابة كثيفة، فصبوا نارهم على قلب المصريين حتى اضطر الجيش إلى الوقوف وإقامة زريبة حوله، وكانت الدواب والرجال هدفا ظاهرا لا يخطئه أي رام، فكان في كل لحظة يقع جمل أو بغل أو إنسان قد أعياه السير. واستمر هذا التقتيل ساعات وكل فرد من الجيش يعاني الآلام من العطش ولا يستطيع السير إلى أي جهة، ولم يغادر العدو مكانه حتى الأصيل، وبقي بعد ذلك يراقب الجيش كما تراقب القطة الفأر. وكانت خسائر العدو قليلة فلم يقتل منهم سوى أمير أو اثنين، وكان أحدهما ابن إلياس باشا، ولا غرابة في قتله؛ فقد تحمس وتهور حتى صار على قيد ذراع من الزريبة، وما أشد ما كان يعانيه هكس في هذا الوقت؛ إذ بدلا من أن يجد رجاله الماء كان العدو يمطرهم رصاصا، ومع ذلك كان الماء قريبا منهم لا يبعد ميلا واحدا، ولكن لم يكن معهم أحد يعرف هذه الجهات، وهم لو كانوا يعرفونها لما انتفعوا بهذه المعرفة الآن لفوات الفرصة.
وفي الليل زحف أبو أنجة ورجاله ثانيا، وصبوا النار طول الليل على هذه الكتلة المؤلفة من الناس والدواب، وخارت قوى المصريين فكانوا يندبون حظهم قائلين: «مصر فين يا ستي زينب دلوقت وقتك.» أما السود فكانوا منبطحين على بطونهم فلا ينالهم رصاص المصريين الذي كان يذهب في الهواء فوقهم، وكانوا يردون على المصريين بقولهم: «دي المهدي المنتظر.»
وفي صباح اليوم التالي تقدم هكس وقد خلف وراءه أكواما من القتلى وبعض المدافع التي قتل رجالها، ولكنه قبل أن يقطع ميلا هجم عليه نحو مائة ألف من المتحمسين المتوحشين الذين خرقوا الجيش ودخلوا إلى القلب، وحدثت عندئذ مقتلة هائلة، ولم يحاول الثبات للعدو سوى بعض الضباط الأوروبيين والخيالة الأتراك، ولكنهم هوجموا من كل جانب فقتلوا تقريبا عن آخرهم، ثم قطع رأس البارون سكندورف ورأس الجنرال هكس وحملا إلى المهدي، فطلب في الحال كلوتز - الذي صار اسمه الآن مصطفى - وطلب إليه أن يعرفه صاحبي هذين الرأسين، ولكن المهدي لم يكن في حاجة إلى التعريف؛ فإن كل أحد قد عرف أنهما قتلا، وبعد هذا النصر المبين عاد المهدي وخلفاؤه إلى بركة وقد أسكرهم هذا الفوز.
وكان في ميدان القتال عدد كبير من الأمراء وأتباعهم قد تخلفوا لجمع الغنائم وإرسالها إلى بيت المال، وقد جردت الآلاف من القتلى من جميع ملابسهم، وأرسلت إلي بعد ذلك بمدة مذكرات فاركار وأيضا مذكرات أودنفان، فقرأت كل ما كتباه، وما أعظم ما قاسيته من الحزن من هذه القراءة؛ فقد كتب كلاهما شيئا كثيرا عن الخلاف والشقاق في الجيش، وعن الشجار بين الجنرال هكس وبين علاء الدين باشا. وقد حمل فاركار على رئيسه حملة قاسية لأغلاطه الحربية؛ فقد أحس كلاهما بالنكبة قبل وقوعها؛ ولذلك كان فاركار يلوم رئيسه؛ لأنه مع معرفته بالحالة المعنوية السيئة للجيش خرج به للقتال. ولم يحصل الضباط الأوروبيون على أية معونة، ولكن يظهر أن أحد الضباط المصريين المدعو عباس بك عاونهم بعض المعاونة. وأذكر أني قرأت العبارة التالية بقلم فاركار: «سألت أودنفان اليوم عن المكان الذي سنكون به بعد ثمانية أيام، فأجابني بقوله: في العالم الآخر.»
وكانت مذكرات أودنفان مكتوبة بهذه اللهجة أيضا، وكان قلقا بشأن فرار كلوتز، وذكر هذا الفرار كمثال على شعور سائر الجنود. وأذكر قوله: «كيف تكون حالة جيش إذا كان خادم أوروبي يهجره وينضم إلى العدو.» ويقول في مكان آخر: «ها أنا ذا أكتب مذكراتي وتقاريري، ولكن من هو ذاك الذي سيحملها إلى وطني؟»
نامعلوم صفحہ