صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
اصناف
كثيرا ما تؤدي الميكنة إلى تميز بعض الأجزاء وتحولها إلى مكونات رئيسة تهيمن على سلوك النظام وتتولى قيادته ويكون لأقل تغير فيها أثر كبير على النظام الكلي، خلافا لمبدأ «العلة تكافئ المعلول». هكذا ينشأ نظام تراتبي هرمي للأجزاء والعمليات.
في حالة المخ البشري والوظيفة العقلية تنشأ المركزية والتراتب بنشأة الطبقية واستواء طبقات عليا تتولى القيادة، ويمكننا بصفة عامة وبتبسيط شديد أن نحدد ثلاث طبقات كبرى أو مراحل تطورية للمخ البشري: (1) هناك أولا المخ القديم
paleencephalon ، أو جذع المخ، في الفقاريات الدنيا. (2) والمخ الحديث
neencephalon (اللحاء) الذي تطور من الزواحف حتى الثدييات. (3) ومراكز عليا وبخاصة منطقة بروكا لإصدار اللغة والمناطق الترابطية الكبيرة التي لا توجد إلا في المخ البشري، ويصاحب ذلك التطور إزاحة للمراكز العليا إلى الأمام.
19
من الواضح الآن أن هناك تراتبا في كل من المخ والعمليات العقلية، وأن كل تراتب منهما يناظر الآخر بطريقة ما، وإن يكن تفصيل ذلك غامضا ومجهولا إلى حد كبير. أما المعنى النيوروفسيولوجي لكون شطر صغير من العمليات العصبية واعيا بينما الشطر الأكبر غير واع، فهو مجهول تماما. ومن الجلي أن التقسيم الفرويدي «الأنا والهو والأنا الأعلى» يعاني من قصور شديد، وبخاصة من جهة الهو (أو اللاشعور ) حيث قصره فرويد على جوانب محدودة وأغفل جانبه الإبداعي الذي كان السابقون على فرويد قد تفطنوا إليه. فاللاشعور ليس مجرد «قبو» نضع فيه ما تم كبته، وإنما هو أيضا منبع تتدفق منه العمليات الإبداعية في الفن والدين والعلم، وربما التطور نفسه. يشتمل اللاشعور على أدنى مستويات النفس (العملية الأولية، الدوافع الحيوانية، الغرائز ...) وأعلاها أيضا (بتنوع أسمائها: الخبرة الصوفية، خبرات القمة، الشعور الأوقيانوسي، الوعي 3 ...)
من بين النتائج التي أعقبت التراتب الطبقي في كل من المخ والوظائف العقلية، هناك نتيجة مؤسفة: لقد تطور لحاء المخ في الإنسان ومراكزه المتخصصة تطورا هائلا، إلا أن هذا النمو العظيم لم يواكبه نمو في الطبقات الدنيا من المخ (من الثابت مثلا أن المناطق تحت المهادية
hypothalamic
عند الإنسان أقل تمايزا مما هي عند الثدييات الدنيا وعند القردة). ربما لذلك كان تطور الإنسان مقصورا على الجانب الفكري، فنيورونات اللحاء العشرة بليونات قد مكنت الإنسان من التقدم من البلطة الحجرية إلى الطائرات والقنابل النووية، ومن الميثولوجيا البدائية إلى نظرية الكوانتم. غير أن الجانب الغرزي قد بقي على حاله؛ ولهذا السبب لم تتقدم الغرائز الخلقية للإنسان عن غرائز الشمبانزي تقدما يذكر.
ينطبق هذا للأسف على جميع الآمال اليوتوبية عن إصلاح الإنسان، بدءا من بشارات الأديان الكبرى إلى الإيمان بالعقل في عصر التنوير إلى الإيمان بالتقدم في القرن التاسع عشر؛ ذلك لأنه، ببساطة شديدة، لا يوجد أساس تشريحي لهذا التقدم المنشود!
نامعلوم صفحہ