سوانح الامیرہ
سوانح الأميرة
اصناف
ها أنا ذا أراه الآن أمامي راقدا في تابوته البلوري كبقية الأموات المجاورة له، ولم تبق له مزية من مزايا شهرته منذ اليوم الذي أخرج فيه من مقبره الملوكي وحل هذا المكان. وبعد سنين قلائل تتحلل عظامه فتفسد وتتفكك فينقلب إلى كمية من التراب لا تكاد تملأ الكف، وعندها لا يبقى له في الوجود سوى ذكراه المحفوفة بالغرور. فقل لي بربك من الذي يصدق بخلود «رمسيس» بعد زوال هذه المظاهر الدالة على عظمته؟ وما يبقى إذ ذاك من تلك القدرة والكبر والعظمة والسطوة؟
إن رمسيس الراقد في تابوته البلوري والملتف بأكفانه الصفراء المنسوجة من ألياف نبات الصبر ليس الآن بينه وبين بقية الأموات المحفوظة في هذا القصر أدنى فرق. فكل التوابيت مصطفة بترتيب واحد ونظام واحد وكلها مصنوعة من الخشب والزجاج وعلى جميعها لوحات صغيرة كتب فيها اسم الميت وأسرته . وعندما اقتربت من تابوت «رمسيس» لأقرأ اسم هذا الحاكم المغرور في الورقة البيضاء المعلقة عند قدمه كم وددت أن يضاف على اسمه هذه الكلمة التي قالها الشاعر المرحوم ضيا باشا:
بوقبه ده قالان همان برخوش صدايمش
3
تأوهات مسلة
مبتكرة
خيل لي أنها تتأوه فتقول: «آه، من يستطيع إسكات أوجاعي المتأصلة في أعماق قلبي، ومن أين لي ذلك الذي يخفف عن آلام نفسي ويداوي جراحها ببلسم كلماته المسلية؟
إنني حتى اليوم أعجب لأمر نفسي، ولا أدري لماذا حكم علي بمثل هذا النفي المؤبد والشقاء الدائم. أنظر حولي فلا أجد رفيقا أحدثه بما بين جوانحي من الأوجاع والتأملات أو صديقا يشاركني في أصدق العواطف والإحساسات. أكل الدهر علي وشرب وتطاولت الأعوام والأجيال وأنا ما زلت في مكاني هذا لا أتحول ولا أتبدل. إن القوم هنا قدروني حق قدري وأغرقوني بطوفان من إعجابهم وإعظامهم ثم أحلوني صدر ميدانهم الفسيح، لأحرك في نفوسهم كامن الفضول، ورفعوا قامتي نحو العلاء لأشرف عليهم من سماء مجدي وخيلائي. فما أكثر القادمين لزيارتي في هذا المكان! وما أشد إعجاب الملتفين حولي، المتحدثين بشأني!
ينظر القوم إلي وأنا في مكاني هذا، وسط هذا الميدان العظيم المعدود من أكبر مشاهد هذه العاصمة التي هي مهبط أنوار المدنية الحديثة، نظرهم إلى نقطة تصل مدنية الأزمنة القديمة بالرقي الحديث.
لا غرو ولا عجب؛ فإن هيئتي الشرقية من أكبر الدوافع على جذب الأنظار، فهم يعلمون بأنني أثر من آثار العصور السالفة وإحدى بقايا تلك العظمة الفرعونية الجليلة الشأن، فلا تكاد عيونهم تقع علي حتى يتركوا ما حولي من التماثيل والهياكل الحديثة المحيطة بي، ويقتربوا مني ليقرءوا على وجهي تاريخ أيامي الأولى. أنا الآن تحت أسرهم وفي قبضة يدهم، فهم يعتزون بي ويفاخرون بوجودي بينهم لجليل قدري في الأيام السالفة ولمكانتي السامية بين وقائع العصور الخالية. ولكن مع هذا الاعتبار والاحترام، ورغم كل هذا الإعزاز والإكرام فأنا لا أزال حتى يومي هذا أعاني آلام الوحدة وأوجاع الانفراد.» عندما وصلت المسلة إلى هذا الحد من القول كان النهار قد بلغ غايته وأذن بالأفول، آخذا أهبته لوداع سلطنته إلى الغد، وكانت أنوار الشمس القرمزية قد أغرقت كل ما في الميدان من الألوان المتعددة، وانعكست عليها سهام الأشعة الذهبية الصادرة من السماء حتى خيل لي أنها تلتهب بألسنة النيران.
نامعلوم صفحہ