إهداء
شكر
مقدمة الرواية
1 - كواحة في صحراء
2 - ربيع مزهر!
3 - فصول لا تنسى
4 - أهو شتاء جديد؟!
إهداء
شكر
مقدمة الرواية
1 - كواحة في صحراء
2 - ربيع مزهر!
3 - فصول لا تنسى
4 - أهو شتاء جديد؟!
ساي
ساي
تأليف
سحر خواتمي وهبة اعرابي
إهداء
إلى كل قلب تألم حزنا وعانى فراقا.
إلى كل روح انتظرت قربا وتعبت اشتياقا.
إلى كل كسر لم يلق جبرا.
سحر وهبة
شكر
كل الامتنان لعلياء وحلا ورولا ومزنة لمساهمتهن في مراجعة سياق أحداث الرواية، ولفادي لدعمه التقني والإداري الدائم لنا.
سحر وهبة
مقدمة الرواية
ليست وحدها الأرض من تتعاقب عليها الفصول، لكنها وحدها من تملك فصولا بتوقيت منتظم ونمط متكرر. فمهما طال شتاؤها، فالربيع سيقبل، ومهما جف صيفها، فالخريف سيحل.
أما أنا، فآه لشتاءات قلبي، لا موعد لها ولا توقيت، لا مدة لها ولا تمهيد. شتاءاتي لا يعقبها ربيع، بل خريف طويل، أرمم خلاله ما أستطيع ترميمه، لأعيد التوازن لروحي، فيحل بعده صيف جاف، بنهار طويل وليل أطول، بوحدة دافئة وسكون مزعج.
مرت سنوات كثيرة ولم يفارقني صيفي، حتى إني نسيت بقية الفصول. لكنه أتاني فجأة ومن غير سابق إنذار، مزهرا وعاصفا في آن معا! أمطر قلبي بملايين الزهور، وأغرق روحي بمروج واسعة.
حاولت جاهدة الهرب منه، لكنه حاصرني من كل الاتجاهات. لم يطرق بابي ولم يستأذن، لم يسأل ولم يسمع جوابا، بل اقتحم قلبي اقتحاما، مجيبا كل الإجابات، على كل الأسئلة.
الفصل الأول
كواحة في صحراء
هيروكي
درست علوم الاقتصاد في جامعة طوكيو، منذ صغري وأنا أهوى العمليات الحسابية، الإدارة، والتخطيط. لذا حينما أنهيت دراستي لم يكن صعبا علي أي اتجاه سأختار، فمن الواضح أني سأتابع عملي في المجال البحثي، فبعد حصولي على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، قمت بافتتاح مركز بحوث خاص بي، ومع الأيام أصبح هذا المركز أحد أكبر المراكز البحثية في مجال العلوم الاقتصادية على مستوى العالم، وما زلت أحاول الإشراف قدر الإمكان على كل تفاصيل البحوث المقامة في مركزي البحثي.
حيث إنه مع زيادة التخصص، أصبح لدينا في المركز العديد من الأقسام، ومنها ما هو بعيد كل البعد عن اختصاصي الخاص. لذا في بعض الأحيان أحتاج إلى مدربين خاصين في مجالات معينة ليقوموا بتدريب الباحثين والطلاب والمشرفين، وأولهم أنا البروفيسور هيروكي.
لم أشعر يوما أني اكتفيت من التعلم والقراءة والبحث، كما لم أشعر يوما أني سأكتفي أو سأصل لمرحلة الإشباع، ساعدني على ذلك، شغفي المبالغ فيه، وتفرغي التام له. فأنا الآن في الخمسين من عمري وما زلت عازبا من غير شريكة أو ولد؛ لذا كان وقتي ملكا لي، واستطعت الإبحار في مجال عملي وتحقيق أغلب ما خططت له في حياتي.
أنا هنا أقطن مع عائلة من نوع آخر، فأغلب الطلاب والباحثين يقضون أيام الأسبوع ويبيتون في المبنى التابع للمركز، فلهم شقق صغيرة هنا، يسافر أغلبهم في عطلة نهاية الأسبوع ليعودوا إلى منازلهم وعائلاتهم. أما أنا فيقع منزلي الخاص في الشارع المجاور للمركز. اعتدت أن أمضي ليلتي الجمعة والسبت أطالع الكتب في مكتبة المركز، بينما يخلد من بقي في المركز للنوم. كل شيء هادئ هنا، لا صوت ولا إزعاج ولا تدخل ولا أسئلة. فأنا أجلس وحدي، أنتقي الكتب التي أريدها بهدوء وعندما أشعر بالتعب أغفو معظم الأحيان في المكتبة. لكن الأمور لم تعد كما كانت سابقا، فقد أصبح هناك شخص آخر يشاركني مكتبتي التي كانت هادئة، إنها الدكتورة ساي شوجا.
عندما قرأت السيرة الذاتية للدكتورة ساي من بين العديد من المتقدمين لفت انتباهي طريقة كتابتها لها، لدي طريقة خاصة باختيار الموظفين والباحثين في مركزي، فأنا لا أعتمد فقط على ما يتم كتابته من مهارات وتاريخ طويل من الخبرة، هناك شيء أراه بين السطور، لكن في حالتها لم يكن هناك سطور أصلا، هي بضع كلمات كما لو أنها تعرف بها عن نفسها في موقع تواصل اجتماعي مع قليل من الأمور المهنية.
ما حدث هو أنه قد أبدى بعض الباحثين والطلاب في قسم الاقتصاد السلوكي حاجتهم لخبراء وعلماء نفس، فلم أكتف بمختصي المجال النفسي والاجتماعي، بل قمت بوضع إعلان لأطباء نفسيين أيضا، فأنا أحب التكامل بين العلوم وضم بعضها مع بعضها الآخر. قمت بانتقاء ثلاثة ملفات من بين مائة ملف قام أصحابهم بالتقدم لتلك الوظيفة، كان ملف الدكتورة ساي أحدهم. حين أتت الدكتورة ساي إلى المقابلة كدت أن أطردها من المكتب لولا الآداب العامة للظرف الذي نحن فيه. بدأت المقابلة بطريقة غريبة وانتهت بطريقة أغرب، وكنت على وشك رفضها إلا أنني ترويت قليلا. خلال العشرين عاما الماضية، قمت بإجراء أكثر من ألف مقابلة مع موظفين، باحثين، دكاترة، وطلاب، لم أر في حياتي أحدا منهم أتى إلى المقابلة بملابس رياضية وحذاء رياضي! لكن تلك الطبيبة فعلت! لا أحكم على الأشخاص من خلال مظهرهم، لكن ليس إلى هذا الحد! ألا تستطيع أن ترتدي ملابس عادية، أمن الضروري أن تختبر عدم انحيازي للشكل إلى هذا الحد!
حاولت أن أكون حياديا قدر الامكان، فقد علمت عن مدى مهارة الدكتورة ساي في اختصاصها وتميز أسلوبها وانفراده عن غيرها من الأطباء النفسيين. وهذا كان واضحا من المقابلة، لا أعلم ما هي الصفة الأنسب لتلك المرأة، حقا هي متفردة بطيشها مع أنها في الأربعين من عمرها، إنها شخص مرح جدا، صوتها مرتفع أغلب الوقت ولا أعلم لم كل هذا المرح والفرح!
بعد طول تفكير، وجدت نفسي أختار ملفها من بين الثلاثة، أعتقد أن هناك شيئا جديدا تستطيع إضافته لنا. تواصل معها الموظفون المسئولون عن الأمور الإدارية وتم الاتفاق على أن تعمل بدوام جزئي في المركز لأنها لا تستطيع الاستغناء عن العمل في عيادتها. دوامها الجزئي سيكون في أيام العطل، ستأتي إلى المركز يوم الجمعة مساء وتغادر يوم الأحد؛ أي إنها ستبيت في المركز ليلتين لأن بلدتها بعيدة عن المركز. فالدكتورة ساي تستطيع التفرغ أيام العطل فهي غير ملتزمة مع عائلة أو أطفال، فقد علمت أنها كانت متزوجة ولكنها انفصلت عن زوجها منذ مدة طويلة. لكن لم أعلم أنها أيضا تمضي ليلها بين الكتب، المشكلة ليست هنا، المشكلة أن الدكتورة ساي لا تستطيع الجلوس بهدوء حتى في المكتبة. في الليلة الأولى، اعتقدت أن كل شيء سيكون على ما يرام، لكن ما حدث هو أنني لم أستطع أن أقرأ ولا حتى صفحة واحدة! بينما هي قرأت كتابها، واستمتعت بوقتها، وأفسدت علي كل شيء! لم أبد استيائي مباشرة، لكني قررت أن أنبهها إن تكرر الأمر، سأخبرها أن المكتبة ليست مكانا لتبادل الأحاديث والأكل، إنها لا تكف عن التهام رقائق البطاطا والحلويات واحتساء الشاي طيلة فترة مكوثها في المكتبة. سأجد لها حلا إن عاودت ما فعلته الليلة القادمة.
وكما توقعت في اليوم التالي، حل الليل، وفي الساعة العاشرة، ذهبت إلى المكتبة لأراها قد سبقتني إلى هناك واحتلت مكاني أيضا، يا للوقاحة! تجاهلت الأمر، وألقيت التحية وجلبت كتبي. بينما بدأت هي بالكلام والمضغ والضحك. - دكتورة شوجا، أود التركيز، هل لي بذلك؟ - أوه! لقد أزعجتك، أنا آسفة حقا، لكن أرجوك نادني باسمي الأول، لا أحد يناديني باسم شوجا أبدا ولم أعتد عليه طيلة حياتي. - حسنا كما تشائين!
عاد كل منا إلى كتابه، استطاعت أن تجلس لمدة ساعتين بشكل هادئ ثم عادت إلى حركتها المفرطة. مضت تلك الليلة وكنت سعيدا أنها في الليلة القادمة ستكون قد عادت إلى بلدتها.
خلال شهرها الأول في المركز، كنت أراها في المكتبة، لكنني لم أكن ألاحظها أبدا في المركز. شيئا فشيئا بدأت أراها في حديث الجميع. الجميع هنا في المركز يتحدثون عنها، عن أسلوبها المتميز. عندما سمعت ذلك اطمأن قلبي أنني اخترت لهم الشخص المناسب. أصابني بعض الفضول لأرى أداءها، وليتني لم أره!
هيروكي
كان انطباعي سيئا جدا، لن أنسى ذاك المشهد ما حييت. عندما كنت أتجول بين قاعات المركز تذكرت أنها تكون في القاعة الكبيرة للمركز في يوم الجمعة. طرقت باب القاعة ودخلت، فرأيتها وهي واقفة على الطاولة في قمة حماسها كما لو أنها تقدم عرضا مسرحيا! لا أعلم عن ماذا كانت تتحدث، ولا أعلم ضرورة وأهمية ومبرر حماسها ووجودها فوق الطاولة في تلك اللحظة، لكن هذا المشهد لم يعجبني بتاتا!
ما أزعجني أكثر هو أنها حين رأتني ألقت السلام وبقيت على حالها، بل إنها دعتني للدخول وحضور المحاضرة وهي بهذا الشكل المزعج، بلا أي شعور بخطأ الموقف. لم أطل وقوفي، أجبتها أن لدي أعمالا أخرى وعدت إلى مكتبي غاضبا جدا. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أرى تصرفات طائشة هنا وهناك، بينما الجميع يمتدحها. هذا الشيء الوحيد الذي جعلني أطيل من صبري عليها. أما في المكتبة فبت أتجنبها كي لا تزعجني، فإن كانت في الجناح اليميني للمكتبة، كنت أنتقل إلى اليساري أو العكس. أنا في المركز لا أتسامح إطلاقا مع أي شيء قد يعطل عملنا وإنجازاتنا، وطالما أن تأثيرها إيجابي، فلا بأس! أنا لا أدع الأشياء الشخصية تؤثر على قرارتي، فطبيعة عملي تجبرني على التعامل مع كافة أنواع الناس، فاعتدت التعامل مع الجميع بشكل دبلوماسي، وصارت لدي خبرة لا بأس بها في معالجة هذا النوع من الأمور. إلا أنها رغم تجنبي رؤيتها ما زالت تصر على اختبار صبري!
في المركز نقوم بشكل أسبوعي تقريبا بإرسال أوراق بحثية لمجلات علمية عالمية ومؤتمرات وورش عمل. لذا بالمقابل، نستقبل ردودا فيما يتعلق بتلك البحوث بشكل أسبوعي أيضا، مفادها فيما إذا ستتم الموافقة عليها أم لا، وعن التعديلات التي علينا أن نجريها في حال تم اعتماد البحث وقبوله للنشر. أما أنا فتصلني النتيجة النهائية حينما يتم قبولها بشكل نهائي عن طريق رسالة ترسل إلى بريدي الإلكتروني من قبل الكاتب الأساسي للورقة البحثية سواء أكان طالبا أم باحثا، وذلك لكي أقلل قدر الإمكان عدد الرسائل التي تصلني في اليوم، فيتسنى لي قراءة الرسائل التي تتطلب ردي بشكل شخصي. لكن كيف ستستطيع تلك المرأة المندفعة أن توقف حماسها وألا ترسل الورقة البحثية التي شاركت بها والتي تم قبولها بشكل مبدئي؟ كلما تقدمت الدكتورة ساي خطوة في عملها كانت ترسل لي نسخة عن تلك الرسائل، وبذلك باتت تظهر لي في بريدي الإلكتروني حتى إن لم تظهر لي في الواقع!
بعد مرور شهرين على هذه الحال، قمت بإرسال رد على إحدى تلك الرسائل ومفاده:
السيدة الدكتورة شوجا
شكرا على رسائلك، لكن لا داعي لإعلامي بكل الخطوات التي تقومين بها، يكفي أن يتم إعلامي حالما تنتهي كل المراحل بأن العمل تم قبوله وسيقدم في التاريخ والمكان المحدد.
أنا أثق بكل الباحثين في مركزي، وأنا هنا المدير ولست على اطلاع كامل بكل التفاصيل، كما أن بريدي الإلكتروني لا يتسع لكل هذا العدد من الرسائل.
أشكر تفهمك، تحياتي،
هيروكي
لم ترد على رسالتي أبدا، ولم تعد ترسل أي معلومات ورسائل بعد ذلك. تجاهلتها فهذا جيد، لا أريد أن أرى اسمها يوميا في صندوق البريد الإلكتروني. مضى عدة أسابيع وهي مختفية تماما، لم أعلم أين هي، فافترضت أن لديها إجازة، فلست أنا من يشرف على الإجازات، وأنا لا أعلم متى يكون الموظف في إجازة، إلا إن قمت بسؤال مشرفه. ثم يبدو أنه مر وقت طويل وأنا لا أراها في الأرجاء حتى إني نسيت وجودها هنا.
هيروكي
مضى على وجود الدكتورة ساي معنا أكثر من شهرين، أعتقد أنه قد حان الوقت لأعلمها بالمهمة الأخرى التي كنت أتطلع لها؛ فقد كان أحد أهم الأسباب الأخرى التي دفعتني لتوظيف طبيب نفسي في المركز هو أن يرى خفايا لا أستطيع أن أراها أنا بين الموظفين، أريده أن يتحدث إليهم، يساعدهم حينما يرى أن هناك خللا ما في وضعهم النفسي. كنت أود الإفصاح عن تلك الرغبة حالما أجد الفرصة المناسبة؛ لذا قررت أن أحتك مع الموظفين أكثر لأرى مدى تقبلهم للدكتورة ساي بشكل عام. في معظم الأحيان أتناول طعام الغداء في مكتبي الخاص نظرا لضيق الوقت، فأطلبه إلى مكتبي ونادرا ما أذهب إلى المطعم الخاص بالمركز، لذا صرت أتردد على المطعم أكثر وأحاول أن أتحدث أكثر مع الموظفين بين ساعات العمل، وعندما سألتهم عن الدكتورة ساي من خلال حديثي معهم اكتشفت أنه لا داعي لإخبارها بهذه المهمة أبدا! فقد قامت الدكتورة ساي بالمهمة وحدها. جميع الموظفين اعتادوا أن يزوروا مكتبها ويتحدثوا إليها عن أمورهم ومشاكلهم بانفتاح شديد، شعرت مجددا بفخر لمهارتي في اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب، هذا جيد، لكن ما عكر صفوي مجددا حولها هو أن الجناح الأيمن للقراء في مكتبة المركز سيتم إصلاحه؛ أي إنني سأضطر للجلوس في الجناح نفسه مع تلك المشاكسة، وأنا حقا لا أحبذ ذلك، فهي امرأة مفرطة الحركة، وأنا لا أنعم بجلسة قراءة صافية إلا إن كانت المكتبة هادئة جدا. أذكر أنها كانت قد كتبت في سيرتها الذاتية أنها تحب ممارسة اليوغا، أشك أنها تستطيع الجلوس ولو لدقيقة واحدة بهدوء، فكيف لها أن تمارس اليوغا؟ لا بد أنها يوغا على طريقتها الخاصة!
أتى الأسبوع المقبل، وبدأت المعاناة: تدخل الدكتورة إلى المكتبة فتحدث كل أنواع الضجيج والفوضى وتزعجني. ذات ليلة أتت راكضة وهي تحمل أكوابا من الشاي والعصائر، وكعادتي تمتمت في نفسي: ستوقعها، وستتلف الكتب حولها! وما إن أنهيت جملتي تلك حتى رأيت كتابي ملطخا بالقهوة، لكن ليس مما في يديها، بل مما في يدي. فلقد سكبت قهوتي على أحد الكتب القيمة. ذعرت وبدأت بنفض القهوة عن الكتاب بطريقة عشوائية، فصرخت الدكتورة ساي: مهلا توقف!
وضعت أغراضها ثم أتت بمنديل خاص وبدأت بتجفيف الكتاب بخفة شديدة. راقبت حركات يديها وهي تقوم بتجفيفه بعناية فائقة، لقد كانت طريقتها بارعة ونظراتها للكتاب كانت ساحرة. في قلبي لمت نفسي على الظن السيئ بها دوما، وهذه المرة أنا الذي سكبت قهوتي على الكتاب وهي من قامت بتنظيفه. ثم قامت، بحسها الأنثوي، بتنظيف الطاولة والأرضية مع أنها ليست مضطرة لفعل ذلك، ثم نظرت إلى قميصي وقالت: بروفيسور، قم بتبديل قميصك حالا!
عندما قالت لي ذلك بصيغة الأمر، أعادت لي ذكريات كنت قد نسيتها تماما، فمنذ سنين لم أسمع صيغة الأمر من أنثى! كان ذلك قبل عشرين سنة، حين قالت لي والدتي قبل وفاتها بسويعات: آكي! وأنت تعيش حياتك، لا تنس أن تحياها، لا تنس أن تكون لك عائلة.
كيف تنبأت والدتي أنني لن أكون عائلة طوال تلك السنين؟ لا أعلم. نعم، لقد نسيت صيغة الأمر ونسيت ذاك الأمر ونسيت أمورا كثيرة. مر ذاك الشريط من الأفكار أمامي بينما كانت الدكتورة ساي تنظف الأرضية ونسيت حتى أن أشكرها، نظرت إلي مجددا وقالت: بروفيسور هل تسمعني؟ - نعم، سأقوم بتبديله، شكرا.
عدت إلى غرفتي وأنا ما زلت أرى وجه والدتي، ومدين لتلك المشاكسة، لكن من حسن حظي أني قمت برد الدين في الأسبوع الذي تلاه مباشرة. وذلك حين وصلت الدكتورة ساي من بلدتها وكانت تود القيام بركن سيارتها. حين رأيتها أصبت بالدهشة، فهي لا تمتلك أدنى فكرة عن كيفية المناورة لركن السيارة بطريقة صحيحة، رغم أن مواقف السيارات عريضة في مرآب المركز ومع ذلك كانت تصارع المقود والمرايا. كنت أراقبها وهي لا تعلم أن أحدهم في المرآب. ظلت تحارب ما حولها عشر دقائق إلى أن أشفقت عليها، تركت سيارتي وتوجهت نحوها: دكتورة ساي، أأساعدك؟ - لا مانع لدي، فقد انتهت طاقتي تماما، منذ الساعة الخامسة وأنا خارج المنزل، وعندما أكون مرهقة، لا أستطيع التركيز إطلاقا، تفضل المكان لك.
وانتقلت إلى المقعد المجاور من غير أن تخرج من السيارة بحركة رشيقة جدا لتعطيني المجال. كانت سيارتها صغيرة مقارنة على ما اعتدت عليه، عدلت وضع الكرسي الأمامي كي يناسبني. كان صوت الأغاني عاليا جدا وكانت الدكتورة ساي تكمل انسجامها مع تلك الأغاني مع أننا على وشك النزول. تفوح من سيارتها رائحة لطيفة على عكس الكثير من سيارات أصدقائي التي تفوح منها رائحة السجائر أو الطعام السريع. على المرآة الأمامية هناك أشكال صغيرة تتراقص هنا وهناك. كل شيء في هذه المساحة الصغيرة كان لطيفا، وبه تفاصيل لطيفة لم أعتد أنا شخصيا عليها. عندما ألقيت نظرة سريعة على الحائط الذي خلف السيارة كي لا نصطدم به، لاحظت وجود كثير من الأشياء على المقاعد الخلفية، يبدو أنها مثلي، لا تستخدمها أبدا، أو بالأحرى لا أحد يستخدمها، فأنا لا أذكر أن أحدهم قد جلس على المقاعد الخلفية لسيارتي، ومن لا يعلم هذا الشعور لا يستطيع تمييزه في سيارات الآخرين.
على أي حال، قمت بركن السيارة في مكان مناسب فشكرتني جدا، نزلنا من السيارة فسمعت صوتا كما لو أنه صوت انفجار، لا أعلم لم أغلب السيدات يقمن بإغلاق أبواب السيارة بهذه الطريقة! فقد لاحظت هذه الملاحظة منذ بدأت التعامل مع زملائي وزميلاتي في العمل أكثر. نعم فقد بدأت مشاركتهم العديد من النشاطات يوميا. بت أتردد أكثر على مطعم المركز لمشاركة الموظفين طعام الغداء، أحتسي فنجان قهوة مع بعضهم، أتنزه قليلا بين ساعات العمل مع الطلاب، أشاركهم أحاديثهم العامة التي لا علاقة لها بالعمل أو الأبحاث.
بدأت بحفظ وجوههم أكثر وربطها مع أسمائهم، فسابقا لم أكن أعلم إلا الأسماء وهي مرتبطة بالإنجازات، كما لو أننا آلات! أما الآن فأنا مستمتع جدا بمعرفة تفاصيل عن حياتهم الشخصية، عن طريقة كلامهم وتعابيرهم، عن شخصياتهم وآرائهم. هكذا يكون حالي في كل أيام الأسبوع، ما عدا يومي الجمعة والسبت. فهناك موظف واحد يسرق انتباهي، تلك الابتسامة، هاتان العينان، وتلك الحركات العفوية، التعابير الطفولية، حركة اليدين، الثواني القليلة التي تسكن بها، ثم الانفجار العظيم حين يحل حماس الكون عليها، لمعة عينيها حين تتحدث عن شيء تحبه كما لو أنها برق يضرب في السماء. بت أستمتع بمراقبتها رغم انزعاجي الدائم منها في المكتبة، فما زالت تلك المرأة تحدث الكثير من الضجة هنا وهناك، وما زالت تزعجني في المكتبة في الليالي التي تقضيها في المركز. مضت عدة شهور على هذه الحال. لن أنسى ذاك اليوم حين نفد صبري، فقلت لها بينما هي منهمكة في التهام أطعمتها غير الصحية: سيدتي، هل تعلمين ضرر ما تفعلين؟
أجابتني بصوت بالكاد يفهم وما زال فمها ممتلئا بالطعام: عن أي ضرر تتحدث حضرة المدير؟
كان ذاك واضحا، حضرة المدير، إنها تسخر مني! تمالكت أعصابي وأجبتها: هذه الأشياء المبتذلة التي لا تتوقفين عن تناولها، سيدتي، عليك أن تذكري أنها مضرة بالصحة. عليك الاهتمام بصحتك في هذه المرحلة من عمرك! - عمري؟
ضحكت بصوت عال، اقتربت مني وقالت لي بصوت خافت: سيدي، عليك أن تتذكر أن الغليون مضر بالصحة، عليك الاهتمام بصحتك خاصة في هذه المرحلة المتقدمة من عمرك!
وكأننا في نزال، ما هي إلا نصيحة أردت أن أسديها لها. لقد طفح الكيل حقا، أخذت كتبي، نهرتها بنظرة ازدراء وخرجت من المكتبة. بعد أن رميت هذه الكلمات: لقد أصبح هذا المكان غير صالح للمطالعة!
عدت إلى غرفتي وأنا غاضب وحانق عليها. كانت تلك ليلة الأحد، أي في صباح الأحد ستغادر ولن أراها للأسبوع المقبل، وذلك أفضل!
مضت أيام ذلك الأسبوع بثقل، كنت وبلا شعور أنتظر عودة يوم الجمعة. لم أعر ذلك الشعور اهتماما. لكن حين أتى يوم الجمعة، أتت الدكتورة ساي في ذلك اليوم إلى الاجتماع الدوري حيث كان علينا أن نجلس معا في مهام بعد الاجتماع. كانت الدكتورة ساي على غير طبيعتها، فقد بدت هادئة جدا، تبتسم بين الحين والآخر بينما في حالتها الطبيعية تملأ المكان بالضحك. ابتسامتها كانت مصطنعة وجافة. هل ذلك بسبب ما حصل الأسبوع الماضي؟ سألت نفسي، لكن هذا أفضل، عليها أن تلتزم الهدوء أكثر وتحترم المكان. مضى ذلك اليوم وحين حل الليل، ذهبت إلى المكتبة، لم تكن الدكتورة ساي قد أتت بعد. وضعت كتبي، وبدأت بالقراءة، لم أكن أستطيع التركيز مطلقا فقد كنت أنظر إلى الساعة والباب طيلة الوقت، أين هي؟ لقد انتصف الليل ولم تأت بعد!
بقيت بعدها أكثر من ساعتين في المكتبة لكنني لم أقرأ شيئا. هل حقا كنت أنتظر تلك المزعجة؟ هل اعتدت على التركيز بوجود ضجيجها اللامتناهي؟ أم أني قلق عليها؟
هيروكي
أرسل في كل عام دعوة لحفل نقيمه في المركز في آخر الصيف في التوقيت نفسه الذي يقام فيه المهرجان في البلدة، فيتسنى لنا أن نرى الألعاب النارية من شرفات المركز معا، فبعض الموظفين ليس لديهم عائلات أو شركاء، وبالعادة نتشارك تلك اللحظات أفضل من أن يقضيها كل واحد منا وحيدا. أرسل تلك الدعوات عبر البريد الإلكتروني فيقوم الجميع إما بقبول الدعوة أو رفضها إن لم يكونوا يستطيعون حضورها. لا أذكر أني راجعت أسماء من قبلوا الدعوة في يوم من أيام حياتي، لكن هذه المرة هي الوحيدة التي كنت أنتظر ردا من أحدهم. مضى أسبوع على إرسالي الدعوات، وقد رد معظم الموظفين في المركز ما عدا البعض منهم ومن بينهم تلك التي أنتظر ردها. أفتح يوميا صندوق البريد الوارد، وأبحث عن رسالة تخبرني هل ستأتي أم لا! وفي آخر المطاف أرسلت الرد، بأنها لن تأتي! أغلقت غطاء جهاز الحاسوب بغضب ثم مضيت إلى أحد المخابر، لا أريد أن أرى هذه الرسالة مجددا!
عزيزي البروفيسور هيروكي
أشكرك على الدعوة، لكني لن أستطيع القدوم.
تحياتي
ساي
منذ متى والدكتورة ساي ترد بطريقة مهنية؟ توقعت أنها ستشرح سبب عدم مجيئها، فهي دائما تشرح وتسترسل، ألم تدرك معنى المهنية إلا الآن!
أتى يوم الحفل وكان يوم السبت، لا أعلم ما هو سبب رفضها للمجيء، لا بد أن لديها أصدقاء تشاركهم المهرجان. كنت أتخيل كم ستكون فوضوية في المهرجان وكيف ستقوم بتجربة كل الألعاب وكل أنواع الطعام، وسيكون صوت ضحكتها أعلى ما في المهرجان. وبينما كنت أتخيل مدى اندفاعها بدأت الألعاب النارية بالانطلاق. وفجأة لاحظت أن أحدهم يقف في شرفة الطابق السفلي، استغربت جدا، من ذاك الذي يأتي إلى المركز ويجلس وحيدا في ساعة كهذه؟ دققت أكثر فإذا هي ساي! تركت المكان من فوري وانطلقت إلى الطابق السفلي، فقد دفعني الفضول لأرى ما بها. عندما اقتربت من باب الشرفة سمعت صوتا وكأنه صوت بكاء. - دكتورة ساي؟
قامت بمسح دموعها مباشرة. - أهلا بروفيسور هيروكي، عمت مساء، كيف حالك؟ - بخير، ما بك؟ ولم أنت هنا وحدك؟ - لا شيء، أنا بخير، شعرت أنني أود استنشاق هواء طلق فخرجت، تصبح على خير. - انتظري قليلا، أود أن أسألك سؤالا واحدا فحسب. - تفضل. - لم لم تأتي إلى الحفل؟ لم لم تعودي ترتادين المكتبة؟ هل بسبب ما صدر مني من كلمات في المكتبة المرة الماضية؟
ابتسمت ثم قالت: لا أبدا، ليس هذا هو السبب. ثم أليس هذا أفضل؟ تستطيع الآن مطالعة كتبك بهدوء.
