للتاريخ
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
للتاريخ
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
صرخة الطفل
صرخة الطفل
قصة تمثيلية عصرية في فصلين
تأليف
إبراهيم رمزي
للتاريخ
ألفت هذه الرواية في سنة 1923، وبقيت في أضابيرها، حتى مثلتها فرقة اتحاد الممثلين في سنة 1935، وأخرجها صديقنا الكاتب الفاضل الأستاذ «زكي طليمات» مفتش التمثيل بوزارة المعارف، وأول مبعوث للحكومة في فنون الإخراج والتمثيل.
وأرى من واجبي - وقد رأيت اليوم طبعها ونشرها - تسجيل خالص شكري لأصدقائي الممثلين الذين تولوا تمثيل أدوار هذه الرواية، فقد أجادوا وأحسنوا كعادتهم في كل ما يمثلون.
وإذا خصصت بالذكر الأستاذ العبقري «حسين رياض» والآنسة النابغة «فردوس حسن»، فذلك لأنهما قاما بأعباء أشق الأدوار تمثيلا، وأدعاها إلى اليقظة وإدراك ما فيها من النواحي النفسية المتوشجة والعواطف الإنسانية المتعاركة، وكانا في دوريهما كما أردت وصورت، وهو أقصى ما يغبط عليه مؤلف مسرحي. ولذلك أدون لهما هذه الحسنة مشفوعة مني بأخلص عبارات الشكر والإعزاز.
36 شارع الزقازيق بمصر الجديدة
يونيو سنة 1938
إبراهيم رمزي
أشخاص الرواية
علي بك:
محام في القاهرة، سنه 35 سنة، «ومثله الأستاذ حسين رياض».
خليل:
طبيب حديث التخرج في مدارس إنجلترا، سنه 27 سنة، وابن عم علي بك «ومثله الأستاذ فتوح نشاطي».
بشير أغا:
باش أغا سراي قسطلي باشا، ومعلم بنات السراي وجواريها، حبشي الجنس، سنه 65 سنة، «ومثله الأستاذ عبد العزيز خليل».
زهيرة:
زوجة علي بك، سنها 25 سنة، وهي فتاة من استانبول، تبنتها امرأة قسطلي باشا المعروفة باسم الست الكبيرة، «ومثلتها الآنسة فردوس حسن».
عطية:
عذراء في العشرين من عمرها، تبنتها امرأة الباشا أيضا، وتعرف باسم أخت زهيرة هانم، «ومثلتها الآنسة روحية خالد».
الفصل الأول
المنظر «بهو فيلا بمصر الجديدة لعلي بك له باب عريض (1) إلى يمين المتفرج، هو باب الدخول لأهل المنزل، إذا فتح ظهرت منه شرفة كبيرة، وهو ذو مصراعين من الخشب الملبس بألواح الزجاج، ويغطيه ستار مطوي على الجانبين من الحرير الشفاف المزين بالنقوش، وبعد الباب مسافة من الحائط، قد وضع فيها مناط للعصي وغيرها - شماعة - ثم صورة معلقة ، هي صورة علي بك المحامي صاحب البيت، وفي الواجهة بابان؛ أحدهما باب المكتبة (2) ذو مصراعين من الخشب دون سواه عال علو سابقه، وبعده مسافة بها صورة معلقة على جدارها، هي صورة الدكتور خليل ابن عمه، وثانيهما باب طرقة الغرف الثانوية (3) ويؤدي إلى السرب - البدروم - وهذا الباب قصير ذو مصراع واحد، ويرى بعد هذا الباب مبتدأ سلم صاعدة ثم منعطفة في صعودها على الجانب الأيسر بالنسبة للمتفرج، ثم تغيب عن المنظر؛ إذ تنتهي عند شرفة داخلية في الدور الثاني من هذه الفيلا الجميلة.
ويرى تحت السلم مقعد صغير لاثنين، أمامه صينية من الصفر على حامل قصير، عليها منفضة وصندوق للسجائر وغير ذلك، وإلى اليسار تحت السلم أيضا كرسي تعلوه صورة، وبعده منضد غير عريض تعلوه مرآة على جانبها ذراعا كهرباء في كل منهما كم من البلور الثمين فيه زجاجة المصباح. وبعد المرآة باب (4) هو باب غرفة الغسيل والتزين. والمكان تزينه في سقفه دوال من الكهرباء، وفي وسطه تقريبا مائدة ثمينة تعلوها ثريا عظيمة متعددة الدوالي يتدلى منها زر جرس كهربائي، وحولها ثلاثة كراسي؛ الأول على الجانب الأيمن أمام باب الدخول، والثاني أمام الباب الثالث، والثالث بعده على الجانب الأيسر، وأرض السلم والغرفة مفروشة بالبسط الفاخرة.»
