السيف المسلول
القاطع لشبهات المخذول
تأليف
عبد الله بن حسين بن محمد الكبسي الديلمي.
.......
صفحہ 1
تمهيد
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، والصلاة والسلام على الرسول الأمين وعلى آله حماة الدين.
وبعد ؛ يقول الله تعالى : (( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب واخر متشبهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب )) [ آل عمران : 7 ] .
كان مما ابتلى الله به عباده وامتحنهم أن قرن المحكم بالمتشابه في كتابه الكريم ، وفي ذلك من الفوائد الجمة ما لا يخفى على عاقل ؛ منها تمحيص وتمييز الثابت على الحق من المتزلزل في دينه والباني لدينه على شفا جرف هار ، ومنها ما في مشقة النظر من الأجر الكبير والثواب العظيم.
وفي هذا الكتاب قام المؤلف أحسن الله جزاءه بتبيين معاني بعض الآيات المتشابهة التي تعلق بها بعض أولي الزيغ والهوى تاركين المحكم من القرآن ، موضحا معانيها ومفندا مزاعم المخالفين بحجة قوية وأدلة ظاهرة جلية لا يخالفها بعد إلا مكابر للحق.
وما مخالفة طريق الحق إلا ناتج من نواتج هوى النفس الأمارة بالسوء ، لأن الكثير يمنعه تعصبه من الانقياد للدليل ويؤدي به إلى التعنت ومخالفة الحق ، فندعو جميع من عرف الحق أن يتبعه أين ما كان وعند من كان فالحق أحق أن يتبع.
....
صفحہ 2
علو الله عز وجل
قال المخالف : مذهب هؤلاء كما هو مذهب المعتزلة إنكار علو الله تعالى معرضين بذلك عن الأدلة الشرعية والبراهين العقلية التي تدل على علو الله سبحانه ، قال تعالى : (( ءأمنتم من في السماء )) [ الملك : 16 ] ، (( وهو القاهر فوق عباده )) [ الأنعام : 18 ] ، والخلق جميعا يرفعون أيديهم عند الدعاء ويقصدون جهة العلو .
قلت : نحن لا ننكر علو الله الذي هو علو قهر وسلطان ، بل ننكر العلو الحقيقي لأن العلو في المكان ما هو إلا تجسيم وتشبيه لله عز وجل ، والله منزه عنه.
والذي يدل على أن العلو يستعمل ويراد به المعنى المجازي أن العرب تقول : الملك أعلى من الوزير ، والمراد علو الأمر والنهي ، يدلك على هذا أن الملك قد يكون في مكان حقيقي أسفل من الوزير ، وقال تعالى حاكيا عن سليمان : (( ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين )) [ النمل : 31 ] أي علو قهر بعدم الامتثال لأمر سليمان عليه السلام ، إذ لا يعقل أنه عليه السلام نهاهم عن العلو الحقيقي.
وقال تعالى : (( إن فرعون علا في الأرض )) [ القصص : 4 ] ، والمراد أنه لعنه الله تكبر وتجبر وقهر العباد ، وليس المراد الإخبار أن فرعون لعنه الله اتخذ مكانا حقيقيا عاليا على الناس ، وقال تعالى : (( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون )) [آل عمران : 139 ].
ولما انتصر المشركون يوم أحد قال أبو سفيان : أعل هبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلما أصحابه أن يردوا على أبي سفيان : الله أعلى وأجل . والمراد أن الله أقهر سلطانا وقدرة يدلك على هذا أن أبا سفيان كان في أسفل الجبل ورسول الله كان في الأعلى فمراد أبي سفيان أن هبل علا على المسلمين علو قهر بفوز المشركين على المسلمين.
....
صفحہ 3
ثم إن من عقائد هؤلاء أن الله ينزل بذاته إلى سماء الدنيا ، ويلزمهم على قولهم هذا أن صفة العلو لله تنتفي عن الله حينما ينزل ، ويلزمهم أن يكون الله تعالى حينما ينزل محصورا بين طبقتين من العالم ذلك أنهم يقولون إنه ينزل نزولا حقيقيا ، والنزول كما قال ابن القيم : النزول المعقول عند جميع الأمم هو إنما يكون من علو إلى سفل (1) . وقال ابن القيم : إن رسول الله قال في الكتاب الذي كتبه الرب إنه عنده فوق العرش (2).
