فریج سے بولتی آواز
الصوت المتحدث من الثلاجة: مجموعة قصصية
اصناف
واظب منير على إسداء ما يعرفه للشاب. رعاه ولاقى منه الوفاء. وهبه سحبا، ولم يرد الشاب واحدة منها طينا. حدثت خلافات وخصامات، لكنها كانت مثل شقاق أعظم المحبين، وجروح جسد وولفرين، تلتئم جميعها بعد قليل. أشرقت شمس الرضا في نفس منير. ومن شكر الشاب له، غامر الإعزاز، صنع لنفسه شاطئا رحيبا لا تمسه إلا رياح تصح الروح.
الجالس
ظهر على الناصية مرتديا جاكيت رماديا، أو بنيا شاحبا، أو لعله بلا لون، فوق جلباب فاتح. ثم تقدم جالسا على الكرسي البلاستيكي الأحمر. كان عجوزا نحيفا، وكأن الزمن لم يأكل منه شبابه فحسب. شروده عميق. يطلق بصره في اللا شيء، ثم يهرش رأسه ببطء كالحيران في القصص المصورة. بمرور الوقت، لاحظت أنه لا يعبأ بمسح عرقه المتفصد بغزارة من فرط حرارة الجو، أو ب «تيتو الساحر» الذي يتجول نافخا النيران من فمه، أو ببوادر مشاجرة كادت أن تتقد بين عجوز وشاب على صف الكراسي المقابل للمقهى والتابع لها. وإنما لاحظت إنصاته الوفي لنشرة الأخبار في راديو المقهى، حيث يهز رأسه في حركة آلية، فيها تلق أكثر منه تفهما، عقب آخر سطر من كل خبر يعلنه المذيع بنبرته التي صرت أحتقر محايدتها. شككت أنه مختل. جدتي في أيامها الأخيرة تعودت ذلك. نظرة العين الغائبة، وموت الانفعال في الوجه، هما ما أكدا لي أن بالأمر خطأ ما. أشار صاحب المقهى - الشبيه بشيخ منسر، وليس فتوة نبيلا كما والده - بفتح التليفزيون. وكان التليفزيون على حامل معدني مقابل للرجل. وفي ثانية واحدة، تألقت على الشاشة فاتنة لبنانية تتمايل مغنية ما لم أهتم بسماعه عمري، غامزة للمشاهد في إغواء صريح أحببته. ومع الإيقاع الراقص للأغنية، تبدد جمود الرجل، وتمايل مع الفتاة، محركا رقبته يمينا ويسارا، في رقصة طربت لبهجتها. بينما بين الحين والحين، يلتفت لصوت النشرة الإخبارية، العالي بنفس الدرجة، ويهز رقبته لأعلى وأسفل في جدية. تمكنت البسمة من شفتي، على الرغم من اجتياح موجة ريح ساخنة للمكان، وقلقي من سماء حمراء السحب، تعني - كما علمتني أمي ليلة ما - غدا لافحا ندعوا الله بالستر منه.
بعض الجحيم
أدخل وصديقي إلى المطعم. المكان ضيق رغم اسم المطعم العالمي، الشهير بوجباته السريعة. لمحتها جالسة وحدها على منضدة لها 4 كراسي. يا الله! جمال يطوف بك في جنات بلا نهاية. حضورها فيلم مقدس. تشع أحلاما وردية، وآيات شافية. قبعت داخل سجني القديم. وبحثت عن كرسي فارغ، فوجدت واحدا، طويلا وبلا خلفية، ككراسي البارات، أجلست صديقي عليه، ثم ذهبت - باعتباري مضيفه - إلى قسم الطلبات. هناك، انعكست واضحة في لوح معدني مصقول وطويل. عبارة عن ابتسامة ملائكية في هيئة فتاة. كانت قريبة جدا من الصورة التي لا أجرؤ على تخيلها لحبيبة، وعروس، وشريكة حياة، وقرينة روح حتى الممات، وما بعده. كتمت الأماني الثرثارة. وسددت مسام عاطفتي بالجبس والأسمنت الأسود. تخيل قاطرة بخارية فحمها يغلي نارا، وأغلقت مدخنتها ببساطة. نعم، كنت أنا القاطرة الموشكة على الانفجار. اضطررت للانتظار حتى ينتهي شاب بدين من إلقاء طلباته. واضح محاولته المستميتة لتلميع شعره بمادة ما، واختياره لفانلة قاتمة تخفي ترهلاته. ما إن انتهى، حتى فوجئت بصوتي يخرج خفيضا هادئا. يبدو أنه قد تم استهلاكه في صرخات داخلية لم أسمعها. طلبت السندوتشات لي ولصديقي، ثم عدت إلى مكاني بخطوات بطيئة، راغبا وبقوة، في التجديف والنظر إليها. سأختطف نظرة واحدة سريعة. لن تشعر، ولن