التمثيل (إذا أزيح الستار رؤيت عطية هانم في شرفة المنزل متجهة إلى باب الدخول (1)، ثم تقبض على أكرة الباب وتفتحه وتدخل، ثم تقفل الباب وراءها.) (هي فتاة في العشرين من عمرها، بيضاء الوجه، صفراء الشعر نوعا ما، عسلية العينين، أسيلة الخد، صغيرة الجسم. إذا أنعمت النظر في وجهها تبينت فتاة طيبة القلب مخلصة في قولها وفعلها، وقورا كريمة النفس، ملابسها غالية القيمة على بساطة في قطعها وبعد عن التأنق، ترتدي معطفا من الحرير الأسود، وقبعة فوقها نقاب أسود شعشاع (بيشة)، ولكنها تكون قد أسقطته عن وجهها ساعة الدخول، ويبقى المعطف مزررا طول الفصل الأول لا يبدو من تحته شيء، اللهم إلا ما يبدو من القبة، وهو صدر فستان أحمر. يشعر الناظر من رؤيتها ماشية ساعة الدخول ومن حياة في نغمة صوتها وهي تتكلم بعد ذلك أن في فؤادها عاطفة فرح ينعش جميع حواسها وجوارحها، أما فيما عدا ذلك فإنها في أكثر وجوه الرواية بادية الهدوء.)
عطية (تقف بعد الباب الذي دخلت منه بخطوة أو اثنتين وتتلفت في المكان) :
ليس هنا أحد. (تصفق)
يا أهل البيت! يا أهل الله! (تتقدم قليلا نحو المائدة)
زهيرة هانم! زهيرة! أختي! أتكون قد ذهبت إلي في مصر! هذا عيب مصر الجديدة (تتمشى نحو الباب الثالث وهي تتكلم)
يسافر إليها الإنسان من مصر القديمة، فإذا لم يجد من يقصده اضطر أن يسافر كل هذه المسافة عائدا (تنادي)
بشير أغا! بشير أغا! أظنه لم يأت بعد، زهيرة هانم!
زهيرة (من أعلى) :
من الذي ينادي؟
عطية :
أنا عطية، أين أنت يا أختي؟ (تذهب إلى عتبة السلم وتقف ممسكة بالدرابزين رافعة وجهها إلى أعلى.)
زهيرة :
اصعدي إلي.
عطية :
ألا تنزلين؟ (تظل رافعة وجهها إلى أعلى.)
زهيرة :
إني أريد أن أدخل الحمام.
عطية :
دعي الحمام إلى وقت آخر، انزلي (تترك التطلع إلى فوق)
انزلي، عندي لك خبر يسر (ثم تعود فتنظر إلى أعلى)
تعالي، انزلي. إني تعبت من المشي ولا أقدر أن أصعد كل هذا الدرج.
زهيرة :
طيب.
عطية (تذهب إلى المرآة تقف أمامها وتصلح من شعرها ثم تجلس على الكرسي الثالث) :
يا سلام! كم أنا تعبة!
زهيرة (تنزل على الدرج وهي لابسة قميصا من المرمر الثمين به نقوش مفرغة في قبته، وفي قدمها خفان ثمينان وشعرها مرسل على كتفيها، وهي امرأة في الخامسة والعشرين من عمرها، وسط في الجسم، بيضاء البشرة سوداء الشعر، ذات عينين قويتين تدلان في مجموعهما على أنها امرأة متزنة التفكير شديدة الاعتماد على نفسها، حية متنبهة. إذا نزلت على الدرج أطلت من الدرابزين لترى أختها) :
أهلا وسهلا (فإذا نزلت إلى آخر الدرج انعطفت على يمينها وتقدمت إلى أختها، فتنهض عطية عن الكرسي وتتقدم إليها خطوة)
أهلا وسهلا! (تتعانقان.)
عطية :
أهلا بك، أوحشتني! (تجلس على المقعد الذي تحت السلم.)
زهيرة (تتناول الكرسي الثالث من جوار المائدة بيدها اليسرى وهي متجهة إلى المقعد وتجلس أمام الصينية الصفراء) :
كيف صحتك الآن يا عطية؟
عطية :
الحمد لله، أحسن كثيرا.
زهيرة :
كيف أهل السراي؟
عطية :
كلهم بخير يسلمون عليك، كيف حال بابا بشير أغا؟
زهيرة :
إنه بخير دائما.
عطية :
أراك استبقيته في منزلك مدة طويلة، أما آن أن يعود إلى السراي؟
زهيرة :
إني لا أستبقيه على الرغم منه.