ثم مضت. ما تزال ليست بمزاجها الطبيعي وتهربت من مواجهتي وهي تبكي. لم أرد أن أتدخل في شئونها أكثر. انتهت الحفلة فعدت إلى المكتبة، لكنني لم أقرأ شيئا، ظللت أفكر: لماذا هي حزينة؟ في الأسبوع التالي لم تأت أيضا إلى المكتبة ليلة السبت. كما لم أستطع القراءة، كنت أنظر إلى كتبها وأطعمتها التي كانت تحتفظ بها في حال احتاجت إليها على أحد رفوف المكتبة، لا أعلم لماذا أفتقدها؟ لكن حينما حلت ليلة الأحد، أتت ساي إلى المكتبة وجلست لفترة قصيرة جدا. كأنها تؤكد لي ألا علاقة لما حدث بتوقفها عن ارتياد المكتبة، ثم مضت. كانت أشد حزنا من الأسبوع الذي مضى، مع أنها كانت تحاول أن تكون على طبيعتها وتضحك وتتحدث. لكن في عينيها حزنا عميقا أستطيع أن أراه بسهولة. لحقت بها فرأيتها في الشرفة تنتحب بصوت خافت جدا، لا بد أنها من ذلك النوع الذي يخفف آلام الناس ولا يرغب في أن يشاركه أحد أحزانه. ساي تخفي شيئا في قلبها، أردت أن أجبرها على إخباري بما يزعجها، لكن كيف أستطيع أن أتحول إلى ذلك الشخص العفوي الفضولي وأسألها بشكل مباشر، لا أستطيع ذلك حقا. وجدت طريقة أخرى لأتمكن من سؤالها من غير أن تراودها أي شكوك حول غايتي الحقيقة، غايتي الحقيقة؟ لم أنا مهتم جدا؟ أبدو غريبا بعض الشيء! - دكتورة ساي! - بروفيسور هيروكي منذ متى وأنت هنا؟ - الآن، دكتورة ساي هناك أمر علي أن أخبرك به غدا؛ لذا من فضلك تعالي إلى مكتبي في الصباح. - حسنا! - الجو بارد قليلا الليلة، لا تبقي هنا في الخارج. - شكرا، سأكون بخير. - كما تشائين.
ساي
ككل عام، وكطقس من طقوس أشهر الصيف الجاف، تثقلني ذكرياتي، ويمر هذان الأسبوعان بمرارة شديدة. منذ عشرين سنة، تماما في بداية الصيف، بدأ حبنا أنا وهاك. كنا في السنة الثالثة في أثناء دراسة الطب. أخبرني هاك أنه قد وقع في حبي منذ المرة الأولى التي رآني فيها في المختبر بينما كنت أصرخ وألاحق الضفدع الذي كان علينا أن نشرحه. في ذلك اليوم اشتهر اسمي في أرجاء الكلية، ساي التي أفسدت المختبر، فلقد أفسدت المختبر بأكمله وأنا ألاحق الضفدع الذي أضعته، حيث إنني أزلت المثبتات من عليه بدافع الفضول! يا لها من شهرة وسمعة سيئة. لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد كنت أطرد في بعض الأحيان من المحاضرات بسبب ثرثرتي المتواصلة. أذكر أنه في يوم من الأيام قام المسئول عن المختبر بتأنيبي بشدة، لكني حقا لم أكن قد فعلت شيئا خاطئا. دافع هاك عني في لحظتها بشراسة ونبل. أحببت هاك، أحببته ليس بسبب هذا الموقف، بل لأنه كان حولي ويدعمني دائما. يساعدني على التركيز ويعطيني ملاحظات مهمة لم أكن لأسمعها في حياتي، كان لطيفا وحنونا جدا. عشنا قصة حب رائعة، كان هاك هادئا يحب أن يراني وأنا أقفز في كل مكان، كان يقول لي دائما: إن كل أحزانه وهمومه تزول حينما يرى ابتسامتي. توجنا حبنا بالزواج، عشنا خمس سنوات من الانسجام والتناغم. كلانا بقي كما هو، وكلانا أحب الآخر كما هو. لكن شيئا فشيئا بات هاك يبدي استياءه من تصرفاتي، رغم أنني لم أتغير مطلقا. بدأت مشاكل لم تكن موجودة بالظهور، شعرت أنه يختلق المشاكل من لا شيء، لم أكن أفهم ما يود الوصول إليه تماما. أذكر في ذلك اليوم حين اقترحت عليه فكرة إنجاب طفل، كانت ردة فعله عنيفة جدا وأبدى رفضه للفكرة. بعد مرور سنة وصل بنا الأمر إلى حد لا يطاق، كنت أرى في عينيه أنه لم يعد راضيا عن أي شيء صادر من قبلي، وبدأت أنا بفقدان كل طاقة الحب التي امتلكتها له.
الطلاق! كيف وصلنا إلى هذا الحد، لا أعلم. لكني أعلم أنني لغاية ذلك الصيف، كنت أحاول كل جهدي ألا أخسره. لكن لا بد أنه قد اتخذ قراره وانتهى الأمر.
أنا في مزاج سيئ الآن، كان علي أن آخذ إجازة من عملي وألا آتي إلى المركز. أشعر كما لو أن تلك الذكريات تخنقني، بدأ حبنا بالصيف وانتهى بالصيف، والآن مضى على طلاقنا عشر سنين. ما زلت أذكر كلمات وداعه الأخيرة حين قال لي «عليك أن تنضجي أكثر ساي، أتمنى لك حياة سعيدة.» رائحة أشجار الفاكهة تشعل كل الذكريات في قلبي. لذا حين أخرج إلى شرفة المركز أرى دموعي تذرف من غير شعور. لست نادمة على شيء، لكنني أرثي ذكريات عشتها وعشت تفاصيلها.
ولكي يزداد الأمر سوءا، رآني البروفيسور هيروكي مرتين وأنا أبكي. أضحكني عندما سألني إن كنت لا أرتاد المكتبة بسبب ما قاله لي فيها عن إزعاجي له، هل هذا سؤال يسأل لساي؟ لا بد أننا سنصبح صديقين في المستقبل. رغم أنه لا يتحملني مطلقا، إلا أنه لطيف ومحترم، وأنا أقدره جدا، سأخبره عندما يتحسن مزاجي إن كان يقبل صداقتي، سأعتز به حقا إن أصبحنا أصدقاء.
هيروكي
لم أستطع النوم جيدا تلك الليلة وأنا أحاول أن أنمق ما أود أن أقوله لها، من غير أن تشعر حيال فضولي بأي شيء. مشكلتي أنها خبيرة نفسية وعلي أن أكون أبرع منها في ذلك المجال. مرت ساعات الليل ثم طلعت الشمس أخيرا، توجهت إلى مكتبي لانتظار تلك المشاكسة التي باتت تزعجني حتى في عدم وجودها حولي. خطتي كانت بأن أخبرها أنها وبصفتها الطبيبة النفسية للمركز فعليها أن تكون بمزاج جيد لأنها ستؤثر على البقية. حينها سأجبرها على الاعتراف وأن تخبرني بالذي يزعجها. تبدو الخطة ساذجة جدا، لكن لا بد أن أجعلها تضعف فتخبرني لم هي حزينة. أود حقا أن أعلم لم هي حزينة، وأن أساعدها. طرقت ساي باب المكتب ودخلت، كانت تبدو أكثر إشراقا عن ذي قبل، وهي بحالة جيدة وبمزاج جيد جدا. فقد حيتني تحية عسكرية وهي تقول: صباح الخير سيدي. - أهلا دكتورة ساي تفضلي. - شكرا.
وجدت نفسي مع مزاجها الجيد في مشكلة، فلقد أفسدت الخطة بالكامل، كيف سأبدأ الحوار وما الذي علي قوله؟ فأنا من استدعاها. حاولت أن أختلق موضوعا متعلقا بالعمل أتحدث فيه، لكن تلك المرأة لم تكن لتقتنع أنني جلبتها منذ الصباح الباكر لأخبرها بمعلومات ثانوية عادة ما أرسلها عبر البريد الإلكتروني في نهاية كل أسبوع. ازداد الأمر سوءا أنها في مزاجها الاعتيادي، هذا يعني أنني لن أنتهي منها بسهولة، حين أنهيت كلامي معها وقلت لها: حسنا دكتورة ساي هذا كل ما في الأمر!
اقتربت مني، وحدقت في عيني وهي تقطب حاجبيها، شعرت بإحراج شديد، ثم قالت: بروفيسور هيروكي! هل تريد أن تقنعني أنك قد استدعيتني لتقول لي هذه الأمور فقط؟ - نعم! - كن معي صريحا، أشعر أن هناك شيئا آخر تود أن تقوله، هذا واضح تماما. كما أن هذا الشيء يبدو محرجا لذا حاولت التراجع عنه وبدأت بالحديث عن شيء آخر. بروفيسور هيروكي، إن كنت تفكر بالاستغناء عن خدماتي في المركز بسبب الضجة التي أحدثها هنا، فاعلم أنني أحب هذا المكان ولا أريد أن أتخلى عن عملي. أخبرني إن كانت لديك أي ملاحظات وسأكون عند حسن ظنك، لا تقلق. أما أن تفكر بإقصائي فلن أسمح بذلك مهما كلف الأمر.
ارتحت عندما اعتقدت ساي أن الأمر كذلك، فأجبتها: ملاحظات! نعم لدي الكثير منها، على أي حال لا تقلقي لن نستغني عنك. وبالمناسبة جلبت مجموعة كتب جديدة، لا تفوتيها. - بالطبع لا، عند العاشرة، لكن لدي طلب! - ما هو؟
نظرت إلي بخجل، شعرت أنها ستطلب أمرا محرجا جدا. - هل أستطيع أن أجلب معي القليل من الحلويات إلى المكتبة؟
تلك المرأة لا تفكر إلا بالطعام مع أنها رشيقة جدا. أومأت لها بالإيجاب، ثم خرجنا لتفقد العمل في الخارج. وأخيرا عادت ساي إلى حالتها الطبيعية، مع أنني ما زلت أود أن أعلم ما كان بها، وأن أشعر بأنني قريب منها. لا أفهم نفسي، لكنني بت مهتما لأمرها.
هيروكي
مرت عدة أسابيع صعبة من العمل الشاق في المركز، كان الفريق بأكمله يعمل بجد شديد. كنا نصل الليل مع النهار، إلى أن خفت وطأة العمل قليلا. حينها عدنا إلى نقاشاتنا الأسبوعية أنا وساي. فلقد أصبحنا أصدقاء، ووجدت أن النقاش معها ليس إزعاجا كما كنت أظن سابقا، بل كان يغني طريقة تفكيري جدا. كنت أستمتع بمناقشة المواضيع التاريخية والنفسية والعملية معها، فهي تمتلك معارف واسعة الطيف، أحببت نظرتها إلى الأمور، نظرتها ليست إيجابية فحسب، بل كانت ملهمة جدا. فهمت الآن طريقتها بالطب النفسي، وكيف أنها تداوي الناس بفهم أعماقهم وإعطائهم ما ينقصهم، لا بما يقوله الطب النفسي؛ لأن لكل شخص احتياجاته الخاصة حتى لو تماثلت الأعراض. حدثتني كثيرا عن أمور كنت غافلا عنها. أحسد ساي، لأنها تمتلك الشجاعة بأن تكون الطبيبة والعالمة والمرأة بطريقتها الخاصة. إنها لا تضع نفسها بأي قالب يفرضه عليها المجتمع؛ لذا فهي صادقة ومحبوبة، نعم محبوبة!
مع الأيام، بدأ قلبي يخفق عند سماع اسمها، دقاته تتسارع حين أراها، وأتعرق حين أتحدث معها. وكثيرا ما أنسى المكان وأتأملها حين نكون في قاعة واحدة. أنتظر الأيام التي تأتي بها بفارغ الصبر، وألاحقها حيث أكون متذرعا بألف سبب. وصل بي الحد أن قمت بالبحث عنها على شبكة الإنترنت، لأقرأ كل ما تقوم بتدوينه. كل ما يصدر منها لطيف وجميل، جميل كجمال عينيها، لم تعد رؤيتها عن بعد خلال تلك الدقائق أو الساعات القليلة كافية لي. تفكيري يدور حولها: متى ستأتي؟ ماذا تحب؟ ماذا ستقول؟ ماذا ستقرأ؟ متى ستضحك؟ أجلس في المكتبة تائه الفكر، حين لا تأتي أضيع، وأفقد صوابي في انتظارها، أما حين تأتي فأضيع في التفكير فيها. هل تفكر بي؟ أم أنا وحدي الذي لا أملك تركيزي منذ أن رأيتها؟
ليتني بقوتها! تلك الواثقة من نفسها تقتحم بضوضائها سكينتي وتتركني مذهولا على أنقاض مكتبتي. أدركت أن قلبي متعلق بها كثيرا، بل أدركت أن هذا ما يسميه البشر، حبا! وفقا لما تؤمن به من أفكار، على الإنسان أن يعبر عما يشعر، هذا يعني أنه علي أن أعلمها بما أشعر من غير تحفظات، أي أن أخبرها بمشاعري الحقيقية نحوها! لا أدري ماذا ستكون ردة فعلها. لكنني تعلمت منها أن أكون مبادرا وألا أخشى العواقب حين أومن بما أفعل.
أتى اليوم التالي، الساعة العاشرة، ها هي ساي قد أتت. سأكون شجاعا الليلة وأخبرها بالأمر، لكن المشكلة أنني أشعر بتوعك صحي. لست على ما يرام وأخشى أن يزداد الأمر سوءا. فإن كان كذلك فسأؤجل الموضوع ليوم الغد. فأنا أريد أن أكون بكامل تركيزي. - بروفيسور هيروكي كيف حالك؟ - هيروكي، أخبرتك أن تناديني هيروكي وحسب. - حسنا لا بأس، هيروكي الوسيم كيف حالك؟ - وسيم؟ قلت لك هيروكي فقط! - فقط؟ ألم يخبرك أحد قبلي أنك وسيم؟ - عدنا لمزاحك! - لا أمزح، انظر إلى المرآة، لكن دقيقة، أنت لست على ما يرام! - ما الذي تعنينه؟ - هل تشعر بالتعب؟ فوجهك شاحب جدا. أي إنك حقا لست وسيما في هذه اللحظة لذا لا تنظر إلى المرآة الآن. أخبرني ما الذي يؤلمك؟ - لا شيء، توعك طفيف لكني بصحة جيدة.
دنت مني ووضعت يدها على جبهتي لتتحسس حرارتي، لكن كان ذلك محرجا جدا. وازداد الأمر سوءا حين طلبت مني أن تجري لي فحصا عاما. أعلم أنها طبيبة وتمارس عملها، لكن المشكلة أنها تعتقد أني أنظر إليها كصديقة لا أكثر، لكن الحقيقة ليست كذلك. لذا لم أكن أود أن تقترب مني أبدا، شعرت أن ذلك خيانة لمشاعرها. لذا كان لا بد أن أبعدها عني في تلك اللحظة. - ساي، أرجوك أنا بخير، لا أحتاج شيئا.
نهضت من مكاني، بينما نظرت إلي باستغراب شديد: هيروكي؟ ما الذي دهاك؟ ألا تثق بي؟ - ساي، ليس الأمر كذلك، لا تسيئي فهمي. - إذن ما الأمر؟ - سألتني ما الأمر! حسنا! أنستطيع التحدث في الشرفة؟ - نعم بالتأكيد!
ساي
عندما أخبرني هيروكي بمشاعره الحقيقية تجاهي، صعقت حقا. فأنا لم أتنبه إطلاقا لمشاعره، كيف حدث ذلك من غير علمي؟ على أي حال، فلقد كان جوابي له سريعا جدا: هيروكي اعذرني أرجوك، أنا لا أريد أن أقحم نفسي في هذه المواضيع مجددا. - لست مضطرة لإعطاء أي إجابة الآن، لكن وجب علي أن أوضح لك طريقة نظرتي إليك. لم أكن مرتاحا وأنت تعاملينني بعفوية بينما أكن لك مشاعر خاصة، فكان لا بد أن تعلمي بذلك وبعدها تستطيعين أن تتصرفي معي بالطريقة التي تحلو لك. - هيروكي أقدر صراحتك، وأشكرك عليها. لكن أرجوك، لا تهدر مشاعرك في مكان غير مناسب. - ساي، لن نتحدث اليوم أكثر. أراك غدا، اعتني بنفسك. - بل أنت اعتن بنفسك، حرارتك مرتفعة جدا. اذهب إلى المركز الطبي حالا. - حسنا.
ابتسمت ومضيت إلى غرفتي، أفكر مجددا بما قاله وأفكر بالذي سأفعله الآن. لا حاجة للتفكير بهذا الأمر، فحتما لن أغير شيئا في حياتي. هيروكي رجل محترم، خلوق وذو طباع حسنة، لكنه رجل وأنا يكفيني ما لقيت من الرجال. لا أود أن أكرر تجربتي السابقة. هاك أيضا، أحبني بشدة ولمدة أطول، وعشنا ذكريات جميلة جدا. أحبني كما أنا بجنوني، بغبائي وبجميع عيوبي. ثم ماذا؟ ثم شيئا فشيئا تراجع عن كل ذلك. هل هو الملل؟ لا أدري حقا، لكن ما أعلمه الآن أني قاسيت الكثير إلى أن التأم جرحي القديم. أعيش الآن باستقرار مع نفسي، ولست أرغب في أن أضع نفسي مجددا في خطر جديد، لا أشعر أني بحاجة لأن أبقى بجانب رجل، يكفيني أصدقائي وتكفيني بالدرجة الأولى، ساي، كما هي. لكن كيف سأتعامل مع الأمور من الآن وصاعدا. علي أن أرتب أفكاري من جديد، فأنا لن أترك المركز مهما كلف الأمر، كما أنه ليس من المريح على الأقل في هذه الفترة أن أبقى أمامه، لا بد أن الحل الوحيد هو ألا آتي إلى المركز، وأن أقوم بمهامي من غير المجيء إلى المركز وإرسال نتائجي عبر البريد الإلكتروني والقيام بالاجتماعات عبر وسائل الاتصال، وسنرى بعدها ماذا سأفعل!
هيروكي
لم أكن أتوقع أن تتهرب مني، ليست ساي من تتصرف بهذه الطريقة. قمت بالموافقة على طلبها بأن تعمل من بلدتها عن بعد من غير المجيء إلى المركز، لكن بعد أن تنهي بعض الأعمال هنا. أي أنها ما زالت مضطرة إلى المجيء إلى المركز خلال الأسبوعين القادمين. وهنا بدأت المشاكل، كانت ساي تتصرف معي بغرابة. لقد ضايقني الموضوع بشدة، ربما لم تعد مرتاحة بالتعامل معي، أتفهم ذلك. بالتأكيد لم تكن تأتي إلى المكتبة، بل كانت تقضي معظم أوقاتها بعد العمل في حديقة المركز الخارجية. في أحد الأيام، لم أستطع منع نفسي من اللحاق بها للحديث حول ما تفعله بنا. لحقت بها وناديتها: ساي. - بروفيسور هيروكي أهلا بك! - بروفيسور؟ هل عدنا للألقاب من جديد، هل يعني أنك تفضلين أن أناديك بالدكتورة ساي؟ - لا أبدا، نادني بما شئت أنت تعلم أني لا أحب الألقاب والمراسم والبروتوكولات مع كل الناس، فكيف مع أصدقائي! - جيد، ما زلت تذكرين أننا صديقان! - نعم ومن قال غير ذلك؟ - أفعالك وتصرفاتك. - هيروكي أرجوك، لا تتحدث عن هذا الموضوع مجددا.
استدارت وكادت ترحل إلا أنني ناديتها مجددا: ساي! لكن هذا ليس عدلا منك، ترغمينني على أن أرضى بجوابك. أنت حرة بقرارك، لكن لست حرة بجعلي أتراجع أو أستسلم. عليك أن تفهمي ذلك، ثم إن هروبك من أمامي لن يفيدك في شيء، لا تحسبي أني سأغير رأيي بعد أسبوعين، شهرين أو حتى عشرين سنة. ساي! أنا شخص عشت حياة مكرسة للعلم والأبحاث، لم أتزوج ليس لأني لم أجد الوقت لذلك كما يظن معظم الناس، لا! أنا لم أتزوج لأنني طيلة السنين لم أجد تلك المرأة التي تدخل قلبي عنوة، ترغمني بأن أعشقها بكل صفاتها وبكل ما فيها. وأود أن أعلمك بأمر ربما لا تعلمينه عن البروفيسور هيروكي، هو أنه عنيد جدا، ولا يستسلم!
سكتت طويلا ولم تجبني بأي رد، بل بقيت تنظر إلي كمن يستجدي الآخر ليتركه وشأنه، سألتها بهدوء: ساي! هل ستبقين صامتة؟ ألا من رد؟ طيلة الشهرين الماضيين كنت أحدثك عن الكثير من أموري الشخصية، حدثتك عن مشاكلي في حياتي بعفوية تامة ولم أشعر أنني أتكلم أمام شخص غريب. لكن أنت، وحتى حين يكون الأمر متعلقا بنا، فإنك تفضلين الصمت. هل تجدين ذلك منطقيا؟ أنت لا تبدين بحالة جيدة منذ أن حدثتك في الأمر. لم لا تصارحينني بما تشعرين وتصارحينني بسبب رفضك لإعطاء فرصة لنا؟ لم تسمحين لنفسك أن تواسي الجميع، بينما تمنعين الناس عن إسداء حتى لو قليلا من المساعدة لك؟ لم لا تقبلين أن يكون أحد بجانبك بينما أنت بجانب الجميع دوما؟ لم لا تسمحين لمشاعر الناس أن تغمرك بينما تغمرين الجميع بكل ما تستطيعين من مشاعر ونصائح ووقت وتعاطف؟ - هيروكي، أنا لست من ذاك النوع الأناني، كل ما في الأمر أن تجربة زواجي السابقة كان لها تأثير سلبي على حياتي. لا أحب الحديث عنها، لا لأنني أود أن أحتفظ بالألم لنفسي، لا، بل لأن الحديث عنها يؤلمني بشدة. هناك جانب ضعف في حياة كل إنسان، وأنا أمتلك هذا الجانب. ما آلمني حقا ليس أننا افترقنا أنا وزوجي السابق، بل أتألم لأنه لم يبرر، لم يتكلم، لم يكن صريحا، لم بدأ يكرهني؟ لم لم يخبرني أنني صرت بغيضة لديه في وقت مبكر؟ لم تغير فجأة؟ لم بات يكره المرأة التي كان قد أحبها؟ - ساي لا أريد أن تتألمي أكثر، أنا أعتذر على إصراري بجعلك تتحدثين عن هذا الأمر، لكن أرجوك، أعطينا فرصة، لا أود أن أزعجك أكثر من ذلك. - أرجوك هيروكي، سأقوم بأعمالي من بلدتي بدءا من الغد، سأتواصل مع الجميع عبر الإنترنت، لا أود المجيء مجددا إلى هنا. - كما تشائين.
رأيت في عينيها خوفا وقلقا، لا أعلم كيف يتمكن رجل في هذا العالم أن يؤذي امرأة لهذا الحد. مضيت إلى مكتبي ووافقت على طلبها، لكنني لن أتركها وشأنها، سأدعها ترتاح قليلا فحسب. ساي، كوني بخير وعودي لي بسرعة.
هيروكي
أتت حفلة آخر السنة، ومجددا، أرسلت الدعوة إلى جميع الموظفين، هذه المرة جاءت الإجابة بنعم. علمت فيما بعد أن الجميع قد أرسل لها وطلب منها أن تكون موجودة في الحفل، فالجميع قد اشتاق إليها. فمنذ شهرين وهي لا تأتي إلى المركز، بل تقوم بأعمالها من بلدتها، فترسل وتستقبل كل المعلومات وتقوم بمقابلاتها مع الجميع عبر وسائل الاتصال. لم أزعجها طيلة هذه الفترة، علها تعود إلى المركز فأراها. كنت أرسل إليها رسالة واحدة فقط كل أسبوع لأطمئن عليها، من غير أن أطيل عليها أو أضايقها بمشاعري. كنت أتساءل: إن كان الموظفون قد اشتاقوا إليها، فماذا أقول أنا؟
حين علمت أنها ستأتي إلى حفل آخر السنة، بدأت أعد الأيام عدا، إلى أن أتى يوم الحفل. عندما ذهبت إلى القاعة التي سنجتمع بها، رحت أنظر في كل الاتجاهات لأراها ، لكني لم أرها في أي مكان. بدأ الحفل وفجأة لمعت القاعة بضوء رآه قلبي قبل عيني، إنها ساي قد أتت. منذ شهرين لم أرها، كدت أترك كل شيء وأتوجه نحوها لأراها عن قرب وأتحدث إليها، لكني لم أرغب بإزعاجها. وكنوع من أنواع البروتوكولات توجهت ساي نحوي لتلقي السلام، فأنا المدير وصاحب الدعوة. - شكرا بروفيسور على دعوتك، أتمنى لك عاما جميلا. - شكرا لحضورك ساي، أسعدتني رؤيتك بصحة جيدة.
لم أطل حديثي معها أكثر، فلا المكان ولا الظرف يسمحان بذلك، جلست ساي على طاولة بعيدة عن المكان الذي أجلس فيه، لم تكن تتحاشاني كما لم تكن تود الحديث معي. تصرفت بشكل طبيعي. أما أنا فكنت أراقبها، فقد اشتقت إلى كل ما يصدر عنها، وعزمت أن أتحدث معها حالما ينتهي الحفل. كانت ساي بمزاج رائع، جعلت الحفل أجمل وأروع، ألقت الكثير من النكات، وأقامت العديد من المسابقات، وأشعلت القاعة حماسا، ثم لاحظت أنها على وشك الرحيل، كانت متجهة نحوي: بروفيسور، شكرا مجددا على الدعوة، أستأذنكم جميعا فعلي الرحيل الآن. - ساي، تمهلي قليلا، هناك بعض الأوراق التي أود أن أسلمك إياها. - سأتلقاها عبر البريد لا تزعج نفسك وتخرج من القاعة الآن.
شعرت أنها لا تود الحديث معي إطلاقا، فلم أشأ أن أزعجها بإصراري: حسنا كما تشائين. - وداعا!
ساي
عندما تلقيت دعوة البروفيسور هيروكي للحفل، وتلقيت عشرات الرسائل من زملائي في المركز، لم أشأ أن أخيب ظنهم جميعا، فقبلت الدعوة، كما أنه لا يوجد سبب لعدم قبولها؛ فالبروفيسور هيروكي يراعي مشاعري تماما ولا يزعجني إطلاقا، كل ما في الأمر أني أحاول أن أختفي من أمامه لأساعده على نسيان ما يفكر به حولي. سأكذب إن قلت إنني لا أشعر بالإحراج أمامه، بلى أشعر، خاصة أنه بات يرسل لي رسالة كل أسبوع ليطمئن علي من بريده الإلكتروني الخاص. كان ردي دائما مختصرا «أنا بخير» من غير أن أسهب أكثر.
في يوم الحفل، لاحظت أنه يود أن يحدثني؛ لذا تذرع ببعض الأوراق التي يود تسليمها لي، أظهرت له بشكل مباشر عدم رغبتي في أن أتيح له فرصة التحدث إلي، فلم يصر أكثر. لكن بعد أن ودعته ومضيت، جلست في سيارتي عدة دقائق ولم أنطلق. شعرت أني أود أن أسمع ما الذي ينوي قوله، فهو صديق عزيز علي ومنذ مدة طويلة لم أتحدث معه، وأنا سأسافر بعد يومين لقضاء أيام العطلة في جنوب أفريقيا، لكن ماذا سأفعل الآن بعد أن قمت بتوديع الجميع!
بقيت في سيارتي أفكر، ثم عرفت ماذا سأقول له، فاتصلت به. - ساي؟ - نعم هيروكي، لقد تذكرت أنني سأسافر بعد يومين؛ لذا سأعود للمركز الآن لأستلم تلك الأوراق إن لم يكن ذلك مزعجا! - مزعجا! أنت تعلمين أنه ليس كذلك، سأراك أمام مكتبي، متى تستطيعين الوصول؟ - بعد عشرين دقيقة. - سأكون بانتظارك.
تظاهرت كما لو أنني سأعود إلى المركز مع أنني ما زلت في المرآب. خلال تلك المهلة أخرجت مرآتي ورحت أتأكد من مظهري، لم أعتد أن أفعل ذلك أبدا، لكن هذا طبيعي، فنظرته لي مختلفة عن نظرة أي شخص آخر. شعور المرأة في تلك الحالة يكون مضطربا وأنا أكثر من يستطيع تحليله. بعض النسوة قد يعتقدن أنهن وقعن في الحب بسبب ردة فعلهن تلك، لم أرد أن أطفئ ذلك الشعور، تركت لنفسي حرية التصرف من غير أن أكبت حقيقة أنني سعيدة بإعجاب أحدهم بي، وليس أي أحد! إنه البروفيسور هيروكي.
ولكيلا أتأخر قطعت سلسلة أفكاري تلك وتوجهت نحو مكتب هيروكي. هناك رأيته ينتظرني، ألقيت السلام عليه، سلمني الأوراق وبدأ يماطل في حديثه معي، يبدو أنه فعلا يود أن يقول لي شيئا. كنا نمشي بينما هو يحدثني، إلى أن وصلنا إلى الشرفة، ورغم أن الطقس كان باردا جدا إلا أنني كنت أود مشاهدة نثرات الثلج. خرجنا إلى الشرفة وعندما لامس الثلج وجهي، لم أشعر ببرودته، فأنا أحبه كثيرا، كانت النسمات لطيفة جدا، صمتنا لعدة دقائق. - ساي، أتسمحين لي أن أسألك سؤالا؟ - تفضل. - إلى متى ستصرين على تجاهل الموضوع؟ - هيروكي، ليس تجاهلا صدقني، لكنني أنتظرك إلى أن تسأم من مشاعرك تلك، فأنت ستسأم منها عاجلا أم آجلا. - ومن أين لك بتلك الثقة؟ - من كل القصص التي سمعت عنها خلال حياتي المهنية، والاجتماعية، وأولها قصتي الشخصية. - أتعممين كل الحالات لكل الناس؟ - لا، أبدا. لكن هناك بعض العلاقات التي باستطاعتي أن أتنبأ عن مستقبلها منذ البداية. - وما هو العامل المشترك للعلاقات التي ستفشل في نظرك؟ - ليس عاملا واحدا فحسب، هي مجموعة عوامل. - وفي حالتنا، لنفرض جدلا أننا ارتبطنا، لم تعتقدين أننا سنفشل؟ - في حالتي، ليس الفشل هو السبب الأهم لتجنبي أي علاقة، إنما عدم رغبتي في ذلك. - سألتك في حالتنا وليس في حالتك وحدك، عندما أنا أكون طرفا في تلك العلاقة، لم تعتقدين أننا سنفشل؟ - وأجبتك أني لا أريد أن أفترض ذلك أصلا! - لم كل هذا العناد ساي، أرجوك أجيبيني بعفوية، وتنازلي عن تلك الفكرة لعدة دقائق. - حسنا، أعتذر عن تصرفي هيروكي، لكن دعني أفكر أولا.
