صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
اصناف
mores (وهو اللفظ الذي اشتقت منه كلمة «أخلاق»
morals
في اللغات الأوروبية). غير أن هذه الأعراف ذاتها ليست أخلاقية بمعنى أنها عقلية وموضوعية؛ ذلك لأنها لا تتولد عن مثل عليا وإنما عن قوى اجتماعية خارجية. وليس ما نعده تقويمات أخلاقية سوى تعبيرات عن عادات اجتماعية بالغة الأثر، أو تبريرات لها. وهي عادات نألفها إلى حد أنها تبدو لنا أكثر من مجرد عادات، وتصبح لها بسهولة مكانة القوانين الأخلاقية المطلقة والأوامر الإلهية وما شابه ذلك. ويمضي سمنر أبعد من ذلك فيقول إن الفلسفة والأخلاق النظرية تستمدان معا من الطرق الشعبية، وليس بوسع أي منهما أن تفلت من الحدود التي يفرضها عليها أصلها أكثر مما يستطيع الإنسان أن يحمل نفسه من أربطة حذائه. إن المفكر الأخلاقي في الأغلب الأعم لا يفعل أكثر من تبرير الأخلاق السائدة في عصره، تلك الأخلاق التي لا تعدو أن تكون تعبيرا عن الأعراف الاجتماعية أو الطرق الشعبية؛ ومن ثم فإن أرفع المذاهب الأخلاقية الشاملة وأكثرها معقولية إنما هو في أساسه خدعة وقور، من حيث إنه يدعي لنفسه ما لا يمكن على الإطلاق أن يكونه أي مذهب عقلي بحكم طبيعة الوقائع الاجتماعية ذاتها.
2
الطرق الشعبية: تعريفها ومنشؤها
عندما نضم معا كل ما تعلمناه من الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا عن الإنسان والمجتمع البدائيين، يتكشف لنا أن المهمة الأولى في الحياة هي «البقاء»؛ «العيش». في البدء كانت الأفعال لا الأفكار، فكل لحظة من اللحظات كانت تجلب من الضروريات ما لا بد من إشباعه على الفور. في البدء كانت الحاجة، وجاءت في إثرها محاولة متعثرة متخبطة لإشباعها.
ومن المسلم به بعامة أن البشر قد ورثوا عن أسلافهم من الحيوانات بعض الغرائز الموجهة. أخذت هذه الموروثات بيد الإنسان وأرشدته في محاولاته الأولى لإشباع حاجاته. وبميسورنا من خلال المماثلة (الأنالوجي) أن نفترض أن طرق الحيوانات قد خلفت فيه قنوات من العادة والميل جعلت المهارات والنشاطات النفسجسمية تسلك في مسارها وتجري بمجراها بسهولة ويسر. وتدلنا التجارب التي أجريت على الحيوانات الحديثة الولادة أنه في غياب أية خبرة عن العلاقة بين الوسائل والغايات تكون محاولات إشباع الحاجات غشيمة رعناء، وتعتمد على منهج «المحاولة والخطأ»
trial and error ، وهو منهج يؤدي إلى ألم وفقدان وإحباط بصورة متكررة. غير أنه يمثل التجربة والاختبار في صورتهما البدائية. من هذا الصنف كانت محاولات البشر الأولى. لقد كانت الحاجة قوة قاهرة، وكانت اللذة من ناحية والألم من ناحية أخرى هما المحددات الأولى للمسار الذي يتعين على المحاولات أن تتخذه. وكانت القدرة على تمييز اللذة من الألم هي القوة النفسية الوحيدة التي يمكن افتراضها. بذلك يتم اختيار الطرق الأنسب عمليا لفعل الأشياء، أي الطرق التي يثبت نفعها. وكان الجميع في بداية الأمر يتبنون نفس الطريقة للوصول إلى نفس الغرض، ومن ثم تحولت الطرق إلى عادات اجتماعية وأصبحت ظواهر جمعية، ونشأت الغرائز مرتبطة بها. هكذا تنشأ الطرق الشعبية ويتم تعلمها بالنقل والتقليد والسلطة. بذلك زودت الطرق الشعبية الإنسان بكل ما يحتاج إليه في الحياة.
تتصف الطرق الشعبية بالاطراد والشمول والطابع الآمر والثبات. وبمرور الوقت تزداد طبيعتها التعسفية والقطعية والأمرية. وإذا سئل البدائيون لماذا يسلكون بطريقة معينة في حالات معينة فإنهم يجيبون دائما بأنهم هم وأسلافهم كانوا دائما يفعلون ذلك. وهناك وازع آخر ينشأ من خوف الأرواح، فأرواح الأسلاف حرية أن تغضب إذا ما غير الأحياء الطرق الشعبية القديمة.
3
نامعلوم صفحہ