عطية :
ولكني سمعتهم يقولون ويتقولون حتى ضاق بهم ذرعي.
زهيرة (بتهكم) :
يظنون أني أستبقيه عندي حتى يموت في بيتي فأستولي على ما وراءه، لا يا ستي لا، الله الغني. (تنهض عن الكرسي وتذهب إلى المرآة تصلح من شعرها)
صدقيني أني لا أريد بقاءه عندي يوما واحدا، لقد أصبح كثير الانتقاد والكلام الفارغ.
عطية :
لماذا؟ (تنهض هي أيضا متجهة صوب المنضد.)
زهيرة (تعود حتى تجلس على الكرسي الثالث) :
إنه يريد أن يجعل علي هنا - حتى بعد ما تزوجت ومرت علي خمس سنين - ما كان له علينا من السلطة أيام كان يعلمنا النحو ويضربنا بالخيزرانة إذا نصبنا الفاعل ورفعنا المفعول.
عطية (تضحك) :
إنه بمثابة أب لنا يا أختي، وهو يخاف علينا، ويتمنى لنا كل خير.
زهيرة (بقليل من الكدر) :
ولكنه أفرط في هذه الأيام، لا لا، لقد حان الوقت الذي يعود فيه إلى السراي.
عطية :
لا بأس، هذا حسن. سآخذه معي عند عودتي إذا شئت، ولكن (تذهب إلى الكرسي الأول)
كيف أصبح كثير الانتقاد؟ أظن أنه يتدخل بينك وبين علي بك ويساعده عليك؟
زهيرة (تصمت هنيهة) :
وأكثر من ذلك.
عطية :
ألا تزالين في شقاق مع علي بك؟
زهيرة :
إن الشقاق لا ينقطع، بل أصبحت أتمنى الفراق منه، ومع ذلك ...
عطية :
الفراق؟! كفى الله الشر!
زهيرة :
لقد أصبح ثقيل الظل على نفسي هذه الأيام.
عطية (بدهشة واستنكار) :
علي بك ثقيل الظل! علي بك! ما عهدته كذلك أبدا.
زهيرة :
لقد تمادى هذه الأيام، وأخذ يقول كلاما وقحا يلبسه ثوب المزاح والضحك، ولكني أعرف أنه يجد ويعني كل ما يقول، بل وأكثر من ذلك: يتعمد أن يؤلمني.
عطية :
عجيب! وهل هناك داع إلى هذا الإيلام؟
زهيرة :
لا أدري يا أختي سببا لذلك، لقد أصبحت رؤيته تؤذيني.
عطية :
لم تذكري إلى الآن شيئا معينا من أعماله معك.
زهيرة :
اسكتي، اسكتي.
عطية :
كيف؟
زهيرة :
هذا البيت ليس إلا بنسيون في نظر علي بك، لا يأتي إليه إلا ليأكل وينام. وإذا كان لديه وقت فراغ دخل مكتبته وأقفلها عليه ليقرأ ملفات القضايا، أو يكتب مذكرات لا تنتهي، وما أنا ولا من معي في البيت إلا نزلاء مثله لا علاقة له بنا ولا لنا به إلا «نهاركم سعيد، نهاركم مبارك، ليلتكم سعيدة، قهوة، هل عندكم غدا؟ هل عندكم عشا؟ أين حقيبة أوراقي؟» أما أننا رجل وامرأة مثل خلق الله فقد انتهى.
عطية :
لم أعهده هكذا أبدا، ماذا جرى؟ ربما أغضبه منك شيء.
زهيرة :
مني أنا؟ أنا؟ لماذا؟ اسكتي، اسكتي. أنا في جحيم! أنا في جهنم الحمرا! إنه كما عهدت يسمع كلامي وهو هادئ ساكن كأبي الهول، ينظر إلي بعيني مستهين، وترين على شفتيه علامة الازدراء. ثم إذا زاد غيظي منه وأمسكت بتلابيب ثوبه ضحك وهزل، ونطق بجملته التي حفظها في هذه الأيام كالببغاء. يقول: يا زهيرة أنا لا ألومك على صراخك، لست أنت التي تصرخين، إنما الذي يصرخ هو الولد.
عطية (بدهشة) :
الذي يصرخ هو الولد! أي ولد هذا؟
زهيرة :
لا أدري، إنه كثير الألغاز.
عطية :
لعله يعني أنك متألمة بسبب تأخر الخلفة.