تتضايق. فعلتها، وإذا بي أجد البدين يجاورها. كانا يتحدثان مبتسمين في وقار . تذكرت رصدي - في جميع المطاعم التي دخلتها - أن الثنائي المتحاب، أو المخطوب حديثا، يجلسان بجوار بعضهما، وليس «في مواجهة» بعضهما. ربما رغبة في الاقتراب، وتقصير المسافات. ربما طمعا في لمسة يد، أو دفء كتف. حين وصلت إلى صديقي، المستغرق في متابعة مباراة كرة قدم في التليفزيون المفتوح، انتبهت إلى غياب الكرسي الذي سأجلس عليه. وقفت منتظرا تلك الأسرة الصاخبة التي تلتهم طعامها بشراهة. يبدو أنهم سيسكنون المكان، أو يأكلون كراسيه أيضا. خرج البدين ليتابع مكالمة في محموله داهمته وسط ضجيج التليفزيون والزبائن. طردت صبري، على الوقوف أو اقتناص النظر، وتقدمت خطوات إلى منضدتها. تقابلت عيني - أخيرا - مع عينها. آآآه. عيون سوداء عميقة. لو أطلت النظر إليها لوصلت إلى سعاد حسني، ونفرتيتي، وبنت السلطان في القصص الشعبية، وكل ليلى أصابت قيسا بالجنون. عيون كالمرسى الذي تهفو إليه سفينة طال تيهها. عيون تقيس عليها الحقيقة، ليظهر الزائف، وينكشف السراب. سألت بنفس الصوت الخافت: «ممكن آخد الكرسي؟» قاصدا أحد الكراسي الشاغرة لمنضدتها. فوافقت بهزة خفيفة من رأسها، وصوت لم أسمعه؛ إذ إني كنت مشغولا بالتحليق في سمائها. ما عذبني أكثر كان رداءها. أبيض وبنفسجي. كيف عرفت ألواني المفضلة؟ هذه الفتاة مطبوعة من أحلام يقظتي! جررت الكرسي إلى جوار صديقي الذي امتصته المباراة، حتى اختفى. جلست معطيا جانبي لها. كنت أصلى نارا حامية. لم أذق الجحيم على الأرض إلا في هذه اللحظة. تاريخ آلامي طويل، والحمد لله. لكن تلك النار التي تضطرم، بلا رادع، وتأكل جسدك، حتى تكاد تسمع لظاها وتغيظها، لم أعرفها إلا في تلك اللحظة الملعونة. لم يلحظ صديقي العزيز تفصد عرقي، واضطراب تنفسي، وإحساسي السحيق بالفشل. الزمن لوري يدهسني ببطء. آخ، أريد لهذا المشهد أن ينتهي. أن يموت. أبرع في تمثيل التماسك حتى كادت أسناني تنكسر من فرط الضغط عليها. أجري وراء قلبي، لألحقه، وأصفعه معيدا إليه عقلانيته، أو حتى أعرقله لأقلل سرعته. صوت ضحكتها الناعمة الصغيرة يملي أكواد تفجير القنبلة النووية. تتصاعد درجة حرارة اشتهائي للنظر إليها، لكن القاضي حكم على ذلك بالإعدام الفوري. أستغفر الله العظيم. إلى متى سأبقى غرابا ينعق وحده في الصحراء؟ الشمس الحارقة لا ترحم، ولا تغرب. حقدت على البدين، وعلى حظه. أردت إلغاءه
delete
مع
shift ، والحلول مطرحه. خرجت المظاهرات قاصمة، تطالب أن يكون نهر هذه العيون السود لنا فقط، لا شريك فيه، ولا غريب يقربه. سمعت العامل ينادي. إنه طلبي. صحا صديقي من المباراة، ومن قبل أن يفكر في تناول الطعام هنا، كنت اختطفت الكيس الورقي، وهربت للخارج. لحق بي مستغربا، فتعللت أن الجالس بجوارنا عدو قديم. ومع رحيلي، لم أحاول، أي محاولة، أن أنظر إلى الخلف، علما بأن واجهة المطعم وبابه من زجاج، ومجرد إدارة عنقي سترويني من محياها. ومع تقدم الطريق، ودعوات صديقي علي، قرأت لها ولفتاها الفاتحة، داعيا الله أن يبعد عنهما الشرور، والحاقدين، ولحظات الألم ... من أمثالي.
علاج غير تقليدي
انتابتني حالة من الشره المازوخي. صارت أبواب معدتي مفتوحة 24 ساعة. فمي بالوعة فيضان لا ينتهي تدفقه. والشبع حلم مثل الغول، والعنقاء، والخل الوفي، ومحاسبة الفاسد. وكي تزداد الأرض جفافا، سكنني كرش يتشاجر مع البنطال في كل نزول، ويتناطح مع الحزام في كل خطوة، محولا شكلي من نجم الفيلم إلى صديقه المضحك.
نامعلوم صفحہ