صمت قليلا ورحت أفكر بسؤاله لأول مرة. بينما كنت أفكر كان هيروكي ينتظر بهدوء وهو ينظر إلى الأفق ويفرك يديه ببعضهما فالجو بارد جدا. رتبت أفكاري وأنا أتأمل حركاته ثم أجبته: في حالتنا، سأحلل لك الموضوع كما أراه أنا، أنا لا أتكلم نيابة عنك إنما أعرض وجهة نظري فحسب. أنت رجل ناضج، اعتدت أن تقضي أيام حياتك بروتين هادئ، ليست سنة أو سنتين، أو عشرا، بل خمسين عاما. الآن بدأت تشعر بالوحدة، لأنك قد حققت معظم ما تصبو إليه، وتجاوزت مرحلة ضيق الوقت وقلة المال. لديك سعة من كليهما الآن مع صحة جيدة وبدأت تمتلك الوقت لتسمع مشاعرك أكثر. في هذه الأثناء ظهرت امرأة غريبة الأطوار، جعلتك تراقبها بسبب غرابتها مقارنة بما تعودت عليه سابقا. أنت لأول مرة تتعامل مع امرأة لا تكترث لأمور كثيرة، بت تراقبها لتكتشف لأي مدى هناك أناس غريبون ويتصرفون بطريقة مختلفة عما تعودت عليه خلال حياتك كلها. مع الوقت بدأت تظن أن هذا الاهتمام ينبع من مشاعر الإعجاب، ولأن هذه الحالة هي من المرات القلائل التي حدثت معك في حياتك، ولأنك تشعر بوحدة بعض الشيء، ولأنك تود أن تكتشف طباعا جديدة وتسمع كلاما مختلفا، وترى مشاهد غير مألوفة، قمت بتحويل هذا الإعجاب إلى حب بمحض إرادتك. أنت تمتلك الصبر لتنتظر كثيرا، فيكفيك أنك تعيش تلك الحالة التي ملأت لك بضع سويعات من كل يوم. لذا فأنا أعلم أنك لن تسأم مع مرور الوقت من الانتظار، لكن في المقابل، مع مرور الوقت ستكتشف أن وجودي ليس بتلك الضرورة التي تتخيلها الآن. لنفرض أننا سنرتبط قبل أن تكتشف هذا الاكتشاف، ولنفرض أنني قررت خوض هذه المغامرة، هذا يعني أني سأنجرف بكامل قوتي العاطفية، سأبني أحلاما كثيرة، سأرهق قلبي وعقلي وروحي بأمور لا أنت ولا أي رجل في العالم يستطيع أن يتخيلها. ثم ماذا، ثم سيأتي يوم تضيق ذرعا من حماقاتي التي ظننت أنك أحببتني بسببها، ستكره بعضا من تصرفاتي التي خيل إليك أنها كانت أجمل ما يميزني، ستسأم من كلماتي التي كنت سابقا تنتظرها بفارغ الصبر، والكثير الكثير. ستجد نفسك متورطا في علاقة كنت تظنها الجنة لكنها أضحت ...
لم يدعني أكمل جملتي وقاطعني مباشرة: توقفي ساي، توقفي أرجوك، لم أعد أريد أن أسمع أكثر، لقد ظلمتني جدا. - لكنك سألتني وأنا أجيبك بما أفكر به. - أعلم، لكن لم أتوقع أنك تنظرين لهذه الأمور بهذه الدرجة من التشاؤم، أخبريني إن كانت العلاقات تسير هذا المسرى، إذن متى تنجح؟ متى ومن يستطيع تكوين العلاقات الصحيحة والناجحة برأيك؟ ما هو العامل الفارق والذي يجرف العلاقة تلك من الطريق التشاؤمي ذاك الذي قمت بوصفه إلى الطريق الطبيعي والصحيح؟ - الحب، العطاء، والوفاء. - وكيف سأثبت لك أني أمتلكها؟ المشكلة أني حقا لا أستطيع برهنة ذلك من خلال الكلام، فلا أسهل من الكلام، ولا أستطيع إلا أن أعدك بهذه الخصال، خاصة أننا ما عدنا نلتقي أبدا، أشعر بحيرة كبيرة حيال ما علي فعله. ساي! لقد صعبت الأمور علي جدا. - مهلا، أنا لم أصعبها. ليس من الضرورة أن تمتلك تلك الصفات أنت فقط، علي أن أمتلكها أنا أيضا. فحتى لو تأكدت من تحليك بها، فأنا لا أضمن نفسي أن أكون محبة ومعطاءة دائما. وهنا تكمن مشكلتي هيروكي؛ ولذلك أنا أحكم على أي علاقة قد أفكر الخوض فيها بالفشل. أعتذر هيروكي على صراحتي، على أي حال علي أن أغادر الآن لقد تأخر الوقت وما زال أمامي طريق طويل لأصل إلى المنزل. - حسنا! أسعدني وجودك اليوم، ساي! أتمنى لنا عاما جديدا جميلا كجمالك، عاما نجتمع به معا، أنا متأكد من ذلك، لن أطيل عليك أكثر من ذلك، أود أن أطلب منك طلبا بشكل رسمي، ساي، أتقبلين الزواج بي؟
صدمني حين قال طلبه وقد أمسك بيدي وكاد يضمني إليه، أبعدته عني بهدوء من غير أن أزعجه ووجدت نفسي أجيبه حالا: هيروكي! أنت حقا غريب الأطوار، أهذه نتيجة حوارنا؟
اقترب مني مجددا وقال لي: ساي، خذي كل وقتك للتفكير، لا أريد أن أسمع جوابك الآن. واعلمي أنك في كل مرة تجيبين بها بالرفض، سأجدد الطلب؛ أي إن هذا الطلب سيبقى مفتوحا للأبد؛ لذا لا فائدة بأن ترهقي نفسك برفضه، لأني لن أقبل الرفض.
تنهدت وكنت على وشك البكاء، فقال لي: أعلم أنك لن تأتي مجددا إلى المركز، أرى ذلك في عينيك، أعلم أني تماديت في التعبير عن مشاعري وهذا قد يسبب الألم لك. كوني سعيدة فحسب، لا تبتئسي، أنا على ثقة بأننا سنلتقي مجددا، وليس كأي لقاء.
الفصل الثاني
ربيع مزهر!
هيروكي
مضى على يوم الحفل شهر كامل وساي لم ترسل أي إجابة، لم تتصل، ولم تأت إلى المركز. أرسلت لها عدة رسائل وكعادتها كانت ترد فقط «أنا بخير». لن ينفد صبري، لكنني تعبت من الانتظار، وتعبت من شعور الاشتياق. هذه المشاعر جديدة حقا علي ولا أستطيع التأقلم معها بشكل جيد. يبدو أنها حقا لن تكترث بي، مع الأيام بدأ ذلك الشعور يتسرب إلى قلبي: إنها ستبقى على عنادها هذا إلى الأبد. ومع أني لم أعتد الاستسلام إطلاقا لكني إن بقيت على هذا المنوال وهذه الطريقة فلن أستفيد، ولن أصل إليها أو إلى قلبها، فقررت أن أحاول اللقاء بها، لكنها كانت تتذرع بمشاغلها. بدأت أرسل لها الورود عل تلك الورود تعبر عن مشاعري إن كانت كلماتي تعجز عن ذلك. قمت بدعوتها عدة مرات إلى بعض المعارض الفنية، والمسرحيات، والمعارض العلمية، وسوى ذلك، لكنها رفضت مرافقتي واعتذرت بشدة. بعد مرور شهر آخر على هذه الحال بدأ شعوري ينحاز نحو الاضطراب والمرارة. أذكر أني في ذاك اليوم، كنت سأرسل لها رسالتي الأسبوعية المعتادة، بدأت بكتابة كلماتها، فوجدت لهجتي مختلفة. فقد اعتدت مسبقا أن أسألها عن حالها وأخبرها قليلا عن أخباري وأختم الرسالة بجملة واحدة قصيرة تعبر عن مدى اشتياقي إليها وانتظاري لردها، أما هذه المرة فقد كان مضمون الرسالة يتحدث عن إرهاقي مما تفعله بي، وتعب روحي وقلبي.
ما إن أنهيتها وعاودت قراءتها قبل إرسالها، حتى قررت أني لن أرسلها بهذا الشكل، وفضلت الاحتفاظ بها لي من غير أن أزعجها بها. فأنا لا أحب أن أضغط عليها بما أشعر، فلا ذنب لها بشيء، سوى أنني أحببتها. ولأول مرة في حياتي، تواجهني مشكلة أعجز عن حلها. فكرت كثيرا، ولم أجد وسيلة أو طريقة تقربني إليها، كنت أتساءل: أيعقل أن أستسلم حقا كما تنبأت ساي!
أتى الأسبوع التالي ومجددا، أتى موعد رسالتي لها. ومجددا لم أستطع أن أرسل لها رسالة عادية ومقتضبة. استرسلت كثيرا بالتعبير لها عن كمية الألم الذي بدأ يتسلل إلى قلبي بسبب عدم اكتراثها بي، كان هناك الكثير من اللوم والعتاب الموجه إليها مع أنني أعلم أن ذلك ليس من حقي. استجمعت قواي، لم أقرأها أو أراجعها مجددا لكيلا أغير رأيي، ثم أرسلتها وأغلقت جهاز الحاسوب مباشرة. حاولت أن أشغل نفسي بأمور عدة، توقعت أن يأتيني رد مختلف هذه المرة، كنت راضيا حتى إن وبختني، لكن على الأقل أن يأتي الرد مفصلا أكثر. لكن يبدو أنني قد حصلت على النتيجة المعاكسة، فلم يأت هذه المرة أي رد منها. انتظرت ثلاثة أيام، كانت تلك الأيام متعبة لي بحق. فقد كنت أتفقد بريدي الإلكتروني كل خمس دقائق، علي أرى رسالة أو ردا منها، ثم قررت أن أرسل لها رسالة اعتذار ما إن يهدأ قلبي.
ساي
أصبح موعد رسالة هيروكي الأسبوعية هو موعدي الخاص الذي أتهيأ له بوضع كوب القهوة، والجلوس على أريكتي المفضلة في غرفة الجلوس في منزلي، وإغلاق هاتفي النقال والأنوار، وإغلاق كل ما يمكن إغلاقه وفتح قلبي لسماع كلماته، كان ذلك بإرادتي، لا أعلم لم أجرف نفسي في هذا الاتجاه مع أنني على يقين أنني لن أستسلم ولن أرتبط ثانية بأحد. إنها ليست المرة الأولى التي يسألني بها أحدهم الزواج بعد أن انفصلت عن هاك. في كل مرة كنت أرفض من غير أن أشعر بأي اضطراب. ما خطبي الآن؟ لم أتصرف بهذه الطريقة؟
كنت أقرأ رسائله بشغف، ربما لأن كلماته صادقة جدا، مختصرة، وأنيقة. أقرأ رسالته ثم أجلس بهدوء إلى أن أغفو. أستيقظ صباحا وقد استرجعت قوتي وعدم رغبتي في التفكير بأي أحد. اعتدت على هذا السيناريو على مدى أكثر من شهرين إلى أن أتى ذاك الأسبوع. جلبت كوب قهوتي، أغلقت كل شيء حولي عدا قلبي وجلست أمام شاشة جهازي الحاسوب. قمت بتحميل رسائلي وأنا أنتظر رؤية اسمه، لكن لا شيء منه، أعدت النظر بين الرسائل التي لم تتم قراءتها، فلم أجد اسمه، تأكدت أن الإنترنت يعمل بشكل جيد، ثم أعدت تحميل بريدي الإلكتروني، لكن لم أر اسمه ولم أر رسالته، لم أستطع أن أفهم سبب تأخر رسالته، ولم أستطع أن أفهم سبب انزعاجي من عدم رؤيتها. انتظرت قرابة الساعة، ثم ذهبت إلى سريري، فلم أستطع النوم. بعد ساعتين أمسكت هاتفي النقال وأعدت تحميل بريدي الإلكتروني علي أجد رسالة منه، لم أجد شيئا، رميت هاتفي على الجانب الآخر من سريري وأنا مستاءة ونمت. عندما استيقظت كان مزاجي سيئا، تمتمت بصوت مرتفع وبدأت أتحدث مع نفسي: قلت له إنه سيسأم، وادعى أنه لن يسأم أبدا، هي عدة أشهر ولم يستطع الاحتمال، ثم يدعون أنهم أحبوا وسيعطون ويضحون، كم هذا مضحك!
ضحكت بصوت مرتفع، ثم ساد الهدوء شقتي من جديد، وعلت على وجهي ملامح الاستياء من كل شيء حولي. ثم مرت عدة أيام واعتدت على فكرة تخلي هيروكي عني. كنت أدرك تماما أن مشاعري تلك طبيعية، فأنا امرأة تراجع أحد معجبيها عن إعجابه بها. كنت أبحث عن رسالته الغائبة طيلة أيام الأسبوع، أمني نفسي أنه قد يكون مسافرا، قد يكون مشغولا، ولا يملك وسيلة لإرسال الرسالة، والكثير من الأعذار، والكثير من محاولات البحث عن تلك الرسالة، لكن لا شيء.
في الأسبوع التالي، وفي موعد رسالته، لم أرغب في انتظارها، ولم أشأ أن أجلس جلستي القديمة على أريكتي المعتادة، بل شعرت برغبتي في القراءة فأنا لم أطالع الكتب منذ فترة. ذهبت إلى مكتبتي الصغيرة المتواضعة، كنت أرى وجه هيروكي في جميع صفحات الكتب، كنت أسمع صوته حولي، حاولت تناسي ذلك فلم أفلح. ذهبت إلى سريري وحاولت الخلود للنوم، فلم أفلح أيضا. ثم خطرت لي فكرة جيدة، هي أن أرسل له رسالة لأتفقد حالته، ربما هو مريض أو أي شيء من هذ القبيل. أمسكت هاتفي وما إن فتحته، حتى رأيت رسالة من هيروكي! لقد أثلجت قلبي وأشعلته في الوقت نفسه، لقد كان يعاتبني على كل ما يصدر مني من عدم مبالاة واكتراث، كان يحكي بإسهاب عن مشاعره وعن حيرته، ومن عادتي أن أرسل له جوابا مقتضبا أني بخير، لكني هذه المرة لم أكن أعلم بم أجيبه، فلم أرسل له أي رد، لم يكن هدفي أن أتلاعب بعواطفه، لكنني حقا لا أعلم بم سأجيبه، فهو لم يسألني كيف حالي كما يفعل دائما، بل كان يحكي لي عما يشعر به فحسب. شعرت بألم تجاهه وبت أقرأ رسالته كل ساعة، إلى أن حفظتها تماما.
مر يومان وأنا على هذه الحالة، وصادف اليوم الثالث يوم زفاف إحدى صديقاتي المقربات، أقيم حفل الزفاف في مدينتها التي تقع بين بلدتي والمركز، فارتديت فستاني، وصففت شعري، ووضعت قليلا من مساحيق التجميل، بدوت أكثر جمالا وأنوثة عما أبدو عليه في العادة. تأملت مظهري أمام المرآة، وجدت أني ما زلت أبدو جميلة ورشيقة. خطر في بالي في تلك اللحظة هيروكي، هو لا يعلم إلا ساي بملابس العمل. لا أعلم لم نحب أن يرانا من نعلم بإعجابه بنا ونحن في أجمل صورة؟ ما الفائدة من ذلك؟ إن كان هو في حالاتي العادية قد أعجب بشكلي! هل لنثبت لهم أننا أكثر جمالا، لذا رجاء أحبونا أكثر! لم هذا التصرف اللئيم؟ على أي حال فهو لن يراني ولن أراه. ذهبت إلى الزفاف وعندما وصلت كان أغلب المدعوين بصحبة أحد ما: زوج، أو شريك، أو خطيب، أو صديق، إلا أنا هنا وحدي. شعرت بشعور سيئ حيال ذلك، فلم أجد من أجلس معه أغلب الوقت. وأنا منذ انفصالي عن هاك لم أراقص رجلا ولم أسمح لأحدهم أن يتقرب مني أيا كان، فقد نشأت في بيئة متحفظة جدا، وتطبعت بطباع قد تكون مختلفة عن السلوك العام للفتيات ممن حولي، فأنا لا أتساهل كثيرا في تعاملي مع الرجال، ألتزم حدودا رسمتها لنفسي منذ أن كنت في عمر الرابعة عشر.
أمضيت وقتي في المراقبة والتأمل ولأول مرة أكون هادئة في حفل، كنت أراقب المدعوين ولا طاقة لي أن أجامل أي أحد. اشتقت أن أكون محور حياة أحدهم من جديد، اشتقت أن أشعر بدفء مشاعر أحدهم تجاهي، أن أسمع كلاما جميلا ورقيقا. ومن الطبيعي أن أرى وجهه في كل مكان هنا، نعم كنت أرى وجه هيروكي حولي، أعلم مجددا أنه ليس شعور الحب، إنما شعور الوحدة، وسيختفي كل هذا حالما أعود إلى منزلي. فمن الطبيعي أن أشعر بكل تلك المشاعر وأنا أرى صديقتي تزف إلى زوجها، وحين أرى نظراته لها ونظراتها له، وحين أرى رقصتهما معا. شعرت بتعب ولم أستطع إكمال حفل الزفاف، قمت بتوديع الجميع وانطلقت نحو سيارتي فأمامي طريق ليس بالقصير لكي أصل إلى بلدتي.
عندما كنت في طريق العودة، كانت جميع الأغاني التي تصدر من مسجل الصوت في السيارة غاية في الرومانسية، بت أتخيل نفسي عروسا أزف له، سرحت في تفكيري كثيرا، ثم بدأت أضحك! كم كان هذا غبيا! كم أنا حمقاء! شعرت بعطش شديد، فركنت سيارتي في أحد المواقف العامة على الطريق السريع وبينما كنت أنتظر كوب قهوتي من الماكينة، شعرت بأحدهم يلاحقني من خلفي بهدوء، كانت سيارتي بعيدة وكانت أمامي دورة المياه، ركضت مسرعة فدخلت إحداها وأقفلت الباب، من حسن الحظ أن هاتفي النقال كان بيدي. كدت أتصل بالشرطة لكني تراجعت لعدة أسباب، أولا أني لست متأكدة من أن أحدهم يلاحقني حقا، ثانيا كانت فرصة ذهبية لأطلب المساعدة من هيروكي. أريد أن أراه، أريد أن أرى كيف ستكون ردة فعله حين أطلب منه المساعدة، مدى شهامته ومدى تجاوبه، فالموقع الذي أنا فيه الآن أقرب إلى المركز من بلدتي، فهو ليس بعيدا ويحتاج إلى ربع ساعة فقط. كم أنا شقية! فقد اتصلت به وأخبرته أن يحضر حالا: هيروكي أحتاج مساعدتك أرجوك. - ساي! أخبريني حالا ما بك؟ وكيف أستطيع مساعدتك؟ - سأرسل لك المكان الذي أنا فيه الآن، وسأشرح لك التفاصيل فيما بعد. لكن باختصار أشعر أن أحدهم يلاحقني وأنا عالقة الآن في إحدى دورات المياه على الطريق السريع ولا أجرؤ على الخروج منها لأنني أعتقد أنه ما زال في الخارج. المكان موحش جدا وبدأت أطرافي تتجمد. - ساي! لا عليك سآتي حالا، أرسلي لي العنوان مباشرة، لا تقلقي وابقي حيث أنت. - بانتظارك.
هيروكي
عندما رن هاتفي الخاص تلك الليلة كان آخر من كنت أتوقع رؤية اسمه هو ساي! كان صوتها مضطربا للغاية، ذهبت حالا أنا وسائقي الخاص إلى تلك المنطقة. لقد كان الظلام دامسا والبرد شديدا، وقد كانت على حق، فقد رأيت أحدهم ينتظر في سيارته في هذا الموقف العام على الطريق السريع، ما إن رآنا حتى أسرع بالهروب في الظلام، فلم نستطع تمييز رقم سيارته أو نوعها. على أي حال ركضت مسرعا خارج سيارتي واتصلت بها لأعلمها أني هنا وبأنها تستطيع الخروج بأمان. خرجت ساي وكانت فعلا على وشك التجمد، فملابسها لم تكن دافئة، أعطيتها وشاحي ومعطفي وسألتها فيما إن كانت تفضل أن يقلها السائق إلى منزلها أم أنها تفضل الذهاب في سيارتها وقيادتها بنفسها، فأجابتني: هيروكي، أرجوك أتستطيع أن توصلني أنت إلى منزلي؟ - بالطبع!
مضينا بسيارتها وقمت أنا بقيادتها، ولحق سائقي بنا كي يقلني معه حين عودتنا إلى المركز. جلست ساي في المقعد المجاور لي، هذه المرة الثانية التي أقود بها سيارتها، ما زالت كما هي منذ أشهر، ما زالت تلك الأشكال الصغيرة تتراقص على المرآة، وما زالت أغراض ساي متراكمة على المقاعد الخلفية للسيارة. حاولت ألا أحرجها وألا أنظر إليها بشكل مباشر، إلا أن ضوء القمر كان يعكس كل جميل في عينيها. كانت ساي متعبة جدا، ولم يكن طريقنا بهذا الطول، ولم أتحدث معها كثيرا. عندما وصلنا أوصلتها إلى باب شقتها، ودعتها وقبل أن أمضي قالت لي: هيروكي! أشكرك كثيرا لمساعدتك لي، وأنا آسفة جدا لأني اعتمدت على مشاعرك كي أضمن مجيئك، أشعر أني قد قمت باستغلال ذلك كي أجعلك تساعدني في هذه الساعة المتأخرة من الليل. - ساي! لا تقولي هذا الكلام، فأنا لا يمكن أن أتخاذل عن مساعدة أي أحد، فكيف إذا كان أنت! لا تفكري بهذه الطريقة أرجوك! - شكرا مجددا هيروكي، تصبح على خير.
كانت مضطربة للغاية ويبدو أنها خشيت أن أعبر لها عما يجول في خاطري في لحظة شاعرية كهذه، أو أن أتهور بتصرف ما؛ فقد كان من الواضح أن ساي لا تود أن أقترب منها، فقامت بتبديد اندفاعي نحوها ونظراتي إليها بنبرة صوتها الذي كانت تتصنع به حالة الاستقرار، لكنني كنت متأكدا من اضطرابها وضعفها.
وبينما كانت تودعني وتذكرني بأن السائق بانتظاري وأن علي ألا أتأخر عليه، أعادت لي معطفي فارتديته حالا، أردت أن يلتصق المعطف بجسدي مباشرة بعد أن كانت ترتديه. هممت أن أقترب منها، لكنها ابتعدت عني بسرعة وتوجهت إلى باب شقتها، لم تدخل إنما استدارت لتنظر إلي، كنت ما أزال واقفا أنتظر منها أن تودعني بشكل لائق، لكننا لم نفعل، ولم نتكلم، بقينا ربما عشر دقائق ونحن على هذه الحال، كانت نظراتها غامضة لم أستطع أن أقرأ منها شيئا، إلا أنها تشعر بالوحدة فقد كان هذا الشعور واضحا، لم أشأ أن أستغل شعورها ذلك بأي تصرف مني؛ إذ يبدو أن روحها متعبة جدا. لم تشح بوجهها عني، بل بقيت نظراتها مصوبة نحو عيني، كادت تعود باتجاهي، لكنها ترددت، ثم قالت لي: «هيروكي، أود أن أقابلك غدا، تصبح على خير.» ودخلت شقتها وأغلقت الباب.
عدت إلى السيارة، وأنا أفكر مليا بما حدث، ساي طلبت أن تراني، ترى ماذا تريد أن تقول؟ ماذا تشعر الآن؟ وهل تطورت مشاعرها نحوي؟ هل تحرك قلبها تجاهي؟ أم العكس تماما؟ هل ستطلب مني ألا أراها ثانية؟ لكن ثقتها بي، وطلبها المساعدة مني أنا بالتحديد، وشعورها بالاطمئنان حيال ذلك، ولد في قلبي كثيرا من الأمل الذي كنت على وشك فقده. لم أستطع أن أنام في تلك الليلة، كانت نظرات ساي الغامضة نحوي تؤرق قلبي، فلست متأكدا، أهي علامة إيجابية أم سلبية! فساي ليست كبقية النساء اللواتي تعاملت معهن، وأنا لا أستطيع قراءة وفهم ردود أفعالها الحالية.
ساي
حين رن هاتفي وأخبرني هيروكي أن باستطاعتي الخروج الآن، لأنه وسائقه أمام سيارتي وينتظرانني، خرجت ورأيته، كنت سعيدة جدا، يا لي من ماكرة! حققت حلمي بأن يراني بفستاني الجميل ومظهري اللائق، لم أظهر له اهتمامي بشيء، رأيت على وجهه علامات الإعجاب لكنه لم يعلق أبدا. طلبت منه أن يقود سيارتي بنفسه، فأنا حقا لا أقوى على قيادتها فقد تجمدت أطرافي تماما. كانت مشاعري مضطربة وقلبي يخفق بقوة خاصة أنه أعطاني معطفه لأتدفأ به. كان هادئا وصامتا طيلة الطريق، أجمل ما في هيروكي أن مشاعره ثابتة، فهو لا ينفعل كثيرا في المواقف الحرجة، ولا يخمد حبه في المواقف العادية، هو لا يستغل المواقف ليرمي بالكلمات هنا وهناك. هذا الثبات كان يعطيني مع الوقت الكثير من الأمان، شعرت بدفء شديد لم أشعر به منذ زمن بعيد. لكن عندما وصلت إلى منزلي اختلف الوضع قليلا، فقد شعرت أن مشاعره ستغلبه، تهربت منه وابتعدت عنه، واضعة مسافة أمان بيننا، فوقفت أمام باب شقتي محتمية به، لكنني لم أستطع ألا أراقب نظراته التي كانت تستجدي بقائي معه، كنت مترددة بين أن أتوجه نحوه مرة أخرى أو أن أودعه وأغلق باب شقتي. أنهيت ذاك التردد وتلك النظرات بطلب غريب مني: هيروكي، أود أن أقابلك غدا، تصبح على خير. - حسنا، أرسلي لي الزمان والمكان، تصبحين على خير.
لم يجادلني عن المكان أو الزمان، فقط قال حسنا، كأنني أملك حرية العبث بوقته كما أشاء، وجلبه من مكان إلى آخر. كم أنا لئيمة، لم أطلب أن أراه أصلا؟ لا أعلم، لقد تفوهت بهذا الطلب وأنا مضطربة، ماذا أود أن أقول له، لا أدري حقا!
بقيت طيلة الليل أفكر في غبائي وتسرعي، ثم أرسلت له رسالة حددت له مطعما صغيرا في بلدتي وذلك عند الساعة السادسة مساء، ولم أحدد لنفسي ماذا أود أن أقول له.
ذهبت إلى الموعد بهيئتي المعتادة، لم أبالغ بشيء، فأنا لست في موعد غرامي أو ما شابه ذلك. أنا سأذهب لسبب أجهله، ربما أود أن أحدثه عما يدور في ذهني. وصلت فرأيته جالسا على إحدى الطاولات، تلك الطاولة تم تزيينها بالورود، لا بد أنه قد طلب من صاحب المطعم أن يجهز الورود. شكرته وجلست، ولم أبالغ في مدح ما فعل، مع أن قلبي طار من فرحته. كم هو جميل أن يهتم أحدهم بتفاصيل صغيرة فقط لأجلك! لكن في الوقت نفسه لم أستطع ألا أعبر له عن مدى حبي للورود. فأنا حقا أحب الورود بشكل كبير، ثم بدأت حديثي معه: هيروكي، أنا أشعر بحيرة شديدة، أرجوك، لا أريد أن تسيء فهم موعد اليوم، لا أريد أن أتلاعب بمشاعرك، أنا لست هنا لأخبرك أن هناك أملا لعلاقتنا، لست هنا لأخبرك أنني سأفكر أو أوافق، أنا هنا فقط لأحكي لك عما في داخلي، أشعر بالاختناق! - ساي! لا تقلقي، أخبريني ما بك؟ - لا أعلم ماذا علي أن أفعل، أشعر بالاضطراب والخوف من أن أنجرف بسعادتي حيال مشاعرك، أنا لست مرتاحة لفرحتي بأن أراك، أن أقرأ رسائلك، أن أسمع كلماتك. لم تفعل هذا هيروكي؟ لقد كنت مرتاحة لمدة عشر سنوات، كنت أعيش بهدوء وسلام.
قاطعني وهو يضحك بصوت منخفض، وقال لي: لومي نفسك أولا قبل أن تلوميني، أنا كنت أعيش في هدوء لخمسين عاما، ثم جئت واستطعت أن تستحوذي على تفكيري، وقلبي، ومشاعري. إذن من عليه أن يلوم الآخر؟ ساي! أرجوك لا تنظري للأمر على هذا النحو، ما علاقة تلك السنين بارتباط جديد؟ - أنا حقا لست مستعدة لأي شيء، ليست المشكلة في مشاعرك فحسب، أود أن أتأكد إن كان قلبي مستعدا لخوض تجربة جديدة، تجربة قد تحمل السعادة له أو التعاسة، فكلا الاحتمالين وارد، أنا لا أعلم كيف سأتصرف حيال الأمر. - أتودين نصيحتي؟ - نعم أرجوك. - على الأقل، عودي إلى المركز، دعينا نتقابل بشكل أكبر، حينها على الأقل تستطيعين تقدير الأمور بناء على حقائق وليس على تخيلات ورسائل عن بعد.