قلت : فهل الكتاب مشارك لله في الفوقية ، وهل الكتاب ليس في جهة ومكان تحيط به فيكون مشاركا لله في عدم احتياجه إلى مكان وجهة مخلوقين ، ومشاركا لله في الفوقية والعلو ؟!
وقوله تعالى : (( ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض )) [ الملك : 16 ] ؛ المراد ءأمنتم ملائكته الموكلون بالعذاب أن تخسف بكم الأرض أو ءأمنتم من مقدوره في السماء أن يخسف بكم الأرض ، فالآية لا تدل على أن الله في السماء إذ لو قلنا أن الله في السماء لجعلنا السماء تحيط بالله عز وجل ، ولجعلنا السماء أكبر من الله وأقوى من الله بحيث أنها حملته ومحيطة به، ولجعلنا الله عز وجل ماديا جسما تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
قال المخالف : إن ( في ) بمعنى على أي ءأمنتم من على السماء ؛ قال تعالى : (( لأصلبنكم في جذوع النخل )) [طه : 71 ] أي على جذوع النخل .
قلت : فليس في ظاهر الآية ما يدل على أنه عز وجل في السماء التي فوق السماوات السبع ، ثم إن قوله : إن ( في ) بمعنى (على) خروج عن الظاهر وتأويل منعتم منه مخالفيكم وأجزتموه لكم ؛ لأن ( في ) تفيد في أصل وضعها الظرفية .
ونقول لكم ما قلتم لنا : هل في ظاهر الآية الضلال بحيث قلتم بأن في بمعنى على ؟
إن قلتم : نعم .
قلت : فلماذا التشنيع على من أول اليد بالقدرة أو النعمة وأول الوجه بالذات ؟
صفحہ 4
وإن قلتم : لا .
قلت : فلماذا القول بأن في بمعنى على .
وأما ( في ) في قوله تعالى : (( ولأصلبنكم في جذوع النخل )) [طه : 71 ] فهي مجاز واستعارة ؛ لأن الاستعارة كما تكون في الأسماء والأفعال تكون في الحروف ، فكيف عدلتم عن الحقيقة إلى المجاز وأنتم ترفضون التأويل وتنكرون المجاز ؟!
إن قلتم : إننا ننكر المجاز في صفات الله .
قلت : فالعلو الحقيقي عندكم صفة وظاهر الآية أنه تعالى في السماء - ولذلك قلتم بأن في بمعنى على - وأن السماء ظرف لله عز وجل .
قال المخالف : إن السماء تطلق ومعناها مطلق العلو ؛ تقول : سما الشئ . أي علا .
قلت : العلو الحقيقي في كلام العرب لا يكون إلا في جهة ومكان لأن العرب تخاطبوا بهذه المفردات من واقع ملموس يعيشونه ، وأما العلو المجازي فصحيح والمراد علو الأمر والنهي .
أما إذا أردت علوا حقيقيا لا في جهة ومكان مخلوقين فهلم الدليل على أن العرب ذكروا العلو الحقيقي من دون أن يكون في جهة ومكان ، إذ أن القرآن نزل بلغتهم .
قال المخالف : إن رفع المسلم يده إلى السماء يدل على أن الله في العلو .
قلت : رفع المسلم يده إلى السماء لا يعني أنه عز وجل حال في السماء بإجماع علماء الأمة حتى علماء هذا المخالف ، فهل تقولون إن الله في السماوات السبع ؟!
وأما السماء التي لا تعني السماوات السبع فالمسلمون لا يرفعون أيديهم إلى هذه السماء التي هي عدمية ، لأنك تقول في علو عدمي ومكان عدمي وجهة عدمية ، ذلك أن المسلم لا يرفع يده إلا إلى السماء المخلوقة الظرفية المحيطة بمن داخلها ، فهل الله فيها فيكون محاطا ؟ والعلو العدمي لا يمكن أن يشار إليه لأنه عدم وغير موجود أصلا !
فإذا بطل كون الله في مكان تعين أن رفع الأيدي إلى السماء هو لكونها قبلة للدعاء كما أن الكعبة قبلة للصلاة ، وكما أن توجه المسلم إلى الكعبة وسجوده وركوعه إلى الكعبة لا يعني أن الله في الكعبة كذلك ما نحن فيه .