زهيرة :
من يدري؟ أيمكن أن تفهمي له قصدا! ومع ذلك فإنني كلما قلت له: إني لا أشتهي الخلفة، ولا يهمني أن أعيش كذلك، بل إذا عشت بدون ولد كنت أسعد وأهنأ، وإني إنما أرجو أن يعاملني معاملة الزوجة ويترك محاماته ومكتبه قليلا من أجلي، ولا سيما وهو في المنزل، قال وهو يراضيني: لا تغضبي، إني سأجيء إليك مبكرا كل يوم، وسأكون كما تحبين.
عطية :
طيب (تجلس على الكرسي الأول) .
زهيرة :
وقد يصدق يوما أو ثلاثة ثم ترجع ريمة لعادتها القديمة.
عطية :
هذا أمر عجيب ولكن ...
زهيرة (مقاطعة) :
وترينني يا أختي في غاية الضيق، ولا أطيق أن تقع عيني عليه.
عطية :
هوني عليك يا أختي، كل الرجال هكذا. من منهم يستطيع أن ينصرف عن عمله أو يهمله من أجل زوجته؟ بل إنه إنما يشتغل في الحقيقة من أجلها. الذي أراه يا أختي أن تعودي نفسك هذه الحال ولا تكثري من التفكير فيه.
زهيرة :
والله أنا لا أفكر فيه أبدا، لقد زال حبه من قلبي دفعة واحدة، وما دام أنه لا يهتم بي، ويريد أن يتركني فريدة كالزهرة التي تنبت في الصحراء (تشير بيدها)
تحيا وتموت ولا يراها أحد، فإني سأبحث عمن يشتهي شم عبيري.
عطية (بابتسام إنكاري) :
وي! وي!
زهيرة :
ألا تصدقين؟ إني أقول لك الحق.
عطية :
أي حق هذا؟ أتجرئين؟
زهيرة :
هه (تهكما)
أجرؤ؟ لقد انتهيت من ذلك، بل وجدت الذي يحبني ويموت في غراما.
عطية :
إليك عني! لسنا ممن كتب عليهن هذا يا زهيرة.
زهيرة (بكدر) :
اسكتي من فضلك، ماذا تعرفين أنت من الدنيا؟ يجب أن تقلعي عن هذه العبارات الأزهرية. «كتب»، «قدر»! أنت كنت شبه أغا في السراي ولا تزالين كذلك. ولو كان في الإسلام رهبانية لكنت أحسن رئيسة دير في الدنيا (تضحك هي وعطية)
أما أنا فما كنت كذلك، وقد عرفت الآن شيئا كثيرا.
عطية :
آه! هذا الذي من أجله تريدين أن يرجع بشير أغا إلى السراي.
زهيرة :
وهل يهمني بشير أغا هذا؟
عطية (بتهكم) :
ومن هو هذا الذي وجدته؟
زهيرة :
واحد ...
زهيرة (الآنسة فردوس حسن جالسة) وعطية (الآنسة روحية خالد قائمة) في هذا الموقف.
عطية :
ومن هو هذا الواحد؟
زهيرة :
ما لك به؟
عطية :
أريد أن أعرفه؛ لأهنئك به على الأقل!
زهيرة :
أنت مجنونة! كيف أخبرك عنه؟
عطية :
سيعرفه الناس عما قريب، فلماذا تخفينه عني؟
زهيرة :
كيف؟
عطية :
لا بد أن ينكشف أمركما يوما من الأيام.
زهيرة :
ليس هذا ممن ينكشف أمره، ومع ذلك سأبذل جهدي حتى أتزوج منه.
عطية (تنهض مزدرية) :
أنت ذات مشروعات فارغة (تتمشى متلكئة صوب باب الدخول ويداها على خاصرتيها، ثم تنظر إلى الفضاء من خلال الزجاج)
دعينا من هذا الكلام (تنعطف على يسارها تنظر إلى الجدار الذي بين البابين الأول والثاني فتجد صورة علي بك معلقة)
كلامك اليوم ثقيل على أذني (تنظر إلى صورة علي بك وتطرقها بظهر يدها فيسمع صوت النقر على زجاج إطار الصورة)
أتجدين أشرف من هذا الرجل أو أحسن؟ من نحن في النساء حتى نستحق هذا الرجل؟ لا حسب لنا ولا نسب، ولا قيمة لنا في الواقع، ثم لا نحمد الله على أن لنا مثل هذا الرجل العظيم.
زهيرة :
ماذا يهمني شرفه ومجده إذا لم أكن أحبه؟ أنا أريد رجلا، لا شجرة نسبه ولا براءة رتبه.
عطية (تلتفت) :
يا ليت لي رجلا مثله أو نصفه!
زهيرة :
سأخليه لك فخذيه هنيئا مريئا.
عطية :
لا قدر الله! لا قدر الله! إنك والله لتقاتلين كل من تنظر إليه أو إلى صورته كما كنت أنظر الآن.