أعجبتني فكرة هيروكي، هو محق، كيف سأتخذ أي قرار سواء بالنفي أو بالإيجاب إن كنا لا نرى بعضنا؛ لذا قررت أن أعود إلى المركز، وحين عدت عرفت تماما، كيف يولد الحب! لم يكن إدراكي لحقيقة مشاعري سريعا، بل أخذ الأمر مني عدة شهور إلى أن اكتشفت حقيقة مشاعري تجاه هيروكي. في الأسابيع الأولى بت أراقب تحركاته، أراقب كل ما يثبت لي أنه ينظر اتجاهي، يفكر بي، يود أن يرضيني، يتحايل لمحادثتي. كل تلك الأمور كانت ترضي الأنثى التي في داخلي. في المركز عدت كما أنا ساي الشقية، العفوية، ذات الصوت العالي والضحكة التي لا تتوقف. وهو يراقبني، يراقب كل تحركاتي وأرى عينيه كم ترسل كلمات حب لي. في المقابل، منذ أن رجعت إلى المركز لم يرسل لي أي رسالة خاصة ولم يتحدث معي فيما يتعلق بنا أبدا، أعلم أنه لا يود إزعاجي، ويريدني أن أعيد ثقتي بنفسي، وأن أبني ثقتي به بهدوء وبشكل تدريجي، وهذا ما حدث، بدأت أشتاق إليه أكثر فأكثر، أفكر فيه طيلة الوقت، وأحب رؤيته. أما المكتبة، فكانت ملاذي الآمن، كي أراه وهو مبتسم، لم نكن نتحدث كثيرا في المكتبة، فلم تعد كما كانت من قبل، فقد صار الطلاب يترددون عليها صباحا ومساء وفي أيام العطل، وفي وجود الطلاب لا فرصة لي حتى أن أجلس في مكان قريب منه، فمن عادة الطلاب أن يتقربوا منه كثيرا وينتهزوا الفرصة لرؤية ما يقرؤه، وما يفعله، وما يقوله. هيروكي يمثل قدوة مثالية لهم، هم يحبونه كثيرا، وعلاقتهم به ليست علاقة مدير بموظفيه، بل علاقة معلم حنون، لم أشعر أبدا أن ذلك يزعجني، على العكس، كان يعطيني شعورا جميلا وأنا أرى الجميع ملتفين حوله، ونظرات الود والاحترام والمحبة كانت نابعة من قلوبهم جميعا تجاهه. كل ذلك كان رائعا وكان يزيد من مشاعر الأمان لدي لكن ليس حينما أرى نظرات واضحة من الحب من امرأة تجاهه!
الدكتورة بريجيت، دكتورة في علم الاقتصاد، التحقت بالعمل هنا منذ عدة أشهر أي في أثناء غيابي. لم أكن قد تنبهت لوجودها إلا عندما أصبحت تبالغ بوجودها معه في كل الأماكن: في المكتبة، وفي مكتبه، وفي المطعم، وفي الحديقة، وفي ساعات الفراغ، لم تكن نظرات تلك المرأة نظرات إعجاب واحترام وتقدير وحسب، بل تجاوزت ذلك. إنها جريئة جدا، لا تهتم أن تلتصق به حيثما يكون متذرعة بعملها وأبحاثها. لا أعلم مدى أهمية أن يتابع معها كل تفاصيل بحثها. أفكر بتلك الرسالة التي أنبني بها حينما أرسلت له تفاصيل ورقتي البحثية، ثم أراها وهي تستشيره في كل صغيرة وكبيرة فيزداد غيظي. أنا ساي لا يسمح لي أن أشاركه أمور البحوث وهي تستطيع! أنا التي يحبها وينتظر جوابها لطلبه منذ أكثر من ستة شهور، وهي تسمح لنفسها أن تقتحم عليه حياته في كل لحظة من أجل ذلك البحث المشئوم! من تظن نفسها؟ ثم لا أفهم لم لا يخبرها أنه مشغول ولا يتدخل بكل تفاصيل العمل ومراحله؟ هنا بدأت الوساوس تصل إلى قلبي، فعلا لم لا يضع لها حدا كما كان يفعل مع كل الموظفين؟ هل تعجبه نظراتها وملاحقتها له؟ طبعا فقد فتح قلبه للحب وبات يستسيغه، فما المانع أن يتناسى مشاعره الحقيقية التي هي أصلا لي ويغطيها بمشاعر لتلك المرأة؟ كم أشعر بالغيظ! كما لو أن أحدهم يسرق أشياء هي من حقي وملكي أنا! اهتمامه ووقته ليس من حقها! كيف ستفهم ذلك! بقيت أراقبهما معا وبدأت النيران تشتعل في قلبي، ماذا لو أحبها بالفعل؟ نعم، فهو لم يعد يحدثني بموضوعنا بتاتا! أهذا جزائي لأني أتحت له المجال وصارحته بحيرتي؟ أهكذا هم الرجال، حين يشعر أن المرأة ستصبح ملكا له، يسأم منها؟ أكان شعوره ضحلا إلى هذه الدرجة؟ بدأ الحزن يتسلل إلى قلبي مرة أخرى، هذا تماما ما كنت أخشاه، أن أفتح قلبي مجددا للحب وأن يخذل ذاك القلب! لم فعلت هذا بنفسي؟ كم أنا ضعيفة! حمقاء وغبية! كيف سأعود مجددا فارغة القلب، كيف سأرتاح من غير التفكير بمشاعري الغبية تلك؟ علي أن أسيطر على مشاعري قدر الإمكان. كنت أحاول جاهدة ألا أدخل بدوامة الحزن والألم، لكن مهما حاولت السيطرة على نفسي، فأنا لا أستطع أن أكون لطيفة معه أبدا، بدأت أعامله بطريقة غليظة، أتحدث معه بأسلوب جاف هذا إن تحدثت. كنت أراه وهو مستغرب مني، وكنت أدعه في حيرته تلك، أريده أن يشعر بتأنيب الضمير نتيجة تصرفاته تلك، كنت أعلم بداخلي أني أتوهم كثيرا لكن لا شيء كان يثبت لي العكس. فما زالت نظرات الدكتورة بريجيت له واضحة جدا، وهو إلى الآن لم يوقفها عند حدها، كما لم يعد يريد الحديث معي أو سؤالي عن أخباري، أو عن وضعي، ولم أتعامل معه بتلك الطريقة؟ مضت عدة أسابيع على هذه الحال، وأنا لم أعد أحتمل بريجيت تلك إطلاقا.
هيروكي
منذ أن عادت ساي إلى المركز، عادت الألوان إلى حياتي، ألوان تفوق ألوان الطيف كلها. عاهدت نفسي ألا أفاتحها بالموضوع أبدا، فأنا أخشى أن تترك المركز مجددا، وهذا ما لن يحتمله قلبي من الآن فصاعدا.
في الأسابيع الأولى التي قضتها في المركز كانت تماما كما هي، ساي النشيطة، المرحة، ابتسامتها لا تفارق وجهها الحسن، أسمع ضحكتها في كل زاوية في المركز، فأشعر كما لو أني أسمع لحنا بل أغنية حب، لكن لم يطل حالها كذلك، فقد مرت عدة أسابيع لم تكن فيها ساي على طبيعتها أبدا، فسلامها وكلامها كانا جافين جدا، لم أعلم ما بها، خشيت أنها كانت تتخذ قرارها، وأن تعاملها الجاف هذا مؤشر سيئ، أنا فعلا انجرفت بحبي لها ولا أستطيع أن أتخيل أن تخبرني بقرار الرفض، لكن لم أكن أود أن أسألها فأعجل سماعي لهذا النبأ، فتغاضيت تماما عما أراه من تصرفاتها تجاهي. حين صادفتها ذات يوم في مطعم المركز، لم أستطع أن أمنع نفسي من مناداتها ودعوتها للجلوس معي على الطاولة نفسها، لقد اشتقت إليها وقلبي لم يعد يقوى على بعدها عني أكثر، جلست وحيتني ثم قالت لي وهي مغتاظة وتتصنع عكس ذلك: شكرا بروفيسور، لكن أخشى أن ذلك سيزعج حبيبتك! - أنا لا أملك حبيبة بعد، فالتي أحبها ما زلت أنتظر جوابها منذ أشهر وهي ما زالت تفكر، لا أعلم ربما نسيت طلبي، ربما نسيت أمري، أو حتى اسمي. هي وحدها من أفكر فيها ليلا نهارا، مع كل يوم يمضي أزداد تعلقا بها، وهي لا تبادلني شيئا من تلك المشاعر؛ لذا لا أعتقد أني أستطيع أن أسميها حبيبتي بعد!
لقد فهمت مباشرة من تقصد، إنها بريجيت، لم أكن أتخيل أن تشعر ساي بالغيرة منها، لكن يبدو أن ذلك قد حصل بالفعل، تظاهرت بعدم اكتراثي وفهمي لما ترمي إليه وأدرت الحديث لصالحي وعبرت لها عن بعض الكلمات التي في قلبي، علي أخفف عنه حمل هذا الحب. لم تستطع أن تخفي ابتسامتها حين سمعت كلماتي، كانت تجاهد ظهورها لكني رأيتها. أعلم أني أحبها وأن قلبي متعلق بها كثيرا، لكن لم أكن مدركا مدى هذا الحب، فأنا لم أتصور يوما في حياتي أني سأخلط بين مشاعري الخاصة وقرارتي في العمل. فبحث الدكتورة بريجيت مرتبط باختصاصي، ومن عادتي أن أشرف على هذه البحوث بكل تفاصيلها بنفسي لأني الأكثر خبرة بها، لكن يبدو أن غاليتي ساي تشعر بالغيرة من وجودي مع الدكتورة بريجيت. هل علي أن أشكر الدكتورة بريجيت على ذلك؟ لأنها جعلت مشاعر ساي تتحرك باتجاهي؟ أعتقد أن بعد مشاعر الغيرة تلك لم يعد الطريق طويلا لسرقة قلبها بالكامل.
بعد حديثي المقتضب مع ساي في المطعم ذلك اليوم، عدت إلى مكتبي واستدعيت البروفيسور هاندا والدكتورة بريجيت وأخبرتهما أنه من اليوم فصاعدا سيكون البروفيسور هاندا المشرف الأساسي لبحث الدكتورة بريجيت أما أنا فيتم إعلامي فقط في المراحل الأخيرة وفي الحالات الخاصة. لم أتردد إن كنت سأفعل هذا أم لا، فأنا طبعا سأفعل، نعم أريد أن أرضيها، لا أريدها أن تجرح أو تتضايق مني أو من غيري. أريد أن أراها وهي مرتاحة، تلك الشقية، لا تكترث بي بينما أنا أغير مسار العمل لأجل مشاعر قد لا تكون غيرة حقيقية، لكن مع كل هذا وذاك، أنا أشعر بالسعادة لأني أود أن أرضيها، أشعر بالسعادة لأنه أصبح لدي أولوية جديدة غير العمل، أمن الضروري أن تكون كل قراراتنا منصبة على مصلحة واحدة فقط! أليس من حقي أن تكون لي أولوية أخرى! على أي حال، حلت تلك المشكلة لمدة بسيطة لكن الدكتورة بريجيت بقيت على تواصل معي. أعتقد فعلا أنها تمتلك مشاعر خاصة تجاهي، وربما هذا ما رأته ساي قبلي وأدركته؛ لذا اشتعلت نار الغيرة في قلبها. لكن ماذا علي أن أفعل؟
مضت عدة أسابيع، ورأيت في عيني بريجيت إصرارا على مشاعرها. وذات يوم في المكتبة صرحت الدكتورة بريجيت وبكل وضوح عن مشاعرها، لم أرد أن أكسر قلبها لكن كان علي أن أكون صريحا معها، شكرتها على مشاعرها الجميلة واللطيفة ثم قلت لها: دكتورة بريجيت، علي أن أكون صادقا معك، أنا فعليا متورط بحب امرأة لا أعتقد أنها تكرهني لكنها لا تبادلني المشاعر حاليا. أنا أنتظر ردها منذ سنة تقريبا وسأنتظره لآخر يوم في عمري. - أهي الدكتورة ساي؟ - نعم. - نظراتك واضحة تجاهها، تلك المرأة غريبة الأطوار، لا أعتقد أنها الخيار المناسب، على أي حال هذه حياتك وأتمنى لك التوفيق.
مع أنني لست مضطرا أن أحكي لها، وأنا بطبعي أكره أن أتحدث عن خصوصياتي لزملاء العمل، ولم أكسر تلك القاعدة منذ عشرات السنوات. لكن في هذه الحالة كان الطريق الأسهل هو أن أخبر الدكتورة بريجيت بذلك كي لا تزعج ساي بعد الآن بتقربها مني. هكذا سأغلق كل المشاكل التي ستأتي من هذا الباب. لا أريد مشاكل أكثر، فأنا قد طال انتظاري وبدأ صبري ينفد. أيامي تمضي وأنا أتحسر على كل دقيقة تمر وساي ليست بقربي، لا أعتقد أني سأبقى صامتا بعد الآن، قررت أن أبدأ بالضغط عليها، مهما كانت النتائج.
ساي
بدأت الأيام تمضي بصعوبة علي، مشاعري مضطربة وروحي مرهقة، هذا الأسبوع عندما مضيت إلى بلدتي، أخذت إجازة من عملي في العيادة لعدة أيام، أشعر أني متعبة جدا وأحتاج إلى استراحة. مضى أول أسبوع بشكل رائع، فقد خصصت الكثير من المواعيد في عيادات البشرة والاهتمام بالصحة، واعتنيت مجددا بنفسي. قابلت الكثير من صديقاتي اللواتي لم أرهن منذ سنوات، لقد كانت حقا فرصة جيدة، مارست هوايتي بالطبخ وعمل الحلويات، علي أن أعترف أمام نفسي أني وددت لو أن هيروكي يتذوقها، خاصة كعكة التفاح التي كان يفضلها. في كل لحظة كنت أشعر أني أريد أن أراه، أتحدث إليه، قلبي يكاد ينفجر حين أفكر فيه. كنت تارة أشعر بالفرح وتارة بالحزن، ثم أتأمل كثيرا، وأعاود الكرة من جديد. كخبيرة نفسية، كان علي أن أفهم نفسي بسهولة وأن أكون صادقة، تماما كما أنصح من حولي. فلكي تصل إلى أعماق مشكلتك، وتكون قادرا على مسك خيوط حلها، عليك أولا أن تكون صادقا مع نفسك. لذا قررت أن أجلس مع الدكتورة ساي، أخبرها بصدق عما أشعر به، علي أساعد نفسي على إيجاد حل لكل هذا الاضطراب الذي أشعر به والذي يمنعني من التركيز. فكرت طويلا ووجدت أن كل هذه الأعراض تدل وببساطة على أني أكن لهيروكي مشاعر خاصة، وأود مشاركته كل الأمور التي أقوم بها في حياتي اليومية، وأشعر برعشة في قلبي حين أذكر تعابير وجهه. ثم تنبهت فجأة لأمر مهم جدا ، إنها أسابيع الصيف الكئيبة خاصتي، منذ يومين، كان اليوم الذي انفصلنا به أنا وهاك. على مدى السنوات العشر الماضية كنت أمارس طقوس الحزن والكآبة في هذين الأسبوعين بشكل لا إرادي، هذه المرة لقد مرت تلك الأسابيع من غير أن أتنبه لها أصلا!
إنه أيضا نوع من أنواع الحب، حين يصر الطرف الآخر على مشاعره، ويبقى صامدا أمام تجاهل من يحب، ويبذل قصارى جهده ويناضل كي يحتل تفكيره وقلبه. وتدريجيا، يصبح ما أراده حقيقة، أشعر أن هذه هي حالي مع هيروكي، لقد بقي متمسكا بمشاعره وعلم أنه سيستطيع إقناعي، علم أن مشاعره ستصل إلى قلبي في نهاية المطاف وستؤثر به. هناك من يشكك بهذا النوع من تبادل المشاعر ولا يدرجه تحت مسمى الحب الحقيقي، أن يحب الشخص من أحبه. أين المشكلة في ذلك! إن كان تبادل المشاعر تدريجيا! لقد أحببته، نعم، لقد أحببت هذا العالم الوسيم، الذي يكره رقائق البطاطا.
في ذلك اليوم لم أستطع أن أنتظر يوم الجمعة، بل أسرعت إلى سيارتي وانطلقت إلى المركز. كانت الساعة الخامسة عصرا، وكان الجو حارا جدا، وضعت الأغاني المفضلة التي أحبها وبدأت أعيش كلماتها وأنا في طريقي إليه. كنت في قمة حماسي، ولم أكن أعلم ما أود أن أقوله، لكن كانت المشاعر التي أشعر بها من أجمل المشاعر التي عشتها في حياتي كلها. كنت سعيدة جدا ولا أعلم كيف سآخذ الأمور بطريقة عفوية فالأمر محرج جدا.
وصلت إلى المركز، وانطلقت مباشرة إلى مكتبه، فلم أجده هناك. فبدأت أبحث عنه بين القاعات، وبينما أنا منهمكة بالبحث رأيته في الممر مع أحد طلابه، تفاجأ لرؤيتي في المركز في يوم الثلاثاء. قطع حديثه مباشرة مع طالبه واتجه نحوي مسرعا. لم أعلم ماذا سأقول له، قمت بإلقاء التحية فسألني: ساي! هل لديك عمل إضافي اليوم في المركز؟ - لا، بل أقصد نعم، لا أعلم، ربما. - ساي! هل من خطب؟ هل أنت على ما يرام؟ - نعم، أعتقد أني بخير. - تعتقدين؟ ساي، لا تبدين بخير، وجهك شاحب، أرجوك أخبريني ما بك؟
لم أستطع أن أطلب الحديث معه، لأني لا أعلم كيف سأبدأ وماذا سأقول، أخبرته أنني سأرتاح في مكتبي قليلا، فودعني ومضيت. ثم رأيته مجددا بعد عدة ساعات لكني لن أتحدث إليه، وعدت إلى مكتبي، وبينما أنا قلقة وأفكر، طرق أحدهم باب مكتبي، نظرت من طرف الباب فإذا هو هيروكي، لم أفتح له الباب، واعتذرت بأني لست قادرة على رؤيته الآن، لكنه أصر على أن يتحدث معي كما لو أنه شعر بما يجول في خاطري، وعلم أني هنا لأخبره بشيء يخصه: ساي، عزيزتي، أنا قلق بشأنك كثيرا، أرجوك لا تتركيني بهذه الحالة، أخبريني ما بك؟ - حسنا، أراك عند الحديقة بعد قليل. - سأنتظرك.
نظرت في المرآة وسألت نفسي، أهو قرار نهائي ساي؟ ثم أجبت نفسي، نعم بالتأكيد، وانطلقت مسرعة إلى الحديقة. هناك حين رآني، رحب بي، نظرت إليه بارتباك وخجل ثم أخذت نفسا عميقا. حاولت أن أزيل حالة الارتباك المسيطرة علي، وعندما شعرت أني مستعدة بدأت حديثي معه وعلى شفتي ابتسامة هادئة: هيروكي، طوال العشر سنوات الماضية كنت قد توهمت أنني قد أقفلت قلبي بشكل محكم، كنت واثقة أنني لن أضعف أمام حب أحد ما. مررت بعشرات المواقف وكنت قوية، صلبة، متماسكة أمام كل ما عرض علي من مشاعر وحب. كنت حازمة، متمكنة من نفسي ومن قلبي، كنت أرفض بسهولة، أرفض كل شيء من غير أن أبذل جهدا، كنت أكمل حياتي من غير أن أذكر أي كلمة قيلت لي، أو نظرة إعجاب وجهت نحوي. لكن منذ سنة وأنا أشعر أنني في ساحة معركة بين قلبي وعقلي، بين مشاعري وأفكاري، بين ماضي وحاضري، بين عهودي وتخيلاتي. عاهدت نفسي ألا أفكر بالارتباط ثانية لكني أتخيل وجودك بجانبي في كل مكان. كل عهودي كانت منحصرة حول أن أنفرد بنفسي وحيدة، لكن مشاعري كلها تدور حولك أنت. كل الصور التي أراها من ماضي تخبرني أنه علي الابتعاد عن تلك المنطقة الخطرة، عن الحب، عن المشاعر الجميلة، لكن حاضري يدفعني لتلك المناطق. أحكم عقلي فأرى أنه من التهور أن أدفع بنفسي إلى تجربة جديدة لا أعلم عاقبتها، لكن يأبى قلبي إلا أن يرمي بي إلى تلك المتاهة، لم أكن أعتقد أنني سأعود مجددا إلى تلك المشاعر. وها هو قلبي يعلن انتصاره، وها أنا اليوم جئت لأخبرك، أني استسلمت تماما.
نظر إلي بهدوء شديد، شعرت أنه يقوم بتخزين الكلمات التي قلتها في قلبه وعقله وذاكرته وروحه، كانت عيناه تلمعان بشدة، رأيت ابتسامة لطيفة ارتسمت على وجهه، كانت ابتسامة امتنان وثقة، ابتسامة مليئة بالحنان، شعرت بدفء شديد، أمسك بيدي وقال: ساي! كنت واثقا أن هذا اليوم سيأتي، منذ اللحظة الأولى التي شعرت فيها بمشاعر خاصة تجاهك، علمت أنك ستكونين نصفي الآخر وكنت متأكدا أنك ستقبلين مشاعري يوما ما وستبادلينني إياها. ساي، شكرا لك.
لم أستطع أن أطيل هذا الجو الذي يشعرني بالإحراج كثيرا، أجبته بكل حيوية وثقة: عفوا سيدي، ذلك من دواعي سروري.
فضحك هيروكي وكانت المرة الأولى التي أراه فيها يضحك، كم كان ذلك جميلا! لم نستطع في ذلك اليوم أن نتوقف عن الكلام. كل واحد منا كان يخبئ في قلبه كثيرا من المواقف والكلام والمشاعر التي عاشها طيلة تلك السنوات وحيدا مع نفسه، وكل واحد منا وجد الآن شريكا لحياته، فكما لو أننا نود أن نسابق الزمن؛ لذا راح كل منا يتحدث ويتحدث عن أشياء حدثت في الماضي، أحلام حلم بها وحققها وأخرى لم يحققها، أيام جميلة وأخرى متعبة وحزينة، والكثير الكثير من الكلام. بقيت يدي بين يديه وأنا أحدثه وأسمعه، تكلمت كثيرا، ووددت لو أن تلك الليلة تطول لمائة عام، لكن كان علينا أن نعود إلى منازلنا فغدا لديه عمل منذ الصباح الباكر والكثير من الاجتماعات.
ولكي نقتنع بإيقاف أحاديثنا وافتراقنا لتلك الليلة قلت له: ستكون الأيام كثيرة وسنلتقي، أعدك أني سأكثر من مجيئي إلى المركز، حينها أجابني: لا لن تكثري مجيئك إلى هنا، ولن نلتقي!
هيروكي
عندما كدنا نفترق، أخذت تعدني أنها ستكثر زياراتها إلى المركز وأننا سنجد فرصا أكثر لنلتقي، أجبتها أن ذلك لن يحدث: لا، لن تكثري مجيئك إلى هنا، ولن نلتقي، بل ستقيمين معي، ساي تزوجيني!
انتظرتها أن تجيبني، فلم أسمع صوتها، وتماما كالأفلام التي نراها، وضعت ساي يديها على وجهها وهي سعيدة وصرخت: أأنت جاد هيروكي؟ - كيف لا وأنا قد طلبت ذاك الطلب منذ أكثر من سنة، أجيبيني، أتقبلين بي زوجا؟
أجابتني بصوت يملؤه الحماس والفرحة: نعم أقبل!
لم أتمالك نفسي، أخذتها بين ذراعي، ثم سألتها: ساي! متى نحدد موعد زفافنا؟ - أسنقيم حفل زفاف؟ - طبعا، لكن لن يستغرق الأمر طويلا كي نرتبه، كوني على ثقة من ذلك. - يا إلهي كم هذا محرج!
قالتها وهي تضحك بأعلى صوتها، وتنظر إلي بعينيها الفرحتين، وقلبها المفعم بالحياة. أخيرا عاد صوتها إلى حيويته، وأسلوبها إلى شقاوته، وكلامها إلى طبيعته، حيث إننا تحدثنا كثيرا، وكعادتها كان حديثها ممتعا، كانت تغرقني بالتفاصيل دائما فتجعلني أشعر وكأنني أعيش الحدث نفسه، أخبرتني عن طفولتها وكيف كانت وحيدة لأهلها، لم تستطع أمها الإنجاب بعدها لظروف عدة منها الظروف الصحية، ولكن ساي مع شقاوتها وحسها المرح كانت بمثابة عشرة أطفال لها. حدثتني عن مراهقتها وعن محاولتها الفاشلة للاندماج مع الفتيات في صفها، ضحكت كثيرا فساي التي أعرفها الآن اجتماعية جدا، لم أتوقع أنها في يوم من الأيام عانت من الوحدة. ثم حدثتني عن حياتها الجامعية وكيف أنها من أجمل أيام العمر، من غير قصد مني شعرت بالغيرة، لا شك أنها تعتبرها كذلك لوجود زوجها السابق فيها، كانت تتجنب الإشارة إليه، لا أدري إن كانت لا ترغب بإزعاجي أو لا ترغب بإزعاج نفسها. سألتها: ساي، هل لديك مشكلة بذكر هاك؟ أجابت بالنفي التام لأنها لم تعد تكن له أي مشاعر، حتى مشاعر الغضب منه اختفت من قلبها. ثم سألتها بكل حمق: ساي أجيبيني بصراحة، لو عاد هاك قبل سنة من الآن، هل كنت سترتبطين به مجددا؟
انتظرت إجابتها ولكن من غير رد. لمت نفسي على سؤال لا معنى له في وقت كهذا. لماذا تظهر أغرب أوجهي معها؟! لماذا أفصح عن مخاوفي أمامها؟! لقد دخلت ساي لمكان في قلبي لم يستطع أحد الدخول إليه مطلقا، وكشفت أمورا عن نفسي لم أكن أنا أعرفها. أنا حقا لم أكن أتوقع أن لي ذاك الوجه الغبي الذي يغار من ماضي المرأة التي يحبها، ربما الغيرة ليست غباء. أنا بصفتي بروفيسورا لطالما كررت تلك القاعدة لطلابي حين يستفسرون عن أمر ما مرفقين سؤالهم بجملة «عفوا بروفيسور لدي سؤال غبي.» فأجيبهم: «لا يوجد هناك سؤال غبي.» لكني اليوم تأكدت أنه موجود، فسؤالي ذاك كان من أغبى الأسئلة على مدى التاريخ.
هيروكي
ساي، هي تلك الأميرة التي احتلت قلبي وعقلي، ها هي الآن معي وفي بيتي. ليلة زفافنا، كانت ساي مشرقة كوردة براقة، بكل حيويتها بكل نشاطها وبابتسامتها الساحرة. كانت تقفز هنا وهناك، تحيي الجميع وتتكلم مع المدعوين وتراقص الأطفال. عندما انتهى حفل الزفاف وانطلقنا سوية كانت ساي تمشي بخطوات هادئة جدا على عكس ما كانت عليه قبل قليل أثناء الحفل. شعرت بأنها تحاول الآن استيعاب بدئها لمرحلة جديدة في حياتها. كنت أحمل في صدري قلبا يخفق بسرعة لا نهائية. نظرت إليها، بدت مرتبكة بعض الشيء، ليست لأنها محرجة، أستطيع أن أفهم ما تشعر به الآن. ساي ستعيد تجربة الزواج مرة أخرى، هي لم تعد تمتلك تلك الثقة الكاملة بأن من يحبها سيبقى معها للأبد. أما قولي لها: «سأبقى معك وسأحبك للأبد» فلن يطمئنها، حتى لو كانت متأكدة من ذلك، فتجربتها السابقة ستلوح لها. كان علي أن أطمئنها وأعلمها أن مشاعري حقا لن تتغير تجاهها. تأملت ملامحها وهي ساكنة فمن النادر أن تكون كذلك، هي جميلة في كل حالاتها، تحيط بها هالة رائعة من الحيوية والتفاؤل والحب، لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أعبر عما أشعر به، كنت في حاجة لأن أفصح لها عما في قلبي علي أرتاح قليلا فأستطيع بعدها أن أطمئن تلك الحسناء، هي حسناء بأخلاقها، بسلوكها، بضحكتها، بسكونها وجنونها. يشع من وجهها نور لم أره من قبل، أهو صدقها؟ أهو حبها للآخرين؟ أم هي كذلك، خلقت جميلة مهما فعلت؟ ساي هي الآن لي ومعي وفي قلبي وفي روحي. لقد سمحت لقلبي أن يعبر إليها، كم أنا محظوظ بها! مشاعري تفوق الكلام. من أين سأبدأ؟ فجأة نطقت بحروف اسمها بكل حبي وبكل ما أحمل لها من مشاعر: ساي! أنت، كما أنت وكما ستكونين، وكما ستحبين أن تكوني. كما كنت، وكما ستتغيرين، وكما لن تتغيري، سأبقى بجانبك، داعما لك، فخورا بك. سأراك دائما وأبدا أجمل امرأة في الدنيا، أجملهن بروحك، بمشاعرك، أجملهن بملامحك، بطباعك، أجملهن بتفاصيلك، أجملهن حتى بأخطائك. ستغدو أحلامك أحلامي، وستكون كلماتك لحنا لحياتي. إن سئمت من طباعي أعلميني، وإن غضبت من تصرفاتي أخبريني، لكن كوني على يقين أني لا أقصد إزعاجك. إن شعرت بالحزن فشاركيني حملك، وإن أحسست بالملل فعبري عن ذلك. سعادتك هي أغلى ما أتطلع إليه، ابتسامتك لا تجعليها تفارق شفتيك، أما دموعك فلا أريد أن أراها. قوي أنا كنت قبل لقائك، لكن حين رأيتك، ورأيت فيك نصفي الذي لم أكن لأكتمل من غيره، بت أقوى وأجمل، بت أكثر اندفاعا وحماسا وحبا للحياة. أحتاجك، أحتاج وجودك بي ومعي.
كانت عيناها تلمعان بشدة حين كنت أحدثها، ربما لم أقل لها كلاما منمقا ككلام الشعراء، لكنني قلت كلاما رأيته وقع في فؤادها. - هيروكي، لا أحتاج أن تطمئنني، أنا مطمئنة بك، لست بحاجة لأن تبرهن لي عن مقدار حبك؛ فأنا التي حظيت بالرجل الأفضل، بحبه، وقلبه، وقوته، وجماله. أحتاجك، أحتاج أن تمد روحي وتدفعني كي أمضي قدما إلى الأمام وإلى الأمام فقط. لن أخذلك وأعلم أنك لن تخذلني. أنا هادئة اليوم لأني ممتنة، ممتنة لكل شيء ساعدني كي ألتقي بعالمي الذي اختصر لي عالمي. مليئة هي حياتي بوجوه وأحداث كثيرة، لكني ما رأيت لك شبيها في فصول عمري.
