ولكن نهض لنا عدو آخر وهو القحط، فقد أكلنا كل شيء يؤكل فانتهت لحوم الجمال ولم يكن لدينا حبة ذرة، وقد اقتتنا أنا والضباط في المدة الأخيرة بكسرات من خبز الذرة كنا نطبخها مع ورق نبات يدعى كوال، ونضرب هذا الخليط حتى يصير شبه عصيدة لا طعم لها، ولم يكن ثم ما يرجينا بتخفيف وطأة العدو أو بمجيء جيش لإنقاذنا، فلم يكن من الممكن أن نبقى أكثر مما بقينا وكان الجوع قد أثر فينا وأضعفنا.
وعلى ذلك جمعت جميع رجالنا وكان عددهم نحو 900 رجل، كلهم ما عدا قليلا من العرب مسلح بالبنادق، أما العرب فكانوا لجهلهم بالبندقية يؤثرون عليها حرابهم، ثم خطبتهم خطبة قصيرة قلت فيها إن دماء ضباطهم ورؤسائهم تهتف بهم أن اثأروا لنا، وإن نساءهم وأولادهم ينتظرونهم مشتاقين لرؤيتهم، ولكن من المحال أن يصلوا إليهم ما لم يتحملوا الآلام بالصبر ويواجهوا المشاق بالجلد والشجاعة. ثم ختمت خطبتي بقولي إن أولئك الذين قد سكن الخوف قلوبهم قد فروا يوم المعركة، وأما الذين يقفون أمامي الآن فقد صمدوا وعانوا المشقات، وإن الله سيكافئهم على جهودهم بالنصر.
فأجابوا بالهتاف وبرفع البنادق فوق رءوسهم، وهذه إشارة للطاعة، ثم صرفتهم وأمرتهم بالاستعداد للرحيل في اليوم التالي، ثم نزعت من البندقيات القديمة التي تخلفت عن القتلى زنودها وجمعتها ثم ألقيتها في بركة، أما البندقيات فقد أحرقتها، وألقينا كل ما لا حاجة لنا به في الماء وقسمنا الباقي بين الجنود، فخص كل رجل ما بين 16 إلى 18 دستجة من الخراطيش، ولكننا أتلفنا البارود الذي يستعمل في البنادق القديمة؛ لئلا يستفيد منه العدو، أما رصاص الخراطيش فقد وضعناه تحت رءوس من ماتوا حديثا.
فلما كان السبت، وهو اليوم السابع لنكبتنا، بعيد طلوع الشمس خرجنا من الزريبة، وألفنا القلب وحوله المقدمة والمؤخرة والميمنة والميسرة وشرعنا في التقهقر، وكان عندنا جملان فقط فجعلناهما يجران المدفع في القلب، وأرسلت أنا في كل جانب فارسين للاستكشاف، وكان في القلب 160 جريحا، فكان القادر يمشي على أقدامه ومن لم يقدر حملناه على خيولنا القليلة، كل فرس يحمل رجلين أو ثلاثة، وكنت أنا راضيا بالسير على قدمي ولكن ألح علي الضباط في الركوب فركبت لكي أشرف على الفلاة حول الجيش، وكنا جميعا نعرف بأن العدو سيهاجمنا بعد خروجنا من الزريبة، فملأنا المدفع وعولنا على ألا نبيع حياتنا رخيصة، وكنا واثقين بأننا إذا نجحنا في رده مرتين أو ثلاثة فإنه لن يعاود الغارة علينا، وقررنا أن نسير في الجهة الشمالية الغربية؛ لأن الأرض هناك مكشوفة، ولكننا كنا نجهل مكان مياه الأمطار، لأن أدلتنا قد فروا أو قتلوا.
وقبل أن يمضي على مسيرنا ساعة هوجمت مؤخرتنا فأدركت أن الساعة الحاسمة قد أزفت، فأمرت بالوقوف في الحال وضممت الجناحين إلى القلب، ثم اصطحبت حرسا مؤلفا من خمسين رجلا وسرت نحو المؤخرة وكانت تبعد عنا نحو مائتي ياردة، ونقلنا المدفع إلى آخر القلب من جهة المؤخرة، وكلفنا الجرحى بملء البنادق حتى لا يضيع وقت الجنود المقاتلة.