زهيرة :
أنت تظنين ذلك.
عطية (تنعطف على يمينها نحو الباب الثالث) :
صورة جديدة للدكتور، إنها بديعة جدا (تنظر صامتة مدة طويلة، ثم تتنفس تنفس الاضطراب وظهرها إلى أختها) .
زهيرة :
ذكرتني، أين خليل بك يا ترى؟ لي ثلاثة أيام لم أره.
عطية (تعود إلى كرسيها بسرعة وتجلس) :
كنت عند أخته خديجة هانم صباح اليوم فرأيته هناك، لم يكن قد ذهب بعد إلى عيادته حين وصلت.
زهيرة :
أقابلته؟
عطية :
كيف أقابله؟ ليس من عادته أن يقابلني.
زهيرة :
عجبي منك! أما كان يعودك في السراي وأنت مريضة؟!
عطية :
بلى، ولكن المرض عذر شرعي. وقد زال والحمد لله، فلم يعد له حق في مقابلتي، ولا يليق بكرامتي أن أقابله. ماذا جرى في الدنيا؟
زهيرة :
تحسنين صنعا، هذا أليق بكرامة عذراء مثلك.
عطية :
الحمد لله على الإسلام يا أختي، لما كنت عند خديجة هانم اليوم أفهمتني أنه يود أن يفاتحك أنت وعلي بك في شأن زواجه مني.
زهيرة (بدهشة) :
منك؟!
عطية :
أجل!
زهيرة (باضطراب ظاهر) :
أهذا هو الخبر السار الذي جئتني به؟ (تنهض.)
عطية (بدهشة قليلة) :
نعم، ألا يسرك أن أتزوج؟
زهيرة :
إنك لا تزالين صغيرة (تمشي نحو المقعد وتعبث بالأواني التي على الصينية ترتبها) .
عطية :
صغيرة! ها ها، إني ناهزت العشرين، وغيرنا يتزوج قبل هذه السن بسنوات.
زهيرة :
خطأ، ولذلك فإن الست الكبيرة جعلت لي الحق عليك حتى تتجاوزي سن العشرين، وإلا فلا يكون لك نصيب في ريع وقفها (تفتح علبة السجائر التي على الصينية، وتتناول منها واحدة وتشعلها وتجلس على المقعد وهي تدخن).
عطية :
لا إنكار في ذلك، هل أنا أتزوج بغير رضاك، مهما كانت الأحوال؟ أنت أختي وأمي، ليس لي في الدنيا سواك وبابا بشير أغا.
زهيرة :
أنا لا آبى عليك أن تتزوجي، هذا يوم مناي. وكنت أشتهي ذلك من زمن بعيد؛ لأن المرحومة الست الكبيرة جعلت لي حق التجاوز إذا رأيت فيه مصلحة.
عطية :
فماذا حدث الآن؟
زهيرة :
أنا لا أريد لك الدكتور خليل زوجا.
عطية :
لماذا؟
زهيرة :
لأنه في الواقع رجل فقير، إنه ابن عم علي بك، نعم، ولكنه لم يرث من أبيه مثل ما سيكون لعلي بك بعد وفاة أبيه، وعيادته في مصر قليلة الإيراد.
عطية :
كيف يكون فقيرا رجل تعصمه عن السؤال حصة لا بأس بها في إيراد وقف أبيه، وله عمله وعيادته، نعم، إنها قليلة الدخل، ولكنها حديثة العهد. ألم يفتحها منذ ثلاثة أشهر! ومع ذلك فإني لا أريد عيشة البذخ ولا أحبها. إنها تنافي طبعي، بل لعمري إني لأشعر أن البذخ سبيل الشقاء والبغي، أنا أريد عشا، كوخا صغيرا أعيش فيه أنا وزوجي، وأنا كفيلة بجعله عش السعادة.
زهيرة :
هذا كلام كل بلهاء.
عطية :
إنه شاب متعلم، ذو عمل شريف منتج وكفى، والطبيب في نظري من أسعد الناس حالا؛ لأنه يجد رزقه في كل مكان، كما أن حصتي في ريع وقف المرحومة الست الكبيرة تصوننا عن السؤال عند الحاجة، وربما كان فيها ما يساعده في هذه الأيام على توطيد عمله وتهيئة مستقبله.
زهيرة (بحزم) :
أنا لا أزوجك باختياري طبيبا أبدا.
عطية :
لست أجد لهذا الرفض سببا إلا أنك تضيعين علي فرصة قلما تظفر بها فتاة مقطوعة مثلي عن الدنيا، إن في استطاعته أن يتزوج من أكبر بيوت البلد وأرقى بناتها، وفي اعتقادي أنه يتنزل كثيرا بطلب الاقتران بي.