ساي
كم كان شعورا غريبا وجميلا، حين سألني هيروكي فيما إذا كنا سنقطن في منزله الخاص الحالي أم أنني أفضل أن يقوم بتغييره أو على الأقل تجديده، أجبته أن لا حاجة بأن يجدد شيئا، فكما اعتقدت ، منزله مصمم ومجهز بأحدث التكنولوجيا، ولم أستغرب حين زرته؛ فهيروكي يحب أن تظهر آثار النعمة عليه، فسياراته من أرقى طراز، واسعة، وأنيقة، ومجهزة بأحدث ما توصل له العلم ومتناسبة مع شكله ومظهره ومكانته في المجتمع. مكتبه والمركز الذي أسسه على النحو ذاته. حين حضرت للمرة الأولى من أجل مقابلة العمل معه، أذكر أني دهشت من رفاهية المكان وبالذات مكتبه الخاص. أنا لم أجلس في مكتب فاخر كهذا، ذي إطلالة متميزة كتلك التي رأيتها. حتى هو عندما رأيته لم أخمن أنه في الخمسين من عمره، بل في منتصف الأربعينات، ربما لأنه اعتاد على ترفيه نفسه ولأنه أيضا يفصل بين ضغوط عمله وحياته الخاصة، وضغوط حياته الخاصة عن مزاجه الشخصي. فتراه هادئا دائما، متفائلا ذا صدر رحب ومزاج جيد.
في الفترة الأولى بعد زواجنا وحين كنا نتنقل معا في البلدة، كان هيروكي يتقصد أن يمر على كافة الأماكن وأن يرانا جميع معارفه. يلقي السلام عليهم ويخبرهم قبل أن يسألوه «أعرفكم، الدكتورة ساي، زوجتي.» فيباركون لنا ويهنئونه. أما أنا فكنت أتأمله، كان سعيدا وفخورا بي جدا، شعرت بفرحته وكأن قلبه يتراقص، يمسك يدي بحنان ويقبض عليها برفق شديد، لاحظت أنه لم يكن يتركها أبدا ولا حتى ثانية واحدة، هو يشعر بقبضته وليس كما لو أنه ينساها، كانت مشاعره تصلني بكل تفاصيلها. أما حين يود الحديث معي يضمني إليه لأقترب منه أكثر ويحدثني بصوته الهادئ وبنبرته الجدية الساحرة. أجمل ما في هيروكي هو أنه لا يبدي استغرابه من تصرفاتي، لا يبدي لي أنه يرى شيئا غريبا ويتقبله لأنه يحبني. من غير شعور مني كنت أقارن ردة فعل هاك في كل مرة كنت أتصرف فيها بطياشة أو بحماس مبالغ به أو بعفوية غريبة، كان هاك يظهر تعابير بأنه مستغرب مما أفعله ومن ثم يبتسم، كمن يقول للآخر، تبدين غريبة لكني أحبك فلذا سأتقبل تلك الغرابة. ليس من حقي أن أقارن لكن عقلي الباطني كان يفعل ذلك رغما عني. لم ينظر لي هيروكي أبدا تلك النظرات ، بل على العكس، كان إن جلست هادئة قليلا يسألني فيما إذا كنت متعبة أو متضايقة من أمر ما. على أي حال، بعض الناس لا يستطيعون استيعاب كم هو متعب أن يكون الشخص متحمسا طيلة الوقت، لا يدركون كم هو مرهق وخارج عن نطاق الإرادة، أن تفرض عليك شخصيتك أن تكون مبتسما ومرحا أغلب الوقت، أن تظهر بمظهر الغبي بسبب أمر اندفعت إليه في لحظة حماس، ثم تشعر أنه لم يكن يستحق كل هذا الاندفاع، فتخمد وتكمد فجأة وتعاني من تغيرات دائمة في مزاجك. استطاع هيروكي أن يحتوي حماسي واندفاعي بحنان ورفق، لم يشعرني يوما أني أبدو غبية أو كلامي مبالغ فيه أو حماسي لا مبرر له.
أحد الأمور الأخرى التي لم أستطع إلا أن أقارنها أيضا هي كيف يكون الزواج في عمر الشباب مختلفا عن الزواج في عمر الأربعين والخمسين. فنحن كلانا الآن مستقران، بنينا ما بنيناه والآن لم نعد بحاجة لبذل مجهود إضافي لأقساط منزل أو دراسة مكثفة في مجال العمل أو التفكير من أين سأحصل على كذا؟ ومتى سأفعل كذا؟ فنحن وإن كنا مشغولين تماما في العمل لكن لدينا تحكم كامل بوقتنا ونستطيع في أي لحظة أن نأخذ إجازة أو نخفف وتيرة العمل. فأنا قد قمت بنقل عيادتي إلى البلدة التي نسكن فيها أنا وهيروكي، وسأتابع عملي فيها وفي المركز، لكن كل هذا من غير ضغوط متعبة أو مرهقة.
هيروكي
لم تعد الحياة كما كانت من ذي قبل، لم تعد الأيام تتكرر بتلك الرتابة السابقة. ساي هنا، تملؤني وتملأ عمري بكل ما هو جميل، جديد، ومتميز. حتى منزلي ملأته بتفاصيل كثيرة لم أكن أتخيل وجودها. مرت سنة ونصف ليست كالعسل بل هي أحلى، أستيقظ صباحا على صوتها العذب. كالوردة حسنائي، تزهر كل يوم بلون جديد. لكن الحياة ليست بوتيرة واحدة، ودوام الحال من المحال، أتى ذاك الأسبوع الغريب، حيث كانت ساي على غير عادتها، شاردة الذهن، كثيرة التفكير، قليلة الكلام، كما أنها لم تكن تضحك أبدا. لم أفهم ما الذي يساور ذهنها، لكنني لم أشأ أن أبدي استغرابي من ذلك. فضلت أن أتركها تعيش تفاصيل التغيرات النفسية التي تطرأ على أي امرأة، فأنا أعلم أن النساء لا يعشن حالتهن المزاجية بتواتر متساو، بل تتغير بشكل دائم، لكنني قلقت بعض الشيء عليها ولم أشأ أن أسألها الكثير من الأسئلة، عبرت قليلا عن ذلك ووجدتها لم تتجاوب معي، فقررت أن أعاود سؤالها مجددا عما يشغل بالها بعد يومين إن لم تتحسن حالتها المزاجية.
لكن قبل مضي هذين اليومين، تلقيت اتصالا بعد مغادرة ساي من المنزل إلى عيادتها، كانت المتصلة تتحدث بصوت خافت وبسرعة، لم أفهم منها إلا أن هاك قد عاود الاتصال مع ساي في الفترات الأخيرة! لم تشرح تلك المتصلة أكثر ولم أسألها، ولا حتى للحظة، لم يراودني شعور الشك بساي إطلاقا، لكن استطعت أن أفسر قلقها خلال الأيام الفائتة.
لا أعلم ما هي التفاصيل، ولست متأكدا أساسا من أن المتصلة صادقة أم لا، كما لم أبد للمتصلة أي اهتمام بما تقوله كي لا أجعلها تصل لما ترومه إن كانت تود العبث معنا فحسب. لكن تلك المرأة لم تتركني وشأني، بل أرسلت لي توقيت المواعيد التي التقت بها ساي مع هاك، إنها مصرة لسبب أو لآخر أن تزعجني، من هي تلك المرأة؟ وماذا تريد؟ والأهم من ذلك! ماذا يريد هاك؟ وما بال ساي؟ ولم لم تخبرني بشيء؟ لا أعلم الكثير عن هذه الأمور، ولا أعلم كيف علي أن أسألها، ما الذي يجري؟ فكرت كثيرا ووضعت كافة الاحتمالات بدءا من كونهما يتحدثان بشأن يخص عملهما الطبي، انتهاء بفكرة عودتهما لبعضهما وإدراك ساي بأنها تود ذلك فعلا! هل تسرعت ساي بالارتباط بي؟ أنا حقا لا أعلم، لكن ما أعلمه أن كل تلك الاحتمالات ضدي، ودليل ذلك مزاج ساي وتغيرها عني في الأيام الفائتة. قررت أني لن أقحم نفسي بدوامة الاستجواب والأسئلة والتخوين، أود أن أريح تفكيرها وأغيب بعض الوقت عن ناظرها، أما هي فعليها أن تتخذ قرارها من جديد. إلى الآن لست أعلم ما الأمر، لكنني مضطر للسفر إلى السويد بسبب انعقاد مؤتمر هام؛ لذا فهي فرصة جيدة لتعيد حساباتها. سوف أسافر وأطيل مقامي هناك إن لزم الأمر إلى ما بعد المؤتمر علها تخبرني بما يجول في خاطرها، وإن لم تفعل، فسوف أصارحها وأنا بعيد عنها وأسألها. هذا كثير علي، لا أستطيع أن أتخلى عنها وهي أمامي! لا أعلم، لا أود أن أحرجها، كما لا أود أن أجرحها! لذا فسأطعن قلبي، لا خيار آخر لدي!
أتى موعد السفر وما زالت ساي مهمومة وعلى غير عادتها، كنت أتأملها بحزن شديد وهي تحكم لي ربطة عنقي، وربما للمرة الأخيرة: هيروكي هل من خطب؟ - أترينني نسيت شيئا؟ - كن مطمئنا، لم تنس شيئا فقد حزمت حقيبتك بنفسي ووضعت لك كل ما تحتاجه. - نعم، معك حق!
أخبرتني أن أكون مطمئنا، ولم تعلم أنني بعد قليل سأترك قلبي معها وأغادر.
ساي
فاجأتني الممرضة حين أخبرتني أن هاك في غرفة الانتظار وحان دوره. تفهمت تماما حالة هاك، لم أكن أود أن أعطيه المزيد من الوقت أو التفكير، أمره لم يعد من شأني، جملتان أراد أن يقولهما وسمعتهما وانتهى الأمر، أدرك هاك أن رسالته قد وصلت ولم يتصل بي ثانية، لا أنكر اعتصار قلبي ألما عليه حين رأيته، ولكن الدروب لم تعد تجمعنا وليس في يدي حيلة. بقيت لعدة أيام شاردة البال أفكر في هاك، أظن أنني كنت كئيبة بعض الشيء، لاحظ هيروكي ذلك لكنني لم أود أن أشرح الموضوع لأنه غير مهم. حقا لا أريد أن أتحدث عن شيء، أحتاج لبعض الصمت في هذه الأيام.
بعد عدة أيام أخبرني هيروكي أنه سيسافر لحضور مؤتمر في السويد، فأعددت له حقيبة سفره، وحين ودعني بدا عليه الشحوب كثيرا، قلقت جدا، هل هيروكي مريض؟ هل يخفي عني شيئا؟ سألته، فأكد لي أنه بخير، إنما هو انشغال باله بشكل عام. ما أعلمني به في بادئ الأمر أنه سيغيب عشرة أيام فحسب، مر أسبوعان، وما زال هيروكي غائبا ولم يأت بعد، أخبرني أن دورة تدريبية جديدة سيتم افتتاحها وأن إقامته ستطول أسبوعا آخر، لم أعد أشعر بالراحة في المنزل وحيدة من غير هيروكي، أشعر بغربتي في كل مكان، فمنذ أكثر من سنة وأنا أصحو على صوت منبه ذاك العالم النشيط. هو يستيقظ باكرا منذ الساعة الخامسة صباحا، يتسلل من سريره كي يقرأ رسائله الإلكترونية، وبعد ساعة يوقظني بلطف وحنان. لا أدفأ من يوم يبدأ باحتساء قهوة أعدها هيروكي، وبقرب هيروكي، ومع تبادل الحديث مع هيروكي. منذ أن تزوجنا وهو يعاملني كأميرة، لقد ازداد تعلقي به، أحببته أكثر فأكثر. أستطيع بسهولة أن أرى كم هو ممتن لكل ما أقوله، لكل ما أفعله، أو حتى لكل ما لا أفعله، هو راض دائما فحسب. ذاك الرضا والامتنان يدفعانني دوما لإعطاء المزيد له، من الحب والمشاعر والاهتمام. أحاول أن أحيطه بكل ما هو جميل بكل ما أملك من طاقة. أشعر بسعادة غامرة حين أرى أن راحته فقط أن يستند على كتفي وأضمه بين ذراعي.
حين طال غيابه كثيرا اتصلت به وأخبرته أنني سأسافر لبضعة أيام إلى مدينتي، علني أخفف من وطأة وحدتي، وحدتي التي كنت قد اعتدت عليها لسنين طويلة، الآن لم أعد أستطيع تحملها حتى لأسابيع! كم يتغير الإنسان بسرعة! ما زاد الأمر سوءا هو أنني بقيت أفكر في حالة هاك، وجودي لوحدي أعاد لي ذكرياتي السابقة مع هاك. أعاد لي كل الأيام الماضية بحلوها ومرها، لم تكن قصتنا بتلك البساطة، لتنتهي من روحي ببساطة!
الفصل الثالث
فصول لا تنسى
هاك 1994
طوال أعوامي العشرين الماضية لم أعش أي قصة حب، في مرحلة الدراسة الثانوية وحين بدأ أصدقائي بمواعدة الفتيات، كنت لا أعير بالا لأي فتاة، بل كان جل تركيزي على دراستي فحسب؛ فقد وضعت هدفا أمامي، كنت أرى نفسي بعد عشر سنوات من ذلك الوقت طبيب أعصاب ناجح. هذا أنا، أعرف ما أريد بالتحديد، الحياة بالنسبة إلي معادلة بسيطة كحاصل جمع واحد زائد واحد يساوي اثنين. خلال تلك الفترة صارحتني ثلاث فتيات بإعجابهن بي ورغبتهن في الخروج معي وبدء المواعدة، ولكني قابلت هذا الإعجاب بالرفض لأني لم أر الخروج مع إحداهن سوى إضاعة لوقتي، وهدر لمالي لا أكثر ولا أقل. بقيت حكما على قلبي، متحكما بزمام أموري إلى أن جاء ذاك اليوم حين رأيتها تركض خلف الضفدع بعد أن نزعت عنه المثبتات، كانت أول سنة لنا في كلية الطب، عادة أسخر من تصرفات كهذه، وربما أزدري أصحابها ولكنها الوحيدة التي كانت قادرة على إضحاكي من ردة فعلها تلك، فهي لم تبال باستهزاء الآخرين أو حتى بصراخ الأستاذ، بل استمرت في ملاحقة ذاك الضفدع، فهي مصرة على تشريحه. يا لها من فتاة مميزة تجمع بين البساطة والقوة في الوقت نفسه! لها سحرها وجاذبيتها الخاصة التي لم أرها في أي أحد قبلها، تجمع بين الطفولة والأنوثة. لا بد أن معجزة ما قد حصلت، فقد وقعت عيني على من أعجبت، أنا هاك، بها.
منذ ذلك اليوم وأنا أتابعها، عيناي تلاحقانها أينما ذهبت، بدأ إعجابي بها يزداد. لضحكتها العالية المستهترة صوت بت أهواه، السعادة لا تغادر وجهها، وكأن الابتسامة هي الطابع الذي طبعت فيه، على عكسي أنا. لا أعلم لم هي سعيدة إلى هذا الحد! لكنها كذلك!
بعد الاستفسار عنها علمت أنها غير مرتبطة في علاقة ما في الوقت الحالي كما لم تكن مرتبطة سابقا. شيئا فشيئا بدأ إعجابي يتحول إلى حب، تذكرت تلك الفتيات وكم احتجن لشجاعة حتى يصارحنني، وكيف قابلتهن ببرود. لو أني أملك نصف شجاعة تلك الفتيات الآن لأذهب إليها وأصارحها، ولكني أخاف أن أفاجئها، لذا فأنا أفضل التمهيد. أريد أن نصبح أصدقاء أولا ومن ثم أصارحها بحقيقة مشاعري، لكن من جهة أخرى أخشى إن أصبحت صديقا لها أن أدخل منطقة الأصدقاء فلا أخرج منها أبدا، بحيث إنها لن تفكر بي كشريك مستقبلي للحياة. بالفعل أنا في حيرة وارتباك ولا أعرف ما هو السبيل للوصول إلى تلك الشقية.
ساي 1996
كثيرا ما سمعت الفتيات يتحدثن عن ذلك الشاب الشبيه بالأمير المتعجرف، هاك. لا أنكر أنه لفت نظري، وكيف لأمير ألا يلفت الأنظار، فأنا أولا وآخرا أنثى يثير انتباهها شاب كهاك. لكن لم أفكر فيه من ناحية عاطفية لعدة أسباب، أولها أني لم أكن أشغل بالي في الوقوع في علاقة حب في هذه الفترة خاصة أنني في بداية مشواري الطبي وهو مشوار طويل وشاق جدا. كنت أشعر أن العلاقة التزام وأنني لن أستطيع أن أكون ملتزمة في هذا الوقت وستكون أي علاقة حب عبئا علي لا أكثر. ثاني الأسباب هو أني كنت أعتبر هاك شابا بعيد المنال جدا، صارما وجادا ولم أكن أعتقد أن فتاة مشاكسة مثلي ستجذب انتباهه! صحيح أني مشهورة في الكلية، ولكني مشهورة فقط بتصرفاتي الطفولية الطائشة!
أتى ذاك اليوم حين كنا في التطبيق العملي لمادة الإحصاء الطبي وتوجب علي جمع قياسات هاك من نبض وضغط وما إلى ذلك، وعلى هاك أخذ قياساتي أيضا. حين بدأنا بالعمل شعرت بارتباكه الواضح كدت على وشك الانفجار ضاحكة. أهكذا يرتبك الأمير المتعجرف في حضرة فتاة عادية! أإلى هذه الدرجة لا يجيد هاك التعامل مع الفتيات! لكني بالطبع كتمت ضحكتي وتمالكت نفسي ثم بدأت أنا نفسي أشعر بالارتباك، وكأن ارتباكه عدوى انتقلت إلي، مع ذلك ضحكت في نهاية الأمر، فلم أتمالك نفسي. في البداية توقعت أن أحظى بتوبيخ منه عن أهمية احترام زملاء المستقبل وأهمية التطبيق الجاد وأخذ القياسات بدقة، هذا ما توقعته بناء على ما سمعته عن شخصيته، لكنه فاجأني بردة فعل مختلفة جدا! لقد ابتسم! كم كانت سعادتي كبيرة من ردة فعله تلك، هاك ابتسم!
منذ ذلك الوقت بدأ قلبي ينبض حين أراه وعلمت أن هذا ما يسمى بالحب. خلال أسابيع قليلة أصبحنا نلقي التحية على بعضنا البعض في كل صباح. وفي كل مرة كان ارتباكه يزداد أمامي، كنت أشعر أنه شخص آخر، شخص لم يكتشفه أحد سواي، وهذا ما ولد السعادة في قلبي.
مرت عدة أسابيع ثم أتى ذلك اليوم حين تم استدعاؤنا من قبل الطبيب المشرف على المختبر الذي جمعنا فيه القياسات سابقا من أجل إجراء الحسابات الخاصة لمادة الإحصاء. أراد المشرف أن يسألنا عن الخطأ الذي ارتكبناه خلال جمع القياسات، فقد كانت الأرقام متجاوزة للحد الأقصى لأشخاص في أعمارنا، كان ذاك المشرف منزعجا جدا لذلك وبدأ بإلقاء محاضرة علينا عن ضرورة أخذ القياسات بدقة وانتباه، كلانا كان يعلم أنه لم يكن هناك أي خطأ وكأن هذه النبضات المتسارعة تخبرنا عن ولادة حبنا. بعد هذا التوبيخ دعاني هاك لاحتساء القهوة، كان يحسب أني أتأثر مثله لأمور بسيطة كهذه. كان يحاول التخفيف عني بشتى الطرق، لم يكن يعلم أني غير مهتمة في داخلي ولكني حينها تصنعت الاهتمام فقط لأجله وأظهرت ملامح التأثر على وجهي، هاك وباندفاع قال لي: ساي، أنت لم تخطئي صدقيني، ستضحكين إن أخبرتك عن السبب وربما تهزئين مني، أرجوك اسمعي ما سأقوله على محمل الجد. - حسنا هاك، لن أهزأ منك بالتأكيد. - ساي! لم تكن قياساتي غير طبيعية، لم تخطئي بقياسها ولا بتدوينها، بل كانت تلك هي نبضات قلبي الحقيقية، تسارعت حين نظرت في عينيك، ساي أنا أحبك!
وسكت بعدها، خشيت أنه قد تسرع في تلك اللحظة في اعترافه. بقي صامتا لعدة لحظات، شعرت بثقل هذه اللحظات، أردت مبادرته بالقول وأنا أيضا بدأت بالوقوع في حبك، لكنني تراجعت إلى أن يكمل هو حديثه، وكأني خفت أن يكون كلامه وليد هذه اللحظة وإن قابلته بالإيجاب سأتسرع، لكنه أكمل بكل شجاعة: نعم أحبك ساي، ومنذ عدة أشهر، في كل تصرف من تصرفاتك تثيرين انتباهي، ابتسامتك التي لا تفارق وجهك هي سر سعادتي في هذه الأيام، منذ أن سرقت انتباهي إلى الآن وأنا أشعر أن حياتي تغيرت مائة وثمانين درجة، أرجوك فكري في الأمر.
وهم راحلا ولكني أمسكت يده وقلت له: هاك، تذكر أنه ليس وحدك من حصل على قياسات متجاوزة للحد الطبيعي!
لمعت عيناه بشدة وابتسم ابتسامة فاتنة حين تلقى رسالتي تلك، كان ذلك في السنة الثالثة من دراسة الطب، أمضيت بعدها مع هاك أجمل ثلاثة أعوام في حياتي. مع أن هاك كان مستاء مني بسبب تحفظي الزائد في علاقتنا العاطفية تلك، فأنا لا أسمح له بأن يزورني في منزلي إن لم تكن أمي فيه، لم يستطع هاك في بداية الأمر تقبل الموضوع إلا أنه اعتاد عليه لاحقا، وعلم عن البيئة المتحفظة التي نشأت بها، نتيجة لذلك بدونا كما لو أننا صديقان مع أن حالة هاك واضحة جدا للعيان، كان يهتم بي وبكل أموري بكل ما أوتي من طاقة. صديقاتي لاحظن ذلك وبدأن بالاستفسار والسؤال: لماذا لا ترتبطان بشكل رسمي؟ ألا تفكران في ذلك؟ على فكرة أنتما لا تتناسبان مع بعضكما البعض، وهذا واضح منذ البداية!
الكلام نفسه بدأت بسماعه من أطراف عديدة. الضغط يزيد من حولي وخاصة أن هذه السنة هي سنة التخرج وإلى الآن لم نتكلم عن المستقبل. هاك لديه فرص عديدة للاختصاص في أفضل المستشفيات بناء على علاماته المتميزة. أما أنا في الحقيقة ففرصتي ضئيلة، لست مستعدة لأن تصبح علاقتنا علاقة عن بعد، لا أحتمل عدم رؤية هاك يوميا، أنا في بحر ودوامة، هل نحن بالفعل غير مناسبين لبعضنا البعض؟ هل يفكر هاك الآن بالارتباط الرسمي؟ أم أنه يفضل أن تبقى الأمور بيننا كما هي؟ لا أريد الضغط عليه فأخسره، وفي الوقت نفسه أحلم أن نرتبط بشكل رسمي.
مر شهران وأنا على هذه الحال، لاحظ هاك حالتي وبات يلح بالسؤال بشكل متكرر: ساي ما الخطب! وأنا لا أدري بم أجيبه؟ أأخبره بالحقيقة؟ أأخبره أني بدأت أخشى على مستقبلنا وأن هناك احتمالا ألا نبقى معا بعد الآن؟ أم أترك الأمور على ما هي عليه حتى لا يشعر هاك بالضغط، فالارتباط مسئولية وأخاف ألا يكون هاك مستعدا لذلك الآن.
هاك 1999
مرت ثلاثة أعوام على بدء مواعدتي لساي. كانت بحق من أجمل أيام عمري ولكن ساي في الفترة الأخيرة كانت تتغير لا أدري بحق ما خطبها! هي تزعم أنها بخير وأن كل شيء على ما يرام، ولكني بعد أن عرفتها على مدى هذه الأعوام الثلاثة أعلم علم اليقين أن هناك خطبا ما. حاولت سؤال أصدقائها المقربين ولكنهم تجنبوا الإجابة. بقينا على هذه الحال شهرين كانت خلالها ساي حاضرة وغائبة في الوقت نفسه، كانت معي وليست معي. أعلم أنه ليس لديها أي مشاكل عائلية، إذن ما الأمر ساي؟ أرجوك أعلميني! لم تعد تقابلني بتلك الابتسامة التي أعشقها، ساي لو تعلمين مقدار الألم الذي أعانيه من تغيرك المفاجئ لأشفق قلبك على حالي.
بعد عدة أيام عرفت أخيرا ما بها بالصدفة، حين كانت في المختبر تتحدث مع صديقاتها دخلت فجأة لآخذ أغراضا لي نسيتها هناك. سمعتهن يتحدثن عن استحالة ارتباط رسمي بيني وبين ساي، عن عدم استعدادي له، عن عدم تناسب شخصياتنا، وأننا، أنا وساي، كقطبي المغناطيس! أشفقت على ساي، كم كانت تتحمل من غير أن تنبس ببنت شفة! لا، لا أريد لساي أن تشعر بعدم الأمان معي، أريدها أن تعلم أن كل أمورنا ستبقى على ما يرام. لذا لم أتردد، مضيت مباشرة واشتريت خاتمين، فأنا هكذا وكما هو معروف عني، إذا قررت نفذت.
في وقت لاحق من اليوم ذاته وقبل أن تبدأ المحاضرة اعتليت مكان الطبيب المحاضر قبل وصوله حيث كان جميع الطلاب في أماكن الجلوس. طلبت الزواج منها على الملأ كله، لا بد أن هذه الفتاة قد أصابتني بشيء من جنونها!
دهش الجميع، تركتهم في ذهولهم وتوجهت نحو أميرتي حيث كانت تجلس، قبضت على يدها وألبستها الخاتم من غير أن أنتظر سماع جوابها، نظرت إلي باندهاش شديد، رأيت لآلئ تنهمر من عينيها. دخل الطبيب المحاضر عندما أنهيت طلبي. مضيت وجلست إلى جانبها وبدأت المحاضرة. أمسكت بيدها ثم همست في أذنها: دموعك، لا أريد أن أراها، فعلت كل شيء وسأفعل، فقط لأسمع صوت ضحكتك وأرى ابتسامتك، أريد أن أراها الآن وحالا!
مسحت دموعها وأحكمت القبض على يدي، التفتت إلي بنظرتها البريئة، بنظرتها الجميلة، وللمرة الأولى أرى ساي وهي لا تقوى على الكلام. علمت في تلك اللحظة أن ارتباطي بساي هو أفضل شيء أقوم به في حياتي بعد الوقوع في حبها. يا لحبيبتي ساي!
ساي 2006
لن أنسى حين قال لي يوما ونحن في السنة الخامسة من دراسة الطب «ساي! عليك أن تصبحي طبيبة نفسية، أنت قريبة إلى قلوب الجميع، ولا أحد يجد صعوبة في التحدث إليك بشفافية، روحك سمحة ومتصالحة مع كل شيء، لذا تستطيعين استيعاب آلام الناس.» وحقا تم ما قاله، تخرجنا وقمت باختيار هذا الاختصاص. ما زلت أذكر هدية زواجنا حين أدخلني هاك إلى مبنى من أرقى المباني في مدينتنا، في البداية ظننت أنه سيدعوني إلى أحد المطاعم هناك. لكننا حين تجاوزنا قسم المطاعم، قلت في نفسي لا بد أن هاك يحتاج للتكلم مع محام بخصوص بعض الإجراءات، ومرة ثانية تجاوزنا قسم المكاتب إلى أن وصلنا إلى قسم العيادات، هنا سألت هاك إن كان يعاني من أي شيء صحي. لم يجبني، فتح باب إحدى تلك العيادات وصدمتي كانت كبيرة: ساي، أعطيني رأيك! - رأيي بماذا؟ - بعيادتك المستقبلية.
توقفت الكلمات في فمي وقفزت وضممته إلي، كم كنت سعيدة بهذه المفاجأة!
أعوام خمسة مرت بعد زواجنا وحين كنا على مشارف دخولنا العام السادس، أشياء كثيرة اختلفت. أعترف أن هناك تقصيرا من طرفي اتجاه هاك، فأنا أتعامل معه كما لو أنني طفلته المدللة، تلك الطفلة التي تعلمت على الأخذ ولكنها لا تتقن العطاء، ليس بسبب أنانيتي، لكني بالفعل لا أعلم ماذا علي أن أقدم لهاك، هو مكتمل بذاته!
شيئا فشيئا ومع مرور الوقت بدأت تراودني مشاعر جديدة حينما أرى الأطفال، أنا أيضا أريد طفلا لنا يشبه هاك في كل شيء. بدأت بالتحدث مع هاك في خصوص هذا الموضوع ولكنه رفض، سبب هذا الرفض السريع جرحا كبيرا في داخلي، لماذا يرفض هاك الطفل؟ ألم يكن هذا حلمه بالأصل ولكننا آثرنا تأجيله إلى أن أنتهي من اختصاصي! هاك ما الذي تفكر فيه يا ترى؟ إلى الآن لا أستطيع قراءة الحالات المزاجية له مع أنه يعرف ما يدور في بالي من غير أن أتحدث بكلمة! هل لأني أبسط منه بدرجات كثيرة!
تنازلت عن هذا الطلب لفترة ولم أعد أتحدث عنه، وظننت أن كل شيء سيكون على ما يرام بعد مدة. وأتى ذاك اليوم، حين رأيت هاك في العيادة بوجه شاحب، حينها علمت أن هناك خطبا ما، ارتعشت في داخلي، ولكني أظهرت الصلابة. أعلم أننا لم نعد كما كنا حين التقينا عصافير تحلق في الحب، أمور كثيرة تراكمت بيننا ولكن إلى الآن لا أرغب في الابتعاد عن هاك.