....
صفحہ 5
قال أحمد بن جبريل الكلابي في رسالته في نفي الجهة : وأما رفع الأيدي إلى السماء فذلك لأجل أن السماء منزل البركات والخيرات والأمطار ، والإنسان إذا ألف على حصول الخيرات من جانب مال طبعه إليها ؛ قال تعالى : (( وفي السماء رزقكم وما توعدون )) [الذاريات : 22 ] اه .
قلت : أيها الأخوة ؛ كيف سميتم ما وراء العالم علوا مع أنه عدم ؟ وأين كان الله قبل أن يخلق العرش والسماوات والأرض وما بينهن ؟!
إن قلتم : في العلو .
قلت : كيف تقولون علو ولا يوجد سفل ؟
ومن أين لكم أن ما وراء العالم الذي هو عدم يسمى فوقا وعلوا حقيقيا من الشرع ؟! ومن أين لكم أن يوجد علو حقيقي في جهة ومكان عدميين من لغة العرب ؟! .
ويلزمك على قولك بأنه فوق العالم أن يكون الله تعالى إما أكبر من العالم أو أصغر منه أو مساويا له ، وهذا كله محال في حقه تعالى، أم انك ستكابر العقل القطعي قائلا من دون كيف مع أن هذا لإلزام حكم عقلي قطعي لا يختلف فيه العقلاء .
....
صفحہ 6
إثبات التأويل
اعلم أن أهل السنة والجماعة ينكرون التأويل في القرآن والسنة مع أن كتبهم الحديثية تنص على التأويل ، ويدعون بأن الصحابة لم يؤولوا مع أن الصحابة لم يرد عنهم منع للتأويل أو تحريمه ، ولا نسلم أن عدم ورود أحاديث عنهم يعني تحريمه لأنهم فهموا أن اليد مثلا في قوله تعالى : (( أن تسجد لما خلقت بيدي ))[ ص : 75 ] بقدرتي لأنهم عرب والعرب تكلمت بالحقيقة والمجاز ، والحقيقة هنا محالة لأنها تستلزم التجسيم والتشبيه، والقول بالمكان العدمي واليد الحقيقية المجهولة الكيف غير معروف في لغتهم لأن العرب لم تتخاطب بيد حقيقية مجهولة لهم ، وبكون اليد والوجه صفة .
ومما يدل على أن التابعين أولوها قول ابن جبير : كرسيه علمه (1) .
صفحہ 7
وقال البخاري في قوله تعالى : (( كل شئ هالك إلا وجهه )) [ القصص : 88 ] ؛ إلا ملكه (1) .
وقال زيد بن أسلم : (( إن لهم قدم صدق )) [ يونس : 2 ] ؛ محمد صلى الله عليه وآله وسلم (2).
وقال البخاري في قوله تعالى : (( سنفرغ لكم )) [ الرحمن : 31 ] ؛ سنحاسبكم لا يشغله شئ عن شئ وهو معروف في لغة العرب يقال : لأتفرغن لك وما به شغل لآخذنك على غرتك (3) . وقال في الكبرياء : الملك (4) . وقال في قوله تعالى : (( آخذ بناصيتها )) [ هود : 56 ] ؛ أي في ملكه وسلطانه (5) .
وقال في قوله تعالى : (( لا تبديل لخلق الله )) [ الروم :30 ] ؛ أي لدين الله (6) . وقال في قوله تعالى : (( ننساكم )) [ الجاثية : 34 ] ؛ نترككم (7) .
قال النووي : قوله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله تعالى ليس بأعور معناه أن الله منزه عن سمات الحدوث وعن جميع النقائص ، وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى ناقص الصورة .
وقال النووي في شرح مسلم : قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه . قال العلماء : ضحك الله تعالى هو رضاه بفعل عبد ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه (8) .
وقال : وأما إطلاق اليدين لله فمتأول على القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه (9) .
وقال : إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمينا إلى آخره؛ قال ابن عرفة: وكلتا يديه يمين فتشبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة (10) .
صفحہ 8
وقال النووي : يقرب المؤمن يوم القيامة من ربه دنو كرامة وإحسان لا دنو مسافة إنه سبحانه منزه عن المسافة (1) .