زهيرة :
إن عمله يحتم عليه أن يقضي الليل والنهار خارج منزله، وكيف تطيقين هذا؟
عطية :
هكذا كل رجل يشتغل في الأعمال الحرة، أليس علي بك كذلك؟
زهيرة :
بلى، وهذا ما كرهني في الدنيا وجعل حياتي كلها شقاء. لا لا، لا أريد أن أوقعك في مثل ما أنا فيه، وإلا فما معنى وصية الست الكبيرة!
عطية :
سأعود نفسي عشرة الطبيب كغيري من زوجات الأطباء، على أن من كان زوجها رجلا ظريفا كخليل بك يجب عليها أن تشتري اللحظة معه بالشيء الكثير.
زهيرة (بتشبث وعناد) :
لك رأيك، ولكني لا أقر هذا الزواج بحال من الأحوال. (تنهض بعد أن تطفئ السيجارة وتمشي صوب عتبة السلم)
لا تذكريه بعد اليوم على لسانك.
عطية :
أأنت تجدين؟
زهيرة :
أجل.
عطية :
أليس لي أن أسأل عن السبب؟
زهيرة (تمسك بعود الدرابزين وتصعد) :
لقد ذكرت لك السبب، بيد أن عندي أسبابا أخرى كثيرة لا أستطيع أن أبوح لك بها؛ فقد أخبرني عنه علي بك شيئا كثيرا (تصعد ثلاث درجات) .
عطية :
وما هذا؟
زهيرة (تصعد درجة أخرى) :
شيء لا يليق أن تسمعه فتاة، هلمي نصعد، إني أريد أن أغتسل، وأمشط شعري (تصعد درجات أخرى حتى تصل إلى البسطة) .
عطية (تنهض عن كرسيها) :
لماذا أصعد؟
زهيرة :
أتظلين وحدك؟ بشير أغا في القاهرة، ذهب ليحصل أجرة منزله، وربما لا يعود قبل العصر (تصعد وهي تتكلم)
ومع ذلك، على هواك. ادخلي المكتبة إذا شئت حتى أعود إليك، ولكن لا تشغلي نفسك بأمر لا فائدة منه! (تختفي.) (تظل عطية مطرقة الرأس ثم تمسح دمعها بمنديلها؛ إذ تسحبه من بين شفتي الحقيبة وهي جالسة على كرسيها وظهرها إلى باب الدخول (1) وتضع كفيها على عينيها والمنديل في يدها اليسرى وتبكي، ولكن لا يسمع صوت شهيقها، وعندئذ يفتح بشير أغا الباب الأول ويدخل ويقف ممسكا بأكرة الباب، وهو رجل حبشي ذو سمرة مستحبة ووسامة ظاهرة، في الخامسة والستين من عمره، لطيف الطلعة، نظيف الملبس بادي الوقار. يكون في يده اليمنى القابضة على الأكرة عصا وفي اليسرى كتاب وجريدة، وإذ يرى فتاة جالسة إلى المائدة في حالة هم وتفكير يميل برأسه ويتمعن ثم يشعر كأنه يتبين ظهر عطية، فيتقدم نصف خطوة أخرى ويقفل الباب من ورائه وهو يقول لنفسه بصوت متسائل خافت): عطية؟! (عطية ترفع رأسها بلطف وتلتفت عن يسارها، وإذ ترى بشير أغا تجهش بالبكاء.)
بشير :
عطية! (يتقدم مسرعا إليها ويضع أطراف أصابع يمناه الممسكة بالعصا على كتفها، وتكون العصا إذ ذاك محمولة على ظهر الكرسي)
ما بك يا ابنتي؟
عطية (تنهض ببطء وهي مطرقة الرأس، وتخرج مبتعدة عن الكرسي صوب أدنى المسرح قليلا، ثم تتناول يمناه فتقبلها والعصا فيها، ثم ترجع إلى الوراء بظهرها منحرفة إلى اليسار) :
لا شيء (وتمسح دموعها بمنديلها الذي في يدها اليسرى) .
بشير (يجلس على الكرسي الذي كانت عليه عطية ويتجه إليها) :
لا شيء! لا يمكن أن يكون بكاؤك بلا سبب، هلم خبريني. اجلسي (مشيرا إلى الكرسي الثالث الذي أمامه)
متى كنت تخفين أمورك عني يا بنيتي العزيزة؟! (يضع الكتاب والجريدة على المائدة، وتظل العصا في يده اليمنى، وينظر إليها متمعنا.)
عطية (تميل نحو الكرسي الثالث وتضع يدها على أعلى ظهره) :
لا شيء.