دخل هاك إلى العيادة بعد انتهاء دوامي فسألته ما الخطب؟ أجابني إنه قادم بصفته مريضا، ثم جلس على كرسي المرضى، سألته: ما علتك، فأجابني: أنت، أنت وجع قلبي أنت ألمي، أحبك ولا أستطيع الشفاء من حبك لكن لم أعد أستطيع الاحتمال، أريد الشفاء من هذا المرض، ساي! أريد الانفصال!
لا، لست مستعدة بعد، أعلم أن التراكمات الصغيرة أثرت على حبنا وأحدثت مشاكل كبيرة، لكني كنت دائما وأبدا أتمنى أن نجد الحلول. لم أستطع في تلك اللحظة أن أبوح عما في داخلي، فأنا أعرف هاك كباطن كفي، حين يعزم على أمر ما فإنه سينفذه؛ لذا لا توسلاتي ولا دموعي كانت لتجدي أمامه إلا أنها ستزيد على جرحي ذلا. أجبته بالموافقة من غير أن أزيد في الكلام. هنا بدأ هاك بسرد مبرراته للانفصال، في البداية لم أكن أصغي لما يقول، كنت شاردة في عالمي وسواد المشهد أمامي، لكنني تذكرت أن هاك الآن يتكلم بصفته مريضا ومن واجبي أن أصغي إليه بانتباه. عاد وأكد أنه أحبني وما زال ولكن حياتنا معا أصبحت مستحيلة، كرر لي أني لست السبب الوحيد بل كلانا، لم يضع هاك كل اللوم علي، وبدأ بالسرد: ساي، حين أحببتك علمت أن هناك طفلة في داخلك لا تستطيع أن تنضج وأن هناك فوضى في تفاصيلك لا تستطيع أن تنتظم. أما أنا فكنت على عكسك تماما، فأنا في داخلي إنسان ناضج لا يستطيع أن يجاري تلك الطفلة، وإنسان منظم لم يحتمل تلك الفوضى. كنت آمل أن أتغير قليلا أو أن تتغيري أنت قليلا فنتفاهم بشكل أفضل لكن للأسف لم نساعد بعضنا البعض أبدا. كل منا بقي في عالمه وقوقعته رافضا الانفتاح على عالم الآخر، رافضا أن يأخذ بيده. نعم، نحن متحابين لكن بقاءنا معا لا يزيدنا سوى الألم، أنا لن أزيدك سوى الجروح. حقيقة، أنا أخشى من ذاك اليوم، أخشى من اليوم الذي سيأتي ونكره بعضنا البعض؛ لذا أريد الانفصال قبل مجيئه، لا أحتمل فكرة أن تكرهيني ساي!
وافقت هاك في هذه النقطة لأني أنا أيضا لا أريد أن يأتي اليوم الذي يكرهني هو فيه. مضى، وحين وصل إلى الباب قال لي: عليك أن تنضجي أكثر ساي، أتمنى لك حياة سعيدة.
عن أي حياة تتحدث أنت يا هاك!
هاك 2006
بدأنا العام السادس من زواجنا بطلب جديد من ساي، ألا وهو الطفل. حين سمعت طلبها رفضت مباشرة، وصرت أفكر وحدي: ساي ألا يكفيني ما بي لتزيدي علي برعاية طفل؟! ألا تكفيني رعايتك! أرجوك تعلمي الطهي على الأقل قبل التفكير في إنجاب طفل، أم ماذا تنوين إطعامه! ساي أرجوك فكري بعقلانية، أم تريدين ترك العيادة والعمل الذي كان حلمك من البداية وعاهدتني ألا تتخلي عنه! أنا أيضا أريد طفلا لنا ولكني أشعر أن ساي ليست حملا لهذه المسئولية. ومع هذا الطلب في بداية هذا العام بدأ هذا التفكير هو هاجسي ليلا نهارا، لا أفتأ أفكر متى ستستطيع ساي تحمل مسئولية أكبر! متى ستنضج أكثر حتى تستطيع تحمل مسئولية عائلة! لا أنكر أني أنا من بالغت في تدليلها ولكني كنت سعيدا ولم أكن أدرك ذلك أصلا، لكن مع هذا الغزو الفكري الذي اجتاحني لم أعد أحتمل تلك الفكرة، بدأت فكرة الطفل تسيطر علي بشكل كامل، ولكن لا أرغب بطفل ترعاه ساي. تغيرت معاملتي لها، بت أغضب من كل تصرفاتها، كانت تقابل غضبي بالبكاء، أنا نفسي لم أعد أعلم ما حل بي، لم أعد هاك الذي عشق تلك الفتاة، أعلم أني ما زلت أحبها ولكن عقلي يأبى أن يوافقني بعد الآن، بكاؤها أصبح يستفزني لأني أشفق عليها من جهة ومن جهة أخرى أريدها أن تنضج وألا تواجه كل مصاعبها بالبكاء، فما هكذا تحل المشاكل . أصبح الصراع في داخلي يقتلني، استرجعت كلام من حولنا عن أن ارتباطنا منذ البداية كان خطأ، فكرت كثيرا وطويلا وفجأة قررت إصلاح هذا الخطأ، نعم، قررت الانفصال عن ساي لأريحها وأريح نفسي. في البداية فكرت في الانفصال المؤقت، ولكنه ليس حلا جذريا، أريد حلا جذريا لكل تلك المشاكل. لذا عزمت على الطلاق! ذهبت إلى عيادتها وبكل ما أوتيت من قسوة أعلمتها بقراري، تركت روحي عندها وذهبت، لست نادما لأن حياتنا معا أصبحت مستحيلة، أرواحنا تشتاق لبعضها البعض ولكن تعايشنا معا بات صعبا، أخاف من اليوم الذي ستتمنى فيه أنها لم تلتقيني، أخاف عليها من لوم نفسها على حبي، على إعطائي كل ما هو جميل، وأخاف أن تكرهني!
أما أنا فلن يأتي اليوم الذي أندم فيه على حبي لساي، وهل هناك أحد يكره الأطفال؟ فنحن نحبهم مهما أساءوا لنا. هذا كان حالي معها، ضقت ذرعا من بعض تصرفاتها وكنت سريع الغضب شديد الانفعال تماما كالأم الصارمة التي توبخ طفلتها حين تسيء التصرف، ولكن حبي لها لن يتغير. ما فاجأني حقا تقبل ساي للأمر وتحملها لسماع قراري القاسي بشجاعة من غير تلك الدموع التي عهدتها عليها.
بعدما خرجت بعدة دقائق تذكرت أني نسيت محفظتي في العيادة. لم أكن راغبا في العودة ومواجهة ساي مباشرة بعد الانفصال لكن علي استرجاع المحفظة. دخلت العيادة، كان باب غرفتها مفتوحا سمعت صوت انتحاب ساي وبكاءها. لم أشأ أن أقاطعها فعدت أدراجي. انتظرت ساعتين وعاودت الكرة علها تكون قد غادرت العيادة فقد أصبح الوقت متأخرا. دخلت مجددا فرأيتها تغط في نوم عميق على مكتبها والدموع على خديها تماما كالأطفال حين يواجهون المشاكل يبكون ويبكون إلى أن ينهاروا ويناموا. أخذت محفظتي وانسحبت بهدوء تاركا ورائي حب حياتي.
وداعا ساي، سأشتاق إليك.
ساي 2012
مرت قرابة السنة أو أكثر إلى أن استطعت العودة إلى الحياة الطبيعية وممارسة عملي من جديد بعد الانفصال عن هاك. ما زلت أذكر تلك الليلة كأنها حصلت بالأمس. أذكر أني سمعت وقع أقدام هاك عائدا، كنت بين حالتي الغفوة والصحو، قلت لنفسي حينها إن قبلني على جبيني كما يفعل عادة فبالتأكيد هناك أمل للعودة. كم منيت نفسي أن يفعلها ولكنه هاك وقد اتخذ قراره. تقبلت الأمر، فلا خيار آخر لدي. عاودت العمل ولكن من غير رغبة حقيقية فيه، حاولت أن أشغل نفسي بهوايات جديدة، عاودت اتصالاتي مع أصدقائي، كنت أضعف تارة وأقوى تارة أخرى. كثيرة هي الأيام التي كنت أقرر فيها الذهاب إلى هاك، والتحدث إليه واستمالة عواطفه لنعود ثانية، وكثيرة هي المرات التي وصلت فيها إلى باب بيته، ثم في آخر لحظة كنت أعود أدراجي بنفسية محطمة وروح مرهقة. كنت في حاجة إلى أن أشغل نفسي بقضية أهم من انكسار قلبي وتشتت روحي. فانشغلت في تلك الأثناء بابن صديقتي الذي كان يعاني من مرض التوحد، لطالما جذبني هذا الموضوع ولطالما رغبت في العمل مع أطفال التوحد. بدأت أتابع حالة الطفل، أحببته جدا وشعرت أني أعوض فيه قليلا من شعور الأمومة الذي أفتقده وبشدة. لطالما حلمت بطفل من هاك، يشبهه بشدته ورقته. لكن للأسف هاك هو الذي لم يرغب في طفل لنا، كان يعزو ذلك إلى ضغط العمل وأننا لا نملك وقتا لذلك. كان يريدني أن أحقق طموحي الطبي وألا يشغلني أمر الطفل. لم يكن يدري أن طموحي بات بأن أصبح أما لطفل!
من المضحك أن صديقاتي كن يقترحن علي بكل جدية أن أقوم بعملية زرع لجنين، كما لو أنهن لا يعلمن طبعي ورفضي لتلك الحلول، كم هو ساذج أن تذهب فتاة لطبيب لتحقق أمنيتها بأن تصبح أما، لا أستطيع أن أتقبل تلك الأمور، فتناسيت أحلامي بالطفل. مرت الأيام بحلوها ومرها، لم تعد فكرة الانفصال أو الطفل هي شغلي الشاغل كما كانت من قبل، فقد عاودت الانغماس في العمل. بعد عدة شهور أقيمت ورشة عمل لأهالي مرضى التوحد مع أطباء عصبية مختصين بذاك المرض وكان من ضمن الأطباء المحاضرين الدكتور هاك!
قررت حضور ورشة العمل تلك، أريد مواجهة كل متاعبي، أريد استجماع قواي وإظهار شجاعتي لنفسي ، أريد أن أثبت لنفسي أني قد تخطيته! لكن للأسف أثبت لنفسي العكس تماما، فأنا لم أتخطاه إطلاقا. حين رأيته، كانت على يمينه زوجته، كان ذلك المشهد كالصاعقة! إذن هو لا يفكر أبدا بالعودة لي! لطالما حلمت بالعودة ولطالما منيت نفسي بها! فأولا وآخرا ما حصل بيننا هو مجرد خلافات بسيطة بسبب حدة طبعه وقلة نضجي. كنت أمني نفسي دائما أنها مجرد فترة وستمر وسنعود كما كنا، وما يلزمنا فقط هو الوقت للاستراحة.
لكن ما رأيته في ذاك اليوم قطع كل أوصال الأمل. حين التقت أعيننا أشحت النظر عنه، هو ملك لامرأة غيري، دبت نار الغيرة في قلبي، أحرقتني، أردت الانتهاء ومغادرة المكان بأسرع وقت ممكن، لم أعد أحتمل رؤيتهما معا. من هي تلك التي تمسك بيده؟ من هي تلك التي يستيقظ على صوتها صباحا؟ من هي تلك التي باتت تشارك هاك حياته؟ تعرف كل شيء عنه؟ من هي تلك التي تجلس بجواره في كل مكان؟ من هي تلك التي أصبحت زوجة لهاك! كم هذا مؤلم!
حين عدت للمنزل بدأت أفكار أخرى تدب في رأسي: ماذا لو لم أستطع تجاوز هاك؟ ماذا لو لم أحب أحدا غيره؟ هل سأستمر في حياتي كآلة للعمل فقط؟ شعرت بالجزع، أردت الهرب مرة أخرى؛ لذا قررت السفر، سافرت لمدة نصف عام مرة أخرى كما فعلت بعد طلاقي من هاك ولكن هذه المرة للتأمل فقط. لذا ذهبت إلى الهند، مارست طقوس اليوغا، تأملت كثيرا وفكرت كثيرا. علمت في النهاية أن الحياة مستمرة ولن تتوقف عندي أو عند هاك، شاهدت حالات عديدة من الظلم والقهر والضعف، وعلمت أن هناك من يتألم أضعافا مضاعفة عني، وليس لديهم حتى رفاهية الهرب من هذا الألم كما أفعل أنا الآن. قررت أن أعمل شيئا لهذه الإنسانية؛ لذا عند عودتي تطوعت في منظمات عالمية وبت أشارك في مؤتمرات وورش عمل حول العالم، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أقضي شهرا ونصفا تقريبا من كل صيف في إحدى الدول النامية في أفريقيا وجنوب أمريكا.
هاك 2012
لست من الأشخاص الذين تقف الحياة أمامهم من أجل مشكلة، على هذا تربيت، أواجه مشاكلي وأموري بعقلانية تامة، ولا مجال لأدع عواطفي تؤثر على مسار عملي. في اليوم التالي من قراري بالانفصال عن ساي ذهبت إلى عيادتي التي كانت بجوار عيادتها. ساي تغيبت كما هو متوقع وبقيت على هذه الحال أكثر من شهر. في هذه الأثناء تعاقدت مع أحد المستشفيات على أن أكون رئيسا لقسم الأمراض العصبية ولكن بشرط التفرغ التام وترك العيادة، رأيت أن هذا هو الحل الأفضل لي ولساي، فأنا لا أريد حين عودتها للعمل أن تنتكس مرة أخرى بسبب رؤيتي، كما أن العرض كان مغريا حقا. سمعت من أصدقائنا فيما بعد أن ساي استغرقت قرابة نصف السنة حتى عاودت العمل.
مرت الأعوام وبدأ من حولي بالإلحاح علي بفكرة الارتباط مرة أخرى، بالنسبة إلي لم أعد أبحث عن الحب، بل أريد امرأة تتفاهم معي بشكل أكبر، تستطيع تقبل نضجي الزائد، تستطيع التصرف كسيدة مجتمع حقيقية تماما مثل والدتي، فتزوجت تاميا، سيدة مثقفة، تعمل موظفة في بنك. كانت شخصية تاميا مطابقة لشخصيتي تماما، اتفقنا في أغلب الأمور، ولكن للأسف أرواحنا لم تلتق. لم أشعر بذاك الحب الذي شعرته اتجاه ساي ولكني كنت مصرا على المضي قدما.
بعد عدة شهور من زواجي تم إقرار ورشة عمل لي مع بعض أهالي أطفال التوحد وبعض الأطباء، كانت صدمتي كبيرة حين رأيت ساي أمامي، كانت قادمة مع إحدى صديقاتها التي يعاني طفلها من هذا المرض، حين رأيتها أدركت شيئا واحدا فقط: أني لم ولن أستطيع تجاوزها أو نسيانها، أدركت أنها ستبقى حبي الأوحد. حين التقت أعيننا، أشاحت بنظرها عني، أدركت مدى الجرح الذي سببته لها، فليس من طبع ساي إلا الابتسام حتى مع من أساءوا إليها.
ساي! كانت حياتي قبلك تسير على نهج واحد، كانت حياتي قبلك منطقية، لكل نتيجة سبب. كانت حياتي عقلانية إلى أبعد الحدود، دخلت حياتي فتلاشى هذا المنطق، عشت معك أياما جميلة ومع ذلك افتقدت خلالها أيامي السابقة، وأردت العودة إلى السلام الذي كنت أحظى به، وبعد الانفصال عنك عدت وعادت حياتي المنظمة المنطقية كما كانت ولكني خسرت الروح التي أعطيتني إياها لهذه الحياة. أدركت حين رأيتها أني أفتقد هذه الروح، إني أشتاق إليها حقا. وأنا من كنت أظن أني أنعم بالسلام، أدركت في هذه اللحظة أنه لا معنى لهذه الحياة المنطقية ما لم يدخلها جنونها ويوقظها من رقودها. أكملت محاضرتي بحرقة قلب لم أشعر بها من قبل كما سأكمل حياتي. لم أستطع الكلام معها فأنا كنت أقرب الناس إليها وأعرفها، فحين سأذهب للحديث معها سيفتح جرح حاولت بكل قواها إيقاف نزيفه.
لم لم أحاول العودة إلى ساي؟
سألت نفسي هذا السؤال مئات بل آلاف المرات وفي كل مرة كنت أقنع نفسي بحجة واهية، فتارة أزعم أننا لن نستطع التعايش، وأني لن أتغير مهما حاولت، ولن أستطيع تقبل ساي بكل طيشها. وتارة أقنع نفسي بأن ساي لم تعد ترغب في، ولم تعد تهتم لأمري. أما أوهى الحجج كانت أني لا أريد لكرامتي أن تهان. فأنا من تخليت عنها ولربما حين أطلب العودة ستثأر مني، ولن تقبلني، مع أني أعلم علم اليقين أن هذا ليس من شيم ساي.
هاك 2017
لم تمض حتى سنة واحدة بعد ارتباطي بتاميا حتى جاء القرار من قبلها بالانفصال. تفهمت الأمر؛ فهي لم تشعر ولو ليوم من الأيام بحبي لها، لم تشعر بأي شغف في هذه العلاقة. وأنا من كنت أظن أن الحب سيأتي بعد الزواج. لكن للأسف لم يكن الموضوع بتلك البساطة كما خطط له عقلي. إن للقلوب والمشاعر تركيبة معقدة أكثر مما نتخيل، فكيف لإنسان لا يشبهنا في شيء أن نهيم غراما به، وكيف لإنسان آخر أقرب إلى تفكيرنا، ومع ذلك لا نستطيع أن نكن له تلك المشاعر؟ تابعت حياتي مرة أخرى وحيدا. تعمقت في دراسة مرض التوحد لدى الأطفال وبدأت بإجراء الأبحاث. لا أنكر فضل ساي في هذا الموضوع فهي كانت من تدفعني دائما لهذا التخصص في البحث، فلطالما أحبت الأطفال وكانت تتمنى أن تصبح أما. قلت لها في يوم من الأيام: تستطيعين أن تجاري طفلك حتى سن العاشرة، بعدها سينضج أكثر منك ولن تستطيعي مجاراته، أجابتني: حينها سيبدأ دورك.
إلى الآن لا أستطيع نسيان أحاديثنا، ضحكاتنا، كلماتنا، حتى مشاكلنا بت أحن إليها! قد أبدو لبعض الأشخاص كما لو أنني أشبه للكمال، شخص ناجح في حياته العملية وحاصل على عدة جوائز في مجال الطب، ولكن لو نظر أحدهم إلى داخلي وواقعي فسيرى ذاك الشرخ العظيم، سيرى كم أعاني وأتخبط عاطفيا، سيرى كم حرمت نفسي من الحياة الاجتماعية إما باختياري أو لأني لم أستطع التأقلم مع باقي المجتمع. أنا وأمثالي قد نظن أنفسنا أننا دوما على صواب وأن غيرنا هو المخطئ، قد نعتقد أننا أفضل وأعلى من الانخراط في الأحاديث اليومية وأن وقتنا الثمين لا يجب أن يضيع على ترهات كهذه، لكن في النهاية نصل لنقطة وندرك أن نجاحنا فقط في الحياة العملية لا يعني شيئا إذا لم يشاركنا الآخرون فرحتنا وتعبنا، نجاحنا وإخفاقنا، أحلامنا وآلامنا.
بعد مرور عدة سنوات من انفصالي عن تاميا سمعت بخبر زواج ساي، كان جرحا في الروح، حاولت الانغماس في العمل أكثر لتناسي هذه الفاجعة. لا أدري ماذا كنت أنتظر أو لماذا صدمت؟ فهذا حقها الطبيعي! وانفصالنا ليس وليد هذه اللحظة! كنت وما زلت أنانيا، لربما كنت أتمنى من ساي أن تبقى أسيرة حبي، أن تغلق على نفسها كل الأبواب من بعدي. كم أحسد ذلك الرجل الذي ارتبط بها!
أما ما جرى معي فإنني أصبحت لا أغادر المستشفى إلا للنوم، وبعد عدة شهور من الضغط الجسدي والنفسي بدأت حالتي الصحية بالانهيار. قمت بإجراء التحاليل والفحوص اللازمة ليتبين لي بعدها أني مصاب بمرض السرطان في الرئة. يا للقدر! وأنا الذي لم يشعل سيجارة في حياته! تبين لي أن ليس لكل سبب نتيجة، وأن الأقدار تأتينا بما لا نتوقعه، تبين لي كم كانت ساي محقة حين كانت تقول دوما: هي حياة واحدة فلنعشها بسعادة!
بعد سماع هذا الخبر أردت فعل شيء واحد فقط، ألا وهو رؤية ساي، الاعتذار لها، وإخبارها أنها كانت على حق، أردت إخبارها أن تكمل حياتها بكل الجنون الذي عهدتها عليه وأن تحياها بسعادة بالطريقة التي تراها مناسبة، وبالفعل هذا ما قمت به، رتبت زيارة لي في عيادتها كمريض لرؤيتها والتحدث معها. لم أعد أنا نفسي ذاك الشخص المنطقي بعد المرض، فقبل مرضي لم أكن لأقدم على خطوة كهذه، ولكن الآن اختلفت لدي الكثير من المعايير.
نعم ذهبت لزيارة ساي في عيادتها الجديدة، وهي الآن امرأة متزوجة. إنني مدرك لهذا الشيء ولكن أريد التأكد أيضا، هل هي سعيدة أم لا، فأنا أفهم كل تعابير ساي. أعرف أن عينيها لا تستطيعان إخفاء المشاعر التي تعتريها من حزن أو فرح.
قابلت هناك الممرضة ذاتها، لا بد أنها انتقلت مع ساي، استقبلتني بالحرارة ذاتها التي كانت تعاملني بها حين كنت أعمل في العيادة المجاورة لعيادة ساي. لطالما أثار هذا غيظ ساي، كانت تقول لي: انظر كيف تعاملني ببرود، وكيف تعاملك بلطافة مبالغة. في البداية كنت آخذ الأمر على محمل الضحك وأشعر أنها غيرة النساء، بل كان ذلك يسعدني ويشعرني بمدى اهتمام ساي بي، ولكن قبل طلاقنا بفترة أذكر كم ضقت ذرعا من أي تعليق صغير يدل على الغيرة التي كنت أحبها سابقا من ساي. وكأن تفكيرنا يزين الأشياء لنا حين نود ذلك والعكس صحيح. فهو يعمل على تقبيح كل شيء جميل حتى يقع ما هو مقدر. فالغيرة نفسها التي كنت أعشقها في البداية، أصبحت لا أحتملها، أهذا هو القدر؟
دخلت إلى عيادة ساي، وجلست على الكرسي ذاته وللمرة الثالثة، ما زلت أذكر المرتين الأولى والثانية وكأنهما حصلتا بالأمس، ما زلت أذكر السعادة التي اعترتني في المرة الأولى حين فاجأت ساي وقدتها إلى العيادة حيث لم تكن تعلم بأمرها شيئا. أذكر كيف أجلستني على الكرسي لتجرب دورها كطبيبة نفسية، وقالت: أخبرني ماذا تشعر يا مريضي الأول؟ أذكر إجابتي وكأنها محفورة في قلبي، أجبتها حينها: أشعر بأن هناك مجنونة اقتحمت حياتي، أعشقها وتعشقني ، ولكن مشكلتها أنها تقودني لطريق الجنون معها.
لم أنس صوت ضحكتها حينها! لم أنس كيف حضنتني بقوة ونظرت إلي بامتنان لتعلمني بمدى فرحها بتلك الهدية التي لم تكن تتوقعها. كما ما زلت أذكر الحزن الذي اعتراني في المرة الثانية حين أعلمتها برغبتي في الطلاق، لم أنس صوت بكائها حينها. لم أنس كيف نظرت إلي بعتاب وانكسار وألم لتعلمني بمدى الجرح الذي سببته لها ولم تكن لتتوقعه مني. أما اليوم فأنا لا أعرف كيف أصف شعوري، ولكنه أقرب ما يكون إلى الندم منه إلى أي شيء آخر.
رحبت بي ساي كأي مريض، أدركت من عينيها أنها تجاوزتني وأنها تشعر بالسعادة والرضا التام؛ لذا لا حاجة لي بأن أسألها. في بداية الأمر لم أشأ أن أخبرها عن مرضي وأن أعكر صفو حياتها بخبر كهذا، ولكن علي أن أعلل سبب قدومي فإني إن لم أخبرها ستسأل بالتأكيد وستشك في أمري، وستعرف الحقيقة سواء مني أم من أي طبيب آخر، ففي وسطنا الطبي تنتشر أخبار كهذه كالنار. حين أخبرتها بذلك عرضت علي ساي مكانا جديدا للعلاج في النمسا فلها أصدقاء هناك يعملون على تطوير أشعة جديدة لعلاج الأورام وهم يحتاجون لمتطوعين، وافقت على الحال لأنها ستكون خدمة للبشرية وكنت أنا المريض المثالي، وفي نهاية الأمر أنا طبيب وأدرك قيمة المتطوع البشري لاختبار الأدوية والعلاجات الجديدة.
هممت بالرحيل والحزن والندم يعتصران قلبي على فقدانها إلى الأبد، شعرت أني حزين لفقدانها أكثر من حزني على مرضي؛ فالانفصال عنها شيء قررته أنا بنفسي وعملت له، أما مرضي شيء لم أقرره أنا، وعلي أن أواجهه بقوة وألا أستسلم لليأس. لم يكن هدفي أن أضع نفسي في مواجهة أعلم مسبقا أني الخاسر فيها، لم أرغب أن أخبر ساي أني لم أتوقف يوما عن حبها وأنها الوحيدة في قلبي، فحتى لو لم تكن ساي مع هيروكي هي لن تكون معي لأنها تحتاج إلى حب أكثر نضجا، إلى حب تثق فيه، إلى حب لا يتعبها كما أتعبتها أنا. اكتشفت أخيرا وبعد هذه السنين أني أنا نفسي لم أكن الناضج في علاقتنا وليس العكس كما كنت أزعم. قلت لها تلك الكلمات قبل أن أغادر: ساي، كوني سعيدة أينما كنت ومع من كنت فالسعادة تليق بك، مشكلتي أني كنت عبثا أحاول أن أبحث عن السعادة معك، ولم أكن أدرك أنك أنت السعادة بعينها،
ورحلت.
الفصل الرابع
أهو شتاء جديد؟!
ساي
في عطلة نهاية الأسبوع وصلت إلى بيتي وإلى بلدتي، الأجواء جميلة وممتعة، لكنني ما زلت أفتقد هيروكي. خرجت مع صديقاتي للتنزه وما إن عدت للمنزل وفتحت بريدي الإلكتروني حتى وجدت هذه الرسالة الغريبة من هيروكي:
عزيزتي ساي، لا تقلقي أنا لا أود أن أعيقك عن شيء، افعلي ما تشعرين أن قلبك يدلك عليه، لا تفكري بسعادة الآخرين قبل أن تفكري بسعادتك أنت أولا، لا تحملي قلبك فوق طاقته، ليس الأمر أني أتخلى عنك، فلست في حاجة لأعلمك بمدى حبي وتعلقي بك. لكن حين يتعلق الأمر بسعادتك، فأنا أريد أن أراك سعيدة مهما كلف ذلك. لا تفكري في مطلقا، لن ألومك على شيء، أتمنى لك كل السعادة وسوف أحبك للأبد.
هيروكي
في بادئ الأمر لم أفهم رسالته حقا، عاودت قراءتها عدة مرات إلى أن استطعت أن أستنتج أن هيروكي على علم بأني قابلت هاك. لا أعلم ماذا يقصد الآن؟ لكني لا أريد أن أسمع هذه الكلمات مجددا، «سعادتي، وأراك سعيدة!» لم هذه الأمنيات الغريبة؟ مهلا! لم كل هذا؟ أحقا يعني ما يقوله؟ هل هو معتكف في السويد وحيدا وبعيدا عني بسبب أفكار كهذه؟ لم أكن لأحل هذه المشكلة عبر الهاتف أو أي شيء آخر، علي أن أراه الآن وحالا، أنا لا أود أن أواجه كل مشكلة بالبكاء، علي أن أفكر بعقلانية وأسرع لحل هذه المشكلة، اتصلت بشركة طيران وقمت بحجز أول رحلة إلى السويد. حين وصلت بعد يوم إلى الفندق الذي يقيم فيه هيروكي بقيت واقفة أمام واجهة الفندق، تحت الثلوج، حاملة قلبي المرتعش، لا أعلم ماذا أنتظر، لكنني كنت أنتظر!
هيروكي
انتهى المؤتمر ، ولم أجرؤ بعد على مصارحة ساي وسؤالها عما يجري. اتصلت بي تسألني عن سبب تأخري، أخبرتها أنني سأفتتح دورة تدريبية جديدة لذا سأطيل مقامي هنا، وفعلا لم أكن لأكذب، فقد تطوعت للقيام بدورة تدريبية وبالتأكيد سيكون ذلك مرحبا به، لكني أعلم أنني فقط أود إضاعة وقتي هنا أكثر.
كل يوم أستجمع شجاعتي للاتصال والسؤال عن حقيقة الوضع، لكني ظللت أؤجل ذلك إلى أن اتصلت بي ساي لتخبرني أنها ستعود إلى منزلها في مدينتها لتقيم فيه لبضعة أيام، هنا انتابني القلق أكثر فأكثر، وشعرت بالخطر وأن علي أن أتشجع وأواجه هذه المشكلة. انتهت المكالمة وعلمت أنني لن أستطيع التحدث في ذلك الموضوع شفهيا؛ لذا قررت أن أرسل لها رسالة أسألها وأخبرها عما يجول في خاطري، قرأت الرسالة عشرات المرات قبل أن أرسلها، ثم أرسلتها، ثم لا شيء.
