صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
اصناف
ومن ثم فإن كلمة «معيار» بالمعنى المطلق هي «حد فارغ» ليس له في الواقع ما ينطبق عليه. وبالتالي فإن التمييز بين المعنيين هو تمييز عابث لا جدوى منه. (1-3) حجج النسبية
أولى حجج النسبية، وتسمى أحيانا «الدليل الأنثروبولوجي»، هي الوجود الفعلي لمعايير أخلاقية متباينة في العالم. وقد زادت معرفتنا بها بعد انتشار موجات الكشوف الأنثروبولوجية التي أكدت اختلاف المعايير وعدم وجود معيار واحد. غير أنها حجة ضعيفة، ذلك أن صاحب النزعة المطلقة لا ينكر تعدد المعايير بهذا المعنى، وهو يفسرها بجهل الناس بالحقيقة الأخلاقية بنفس الطريقة التي يجهلون بها الحقائق الأخرى (عن العلوم الطبيعية مثلا). لقد كان دأب الناس أن يختلفوا في كل الموضوعات، وإذا كان اختلاف الناس حول شكل الأرض ليس دليلا على أن الأرض ليس لها شكل. كذلك اختلاف الآراء الأخلاقية لا يثبت أن ليس هناك أخلاق حقة واحدة.
إن كشوف الأنثروبولوجيين لم تضف شيئا جديدا إلى ما كنا نعرفه ونسلم به من اختلاف القيم. لقد أضافت تأثيرا نفسيا فقط، واستغلها النسبيون باسم العلم ليرهبوا بها عقول البسطاء. هذا هو سر الضجة الفارغة التي اصطنعها النسبيون بشأن الدليل الأنثروبولوجي.
17
والحجة الثانية للنسبية الأخلاقية هي الدعوى بأن ليس بمقدور أحد أن يكتشف الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه أخلاقية مطلقة، أو يكتشف المصدر الذي يمكن لدستور أخلاقي ملزم عالميا أن يصدر منه ويستمد سلطته. فإذا كان هناك، على سبيل المثال، قاعدة أخلاقية مطلقة ثابتة توجب على الناس أن يكونوا غير أنانيين، فمن أين يصدر هذا الأمر؟ (لأن القاعدة الأخلاقية هي دائما أمر مهما اختلفت صياغتنا لها، فلا فرق في المعنى بين أن تقول «ينبغي ألا تكون أنانيا» وبين أن تقول «لا تكن أنانيا». حسن، وكل أمر يتضمن آمرا، وكل إلزام يتضمن سلطة ملزمة، فما هي هذه السلطة؟)
تخلص النزعة النسبية إلى أن من المحال العثور على أي أساس يقوم عليه أي قانون أخلاقي ملزم عالميا، بينما من السهل اكتشاف أساس للأخلاقية إذا سلمنا بأن الشرائع الأخلاقية متباينة عابرة محدودة بحدود الزمان والمكان والظروف، أي نسبية. وإذا كان الأساس الديني لأخلاقية مطلقة واحدة قد انتهى في نظر الكثيرين فإلام تستند الأخلاق المطلقة؟ هل تستند إلى أساس دنيوي؟ فإذا استحال ذلك فليس أمامنا إلا التسليم بتعدد الشرائع الأخلاقية التي قد تتناقض فيما بينها، والتي لا تبسط سلطانها إلا على مناطق محدودة وفترات زمنية محدودة، وليس بينها ما هو أفضل من الآخر، إذ إن كل شريعة منها ستكون خيرا وحقا بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في تلك المناطق والأزمنة. ليس أمامنا، باختصار، إلا التسليم بالنسبية الأخلاقية.
18 (1-4) الحجج المضادة للنسبية
من شأن النسبية أن تجعل المقارنة بين الشرائع الأخلاقية المختلفة شيئا لا معنى له ما دامت كل شريعة صوابا بالنسبة لأهلها، بينما نحن نقارن عادة بين الحضارات من حيث الصواب الأخلاقي، فنقول مثلا إن المعايير الأخلاقية الصينية أسمى من معايير سكان غينيا الجديدة. وعلى الرغم من صعوبة المقارنة العادلة واحتمال الوقوع في السطحية والتعصب فإن ذلك لا ينفي المبدأ: وهو أننا نقارن ونجد للمقارنة وجها ومعنى. نحن نقارن فعلا بين أخلاق زماننا وأخلاق الأسلاف منذ خمسمائة عام؛ إذ كانوا يجيزون الرق والحرق والتعذيب الوحشي، ونقول إن معاييرنا أسمى من معاييرهم. إنها مقارنة ممكنة، لها معنى ولها وجه وقابلة للنقاش العقلاني، ولكن إذا صحت النسبية الأخلاقية فلا معنى لأي شيء من هذا، إذ ليس هناك معيار يشكل أساسا تقوم عليه مثل هذه الأحكام.
ويتضمن هذا بدوره أن فكرة «التقدم» الأخلاقي برمتها هي محض وهم، فالتقدم يعني السير قدما من الأدنى إلى الأعلى، من الأسوأ إلى الأفضل، إلا أنه وفقا للنسبية الأخلاقية فلا معنى لأن نقول إن معايير هذا العصر أفضل (أو أسوأ) من معايير عصر سابق؛ إذ لا يوجد معيار عام يمكن أن يقاس به كل من الطرفين.
ومن شأن النسبية أن تجعل حتى المقارنة بين فرد وآخر داخل نفس الجماعة شيئا ممتنعا، وذلك لغياب المعيار العام، وبذلك يكون كل فرد معيار نفسه، ولا يعود هناك وجه لطاعة أي مبدأ، وبذلك نسقط في فوضى أخلاقية وانهيار لكل المعايير المجدية.
نامعلوم صفحہ