وقال القسطلاني : الغضب في المخلوقين شئ يداخل قلوبهم ولا يليق أن يوصف الباري تعالى بذلك فيؤول ذلك على ما يليق به تعالى متحمل على آثاره ولوازمه (2) .
وقال : عن مالك أنه أول النزول بنزول رحمته تعالى وأمره أو ملائكته (3) .
وقال : قوله تعالى : (( يد الله فوق أيديهم )) [ الفتح : 10 ] يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وآله التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله ، وهو سبحانه منزه عن الجوارح وصفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعقده مع الله (4) .
وقال شارح العقيدة الطحاوية : وإحاطته عظمته .
قلت : وهذا تأويل عابوا به خصومهم .
قال الألباني معلقا : وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح مع أنه لا بد منه أحيانا (5) .
قلت : كيف جاز لكم التأويل وهو محرم عندكم، مع انه في باب الصفات على حد زعمكم.
صفحہ 9
آية الاستواء
قال المخالف مستدلا على أن الله استوى على العرش استواء حقيقيا : إن العلماء أجمعوا على أن الله ذكر أنه استوى على العرش في مواضع كثيرة .
قلت : ليس محل النزاع ورود الآيات بلفظ استوى ، فنحن لا ننكر ذلك ، بل من أنكر هذه الآيات فهو كافر ، وإنما محل النزاع هل هي على حقيقتها أو على المجاز ! وعلى هذا فلا إجماع في تفسير الاستواء بمعنى الارتفاع حقيقة ، كيف ونحن الزيدية والأشعرية والمعتزلة والإمامية والأباضية لم يقولوا إلا أن معنى استوى استولى ، فأين الإجماع؟ أم أن الإجماع هو إجماع فرقتك والمسلمون غيركم كفار .
وإذا سلمنا جدلا أنهم أجمعوا على أن استولى لا يأتي بمعنى الاستيلاء ؛ فيمكن أن تكون الآية استعارة مركبة نحو أراك تقدم رجلا وتؤخر أحرى، هذا والأول الذي هو : أن العرض هو الملك هو الصحيح لمن تأمل.
صفحہ 10
وأما قول المخالف : إن لفظ الاستواء إذا قيد ب( على ) فإن معناه الارتفاع والعلو بإجماع أهل اللغة فباطل إن أراد الارتفاع والعلو المكاني الحقيقي في أي لفظ لأن الجوهري نص في الصحاح على أن الاستواء يأتي بمعنى الإستيلاء وإن عدي بعلى ، واستشهد صحاب الصحاح الذي هو من أئمة اللغة بقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وهذا الشعر الذي هو من لغة العرب يدل على أن الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء لأن القول بأن الاستواء هنا حقيقة محال ؛ إذ كيف يستقر بشر على دولة العراق حقيقة ! بل المراد أنه استولى على العراق من غير نزاع ، فأين إجماع أهل اللغة ؟ أم أنه استقرار يليق بجلالة بشر؟!!
ثم كيف تقول أجمعوا ثم تنص على واحد تزعم أنه أنكر وجود استوى بمعنى استولى مع أن إنكاره لا يضر إذ كان المثبت له دليل على قوله، ومع إننا إذا سلمنا فلم يجمعوا بأن معناه الارتفاع حقيقة وإذا قلت بل على حقيقته، قلنا: وبملامسة من دون انفصال بحيث يكون آخر جزء ملامس لأول جزء من الشيء المرتفع، ثم هل عندك أن استواء الله كاستواء المرء على ظهر الحمير ؟ لأن الاستواء على ظهر الحمير هو بملامسة وفي مكان وجهة فهل تقول كذلك في الله ؟ إن قلت : نعم ؛ كفرت ، وإن قلت : لا ؛ فكيف صح لك الاستشهاد بالآيتين وبقوله تعالى : (( واستوت على الجودي )) [ هود : 44 ] إذ ليس معنى ارتفاعها وعلوها مطلق الارتفاع والعلو ، بل ارتفاعها مع الملامسة وكونها في جهة ومكان الذي هو الجبل المعروف بالجودي في العراق .
قال المخالف : ولم يذكر في موضع واحد أن معناه استولى .