مر اليوم بأكمله وساي لم تجب على رسالتي كما لم تتصل، كنت واقفا وأنا أنظر من خلال نافذة غرفتي من الطابق الثاني عشر من الفندق الذي أقيم فيه. وبينما أنا غارق في التفكير منتظر جوابا من ساي أو أي ردة فعل منها، وقفت أتأمل المدينة وهي غارقة في الثلوج مثلي، كم كان قاسيا ذاك الشعور! كان الثلج يتساقط بكثافة لكن ببطء، لم تكن هناك رياح شديدة، كان كل شيء باردا وهادئا، تماما كانسحابي من حياة ساي. بقيت أتأمل المكان، كنت على علو مرتفع، لكن ذاك العلو لم يكن ليمنعني من أن أميزها، رأيتها من خلال النافذة، إنها ساي! حين رأيتها واقفة عند بوابة الفندق بدأ قلبي بالارتعاش، أتراها قادمة لتخبرني بقرارها؟ ذهبت إليها ونبضات قلبي تسابقني، صرخت وأنا راكض نحوها: ساي ما الخطب؟ كيف وصلت إلى هنا؟
ضمتني بقوة، وكانت تبكي بحرقة: هيروكي كيف تتجرأ على تركي والذهاب بعيدا؟ لم تود أن تتخلى عني؟
لا أعلم كم من الوقت أمضت تحت الثلوج فقد كانت ترتعش من البرد، ضممتها إلى صدري وحملتها إلى الفندق. لم تقل شيئا لكنني علمت أنها اختارتني أو ربما في أصل المسألة عندها لم تكن مسألة خيارات، وكنت أنا الوحيد لها، لكن الخوف وعدم الأمان كانا يملآن قلبي، إذا كنت خيارها الوحيد فيا سعادة قلبي! ساي، لو تعلمين مدى الامتنان الذي أكنه لك لأنك أحببتني، لأنك بادلتني هذه المشاعر. ساي، وتقف الكلمات عاجزة عن وصفك. لم أكن أتكلم بصوت مرتفع، كانت تلك الأفكار تدور في رأسي فحسب، لكنها ظلت تتمتم وهي بين ذراعي بصوت خافت ومرتجف وبصورة متكررة: نعم أعلم، فأنت قد وعدتني.
ضممتها إلي بقوة، وبت أربت على رأسها كطفلة صغيرة إلى أن هدأت واطمأنت. لم نتحدث عن شيء في تلك الليلة، لكن في صباح اليوم التالي سألتني عن رسالتي وتحدثنا كل بما عنده، كنت ممتنا لها أكثر بعدما حكت لي ما جرى خلال تلك الأسابيع. اكتشفت كم أحبتني خاصة بعدما سمعت خبر مرض زوجها السابق، فهي إن لم تكن تنوي البقاء بجانبه بدافع الحب، علها كانت ستبقى بجانبه بدافع الشفقة! أو بدافع رد المعروف، لم أكن لألومها على ذلك فقد قدم لها الكثير سابقا، لكنها معي هنا وبجانبي. ساي، أرجوك ابقي معي، أحبك حتى آخر أنفاسي، لم أستطع البوح لها عما في داخلي، نظرت إليها نظرة هائم وأنا أتأملها.
ساي
حين تزوجت من هيروكي لم يكن موضوع الطفل يشغل بالي أبدا، لكن ومع غياب هيروكي المتكرر بسبب مؤتمراته وأبحاثه، أصبحت فكرة الطفل تراودني من حين لآخر. كنت أرغب في أن يحصل تغيير في حياتنا، أن يأتي من يملؤها بحركاته وضحكاته وبكائه. كنت مدركة تماما أن أي أنثى ستجتاحها مشاعر الحاجة إلى الأمومة في حياتها، مهما علا شأنها وارتقت منزلتها وكبرت مسئولياتها. لم أكن أقتنع بقول صديقاتي عن أن مرضاي هم كالأطفال بالنسبة إلي، وأني لست في حاجة إلى ملء أي فراغ في حياتي، أو بقول أخريات إن مشاريعهن وحياتهن العملية الناجحة هي الطفل الذي أنجبنه. كنت مدركة ألا شيء سيملأ مكان الطفل في داخلي، ولكن كنت أقمع تلك المشاعر بين الحين والآخر ولم أكن أدعها تسيطر علي، خاصة مع الظروف التي عايشتها سابقا. هذا لا يعني أبدا أني لم أفكر في الإنجاب أو حتى التبني بل فكرت كثيرا حتى وأنا عزباء مطلقة، فكرت بطفل أتبناه وأكمل معه حياتي، لكني في الوقت نفسه خفت من مسئولية لا أستطيع تحملها وأنا وحيدة في هذا العالم المجنون، وها هي ذات المشاعر والأفكار تجتاحني الآن.
ذهبت إلى طبيبتي في موعد الفحص الدوري فطمأنتني أن كل أموري طبيعية ولا يوجد شيء يدعو للقلق، كان مصدر القلق لدي هو الوراثة، نعم الوراثة؛ فوالدتي توفيت بسرطان الرحم وقبلها جدتي بسرطان الثدي، كنت أتخيل دائما أن نهايتي ستكون مثلهما، ولعل أحد الأسباب التي جعلتني أميل إلى التفاؤل، هو طبعي الطفولي اللامبالي وخوفي من المرض، فقد كنت أعلم أن فرصة الإصابة بهذا المرض تزيد مع سوء الحالة النفسية. حاولت دوما إبعاد نفسي عن الحزن ولكن أبى الحزن إلا أن يطرق بابي مرة ومرتين وثلاثة: حين وفاة والدتي ومن ثم طلاقي وانتهاء بوفاة والدي. سألت طبيبتي عن احتمال الحصول على طفل، أجابتني إجابة كنت أعلمها مسبقا، فأنا طبيبة في النهاية.
في ذلك اليوم حين عاد هيروكي أخبرته عن مشاعري وصارحته، في البداية ضحك، لم يكن يتوقع أني أتحدث بجدية، كان يتوقع أنها مجرد نزوة وستعبر تماما كما رغبت مرة في الحصول على قطة، وسابقا حين فكرت بالانتقال إلى أفريقيا. لكن هذه المرة لم تكن نزوة بالنسبة إلي، كان الطفل هذه المرة أولوية. لم يعطني هيروكي أي إجابة لا بالإيجاب ولا بالسلب، ربما كان ينتظرني حتى أتخلى عن الفكرة من تلقاء نفسي، أما أنا فقد اعتبرت أن صمته إجابة بالإيجاب، مع أنني أعلم علم اليقين أنه لا يعني الإيجاب، بل الرفض القاطع. لكنني لم أشأ أن أجادله أكثر فيصرح برفضه.
ومنذ أن اتخذت هذا القرار لم يكن لدي أي صبر، رغم أني طبيبة وأعلم أن أفضل وسيلة لحدوث الحمل هو عدم المبالغة في ملاحقته، وعدم وضع الجسم تحت توتر الانتظار والمراقبة، إلا أنني لم أستطع. خلال عدة شهور اشتريت ما لا يقل عن مائة كاشف حمل، بأنواع مختلفة، منها المبكر ومنها السريع، منها شديد الحساسية ومنها شديد الوثوقية، والنتيجة دائما ذاتها: سلبي، سلبي، سلبي ... لكني لم أظهر أيا منها أمام هيروكي، وهو لم يعلم بمراقبتي الدائمة، وحساباتي الدقيقة، وجداولي ومواعيدي، والكم الهائل من اختبارات الحمل التي أجريتها، حتى إنني ذات مرة قمت بإجراء اختبار للدم وذلك حين شعرت بكل أعراض الحمل المبكرة بشكل حرفي، أنا أكثر من يعلم أنه من السهل جدا توهم كل تلك الأعراض، وطبعا كانت النتيجة سلبية. كنت في كل مرة يمر الشهر من غير حدوث الحمل، أشعر بخيبة أمل شديدة، وبعد سبعة شهور بدأت بفقدان حماسي، لم أعد أجد أي نفع من حساباتي الدقيقة، ولم أعد أريد أن أرى خطا واحدا في اختبار الحمل.
بعد تلك الشهور، وفي يوم ما شككت في أمر الحمل، ترددت، هل أجري الاختبار أم أنتظر يوما آخر؟ كنت أريد أن أنتظر كي لا يخيب ظني مجددا، استطعت تحمل هذا القرار عدة ساعات، كانت الساعة العاشرة صباحا، هيروكي في المركز وأنا في العيادة، استسلمت لرغبتي الشديدة لتجريب الاختبار الآن وحالا. توجهت إلى المنزل كان ما زال لدي ما لا يقل عن خمسة اختبارات جديدة، فقد كنت في الآونة الأخيرة أشتريهم بالجملة، فأحضر في الآن ذاته خمسة أو ستة. أخذت واحدا لا على التعيين، كانت يدي ترتجف، شعور ما بداخلي أخبرني أن هذه المرة مختلفة عن كل المرات السابقة، أجريت الاختبار وكان علي أن أنتظر ثلاث دقائق لأرى النتيجة، أغمضت عيني وأنا أدعو أن أراه إيجابيا، عندما فتحت عيني ورأيت خطين لم أصدق في بادئ الأمر، نظرت إليهما مجددا، أدرت الأنوار، ذهبت نحو النافذة لأراه بضوء الشمس، كان إيجابيا! صرخت بأعلى صوتي، سعادتي لم تكن توصف، فقد وصلت إلى مشارف اليأس من حملي، لكني الآن حامل! أنا حامل! أنا ستكبر بطني، وسألد، وسأضم طفلي إلى صدري، وسأكون أما، أما لطفل هيروكي، وسيرهقنا من كثرة بكائه، وسنذهب إلى مراكز تسوق الأطفال، وسندخل إلى أقسام لم ندخلها طيلة حياتنا، سنمسك بتلك الأشياء الصغيرة، وننتقي، ترى هل ستكون بنتا أم ولدا؟ هل سيغدو بيتنا زهري اللون أم أزرق؟ هل ستمتلئ الجدران بصور الأميرات أم السيارات؟ سأجعل من الحديقة مدينة ألعاب، وسأخصص الجناح الأيمن من المنزل للطفل، لغرفته، وألعابه وملابسه وكل ما يلزمه.
بقيت ساعات مطولة، أفكر وأحلم وأنا أحضر العشاء لهيروكي، ذلك العشاء الذي سأزف إليه فيه خبر حملي. في أثناء ذلك جلبت كل كواشف الحمل الباقية لدي، وصرت أجري الاختبار ذاته كل نصف ساعة، كنت أستمتع برؤية ظهور الخط الثاني الذي لطالما حلمت أن أرى ظهوره، وفي كل مرة كانت ابتسامة لا نهائية تظهر على وجهي وأضحك وأصرخ بكل سعادتي «أنا حامل».
وضعت له نتيجة اختبار الحمل في هدية، وأتى هيروكي، لم يفهم ما يدور حوله وما سبب هذا الاحتفال، حين فتح هيروكي الهدية رأيت تعابير وجهه تتغير من الفرح إلى الارتباك، ثم إلى الغضب، قال وبحدة: لقد ظننت أننا ناقشنا الموضوع، ظننت أنك تخليت عن الفكرة، ماذا عن صحتك؟ ماذا عن الخطر الذي سيواجهك أنت وهذا الطفل أيضا، ماذا عنه؟ هل سيكون بخير؟ هل سيستطيع النجاة؟!
أنهى كلامه، ومضى من غير أن يشعر بما فعله بي.
ساي
لا يوجد شيء مثالي في هذه الحياة، لا حب مثالي ولا رجل مثالي ولا حياة مثالية، ولكننا نأبى إلا أن نحلم بالمثالية ونظن أننا سوف نصل لها في مرحلة من مراحل العمر، ويمضي العمر ولا نستطيع الوصول لها. لقد ظننت في وقت ما أن علاقتي بهيروكي هي علاقة مثالية، هي ما يجب أن تكون عليه باقي العلاقات، ظننت أن هيروكي هو الرجل المثالي والكامل في هذا الكون، وبعد ردة فعل هيروكي اتجاه الطفل أيقنت أن عالم أفلاطون الذي خلقته في عقلي هو عالم باطل من الأصل. لا يعني هذا أن حبي لهيروكي تناقص، أبدا، ولكن بدأت أراه بعين الواقع وأحبه بعين الواقع لا بعين المثالية.
المشكلة تكمن أن الفرق كان واضحا بيننا في تقبل الطفل، فغلب على هيروكي تفكيره العقلاني الذي أخبره بأنه سيعرضني للخطر، نظرا لعمري أولا، ولبنية جسدي الضعيفة ثانيا، وبرأيه إن مضى الحمل على خير ولم أتعرض فيه للخطر فسيحصل الخطر عند الولادة أو بعدها، ثم إنه ومع العمر المتقدم لنا، خشي هيروكي من تشوهات ترافق الجنين، لم يستطع تقبل فكرة طفل مشوه أو مريض، أو بالأحرى لم يرغب في طفل مريض، لم يرغب أن يعرض نفسه لموقف كهذا، فأن تصبح أبا فهي لا شك مسئولية كبيرة، ولكن أن تصبح أبا لطفل مريض فهي المسئولية الأعظم والامتحان القاسي الذي سيبين أي أب أنت.
على الطرف الآخر كنت قد درست وفهمت كل الاحتمالات واستطعت تقبلها جميعا، فأنا راضية ومتقبلة لجميع الأمور التي من الممكن أن يعاني منها الطفل، حتى قررت أني لن أجري الاختبار الذي يكشف عن تشوهات الجنين المبكرة. لم أقتنع بأسباب هيروكي للتخلي عن الطفل ولم أر مبررا لخوفه وقلقه الزائد، وقررت الاحتفاظ بالطفل.
مرت عدة أسابيع والحال كما هو، أنا بمزاج سيئ بسبب ردة فعل هيروكي اتجاه الحمل، بت لا أحتمل أي كلمة منه، وأتهرب من وجودي معه في غرفة واحدة، فأنا لا أريد أن يناقشني في موضوع الإجهاض. أصبحت أتظاهر بالنوم صباحا قبل ذهابه للعمل، وأتظاهر بالتعب والإرهاق ليلا. لكنه استسلم لرغبتي في النهاية، فأنا أعلم أنه ضعيف أمامي، وأعلم أن هيروكي فخور بهذا الضعف، ضعيف أمام ضعفي، ضعيف أمام دموعي، أمام طلباتي، لم يكن هيروكي ذاك الرجل القاسي الذي يعتبر مصدر رجولته ينبع من كسر قرارات أنثاه. لكنه بالمقابل، لم يستطع أن يقول لي مبارك، فهو يشعر بالقلق الشديد حيال هذا الأمر ويرى أنه لن يمضي على خير بتاتا، فقد كان وجهي شاحبا طيلة الوقت، لا أستطيع الأكل جيدا، وإن أكلت فسأفرغ معدتي حالا بعد عدة دقائق. مزاجي معكر أغلب الأحيان، ولا أستطيع التركيز على شيء إطلاقا.
نظم هيروكي لي عدة مواعيد مع أطباء لفحص حالتي بانتظام وفحص الجنين، وكنت أرفض الذهاب معه، لم أكن أود أن أسمع خبرا سيئا أو قرارا مرهقا لي، ففضلت تجاهل تلك الأمور في الوقت الراهن إلى أن تمر أسابيع أكثر من الحمل.
هيروكي
لم أعد أستطيع التواصل مع ساي كما كنا قبل، لقد تغيرت جدا. حاولت عدة مرات أن أريها كم أنا سعيد لحملها، لكني لا أستطيع التظاهر بمشاعر لا أشعر بها. كنت أعيش في صراع كبير في تلك الأيام، إلى أن استيقظت يوما على صوت صراخ ساي في المطبخ! كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، أسرعت إلى المطبخ ورأيت ذاك المشهد: ساي على الأرض في بركة دماء تصرخ من ألمها وعلى وشك أن يغمى عليها! هذا ما كنت أخشاه وأتوقعه، هذا ما كنت أراه منذ أول يوم أخبرتني فيه بحملها، هذا ما كنت أسمعه، هذا ما أبت ساي أن تصدقه. كدت أسقط مغشيا علي من خوفي على ساي إلا أنني تمالكت نفسي. حملتها بسرعة وتوجهت إلى أقرب مستشفى وهي ما زالت تنزف بين يدي.
هناك قاموا بإجراء تحويل للدم كي تستعيد قليلا مما خسرته، بعد نصف ساعة توقف النزيف ووضعوها تحت العناية المشددة، فقد فقدت وعيها ونحن في الطريق إلى المستشفى. مضت عدة ساعات وتنبه الطبيب بأني لم أسأل بعد، فيما إذا خسرنا الجنين أم لا، وكأني أظن جازما أن الجنين قد مات أو تم إجهاضه. توجه الطبيب نحوي وأخبرني: بروفيسور، ما زال الجنين معلقا في رحمها رغم كل هذا النزيف، لكن ليس من الحكمة إبقاؤه، أرجوك عليك أن تتفهم هذا! - لو أن القرار قراري، لما حدث معها ما حدث، دكتور أرجوك لا تقم بأي إجراء قبل أن تستعيد وعيها؛ فهي تريد هذا الطفل وتكلمنا كثيرا فيما يخص عملية الإجهاض. ساي مصرة على إبقائه؛ لذا أرجوك تمهل إلى أن تستعيد وعيها.
وافق الطبيب على طلبي وفهم أنها هي من تصر على الموضوع. وبعد عدة ساعات استعادت ساي وعيها. تكلم معها الطبيب كثيرا وشرح لها حالتها، لكنها لم تستجب له إطلاقا، بل باتت متشبثة برأيها أكثر فأكثر. عندما دخلت إلى غرفتها كي أراها، تحدثت معي بقسوة قبل أن أنطق بحرف واحد: هيروكي، إن كنت هنا لكي تقنعني بإجهاضه، فأنا لن أستغني عنه مهما حصل. - ساي! أنا هنا لأراك، لأطمئن عليك، ماذا دهاك! - لأني أعلم ماذا تريد أن تقول، لا تقلق علي، أنا جيدة وبأحسن حال.
شعرت أنها لا تريد رؤيتي أساسا، ولم أصدق تلك الحالة الغريبة التي تمر بها ساي. حاولت ألا أزعجها بعتاب أو كلام، فأجبتها: كما تريدين.
ومن ثم بقيت إلى جانبها طيلة فترة مكوثها شبه صامت كي لا أزعجها ولا تزعجني.
هاك
انتهت فترة النقاهة بعد جرعاتي الكيميائية وعدت لممارسة عملي في المستشفى. كان قد مضى على وجود ساي في المستشفى يومان، صدمت حين رأيتها في العناية المشددة، هذه المرة لم أحسب ألف حساب كعادتي قبل أن أتصرف، بل تصرفت كما أملى علي قلبي، ركضت نحو طبيبها المعالج استفسرت عنها وعن وضعها، أخبرني الطبيب برفضها للإجهاض رغم أن التحاليل والأشعة أثبتت أن هناك خطرا عليها إن أرادت الاحتفاظ بالجنين. ثم علق الطبيب ساخرا: عنيدة مثلك تماما تطبعت بطبعك.
بعد يومين استقرت حالتها، أعلم ألا حق لي بزيارتها أو التحدث معها ولكن يأبى قلبي أن يطاوعني، فلم يعد يحتمل هذا القلب الضغط عليه وهضم حقه أكثر، فها هي الإنسانة الوحيدة التي أحبها معرضة للخطر فكيف لا أطمئن عليها أو أزورها؟ لم أحضر معي في زيارتي لا أزهارا ولا أي شيء، صحيح أني تمنيت أن أهديها باقة من زهر البنفسج الذي تعشقه أو علبة من نوع الشوكولاتة التي تفضلها لأريها أني لم أنس أي تفاصيل عنها، ولكني تداركت نفسي، فكيف لطليق سابق أن يصطحب معه الأزهار التي تفضلها طليقته وهي الآن زوجة لرجل غيره! لذا فقد ذهبت لزيارتها بصفتي زميلا وطبيبا، كانت ساي وحدها في الغرفة تتناول طعام الغداء، لم يبد على ملامح ساي الاستغراب أو الامتعاض حين رأتني، بل على عكس المرات السابقة حين كانت تراني ولم تكن مرتبطة. أيقنت أنها استطاعت مداوة جرحها بمساعدة هيروكي وهذا ما زاد الحزن والغيظ في قلبي، لأني أومن بالمقولة «الكره ليس عكس الحب، عكس الحب هو اللامبالاة.» وواضح الآن أن ساي لا تبالي. بعد السلام والمجاملات التقليدية بدأت بالتحدث في صلب الموضوع: ساي ماذا تفعلين بنفسك هل تتوقين للموت؟
تغيرت ملامح ساي، كادت الدمعة تنزل من عينها لكنها منعتها، قالت: لو حاول العالم أجمعه أن ينصحني، فأنت الوحيد الذي لا يجب عليه ذلك، ألم تكن أنت السبب في الأساس؟ ألم أرغب في هذا الطفل من عشر سنوات لكنك رفضت، ماذا لو كان لنا طفل الآن بعمر العشر سنوات، تيقن أني لم أكن لأجبرك على البقاء معي لأجل طفل أو اثنين أو حتى عشرة، ولكنك كنت أنانيا وحرمتنا نحن الاثنين من الأطفال. أرجوك دعني وشأني الآن فالطفل طفلي والمعرض للخطر هو أنا والقرار قراري هذه المرة!
خرجت من عندها محطم القلب حقا، ماذا لو كان لنا طفل! ومن من، من ساي، آه على المكابرة والعناد. حين هممت بالخروج من غرفة ساي صادفت زوجها هيروكي الذي كان يهم بالدخول. بعد أن أفضيت لساي بما أفكر وألقت اللوم كل اللوم علي أنا، جعلتني الجلاد وهي الضحية، أردت أنا أيضا أن ألقي باللوم على غيري، فأنا لم أتقبل الدور الذي وضعته لي ساي في هذه المسرحية، لا بد من وجود جلاد آخر غيري، وكان الجلاد هو أول شخص رأيته بعد خروجي من عند ساي، كان الجلاد هو زوجها هيروكي، هيروكي الذي تحمل ساي الآن بطفله الذي قد يتسبب في إنهاء حياتها، هيروكي الذي انتزعني من قلب ساي نهائيا، إذن لألقي اللوم على هيروكي ولأجعله يشعر بالذنب اتجاه ساي واتجاه الجنين أيضا.
طلبت أن أتكلم مع هيروكي في الردهة لمدة خمس دقائق، في البداية اعترض هيروكي وأخبرني أن لا حديث بيننا وأنه لا يوجد شيء يخفيه عن ساي، فإن أردت أن أتكلم فلأتكلم أمامها، ولكن بعد أن أشرت برأسي إلى ساي ورآها هيروكي مستلقية في الفراش ومتعبة، علم أن أي حديث سيجري أمامها الآن لن يسبب لها سوى المزيد من الإرهاق والتعب؛ لذا وافق ممتعضا على مرافقتي إلى الردهة. هناك جرى الحديث بيننا، حديث ربما كان يتوقعه هيروكي منذ البداية ومنذ أن طلبت منه مرافقته، حيث ألقيت اللوم عليه وأخبرته أن هذا الجنين قد يتسبب في موت ساي، صمت هيروكي لبرهة ثم أجابني بهدوء شديد: هل تعتقد أني أستطيع تحمل خسارة ساي كما فعلت أنت؟! هل تعتقد أني أناني لهذه الدرجة لأضحي بالإنسانة التي أحب؟!
هيروكي
بعد أن تحسنت حالة ساي، قام الطبيب بتوصيتها بأن تعتني بنفسها أكثر وألا ترهق نفسها إطلاقا وأن تبقى مرتاحة طيلة الوقت، فوضعها الصحي سيئ، واحتمال تكرر النزيف وارد جدا. وعدته أنها ستعتني بالجنين وبنفسها وأن ذلك لن يتكرر أبدا، نظرت إليها وقلت في نفسي: تعده كما لو أن الأمر حينما سيتكرر سيكون بيدها!
نتيجة لذلك، توقفت ساي تماما عن الذهاب إلى العيادة، وقمت بتعيين امرأة لتعينها في أعمال المنزل، وفعلا كانت ساي حريصة كل الحرص على صحتها، عندما رأيت استقرار وضعها الصحي بدأت مشاعر التفاؤل تجوب قلبي وعقلي، خاصة أن بطن ساي بدأت بالظهور والانتفاخ أكثر، شعرت بمشاعر لم أشعر بها في حياتي، عادت الأمور تدريجيا بيننا، خاصة أن ساي أحست ببدء قبولي للحمل وللطفل ولعدم إصراري مجددا على الإجهاض. كانت ساي تتحايل على مظهرها ليبدو حملها ظاهرا أكثر، اشترت الكثير من ملابس الحمل رغم أنها لا تخرج كثيرا من المنزل كي لا تجهد نفسها. كانت سعادتها لا توصف، وانتقلت عدوى السعادة تلك إلى قلبي أخيرا، لكن تلك السعادة لم تدم طويلا للأسف.
كان ذلك في أحد أيام العمل الشاقة لي، استيقظت منذ الصباح، طبعت قبلة على جبين ساي وعلى بطنها، شعرت بي فأخبرتها أنني سأنطلق الآن إلى العمل. ما حدث أنني حين غادرت نهضت ساي وفجأة أحست بألم شديد، أشد من ذاك الذي شعرت به منذ عدة أسابيع حين نزفت لأول مرة، وبدأت بالنزيف. اتصلت حالا بي وهي بين دمائها، أخبرتني أنها ستنطلق إلى المستشفى بسيارة أجرة لأن وضعها سيئ جدا ولا تستطيع الانتظار. أخبرتها أنني سأنطلق حالا لألقاها هناك. وفي الطريق لم يكن جسد ساي قويا بما فيه الكفاية ففقدت وعيها، وحين توقف سائق الأجرة أمام بوابة المستشفى كنت هناك أنتظرها، فرأيتها بحالة بين الحياة والموت غارقة مجددا بدمائها. حملتها بأقصى سرعتي، أما هذه المرة فليس إلى قسم العناية المشددة بل إلى غرفة العمليات؛ فالجنين قد مات وستتم عملية الإجهاض حالا لعل النزيف يتوقف.
مرت ساعة، ساعتان وما زلت منتظرا خارج غرفة العمليات، تخرج الممرضات ويعدن ولا أفهم منهن شيئا عن حالة ساي. كنت مذعورا، خائفا، لم أصدق هذه المرة ما حدث، ولم أتوقعه. كنت قد نسيت كل هواجسي ومخاوفي، كنت قد عقدت الآمال وصدقت ساي أن كل شيء سيكون على ما يرام، كنت أعد معها الأسابيع وأنا سعيد بمرورها ونسيت أن القادم أعظم وأصعب. ثم ها هو الطبيب قد خرج أخيرا من غرفة العمليات، بوجه شاحب ومرهق، كدت أفقد أعصابي؛ فأنا الآن قد عدت إلى توقعاتي القديمة، لم أكن أستطيع سماع كلمة أني سأخسر ساي، كانت تلك الثواني من أصعبها على قلبي إلى أن نطق الطبيب: ساي بخير لا تقلق، لقد فقدنا الجنين، واضطررنا إلى استئصال الرحم بالكامل، لأن النزيف لم يتوقف. الآن هي بحالة حرجة لكن النزيف توقف، أرجوك أن تبقى قويا.
كان الجزء الأهم بالنسبة لي أن ساي بخير، لكن قلبي تفطر على ما حدث، وفي اللحظة نفسها كانت الممرضة خارجة من غرفة العمليات وهي تحمل بقايا الجنين في إناء ليتم فحصه. جريت نحوها لأراه، أخبرتني أن لا داعي لذلك، لا داعي للاستنزاف العاطفي، فقلت لها: أرجوك يا آنسة، أود رؤيته.
لم يخطر على بالي أني سأشعر بهذا الشعور يوما اتجاه هذا الجنين. صحيح أن عمره لم يتجاوز عشرين أسبوعا لكني حين رأيته وأمسكته بيدي، لم أتمالك نفسي وغلبتني الدموع، فهو طفلي الذي لم أحظ به بالنهاية، طوال فترة الحمل، كان جل ما يشغلني هو سلامة ساي فقط، لم أفكر بالطفل كثيرا ولكن كل شيء اختلف حين رأيته وخسرته في الوقت نفسه، تمنيت لو أن هذا الطفل كان أقوى واستطاع النجاة، تمنيت لو أني أنا نفسي كنت أقوى ودعمت هذا الطفل منذ البداية، تماما كما دعمته ساي، لو أني أحببته بلا شروط منذ البداية.
تذكرت عصفورا كان في منزلنا، كانت والدتي تصر على وضعه في غرفتي وأنا أصر على نقله، كانت والدتي ترغب بأن يضفي هذا العصفور لغرفتي الكئيبة المليئة بالكتب فقط بعضا من الحياة، في النهاية رضخت لقرارها ووضعته مع شرط ألا أكون مسئولا عنه وبالفعل تم الأمر، لم أكن أكترث لهذا العصفور أبدا، كنت أعتبره كقطعة أثاث من الغرفة، ولكن حين توفي هذا العصفور أحسست بألم فقدانه، بت أشتاق لتلك الأصوات التي كانت تصدر منه، أشتاق لحركته الدائمة، تمنيت لو أنني أعرته بعض الاهتمام ولم أفكر فقط بالأمور الأكبر والأهم، نعم تلك التفاصيل الصغيرة الموجودة في حياتنا هي مهمة جدا ولكننا لا ننتبه لوجودها بالأساس إلا بعد فقدانها، تماما كما حدث مع طفلي الآن، كنت أفكر في ساي فقط ونسيت أمر طفلي، والأدهى من هذا وذاك أن لا أحد سيواسيني بهذا الفقدان، بل على العكس تماما أنا من سيواسي ساي الآن.
هيروكي
بقيت ساي في الحالة الحرجة لمدة ثمان وأربعين ساعة لم أفارق خلالها المستشفى ولو لساعة واحدة. كنت هلعا مخافة فقداني لساي، الأنثى الوحيدة التي استطاعت دخول قلبي وحياتي بعد نصف قرن من الحياة، الأنثى الوحيدة التي أردت أن أكمل حياتي معها، كانت ساي الوحيدة التي استطاعت أن تقنعني أن السعادة بسيطة وتأتي من أمور بسيطة، فتذوق وجبة طعام لذيذة كانت سعادة لدى ساي، نهاية سعيدة لرواية تقرؤها كانت سعادة أيضا، أمور بسيطة جدا ولكنها كانت تخلق السعادة لدى ساي على عكسي سابقا حيث لم أشعر بالسعادة إلا بإنجازاتي العظيمة، كنت أعتبر أن السعادة تنبع من الإنجاز فقط؛ لذا عشت حياتي في سباق مع نفسي، كانت ساي على اطلاع بطبيعتي؛ لذا حين رأت ردة فعلي اتجاه الطفل حللتها وفسرتها نفسيا أن كبريائي لن يسمح لي بتقبل طفل مريض يعاني، فساي طبيبة نفسية، وعبثا كانت كل تبريراتي التي أبرر بها لنفسي.
