إن أول ما يتبادر إلى ذهن المفكر في شئون السودان بعد قيام حكم المهديين هو مصير المدنية الناشئة الجديدة، التي وجدت في سني حكم المصريين منذ عهد محمد علي، فليس من شك في أن تغيير الحال وحلول الفوضى محل النظام يولدان في العقل شعورا صادقا بانقضاء كل أثر ظهر للمدينة في السودان قبل المهديين. وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد اندثرت معالم المدنية رغم طراوتها وحدتها؛ والسبب الرئيسي في اندثارها هو انتقال الحكم إلى أولئك المستبدين الجهلة، بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول إن سبب ضياع المدنية راجع إلى ظهور نفوذ أولئك الهمجيين، الذين أسسوا على أنقاض الحكومة السودانية المصرية السياسية نظاما جديدا كان إلى حد ما متتبعا خطوات النظام الماضي في العرض، ولكنه خالفه في الجوهر. فبدلا من الحق والعدالة والأخلاق في حكومة العهد المصري، نجد الظلم والباطل البربري والتجرد من نظم الأخلاق في حكومة المهديين وأتباعهم. وإنه لمن الواجب علي أن أقرر للقراء - غير مدفوع في ذلك بنزعة الثأر لنفسي مما قاست من ويلات، ولكني مدفوع بوازع الضمير رغبة في تقرير الحقيقة كلها - بأني لن أستطيع ذكر أمة ظلت في حياة المدنية أكثر من نصف قرن ثم هبطت إلى الدرك الأسفل من الهمجية غير السودان.
لنفكر لحظة واحدة في تلك القوة الجديدة التي برزت بروز الشر، ودعت إلى الفوضى في ربوع السودان، مما اعتبرها الأوروبيون بحق عقبة كأداء في سبيل المدنية الناهضة، ونذيرا بفشل المساعي الكبرى التي بذلوها في السنوات الأخيرة في الكثير من جهات تلك القارة الأفريقية الفسيحة.
سعيت في الفصول الأولى إلى تبيان أثر المهدي عندما صاح في الناس أول صيحة، وعندما ظهر نفوذه الواسع في السودان؛ فقد كان هذا الرجل سيد السودان الحقيقي، فلم يكن يصدر أمرا حتى يسرع الأتباع لتلبيته وهم على استعداد لتفديته بالقلوب والأرواح. كما أني ذكرت التعصب الذميم اللعين الذي أوجده المهدي في حياته، ثم أردفت ذلك بشرح تضاؤل ذلك التعصب بعد موته (المهدي)؛ حيث حل محل القوة الدينية نفوذ جديد للخليفة عبد الله، كان يتذرع فيه بالدين تذرعا اسميا، ولكنه في الحقيقة كان مدفوعا بنزعة الظلم التي وجدت بين جنبيه منذ عرف الفارق بين الخير والشر. ولم تكن القسوة قاصرة على الخليفة عبد الله، ولكنها تعدته إلى عرب القبائل الغربية؛ فقد حل أولئك محل الجنود المصريين؛ فأهلكوا الزرع والنسل، وحكموا السكان المنكودي الحظ بقضيب من حديد، فذاق أولئك السودانيون كل مرارة، وابتلاهم الله بشر أولئك الجدد المستبدين؛ مما جعلهم يذكرون ليل نهار فضائل الحكم المصري. ثم دفعهم أكثر من ذلك إلى التذمر المنذر بالثورة، والتطلع إلى حكومة تمنحهم الهدوء والسلم.
إنه لمن التطويل غير المحمود، بل من التكرار الممل الموجع للنفس، أن أعود لذكر الفظائع التي ارتكبها الخليفة عبد الله وأتباعه في سبيل احتفاظهم بمراكزهم الدينية والحكومية، ولكن من واجبي هنا أن أذكر لقرائي أن خمسة وسبعين في المائة - على أقل تقدير - من مجموع السكان في السودان ماتوا؛ إما بالحرب وإما بالجوع وإما بالأمراض الوبائية الفتاكة، فيبقى لنا بعد ذلك أقل من خمسة وعشرين في المائة ليسوا في حقيقتهم أحسن حالا وأفضل عيشا من الرقيق.
تذكرني كلمة الرقيق الأخيرة بذلك الطغيان البادي في تجارته في السودان. ولئن كان الرقيق في بادئ أمره مقصورا على العبيد، فإنه - بعد امتداد نفوذ عبد الله - يضم إلى دائرته العدد الكبير من مسيحيي الأحباش والسوريين والأقباط والمصريين المسلمين.
إن القسم الواسع من السودان الذي يحكمه الخليفة عبد الله اليوم قد تغير في نظامه عن الحكم المصري، ولكنه تغير لا يشرف صاحبه؛ فقد أصبحت المناطق الخصبة المثرية الآهلة بالسكان صحراء مقفرة يخاف الناس ولوجها، فإنك اليوم تجد السهول الكبرى التي وطئتها أقدام قبائل العرب الغربية شبيهة بالصحاري، لا يظهر فيها من المخلوقات غير الوحوش الضارية. أما مواطن الآدميين على شاطئ النيل، فأصبحت مقطونة ببدو القبائل المرتحلة، بعد أن طرد أولئك أصحاب البلاد الأولين أو استبقوهم لا لشيء سوى تفليح الأرض واستثمارها لخير الأسياد الجدد.
حرم السكان الأصليون من جميع وسائل الدفاع عن النفس، وأصبحوا - بعد ما نزل بهم من جور وعسف - في حالة فقدوا معها كل أمل في الحصول على العطف من ناحية أولئك الأسياد الجدد، فضعفت أو تلاشت فيهم قوة المقاومة؛ وإذن فالباقون من السكان الحاصلين على المساحات الضيقة المشرفة على النهر ليسوا أفضل من العبيد في غير حالة واحدة؛ هي حين تعريضهم للبيع في سوق الرقيق.
ما الذي يستطيع أولئك البائسون المنكوبون عمله لمهاجمة أسيادهم الجدد الأقوياء؟ إنهم أمام أحد أمرين؛ فإما التسليم والبقاء في عيش الذل، وإما الاعتراض؛ وفي تلك الحالة يلاقون آجالهم بحد السيف.
إنه لمن المغالاة والجنون المطبق أن يفكر أحد في أن المغلوبين على أمرهم في عهد الخليفة عبد الله يستطيعون إنهاء حالتهم المزرية بثورة داخلية؛ لأنهم لا يملكون شيئا من معدات الدفاع أمام قوة الحكومة الظالمة؛ وإذن لا بد من وصول العون والمدد من الخارج إلى أولئك المنكودين. وعلى السكان المحليين أن يتحققوا أن الخير في الثبات وعدم التقهقر بعد ظهور حكومة عادلة جديدة؛ لأن ظهور أي دليل من دلائل الضعف والمقاومة لروح المدنية الجديدة سيضر التقدم المقصود ضررا بليغا.
إنه لمن الواجب على السودانيين - في سبيل الاحتفاظ بتقدمهم المنشود والابتعاد عن مصائب العسف والمظالم - أن يعتقدوا أن قوة الخليفة في ضعف مستمر؛ لأن ذلك الضعف أعظم مساعد لارتفاع كلمة الحق ورجوع عصر المدنية.
نامعلوم صفحہ