صفحہ 11
قلت : قد ذكر الله أنه نزل القرآن بلسان عربي مبين ، والعرب تخاطب بالحقيقة والمجاز ، وحقيقة الاستواء الذي هو القعود محال في حق الله والقعود المكيف بكيف مجهول غير معروف في لغة العرب وغير معقول أيضا.
قال المخالف ناقلا عن أبي الحسن الأشعري : ولو كان هذا كما قالوا لكان لا فرق بين العرش والأرض السابعة ، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان كل شئ تحت قدرته واستيلاءه .
قلت : الاستواء بمعنى الاستيلاء ، والعرش هو الملك ، فالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن ملكوته، ولهذا فالله مستو على عرشه أي مستول على ملكوته بالأمر والنهي ، والمراد بالاستيلاء تصرفه في الكون أمرا ونهيا ، وليس المراد بالعرش العرش الحقيقي على ما يقول ابن تيمية أنه كروي وأن العرش موجود مع الله في الأزل ؛ لأن هذا يؤدي إلى كون العرش أزليا قديما ، والمعلوم أنه لا قديم إلا الله ، ويمكن أنه أراد عز وجل أنه مستول على أعظم شئ من مخلوقاته الذي هو العرش الذي يدل ضرورة على أنه مستو على ما دونه وهذا على قول من قال بأن العرش حقيقي من دون أن يقول إن الله مستو عليه حقيقة بل مستول عليه، مع أنه قبلة للملائكة عندهم مستدلين بقوله تعالى : (( وترى الملآئكة حآفين من حول العرش )) [ الزمر : 75 ] .
قال المخالف : فيلزم أن يكون العرش قبل تمام خلق السماوات والأرض لغير الله .
قلت : هذا الكلام الحاصل من المخالف ناتج عن توهمه أن الاستيلاء يدل على أن الله أخذ العرش من غيره وبالتالي يكون العرش قبل ذلك مع هذا الغير، وهذا الكلام غير صحيح لأن الاستيلاء لا يدل على ذلك ولو لم يكن هنالك إلا قرينة العقل لكفى، إذ العرض عندنا هو الملك الذي يدل على الأمر والنهي ، والمعلوم عقلا ونقلا أن من له الأمر والنهي هو الله.
صفحہ 12
وعلى قول من قال أن العرش قبلة للملائكة فأن الاستيلاء لا يدل على ماقاله المخالف لأن الله عبر بالاستيلاء عن كونه قهارا كما قال تعالى (( لمن الملك اليوم)) فلا يدل التقييد باليوم انه قبل ذلك اليوم كان لغيره فتأمل.
قال المخالف : إن الغالب من كلمة استولى أنها لا تكون إلا بعد مغالبة ، فمن الذي غالب الله على العرش حتى أخذه الله منه واستولى عليه ؟
قلت : هذا اعتراف منه أن كلمة استولى لا تكون في جميع حالاتها للمغالبة ، ولهذا نقول : إن المراد بالاستيلاء هو عدم المغالبة لأن لفظة استولى لا تعني باعترافه المغالبة في كل حالاتها للمغالبة ، بل في الغالب فقط ، ويدلك على عدم كونها للمغالبة قول الشاعر العربي كما نقله صاحب الصحاح في مادة سوى :
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
فقول الشاعر من غير سيف ودم مهراق نص على أن لفظة استوى التي بمعنى استولى من دون مغالبة ، والمعلوم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين وهذا شاعر عربي .
فإن قيل : إن الشاعر نصراني .
قلت : نحن نحتج بلغته التي هي لغة العرب ، ولهذا ترى علماء العربية يحتجون بأقوال المشركين العرب ، فما بالك بأقوال النصارى العرب؟ ثم إن البخاري في صحيحه احتج بقول امرئ القيس وهو مشرك ، وما أوردناه هو قول أحد أئمة اللغة وهو الجوهري صاحب الصحاح وكذا قول صاحب القاموس مجد الدين الفيروز آبادي بأن استوى تأتي بمعنى استولى .
وقال تعالى (( والله غالب على أمره )) [ يوسف : 21 ] ؛ فهل هذه الآية تدل على المغالبة والمقاومة ؟المعلوم قطعا عدم دلالتها وإلا فمن هو الذي تغالب هو والله ، نعم لا تدل على المغالبة ولا تعلم الآية بذلك فكذلك آيات الاستواء التي بمعنى الاستيلاء .