وقبيل أن يظهر مشاة العدو كنا نسمع وقع أقدامهم فاستعددنا لهم بحيث إنهم عندما ظهروا سددنا إليهم النار من حرس المؤخرة، فتوقفوا قليلا ولكنهم كانوا يستندون إلى كثرة عظيمة وراءهم، فتشجعوا بها وهجموا وكل منهم قد شرع حربته في يده اليمنى وحمل تحت ذراعه اليسرى عدة مطارد، وتمكنوا من الاقتراب منا حتى أصاب بعضهم بعض رجالنا بالمطارد التي تزرق على بعد ، ولكننا أعملنا فيهم النار وكان مدفعنا يرميهم من القلب ، فتقهقر رجالهم من حملة الحراب وصرنا وجها لوجه مع البازنجر، وأصبح القتال بالنار من الجانبين، ولكن جاءتنا أمداد من القلب فاستطعنا بهم أن نرد العدو بعد قتال عنيف دام عشرين دقيقة.
وكنت عند إطلاق أول عيار قد نزلت من ظهر جوادي؛ وهذا معناه في السودان عدم الأمل في الفرار والإصرار على واحدة من اثنين: الظفر أو الموت. ولما انتهى القتال تحلق الجنود حولي وأخذوا يهزون يدي بالنصر الأول الذي انتصرناه على العدو.
وبينما نحن نشتغل بالقتال من المؤخرة كانت ميسرتنا قد اشتبكت أيضا وانتصرت في النهاية، ولكن خسارتها كانت جسيمة، وجرح أحسن قائد باق لدي؛ وهو زيدان أغا جرحا بليغا، وكان نوبي المولد وظهرت كفايته في حملة دارفور؛ إذ قاد فصيلة مؤلفة من 12 رجلا واستخلص بها مدفعا من العدو وكان قد غنمه منا، ولهذا العمل كوفئ بترقيته إلى رتبة ضابط، والآن أراه مصابا بعيار في رئته اليمنى، فسألته عن صحته فقال لي بعد أن مد يده إلي: «أما وقد انتصرنا فما بي من بأس.» ثم ضغط يدي وبعد دقائق مات.
وقتل أيضا من جانبنا 20 وجرح عدد كبير، فدفعنا القتلى بعجلة؛ إذ لم يكن لدينا من الوقت ما يسمح بالحفر العميق، ولكننا غطيناهم حتى لا نعير بأننا تركنا قتلانا بلا دفن، ثم استأنفنا مسيرنا بحيطة وحذر، ولكن ثقتنا في أنفسنا زادت عن ذي قبل.
وفي الساعة الثالثة عاود العدو الغارة على المؤخرة، ولكن الغارة كانت خفيفة فطردنا المغيرين بدون أن نخسر أحدا، ثم وقفنا وأحطنا الجيش بزريبة منتظرين من العدو غارة أخرى، ولكننا دهشنا إذ لم نتلق هجمة واحدة من العدو طول الليل، وفي الصباح بعد أن نفذ ماؤنا استأنفنا السير، ونحن في مسيرنا عاود العدو الغارة ولكن هجومه هذه المرة كان أضعف من هجومه في الأمس فطردناه بأقل عناء، واستمر سيرنا حتى الظهر بدون أن نجد ماء، فتفيأنا في ظل بعض الأشجار وأخذ رجالنا يبحثون عن نوع من الفجل يدعى «فايو »، وهو كثير العصارة وله ثلاث ورقات صغيرة تدل عليه ، فكان رجالنا يقلعونه من الأرض ويمصونه فيطفئ عطشهم بعض الشيء، ولكن كنا مع ذلك في حاجة لازمة للماء، وبعد أن استرحنا استأنفنا المسير ثانيا فالتقينا مصادفة براع من الرزيفات يسوق غنما، فتسابق الرجال إلى الغنم واحتازوها من راعيها الذي وقف مبهوتا مروعا لا يحاول الفرار، وكان رجالنا ينوون قتله لولا وساطتي، فأمرت بوضع الغنم في القلب وأحضر الراعي إلي ويداه موثقتان إلى ظهره، وقبل أن أستجوبه أمرت بتوزيع الغنم كل رأس لخمسة رجال وما يتبقى لنا، وكان عدد الخراف يبلغ نحو مائتين، ما أجل هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا ونحن في جوعنا هذا!
نامعلوم صفحہ