صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
اصناف
حين أقول مثلا إن الماء = يد2أ فإن هذا يعد ردا إبستمولوجيا؛ لأن للماء بجانب تركيبه الكيميائي بنية خاصة من شأنها أن تنبثق عنها خصائص جديدة كاللزوجة والسيولة والتوتر السطحي ... إلخ.
وأكثر صور الرد شيوعا ووضوحا هو الرد النظري
theory reduction
أي رد النظرية إلى أخرى أكثر أولية أو رد علم ما إلى آخر أكثر أساسية. مثال ذلك أن نرد علم النفس والاجتماع إلى العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا. والحق أن الكائنات البيولوجية تتكون من مواد كيميائية، فالكيمياء إذن أكثر أولية بمعنى ما من البيولوجيا. والمواد الكيميائية هي تجمعات من الذرات التي تتكون من جسيمات وقوى يضطلع بدراستها علم الفيزياء. ومن ثم فالفيزياء هي بمعنى ما أكثر أولية من الكيمياء. وليس هناك علم أكثر أساسية من الفيزياء؛ فالفيزياء تقدم لنا بيانا مفصلا للمكونات القصوى للعالم. هذه المكونات القصوى وفقا للنظرية الفيزيائية المعاصرة تشتمل على أربع قوى أساسية وسبعة عشر جسيما. ذلك كل ما هناك. ولكن هناك بالطبع موائد أيضا وكراسي وسحبا وأقواس قزح وتوتر أعصاب واضطرابات نوم. فلتكن المائدة من خشب، والخشب من كيماويات، والكيماويات مما هي في نظر الفيزياء الأساسية، فإن كل ذلك لا يعني بحال أن ليس ثمة موائد ، أو أن كل ما نريد قوله عن الموائد يمكن أن تسعفنا به المفردات النظرية للكيمياء والفيزياء. ومن الحق أيضا أن العلم بإمكانه أن يحقق تقدما دون حاجة إلى أن يلزم نفسه بمواقف خلافية من مثل «ما هو إلا.» بوسع البيولوجيا مثلا أن تقول إنها تدرس الكائنات البشرية «كما لو» كانت أنظمة بيولوجية، بحيث تبقى مسألة ما - إذا كان هناك أي شيء فاتها أن تدرسه - دعوى غير داخلة ضمن البيولوجيا، بل دعوى «عن» البيولوجيا. بذلك يظل بوسع من يعتقد دينيا أن للبشر أرواحا أن يدرس الكائنات البشرية باعتبارها أنظمة فيزيائية حيوية. ويبقى مثل هذا الشخص بالطبع على اعتقاده بأن لدى البشر شيئا ما لا تبحث فيه البيولوجيا.
8 (1-4) مأزق علم النفس الحديث
حظي مفهوم الأنظمة في السنوات الأخيرة باهتمام كبير وأخذ تأثيره يزداد باطراد في حقلي علم النفس وعلم النفس المرضي. ويعد هذا الاهتمام جزءا من التوجه الجديد الذي شمل جميع مجالات الحياة الفكرية؛ ذلك التوجه الذي يعكس رغبة عارمة في البحث عن نموذج إرشادي جديد للفكر العلمي، خلفا للنموذج التقليدي الذي بدأ مع الثورة العلمية للقرن السادس عشر والسابع عشر، وبلغ نهايته وحده في بدايات القرن العشرين، وتبين قصوره كمنهج علمي، و«نظرة للعالم»
world view .
أخذ المدخل التجزيئي الردي يثبت فشله في جميع الميادين كلما ظهرت على الساحة مشكلات تتعلق بتصورات من قبيل «النسق»، «الكلية»، «الغائية» ... وتطلب الأمر طرائق جديدة من التفكير. تجلى هذا الفشل في مجال الفيزياء حين انهارت النظرية الكلاسيكية وثبت أنها لا تصدق إلا في نطاق محدود من العالم الفيزيائي، وتجلى في علوم الحياة حين برزت مشكلات عديدة تتعلق بالتنسيق والتنظيم الذي تتخذه الأجزاء والعمليات في الكائن العضوي. وتجلى في علم النفس بظهور مشكلات «الشخصية»، وفي العلوم الاجتماعية بظهور مشكلات الأنظمة الطبيعية (كالأسرة والقبيلة وما إليها)، والرسمية (كالجيش والجهاز الإداري). كذلك تخطت التقنية حقولها التقليدية (الميكانيكية والكهربية والكيميائية ...) وكان عليها أن تواجه، على مستوى البرمجيات ومستوى العتاد الصلب
hardware ، تلك المتطلبات الجديدة للاتصال والتحكم. وفي مجال الثورة الاجتماعية كان المد الكبير لاتجاهات النقد الاجتماعي والفلسفات الجديدة، وما يسمى «الثقافة المضادة»، واليوتوبيات الاجتماعية، سواء في دوافعه أو في طرائقه التي اتسمت بالشذوذ والغرابة في كثير من الأحيان، هو أيضا تعبير عن عدم الارتياح لوجهة النظر القديمة إلى العالم وعن التوق إلى نظرة جديدة.
9
نامعلوم صفحہ