صفحہ 13
والقول بأن الله لا بد له من مكان وعلو ، ولا بد له من استواء على العرش استواء حقيقيا يبطل كونه تعالى غنيا لأن الغني لا يحتاج وأنتم جعلتم الله في مكان وجهة وأنه مستو على العرش استواء حقيقيا يليق بجلاله، وجعلتم من المحال أن لا يكون في مكان وجهه وأن يكون غير متصف بالعلو الحقيقي المكاني.
وقولهم : إنه ينزل بذاته . يصادم ما قالوه من أنه في جهة العلو إذ يلزم منه أن تنتفي عنه هذه الصفة حين ينزل ، ويلزم منه أيضا أنه - تعالى عما يقولون - يصغر حجمه ، ويلزمهم على قولهم - تعالى الله عما يصفون - أنه يصعد بذاته أنه يكبر عند الصعود ، فيكون متغيرا من حال إلى حال ، وهذه الإلزامات لازمة عليهم لأنهم يقولون ينزل بذاته ويصعد بذاته نزولا وصعودا يليق بجلاله ، وعدم اعترافهم بهذه الإلزامات لا يضر لأنها لازمة لقولهم ، وهي لوازم قطعية عقلية ، وعدم اعترافهم بهذه الإلزامات كعدم اعتراف النصارى بإلزامات المسلمين لهم في قولهم بأن عيسى البشري إله .
صفحہ 14
عدم تصور الشئ لا يعني عدم تعقله :
اعلم أيها المستحق للخطاب أن نفي المكانية لله لا يعني نفي وجود الله لأنه لا تلازم في حق الله بين إثبات المكان لله وإثبات الوجود بل بينهما تضاد ، يوضح ذلك أن المكان مخلوق لله وما كان مخلوقا فلا بد لأن يتقدم خالقه عليه ، وهذا يعني أن الخالق قبل خلقه للمكان لم يكن في مكان فهو عز وجل كان موجودا لا في مكان، ولا يمكن أن يكون في مكان بعد أن يخلق المكان لأن التغير والتبدل من صفات المخلوق ولأنه تعالى غني عن المكان والزمان .
والقول بأن الله في مكان فيه إثبات لأزلية المكان والدليل دل على أنه لا قديم إلا الله ، وعدم تصور كون الله لا في مكان لا يعني أن نفي المكان لله أمر لا يعقل لأن لا تلازم بين عدم التصور وعدم التعقل ، فكما أن الإنسان لا يمكن أن يتصور موجودا لا خالق له ولا يحتاج ولا يفنى فلا يمكنه أن يتصور عدم كون الله في مكان ، وكما أن عدم تصور وجود شئ لا خالق له ولا يحتاج لا يعني عدم تعقله فكذلك عدم تصور كون الله لا في مكان لا يعني عدم تعقله ، والقول بالمكان العدمي سخافة لأن العدم لا شئ ولا يمكن أن يوصف أو يشار إليه .
صفحہ 15
آيات اليد
قال المخالف : ثانيا تحريف صفة اليد لله سبحانه وتعالى إلى النعمة والقدرة .. إلى أن قال المخالف : إن الأصل في نصوص الصفات الحمل على الحقيقة لا على المجاز .
قلت : من أين لك أنها صفات حتى تحملها على الحقيقة؟!! إننا نتنازع حول هذه الآيات آيات اليد والرجل والساق والجنب هل هي على حقيقتها أم أنها مجاز فيكون الرد من هذا المخالف والاستدلال منه علينا بنفس ما نتنازع فيه .
ثم إن قوله إن الأصل حملها على الحقيقة باطل لأن الحقيقة هي أن اليد هي الجارحة كما نص عليه صاحب القاموس والصحاح في مادة يدى ؛ فهل يد الله عندكم هي هذه الجارحة ؟ وليس في لغة العرب أن اليد وضعت لصفة ومجهولة لهم.
ثم كيف تقولون إن الأصل في الصفات الحقيقة مع أن مفردات اللغة في أصل وضعها وضعت لمعان وأرضية بشرية ؛ فكيف نطبقها على حقيقتها على الله ؟!