بشير :
بل تعالي هنا بجانبي (مشيرا إلى الكرسي الثاني الأوسط الذي في مواجهة الجمهور)
لا بد أن تخبريني.
عطية (تنعطف من وراء الكرسي الثالث إلى الكرسي الأوسط وتجلس) :
مسألة بسيطة بيني وبين أختي.
بشير :
وأين هي؟
عطية :
صعدت الآن إلى الحمام.
بشير (يصمت قليلا) :
أين كنت بالأمس؟
عطية :
في السراي.
بشير :
واليوم، في السراي أيضا؟
عطية :
لا، زرت خديجة هانم في الصباح، ثم جئت إلى مصر الجديدة بعد ذلك.
بشير :
أنا كنت عند خديجة هانم في الصباح. كيف لم أرك؟
عطية :
وصلت بعد انصرافك بقليل.
بشير :
ها، انهضي يا بنيتي، هلم اغسلي وجهك، لا يليق بك أن تبكي، تعالي (يضع عصاه في يساره ويأخذها من يدها ويذهب بها إلى الباب الرابع)
ادخلي اغسلي وجهك، سأحضر لك منشفة نظيفة (تخرج عطية من الباب الرابع، ويعود بشير إلى الوسط وهو يتكلم)
إنها لا تريد أن تخبرني، ولكني أعرف السبب، لا بأس (يتناول الكتاب والجريدة عن المائدة ويخرج من الباب الثالث) . (وإذا بالدكتور خليل قد فتح باب الدخول (1) على حذر وأخذ ينظر في المكان.)
خليل (لنفسه) :
خال على عادته من حسن الحظ. (وخليل فتى في السابعة والعشرين من عمره، رشيق القوام حلو الطلعة، ظاهر أنه خفيف الروح، وهو رجل مسماح، يعطي لكل شيء وزنا، فلا يستطيع القطع باطمئنان وحزم. إذا دخل يتقدم إلى المائدة ويتطلع إلى أعلى ثم يقول لنفسه): أين تكون زهيرة هانم يا ترى؟ (يذهب إلى الباب الثاني يفتحه بحذر) لا أحد. (يقفله ويذهب إلى عتبة السلم) أأصعد؟ لا لا، لا يليق أن يتسرع الإنسان في مثل هذه الأمور. (يتقدم نحو المنضد ويميل على الصينية وينحني على علبة السجائر ويتناول سيجارة ويشعلها ويجلس هناك ويضع طربوشه بجانبه على المقعد، ثم ينظر أمامه ويتناول صورة معلقة بجوار المقعد وينظر فيها.) (هنا تبدو عطية هانم آتية من باب الغرفة الرابعة تمسح وجهها بمنديلها ولا ترى خليلا لانشغالها بذلك، وإذ يلمحها خليل ينظر إليها من فوق الصورة التي في يده ويبتسم فرحا برؤيتها، وإذ تزيح عطية هانم المنديل عن وجهها تلتفت نحو المرآة وتصلح شعرها ثم تميل نحو المائدة، عندئذ تتبين خليلا فتقف تنظر إليه بهتة جامدة ثم تنصرف على عجل صوب عتبة السلم وقد غطت وجهها بطرف كمها.)
عطية :
وي!
خليل :
سبحان الخلاق العظيم!
عطية :
وا خجلي (تصعد السلم هادئة حتى تختفي) .
خليل (يطفئ السيجارة في المنفضة ويتركها ثم ينهض يعلق الصورة حيث كانت، ويمشي حتى يصل إلى المائدة ويراقب صعودها درج السلم خلسة) :
ليس في الدنيا أجمل من هذا ولا أكرم، هذي عروسي النبيلة! أجل ولا تردد (ثم يصمت) . (يفتح بشير أغا مصراع الباب الثالث ويدخل ومعه المنشفة دون الكتاب والعصا، وإذ يرى خليل بك يحييه مؤاخذا.)
بشير :
نهارك سعيد يا خليل بك.
خليل (يؤخذ) :
نهارك سعيد يا بشير أغا. متى عدت من القاهرة؟
بشير :
منذ قليل. ولكن متى حضرت أنت؟
خليل :
منذ هنيهة.
بشير :
هل دققت الجرس؟ إني لم أسمعه.
خليل :
لا داعي إلى ذلك يا عم بشير أغا، إنه لا يدخل هنا إنسان غريب عن المنزل.
بشير :
صدقت، ولكن ربما كان في الدار قوم غرباء عنك أو ... شبه غرباء.
خليل :
لا بأس بذلك، أنا طبيب، وشهادة الطبيب مثل جواز المرور يا عم بشير.
بشير :
إلا في البلد الذي أكون فيه متصرفا يا دكتور.