بعد استيقاظها من الغيبوبة باءت كل محاولاتي في مواساتها بالفشل، كانت ترفض سماعي، ترفض حتى الطعام، كانت معنوياتها محطمة خاصة بعد إخبارها بأنهم اضطروا لاستئصال الرحم لإنقاذها، لم يتعامل معها الطبيب بالطريقة التي يتعامل بها مع باقي المرضى، فكر فقط أنها طبيبة مثله بل أيضا طبيبة نفسية، إذن هي قادرة على تلقي الصدمات بشكل أفضل من غيرها، فمهمتها هي إخراج الناس من صدماتهم ومن اكتئابهم، ألن تستطيع إنقاذ نفسها إذن! نسي أنها أنثى، أنها تحتاج لأن تكون أما، نسي أنهم استأصلوا جزءا من كيانها.
استمر الحال لأسبوع مع ساي، لا تنطق بحرف وترفض الطعام؛ لذا قاموا بتركيب المحاليل الغذائية لتصلها عبر الدم مباشرة. كانت ساي تستيقظ وتركز نظرها على جهة معينة، غالبا نحو الحديقة، تغالبها دموعها ثم تعاود النوم. في البداية حاولت التحدث معها لكن وجدت ألا جدوى من المحاولة، كانت كالأطفال تماما، تضع يديها على أذنيها ثم تضع رأسها في حجرها وتبكي بصوت عال كالعويل تماما؛ لذا بعد أربع محاولات في يومين متتاليين توقفت وتركتها على راحتها كما ترغب هي. كنت موجودا معها في المستشفى، ولكني أعتقد أني بالنسبة إليها لست إلا كأي قطعة أثاث في الغرفة، لم تعرني أي انتباه. في نهاية الأسبوع وبعد خمسة أيام من الصمت القاتل بالنسبة إلي، حاولت أخيرا التحدث مع ساي، حاولت أن أكسر جدار الصمت بيننا، في البداية لم تجبني ولم تعطني أي اهتمام ولكن مع إصراري الشديد على محادثتها التفتت إلي قائلة: ألا يكفيك ما حدث؟ ها قد حرمت من الأطفال مدى الحياة، ألم تكن هذه رغبتك منذ البداية؟!
صدمت، توقعت كل شيء إلا أن تأتيني إجابة كهذه، هل هذا حقا تفكير ساي بي الآن؟! أم أنه مجرد تنفيس عن غضبها؟!
لم أستطع الرد عليها بشيء فماذا ستنفع الإجابات والتبريرات والتوضيحات أمام تفكير كهذا! وإن كان مجرد تنفيس عن غضبها فالأفضل أن أنتظرها حتى تهدأ، حتى توقن أنها ليست الضحية وأن الجميع تآمر على طفلها، حتى تدرك أن هذا هو قدرنا معا وليس قدرها وحدها، حتى تدرك أن الطفل هو طفلي أيضا وأنها خسارة لي أيضا، ولكن لن تنفع أي من هذه التفسيرات؛ لذا فضلت الصمت وغادرت الغرفة. كنت أعلم أن ساي ستعاني ولن تتقبل الموضوع أبدا ولكن أن تجعلني المجرم وهي الضحية هذا ما لم أتوقعه ولن أقبله.
ساي
بعد ما حدث معي لم أستطع احتمال الصدمة، قررت الابتعاد عن كل شيء، عن عملي، عن أصدقائي ومجتمعي، والأهم من هذا وذاك قررت الابتعاد عن هيروكي، أخبرته أن كلماته لن تجدي نفعا معي الآن وأني لا أرغب بنظرة شفقة تزيد من تعاستي.
وافقني هيروكي لأنه أيقن أن لا طائل من مناقشتي وجدالي، فبالفعل لم تعد تجدي معي الكلمات نفعا، كان ألمي شديدا، أشد من أن أحتمله مع كل ما احتملته سابقا، وكل ما استطعت تخطيه، إلا أني قررت عدم التخطي هذه المرة. انزويت في ذاك المخبأ الصغير في داخلي وقررت البقاء فيه، لم أعد أرغب في الخروج من ذاك المخبأ؛ فقد كان يمثل منطقة الراحة لي، على الرغم من أني في الأربعينيات إلا أني أحلم كل يوم بالاختباء في حجر والدتي والبكاء عليه، أو الاتكاء على كتف والدي لأبوح له عما في داخلي. كنت أشعر بالوحدة القاتلة على الرغم من أني كنت الإنسانة الأكثر اجتماعية، لكني الآن وصلت لنقطة أعلن فيها أني تعبة من كل شيء ومن اللاشيء. كان أكثر ما يحزنني أني لا أجد كلمات تعبر عن مشاعري، عن ألمي، أنا ساي الطبيبة النفسية التي عالجت أكثر من مائة حالة اكتئاب، أقف الآن أمام نفسي عاجزة عن الأخذ بيدي، أبحث عن كتب تشرح ألمي فلا أرى، أبحث عن أغاني وأشعار تصف حالتي فلا أسمع إلا أغاني وأشعارا عن الأحباء وفراقهم، وكأن ألم الحياة يقتصر على فراق شخصين فقط، ألم يفكروا أن يكتبوا عن الآلام الأخرى!
بقيت على هذه الحال قرابة السنة، يتردد هيروكي في زيارتي مرتين في الأسبوع، يعد لي طعامي، يأكل معي، لا أبادله أي حديث. مع مرور تلك المدة الطويلة التي أمضيتها بالاكتئاب، اكتشفت أن أسهل ما يستطيع الإنسان فعله هو أن يدمر نفسه بنفسه، وها أنا ذا أقوم بذلك منذ سنة وما زالت مستمرة، اكتشفت لم لم ينجح العلاج مع بعض مرضاي، لم لم أستطع إخراجهم مما هم فيه، فربما كانوا في منطقة الراحة لديهم ولا يريدون الخروج منها، بل على العكس كانوا يخافون من الأشخاص الذين يرغبون بمساعدتهم، لأنهم يعتبرون أنهم يريدون إخراجهم من مناطق راحتهم الخاصة.
كانت جميع الأيام متساوية بالنسبة لي، لا أعياد ميلاد تعنيني، لا مناسبات خاصة تهمني، كل الأيام متساوية ما عدا يوما واحدا فقط، هو يوم إجهاضي لطفلي واستئصال الرحم، كان هذا اليوم بالنسبة لي هو الإعلان لهزيمتي بحربي، كنت أعتبر نفسي في معركة أنا وهذا الجنين، وحين خسرته استسلمت، لم يعد هناك شيء لأقاتل من أجله في هذه الحياة، رفعت الراية البيضاء وانزويت في جحري معلنة توقفي عن الحياة، بين الحين والآخر كانت تخطر لي أفكار سوداء عن إنهائي لحياتي ولكني كنت خائفة، لم أكن أمتلك شجاعة الانسحاب، أو ربما في أعماق أعماقي كان هناك ضوء أبيض خافت يحاول بين الحين والآخر انتزاعي مما أنا فيه.
هيروكي
تغيرت ساي، تغيرت ملامحها، لم تعد مشرقة كما قبل، حتى شعرها بدأ يكتسي بالشيب، لم أكن أذكر أني رأيت هذا الكم من الشيب في رأسها، بدأت تظهر بعض التجاعيد على ملامح وجهها، ومسحة الكآبة كستها بالكامل. لم أعد أرى أي شبيه لساي التي أحببتها في تلك الإنسانة التي أمامي الآن، ولكن هذا لا يعطيني أي حق في التخلي عنها أو فقدان اهتمامي بها أو عدم محبتها، كنت أعلم أن لا أحد قادر على مساعدتها سوى نفسها، لذا وقفت صامتا أؤدي دور المشاهد المتألم. هل أنا سلبي إلى حد ما؟! كنت أسأل نفسي دائما، هل بوسعي فعل شيء لم أفعله!
كنت أتمنى لو أنها تصرخ، أو تلوم، أو تبكي، لكي أستطيع التفاعل معها، أما أن تبقى جسدا بلا روح فهذا أكثر ما يعذبني. ما زال لدي طاقة للصبر على ما تفعله ساي بنا، فأنا موقن أنه ليس من حقي أن أقرر متى عليها إنهاء حزنها، لا يحق لي تقييم كمية حزنها بأيام أو شهور تستطيع استهلاكها ثم تعود ساي الطبيعية. لكني في الوقت نفسه، لم أعد أستطيع رؤيتها تذوب أمامي، فقلبي لا يقوى على ذلك، أريد أن أرى ابتسامتها مجددا. قررت أن أبهجها في أحد الأيام وذلك بأشياء بسيطة. كان موعد ذهابي إلى منزلها، فأحضرت معي حلواها المفضلة وأعددت لها الطعام كالعادة. لم يخطر ببالي أن اليوم يشكل ذكرى سيئة لساي، كنت أتذكر الفترة بشكل عام وليس اليوم بالتحديد، ولم يخطر ببالي أن ساي التي لم تعد تميز حتى الفصول عن بعضها، ستميز هذا اليوم أو تذكره، أما ساي حين رأت مائدة الطعام المعدة بانتظام والحلوى المشتراة جن جنونها، وبدأت بالصراخ: أخيرا ظهرت على حقيقتك، ها أنت ذا تحتفل بفقداني لطفلي.
هنا بالذات جن جنوني، وطلبت منها أن تصمت ولا تتكلم، لم تذعن وعاودت الصراخ، أخبرتها أن تصمت ولكن ما زالت على هذه الحال، حين هممت بالتكلم وضعت ساي يديها على أذنيها وهي ترفض الاستماع وبدأت بالصراخ: اخرج من هنا لا أود رؤيتك مجددا، لا أود رؤية أحد هنا، دعوني وحدي، لا أريد وجودك في حياتي، لا أريد وجود أي أحد في حياتي.
أمسكتها بعنف وبدأت أصرخ في وجهها: ساي! هذا يكفي، لم أعد أحتمل أفعالك، لم أعد أطيق كل ما تتفوهين به، منذ سنة كاملة وأنت تتذمرين وتتذمرين فقط، حاولت أن أحتوي حزنك وغضبك، حاولت أن أبقى بجانبك، تغاضيت عن عدم شعورك بي، وبحزني، وبألمي، كما لو أنك وحدك من تألم، ووحدك من فقد، ووحدك من عانى، لم أطالبك بأن تشعري بي أو تواسيني، كنت أود فقط أن تخرجي من حالتك تلك، لكنك كل يوم تزدادين عنادا وجنونا، كل يوم تصبح كلماتك وأفعالك أقسى وأشد عنفا، لم أتخيل يوما أن تصلي إلى تلك الحالة، ولم أتخيل يوما أن أرى وضعنا كما هو الآن، أخبريني ما الذي علي أن أفعله ولم أفعل؟
كنت أصرخ بكل قوتي، وغضبي، وألمي، كنت أصرخ وأنا أقول تلك الكلمات التي تراكمت في نفسي، تجمدت ساي في تلك اللحظات أمامي، فمن الواضح أنها لم تتوقع أن تكون ردة فعلي عنيفة، فقد اعتادت على صمتي المتكرر لكلامها الجارح والقاسي، وأنا لم أعد أحتمل بعد الآن.
أنهيت كلامي ودفعتها عني من غير أن أوقعها أو أسبب لها أذى، خرجت من شقتها وأنا أقسم أني لن أعود ثانية إليها، أغلقت باب الشقة بقوة وقسوة، وتركتها في جنونها ومضيت.
ساي
كنت أتوقع عودته بعد ساعة أو ساعتين، لكن مضت خمس ساعات ولم يأت، ثم مضى يومان ولم يأت في موعده المعتاد، ثم مضى أسبوعان والحال ذاتها. وها هو آخر إنسان في حياتي لم يعد يظهر ولم يعد موجودا، إلا أنه بات يرسل امرأة لتقوم بتنظيف المنزل وإعداد الطعام لي. مضى الشهر والحال ذاتها، ثم سألت تلك المرأة بعد مرور الشهر: أين هو البروفيسور هيروكي؟
قالت لي إنها لا تعلم، لقد تم توظيفها وهي تقوم بعملها فحسب. مع مرور تلك الأيام، بدأت حركتي تتقلص في المنزل، بات موحشا أكثر فأكثر. فعلى الأقل حين كان يتردد هيروكي علي لم أكن أشعر بوحشة المكان، يوما بعد يوم كانت المساحة التي أتحرك بها تصغر إلى أن غدوت لا أغادر مكاني إطلاقا. هنا أحسست أني لا أحتمل غيابه وبعده عني، أنا أشتاق للمساته الدافئة، أشتاق لابتسامته الهادئة، إن كان قد أصابه أي مكروه فسيزيد جنوني جنونا، أيقنت أني لا أزال أحبه. في السنة الماضية، ربما كنت أعد وجوده معي هو الشيء الطبيعي وأنه لن يبتعد عني مهما حصل، لكني كنت قاسية عليه وعلى نفسي أيضا، تذكرت قسوة هاك معي وكيف أني ألعب دور هاك الآن بل وأتقنه أيضا، هنا تفهمت قليلا انفصال هاك عني بالرغم من الحب المتبادل بيننا، فالحب وحده لا يكفي لاستمرار العلاقات .
ولأول مرة منذ سنة تقريبا بادرت أنا بالاتصال بهيروكي. كنت متلهفة لسماع صوته وفي الوقت نفسه غاضبة منه، لم أكن أعلم حقيقة ماذا سأقول له؟ هل أبدأ حديثي بالعتاب عليه وعلى غيابه المتواصل عني، أم يكفينا هذا الجفاء الذي وصلنا إليه، إذن سأبدأ بالاعتذار، ولكن هل سيعتبر اعتذاري ضعفا؟! لا ليس هيروكي من يعتبر أن الاعتذار ضعف، ولكني مع هذا كنت مترددة جدا من الاعتذار. قاطع هذه الأفكار صوت المجيب الآلي يخبرني أن الرقم المطلوب خارج نطاق التغطية، حاولت بعد ساعة، ساعتين، في اليوم التالي، هنا فقدت السيطرة على نفسي وبدأت بالبكاء، بكيت بحرقة، حرقة من عرف ألم الفقد ومن يخاف أن يفقد مرة أخرى، أبكي ولكن هذه المرة لا يوجد أحد معي يخبرني أن كل شيء على ما يرام، وأن الأمور لا بد أن تتحسن، كنت أشعر أني مقيدة الحركة وأنه ليس بيدي حيلة أفعلها. كان الاكتئاب قد أخذ مني مأخذه فأصبحت أشعر دوما أن لا حيلة لي، ولكن هذه المرة حاولت بشتى الطرق محاربة تلك الأفكار السوداوية، أخذت حبوبي المهدئة التي اعتدت عليها منذ رحيل جنيني، وجلست واضعة رأسي في حجري علي أستطيع السيطرة على نفسي.
بعدها سألت نفسي: ماذا لو كان لا يرغب في سماع صوتي بالأصل؟ ماذا لو أنه حقا لم يعد يحتملني؟ ماذا سأفعل حينها؟ حين طردته هل كنت حقا أعني ما قلته؟ لا أدري! لكني بحاجة إليه. فكرت كثيرا ثم قررت الذهاب إلى منزلنا.
وأنا في طريقي إليه كنت أحلم أنه سيراني ويأخذني بين ذراعيه، لكن لم أكن واثقة من ذلك أبدا. دخلت إلى المنزل بخطوات هادئة فرأيت الأنوار مطفأة، وهذا يعني أنه نائم أو ربما ليس موجودا في المنزل. توجهت نحو غرفة النوم فوجدته نائما. نظرت بهدوء للغرفة؛ فقد كدت أنسى تفاصيلها، منذ سنة وأنا لم آت إلى بيتنا، أمعنت النظر مجددا لأجد إطار صورة، أمسكتها لأراها، كانت صورة قد التقطت في أول ذكرى زواج لنا معا، كنا في مطعم صغير في وسط المدينة نحتفل بهدوء، لم تكن الصورة بتلك الاحترافية، لكن كانت تعني لنا الكثير لذا وضعناها في غرفتنا. تذكرت حينها أني في تلك اللحظة كنت أخبره أن تلك السنة كانت أجمل سنين حياتي، تذكرت أني كنت أعده أن نبقى معا إلى الأبد، تذكرت رقصته معي تلك الليلة على أنغام البيانو بعد أن عزفت لنا مقطوعة خاصة، كانت تلك المقطوعة هديته لي في ذلك اليوم، تذكرت كيف أدركت في ذلك اليوم أنه وحده هيروكي الذي يعلم ما أحب، وحده هيروكي الذي يعلم كيف يسعدني، تذكرت سعادتنا معا ومن ثم نظرت لحالنا. لم أعد أتمالك نفسي، دنوت إليه، طبعت قبلة على جبينه، لقد اشتقت لكل تفاصيله، ظللت أمسح على شعره، كنت أريده أن يشعر بوجودي، لكنه لم يفعل. أتاني شعور أن لا مكان لي هنا بعد الآن، هو مستقر الآن، لقد دخلت حياته وقمت بالعبث بها. لا بد وأنه يشعر بالارتياح والهدوء، لم أعد أرغب أن أزعجه بعد الآن، أدركت أن عودتي إليه ستؤذيه، فأنا لم أعد أصلح له، كما قال لي، فأنا مجنونة، ربما هو محق!
أخذت إطار الصورة معي، بدأت دموعي بالانهمار وأنا أغادر الغرفة، ومن ثم أغادر باب المنزل. وصلت إلى الحديقة وأنا خائفة، كيف سأعود إلى شقتي مجددا؟ لا أريد أن أبقى وحدي، كان اليأس يحوم حولي، وكل ما حولي ظلام. مع كل خطوة كنت أتقدمها كنت أشعر كما لو أني أهرب من الدفء إلى البرد، من السعادة إلى التعاسة، أهرب بإرادتي من عالم مليء بالتفاؤل والأمل إلى عالم موحش وبائس. وقفت قليلا، ما الذي يجعلني أختار بنفسي هذا الخيار القبيح؟ هل أنا بهذا القدر من الغباء! شيء ما كان يدفعني ألا أعود، فأنا لست متأكدة من أن هيروكي سيقبل عودتي مرة أخرى.
هممت أن أكمل خطواتي لأخرج من باب الحديقة، فرأيت شبح الوحدة يحاوطني ويكاد يفتك بي، ذعرت وصرخت وأوقعت إطار الصورة الذي كان بيدي أرضا. غطيت وجهي بكفي وبدأت بالبكاء، لم أستطع أن أظل واقفة، فجلست على الأرض وأنا أرتجف من خوفي. كل تلك الأعراض تؤكد أنني مصابة بخلل نفسي، كنت أعلم أن الاكتئاب قد نال مني، وأن وضعي النفسي سيئ جدا، لكن لم أعتقد أني وصلت لدرجة التوهم. لطالما سمعت تلك الأعراض من المرضى، كنت أصدقهم وأحاول تفهم شعورهم وتصور حالتهم، وكنت أظن أني أفهمه بشكل قريب، لكن حين عشت الأمر وجدته مختلفا، كم كان مرعبا ومخيفا أن أبدأ برؤية أشياء لا وجود لها، وسماع أصوات لا مصدر لها. بقيت في مكاني أرتجف وأنا أفكر بحالتي الجديدة تلك، لم أجرؤ أن أفتح عيني مجددا فأنا ما زلت أسمع صوت شبح الوحدة ذاك، أسمعه يدوي في أذني، ينذرني بأيام سوداء، وليال حالكة الظلمة. شعرت برياح حولي تأخذني يمنة ويسرة، وتخيلت وجود عاصفة تقترب مني لتأخذني معها وترميني في مكان بعيد، بعيد حيث لا أحد يراني أو يسمعني، ولن يكترث أحد ببعدي. لم اعتدت الخسارة دائما؟ لم لا أستطيع إنقاذ نفسي بنفسي؟ لم أعتمد على الآخرين؟ لم أنا هشة إلى هذا الحد؟ لكنني حاولت كثيرا وفشلت؟ لا أحد في هذه الدنيا يستطيع أن يعتمد على نفسه وحسب، كذب ما يقال، أنه باستطاعتنا المضي قدما بعزمنا وقوتنا وإرادتنا فقط، ربما هناك من يستطيع القيام بذلك، لكن ما أعرفه أني لست من هؤلاء الأشخاص.
لا أريد أن أرفع وجهي، ولا أريد أن أعود وحدي، كررت تلك الكلمات وأكملت لعبة التخيل والجنون، فما زالت العاصفة تقترب مني أكثر فأكثر، عدة دقائق وستصل إلي وستنال مني، وما زال الشبح يهزأ بي، وأصوات الرعب تعلو وصداها يكاد يصم أذني، وأنا بصغر جسدي في هذا المشهد وضعف روحي، أنتظر مصيري بلا سند، وبقلب مثقل بالأسى. كان ما ينقص هذا المشهد مقطع أخير، ينهي المأساة. قررت أن أرسم ذلك المشهد بقلبي، وأرى تفاصيله لأعيش لحظات حب ودفء أخيرة على باب حديقة منزل هيروكي، هيروكي الذي ضاق ذرعا بتصرفاتي، سنة كاملة وأنا أتفنن في تعذيبه وإيذائه، لم أترك كلمة إلا وجرحته بها، لم أترك وصفا واتهاما إلا واتهمته به، سنة كاملة وهو يحاول عبثا أن يعيد قلبي إلى الحياة، سنة كاملة وشهر، نعم أنا لم أفقد إحساس الزمان، ما زالت أذكر آخر يوم قبل معرفة خبر الحمل، كان يوما عاديا من حياتنا، يوما مليئا بالحب وكلمات الغزل والمزاح، يوما مليئا بالحياة. قررت أن أراه يجري نحوي، أنادي باسمه وينادي باسمي، قررت أن أراه وهو يضمني بين ذراعيه، قررت أن أشعر بلمسة يديه تمسح كل دموعي، قررت أن أسمع كلماته وهو يخبرني أن كل شيء على ما يرام وهو بجانبي دائما وأبدا، قررت أن أصدق خيالاتي وأسمع صدى صوته في أعماقي، وبرعت في ذلك، فقد شممت رائحة عطره التي اشتقت إليها، وأمسكت يديه، وغرست وجهي في صدره، لا أريد أن أتركه أو يتركني، كما لا أريد أن أستفيق من هذا الحلم الجميل.
هيروكي
عندما صرخت ساي في وجهي، تتهمني أني أحتفل بفقدانها لطفلها ولفرصة الإنجاب مجددا أيقنت أن ساي قد جنت حقا. على مدى السنة التي مضت كنت أجد لها مبررات وأعذارا لتصرفاتها، لكن في ذاك اليوم لم يعد في جعبتي أي منها، لم أعد أستطيع إقناع نفسي بأن هناك أملا من عودتها إلى رشدها، هي تزداد جنونا كلما مضت الأيام. في ذلك اليوم اقتنعت أن لصبري حدودا، وأن الحب وحده لن يحل المشكلة، وأن لا فائدة من إصراري على البقاء إلى جانبها. لم يعد الأمر متعلقا بالوفاء أو الإخلاص، هي لا تريد رؤية وجهي مجددا، وربما أنا أزيد من تعاستها بينما أظن أن إصراري سيسعدها، لكن من الواضح أنه لا يسعدها البتة.
قررت قرارا صارما ألا أعود ثانية إلى منزلها، وألا أتصل بها، وأنا إن قررت أمرا أنفذه. وكلت امرأة لتقوم بالعناية بها وبمنزلها، فتحضر لها طعامها وتطمئن عليها يوميا، وأوصيتها في حال طرأ أمر مهم أن تعلمني به، عدا ذلك لا أريد أن أعلم شيئا عما يحدث مع ساي، ولا أريد أن أتتبعها بعد الآن، لديها حريتها الكاملة بتصرفاتها، وحين ستستعيد توازنها تستطيع أن تقرر مصيرنا كزوجين، أما الآن لا أريد أن أفتح هذه المواضيع.
مر أول شهر بسلاسة، فأنا أصلا أعيش وحدي منذ أكثر من سنة. رغم ذلك فقد كان الفضول ينتابني في بعض الأيام لأعلم ما تفعله الآن وما تفكر به عن اختفائي، لكني كنت أتجاوز تلك الأفكار بسهولة. لكن بعد مضي ذلك الشهر، وفي إحدى الليالي كنت أتصفح كتبي وأنا مستلق على سريري، شعرت بباب المنزل وهو يفتح بالمفتاح، فعلمت أنها هي: ساي، نظرت من خلال الكاميرات فرأيتها تدخل بهدوء وهي مرتدية ملابسها الرياضية، ملابس مشابهة لتلك التي رأيتها فيها أول يوم التقينا به أثناء مقابلتها. لا أنكر أن قلبي كان يخفق شوقا إليها ولكن عقلي يمنعني عن ملاقاتها، يذكرني بآخر لقاء لنا وكيف كاد يتحول إلى مأساة، بل تحول بالفعل؛ لذا فضلت ألا نتقابل فنتحدث وتبدأ المشاكل، كان الحل الأمثل بالنسبة إلي هو التظاهر بالنوم، فحتى إن كان قرارنا النهائي أنا وساي هو الانفصال فعلى الأقل ليكن انفصالا راقيا كرقي العلاقة التي جمعتنا؛ ولهذا قررت لحظة مجيئها الانسحاب، لم أنسحب لأني لا أرغب برؤيتها، بل انسحبت حتى لا نجرح بعضنا ونلوم بعضنا أكثر، لطالما كان فن الانسحاب من الفنون التي أجيدها سواء في حياتي المهنية أو الشخصية ولكني لم أكن أتخيل أن يأتي اليوم الذي أطبق فيه فن الانسحاب على علاقتي مع ساي. حقيقة أنا لا أعلم لم أتت، ربما تود أخذ شيء من أغراضها التي في منزلي، أطفأت أنوار الغرفة، أغلقت كتابي، وضعت رأسي على وسادتي وأغلقت عيني.
عندما وصلت ساي إلى غرفتنا، تسللت بهدوء، اتجهت نحوي أولا، ثم غيرت اتجاهها، لم أستطع أن أميز ما تبحث عنه؛ فقد جلست على طرف السرير من الجهة الأخرى، وفجأة بدأت ساي بالانتحاب، اقتربت مني ومسحت على شعري بحنان، قبلت جبيني ومن ثم مضت. كان قلبي يخفق بشدة، فمنذ سنة وهي لا تكترث بي أبدا، كدت أنهض لأراها لكنني لم أرغب بمفاجآت من ساي، لم أعد أتوقع ما هي ردة فعلها، قد تعود لجنونها مجددا إن تحدثت معها، قد أخبرها أني اشتقت إليها وتجيب أني اشتقت لأرى تعاستها، وقد أخبرها أنه قد مر وقت طويل لم نلتق به، فتجيب أنني المذنب، لم أعد أتوقع إلا السلبي منها. أخذت شيئا بيدها لم أميز ما هو وخرجت من الغرفة، مشت بخطوات هادئة وهي تبكي وسمعت صوت إغلاق باب المنزل. كان الهدوء شديدا في تلك الليلة؛ لذا استطعت أن أسمع خطواتها في الحديقة.
بعد عشرين دقيقة خمنت أنها قد وصلت إلى منزلها. لكني فجأة سمعت صوت صراخ في الحديقة، كان صوت ساي، وكما لو أنها أوقعت شيئا منها وانكسر، جريت مسرعا ونظرت من النافذة فرأيتها ما زالت على باب الحديقة الخارجية، مرتمية على الأرض وهي تمسك بصورة لنا، يبدو أن تلك الصورة هي ما أخدته من الغرفة قبل قليل، كان إطار الصورة مكسورا أمامها. لم أفهم لم هي ما زالت هنا، وماذا حدث بالضبط.
بقيت أراقبها وأنا داخل المنزل، أراقب كسرها وكسري، كان ضوء الحديقة يظهر وجهها بشكل واضح، كانت الدموع تنهمر من عينيها، ومع كل دمعة كنت أشعر أن قلبي يكاد يتوقف، في كل مرة أحاول أن أخطو نحوها، أتذكر الوعد الذي وعدته لنفسي بالانسحاب من حياتها، أشعر أني سبب كل الألم الذي ألم بها في الآونة الأخيرة ولا أرغب في أن أتسبب لها بالمزيد من الآلام، كان قلبي يخبرني أن ما أقوله هو مجرد كلام لأرضي ضميري نحوها وأني لم أعد أحتمل المزيد من المشاكل لذا انسحبت، انسحبت لمصلحتي لا لمصلحتها ولكن يأبى عقلي أن يطاوعه ويخبرني أن ما أفعله هو الأفضل لكلينا. في النهاية بقيت على حالي تلك، مكتفيا بالمراقبة من بعيد، أدعو في سري أن تقودها خطاها لحضني وتعود لي.
حين همت بالنهوض من مكانها بدأ قلبي يخفق بشدة شعرت أن مصيرنا نحن الاثنين سيتحدد في الدقائق التالية وإلى الأبد، نهضت من مكانها وهي تبكي، وأخيرا اتجهت مجددا نحو باب المنزل عائدة، كانت تبكي وتنادي باسمي، شعرت بسعادة غامرة، سعادة تعادل الدموع التي تنهمر من عينيها، ركضت نحو الباب لأفتحه حتى قبل أن تقرعه أو تفتحه هي، فما دامت قد عزمت على العودة واختارتني فسأبقى متمسكا بها، رأيتها أمامي بوجهها البريء الذي أعشقه.
فتحت ذراعي لها وضممتها إلى صدري وأحكمت الضمة، همست لها: اشتقت إليك.
أجابتني: أحبك.
أعادتها عشرات المرات، في كل مرة كنت أطبع قبلة على رأسها وأخبرها أني أحبها أكثر، وأفكر بكل جميل أعطته لي، وبكل حياة أضافتها لروحي، وبكل ابتسامة وهبتها لحياتي.
فالحب بالحب، والعطاء بالعطاء، والوفاء بالوفاء، والبادئ أكرم. (تمت)
نامعلوم صفحہ