قال المخالف : إن اليد وإن أتت في اللغة بمعنى القدرة والنعمة إلا أن حملها هنا على ذلك يستحيل لأنه تعالى قال : (( بل يداه مبسوطتان )) [ المائدة : 64 ] فهل له نعمتان فقط مع أن نعم الله لا تحصى ، وقدرة الله واحدة .
صفحہ 16
قلت : أن العرب تقول : ما لي بفلان يدان . أي طاقة ، ويقال : هذا ما قدمت يداك . أي ما قدمته أنت ، كما يقال : ما جنت يداك . أي ما جنيته أنت ؛ انظر مادة يدى في مختار الصحاح ص741-742 .
قال النووي في شرح مسلم : وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة ، وكنى عن ذلك لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه (1) . انتهى كلامه رحمه الله .
قال المخالف : فأقرهم الله [ أي اليهود ] في وصفهم له بأن له يدا .
قلت : تكلمت اليهود بلغة العرب ، والعرب تكني باليد عن النعمة وبالقبض عن الحرمان والبخل ، فلماذا ينكر عليهم الوضع اللغوي المستعمل في غير الحقيقة ؟!
نعم ؛ أنكر عليهم القول بأن الله لا ينفق فقال : (( بل يداه مبسوطتان )) [ المائدة : 64 ] أي نعمته كما تقدم من أن العرب تثني والمراد النعمة أو القدرة لا غير مع جواز أن يقال إن يداه نعمته وقدرته ، وكل هذا من لغة العرب .
ومما يدل على أن اليدين في الآية مجاز قوله تعالى : (( غلت أيدهم )) [ المائدة : 64 ] فالمراد الدعاء عليهم بالبخل فاليد المضافة إلى اليهود مجاز ، وليس المراد أن أيديهم مغلولة حقيقة ، فكيف يكون قوله (( يد الله مغلولة )) [ المائدة : 64 ] حقيقة وفي الآية(2) الأولى مجاز ؟!
قال المخالف : ولو كان المراد النعمة أو القدرة لما كان لآدم فضل على إبليس فإنه أيضا خلق بقدرته .
صفحہ 17
قلت : أخرج البخاري في كتاب التفسير باب تفسير سورة الإسراء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ...إلخ (1) . فذكر الحديث أن الناس يأتون إلى آدم ويقولون له بأن الله خلقك بيده ونفخ فيك من روحه مع قوله تعالى : (( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي )) [ الحجر : 29 ] ؛ فهل هذا اختصاص لآدم حقيقة مع أن الله قال في مريم (ع) : (( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا )) [ الأنبياء : 91 ] وعلى هذا نقول : كيف سألوا آدم عليه السلام وخصوه بشئ موجود لدى غيره كمريم عليها السلام .
فإذا عرفت أن المراد بقوله تعالى : (( لما خلقت بيدي )) [ ص : 75 ] أي بقدرتي أي لمصنوع ومخلوق من مخلوقاتي ، وليس المراد الاختصاص بدليل أن الناس سألوا آدم الشفاعة وذكروا له شيئا موجودا لدى غيره الذي هو نفخ الروح ؛ إذ أن الله نفخ في مريم ، وإلا فيلزم أن يكون آدم (ع) أفضل من نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يخلقه الله بيده ، والأمة مجمعة على أن محمدا عليه وآله أفضل الصلاة والسلام أفضل الأنبياء.
ومما يدل على عدم اختصاص آدم وعدم كون اليد حقيقة قوله تعالى : (( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون )) [ يس : 71 ] ؛ فالآية صريحة في أن الله خلق الأنعام بيده أي بقدرته ، والأيدي هنا جمع يد .
قال المخالف : لما كان لآدم فضل على إبليس.
قلت : لم يأمر الله الملائكة وابليس ان يسجدوا لآدم لأن آدم مفضل عليهم وذلك لأن سجودهم لآدم عليه السلام ليس شكرا لنعمة قدمها آدم عليه السلام لهم بحيث يستوجب شكره ، حتى ولو كان آدم أفضل منهم من ناحية الخلق فأن الموجد لذلك الخلق هو الله .
صفحہ 18
فلا علاقة إذا بين أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وبين كونه مفضلا عليهم وتخصيص الله السجود لآدم لحكمة وليست لأنه مخلوق من مخلوقات الله حتى يقال انهم مخلوقون كذلك .
