وكان نظام البريد قد تعطل تماما واضطررت لهذا السبب إلى أن أرسل خطاباتي إلى الأبيض والخرطوم في داخل قوائم الرماح، أو بين نعلي الحذاء، أو أخيطها داخل ملابس حاملها. وكنت قد طلبت من الخرطوم إمدادي بالذخيرة ولكنها لم تصل إلي لإهمال الموظفين، فإنها أرسلت إلى الأبيض متأخرة ولانقطاع المواصلات لم يمكن إرسالها إلي.
وعلمت من دارة أن مادبو زعيم الرزيفات قد رفض أن يأتي، فلم أشك بعد ذلك في أن جميع القبائل الجنوبية قد خرجت على الحكومة وأنها تنوي كل النية الانضمام للمهدي، فقررت أن يكون مقامي في دارة، فأخذت 200 جندي من المشاة و75 من الجنود الراكبة وسرت بهم إلى دارة.
وعند وصولي أبلغت وقوع حادثة كانت في ذاتها تافهة ولكن نتائجها كانت خطيرة جدا؛ فقد سبق أن ذكرت بأني وأنا مسافر إلى الخرطوم التقيت في الطريق بالشيخ علي واد هجير من قبيلة المعالية فرافقني إلى الخرطوم، وقد أثبت ولاءه للحكومة فعينته رئيسا لقبائل المعالية الجنوبية، وقد سمع هذا الشيخ بقرب عقد اجتماع عرب الرزيفات بقيادة الشيخ بلال نجور بغية الانضمام إلى المهدي، فعول الشيخ علي على أن يحضر هذا الاجتماع ويقبض على الشيخ بلال متهما إياه بالثورة.
فسار إلى مكان الاجتماع مع حميه وبعض أصدقائه، ورأى بعض الرجال المنتمين إلى قبيلته قد حضروا أيضا فطلب إليهم أن يخرجوا وينحازوا إلى جانبه، ولكن لم يبال أحد بطلبه وحدثت في أثر ذلك مشاغبة عومل فيها هجير وأصدقاؤه معاملة قاسية عنيفة، حتى اضطروا إلى أن ينجوا بأنفسهم، ولكن حكاية فرارهم انتشرت على غير وجه الحقيقة؛ بحيث إنه عندما وصل هجير إلى زوجته ومعه حموه وأصدقاؤه تلقتهم بقولها: «راجلي اضليم وأبويا ربطة، سفر يومين سووهم في جبطة.»
ومعنى ذلك: «زوجي ظليم: ذكر النعام، وأبي أنثى نعام، حتى إنهما قضيا سفر يومين في لحظة.»
واقتفى بلال نجور أثر الهاربين تصحبه المعالية فهجم على دار الشيخ هجير، وأخذ الذين حول الشيخ هجير يحثونه على الفرار إلى شقة ليدخل في حماية منصور، ولكنه كان يتضور من آلام الكلمات القاذعة التي عيرته بها زوجته فرفض الفرار وقال: «لن أفر لكي أنجو بنفسي. خير لي أن أقع بالسيف من أن تضحك مني امرأة.»
وقد وعد وأوفى وعده؛ فإنه قاتل الجموع حوله قتال الأبطال حتى شقت حربة رأسه نصفين فوقع وهو يتلو الصلاة حتى مات، وقتل حموه ووقع في جانبه، أما زوجته التي كانت سبب كل هذا البلاء فقد وقعت أسيرة واستعبدت، ودعاني منصور حلمي لكي أذهب إلى شقة لرغبته في الاتفاق مع القبائل؛ لأني أمثل الحكومة وبهذه الصفة يكون لي تأثير أكبر فيهم، واقترح أن نبني قلعة حصينة في شقة ونضع فيها مدفعين، ولما كان الاتفاق مع العرب ضروريا فإني قررت إجابة طلبه وسافرت إلى شقة ومعي 150 من الجنود النظامية و25 جنديا راكبا ومدفع.
وكنت في أثناء سفري أسمع من الأخبار ما يثبت انتشار الثورة وانتصار المهدي، ولما وصلت إلى قرية المادبو في دعين جاءني رسول وأخبرني هذا الخبر الغريب؛ وهو أن منصور قد أغار على هذا الشيخ قريبا من شقة وفقد معظم من معه وبات في شبه حصار في مراي، فأرسلت في الحال في طلب إمداد من دارة وبقيت مدة الانتظار في دعين وأنا لا أشك في أن المادبو ينوي أن يهاجمني، وقد تحقق ظني، وقد انضم إلي الشيخ عفيفي من قبيلة الحبانية ومعه 25 من الخيالة، والحق أن مآثر هذا الشيخ الموالي لجديرة بأن تدون!
ففي مساء أحد، والشمس توشك أن تغرب، خرج رجالي يجمعون الحطب، فأغار علينا المادبو بخيوله التي تراءت لنا بأنها تقصد إلى زريبتنا وهي تعدو، فلما رآهم الشيخ عفيفي أسرج في الحال جواده وامتطاه وأشرع حربته وقال لي: «عارفني زين، أنا نور الطقش أبو جلب من آدم، أنا بدور عالموت.»
ومعنى هذا: «أنت تعرفني جيدا، أنا الثور الناطح، قلبي من صخر، أنا أبحث عن الموت.»
نامعلوم صفحہ