مع انه لو قيل بأن معنى بيدي أي لمخلوق عجيب خلق ابتداء على صورته هذه من دون أن يمر بمراحل النطفة والعلقة والطفولة وما أشبه ذلك ، هذا المخلوق بقدرتي لما كان بعيدا من دون أن تكون علة السجود إذ لا علاقة .
ثم من هو الذي كان يمسك السماوات والأرض أن تقع أثناء خلق الله لآدم بيديه ؟ وهل عجز أن يخلق آدم على تلك الهيئة من دون يد
قال المخالف : إن الفعل عدي إلى اليدين ثم أدخل الباء وهذا نص صريح ...إلخ .
قلت : القرينة تخرج اللفظ من حقيقته إلى مجازه ؛ مثل قولنا : رأيت أسدا ونحن نشير إلى رجل، وقولنا: رأيت أسدا مع عدم وجود قرينة ؛ فالقولان متفقان في اللفظ مع أن أحدهما مجاز والآخر حقيقة ، والتفرقة بينهما كانت بالقرينة، والقرينة تكون عقلية ولفظية وحالية، وفي مثالنا القرينة حالية ، ولو قلنا بالحقيقة هنا لزم أن اليد هي الجارحة المكيفة بكيف معلوم ، والكيف المجهول غير معلوم في لغة العرب .
ويلزمكم على قواعدكم المنهارة المنهدمة في قوله تعالى : (( ونفخت فيه من روحي )) [ الحجر : 29 ] أن يكون لله نفخ لأنه أضاف النفخ إلى نفسه فقال : (( نفخت )) وروح لأنه أضاف الروح إلى نفسه فقال ((روحي)) فأضاف الروح إلى نفسه مع إجماع الأمة على أن الروح مخلوقة ، فهل الروح الذي نفخ فيها في آدم روح قديمة عندكم أم مخلوقة ؟! فتأمل...
قال المخالف : وماذا يقولون في قوله تعالى : (( والسماوات مطويات بيمينه )) [ الزمر : 67 ] هل المراد مطويات في نعمته ؟
صفحہ 19
قلت : إننا نقول بقدرته وقوته ؟! وأن العرب تعبر باليمين عن القوة ، وأن المراد بالآية أن قدرته نافذة وأنه لا يعجزه شئ ؛ قال تعالى : (( تأتوننا عن اليمين )) [ الصافات : 28 ] ، قال في القاموس : أي تخدعوننا بأقوى الأسباب انتهى . وانظر كلام صاحب الصحاح ، وهل عند هؤلاء المخالفين أن لله يدين يمين وشمال ؟!! قالت العرب : فلان في يمين فلان . أي متنفذ عليه بالأمر والنهي .
وأتمنى منهم أن يفسروا قوله تعالى : (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه )) [ فصلت : 42 ] وقوله تعالى : (( بين يدي رحمته )) [ الأعراف : 57 ] وقوله تعالى : (( بين يدي عذاب شديد )) [ سبأ : 46 ] ، فهؤلاء المجسمة ينكرون المجاز في القرآن والسنة ، وعليه نقول : هل للقرآن يدان ؟! وكذا العذاب والرحمة يا هؤلاء؟!!
قال المخالف : وليعلم أن مجئ اليد بمعنى النعمة أو القدرة في لغة العرب هو خلاف الأصل ولا بد فيه من القرائن.
قلت : اليد في الحقيقة هي الجارحة التي لها كيف معلوم ، وليس في لغة العرب يد حقيقية ليس لها كيف معلوم ، وعلى هذا نقول قال تعالى : (( ليس كمثله شئ )) [ الشورى : 11 ] ، واليد شئ والله نفى أن يكون له مثل من أي الأشياء ، وقال تعالى : (( لم يكن له كفؤا أحد )) [ الإخلاص : 4 ] ؛ فنفى عن نفسه أن يكون له مكافئ ، والعقل ناطق بأن الأعضاء والجوارح أجسام مخلوقة ، واليد في اللغة وفي حقيقتها هي الجارحة، والعرب لم يعرفوا ولم يضعوا في قاموسهم ولم يستعملوا في لغتهم يدا حقيقية وأرادوا بها يد الله عز وجل، فهذه هي القرائن العقلية والنقلية.
فإن قيل: المراد ليس لذاته ولا صفاته مثل؟
صفحہ 20