خليل (يضحك) :
الحمد لله على حسن العاقبة على كل حال.
بشير (بشيء من الاستياء) :
هل يسمح الدكتور أن يتفضل بدخول غرفة المكتبة؟ (يشير إلى الباب الثاني.)
خليل :
لماذا؟ هذا المكان ألطف وأرق من المكتبة.
بشير :
لكن هنا حريما.
خليل :
من؟
بشير :
حريم!
خليل :
عطية هانم؟
بشير :
نعم، أريد إخلاء الطريق لها، إنها الآن محبوسة في هذه الغرفة لا تستطيع الخروج منها لأنك هنا.
خليل :
لقد خرجت منها بسلام يا بشير أغا، ولم تدر أني في المنزل إلا وهي في منتصف السلم فاطمئن (مبتسما) .
بشير :
كيف ذلك يا سيدي؟
خليل :
كنت تحت السلم جالسا على هذا المقعد جلوس القط الأنيس، والظاهر أنها زعمتني إحدى الوسائد (يضحك) .
بشير :
لو أنك دققت الجرس لتنبهت أنا إلى ذلك ولم يحدث ما حدث.
خليل :
وماذا حدث لا سمح الله؟ (يضحك)
أعوذ بالله منكم (يجلس على الكرسي الأول) .
بشير :
لا بد أنك ضايقتها بنظراتك يا سيدي.
خليل :
إني لا أضايق العذارى بنظراتي يا عم بشير أغا (يضحك)
هذا طعن يعاقبك عليه القانون (يلتفت إلى بشير وبشير واقف لدى الكرسي)
ها ها ها، إذا جاء علي بك فإني سأوكله في رفع قضية يطالبك فيها بتعويض عظيم، ها ها ها (يخرج علبة سجاير فضية ويقدمها مفتوحة لبشير أغا)
تفضل.
بشير (يأخذ السيجارة وهو يتكلم) :
لو فطن علي بك لرفع عليك أنت قضية يطالبك فيها بتعويض إن كان في الدنيا إنصاف.
خليل :
ها ها ها (يأخذ سيجارة من علبته ويقفلها ويخرج علبة الثقاب ويشعل عودا ويقدمه لإشعال سيجارة بشير أغا ويشعل سيجارته هو أيضا وهو يقول)
ولم يا عم بشير أغا؟ (ينهض من خجله وارتباكه ويحضر منفضة عن الصينية ويضعها على المائدة ويعود فيجلس على الكرسي الأول.)
بشير (يدخن ويجلس على الكرسي المقابل وقد وضع المنشفة على الكرسي الأوسط) :
أنت أدرى يا سيدي (ينظر إلى الدخان وهو يتصاعد) .
خليل :
لو كنت أدري لدفعت هذا التعويض من زمن بعيد!
بشير (بجد) :
كيف تستبيح لنفسك يا دكتور أن تزور ابن عمك في غيبته؟
خليل (يتلفت حوله ثم يهدأ ويتكلم بصوت أهدأ من صوت حديثه الأول وإن كان مضطربا فيه) :
جئت أعود مريضا هنا وعرجت، أفي ذلك شيء ينتقد؟
بشير :
كيف لا يا دكتور؟
خليل :
نحن أخوة يا عم بشير، أليس علي بك ابن عمي؟
بشير :
بلى، ولكن زوجته ليست بنت عمك، ولا أنت من محارمها.
خليل (بمزيد الاهتمام) :
أراك تجد يا عم بشير.
بشير :
كيف لا يا سيدي الدكتور!
خليل :
هذه أول مرة جئت فيها هذا المنزل؟
بشير :
كلا يا سيدي، وهذا ما يسوءني.
خليل :
لماذا يسوءك، أتجد فرقا بين منزلي ومنزل ابن عمي يا بشير أغا؟
بشير :
أجد فرقا عظيما يا سيدي.
خليل :
علي بك لا يجد ما تجد أنت، بل إنه ليأتي منزلي في أي وقت من أوقات الليل أو النهار، سواء أكنت في المنزل أم لم أكن، ولا سيما يوم يضطره عمله إلى الرجوع إلى مكتبه بعد الظهر مبكرا ليقابل أرباب القضايا مثلا، فإنه يستبعد مصر الجديدة فيقصد إلى منزلي من فوره وهو لا يتوهم ولا أنا (ينهض)
أن هناك فرقا.
بشير :
ولكنه لا يجد هناك زوجة لك كما تجد، أو أختا لزوجة كما وجدت.
خليل :
إنه يجد شقيقتي.
بشير :
يجد ابنة عمه، بل يجد أخته. إنهما أخوان في الرضاع كما تعلم، وأنت لا تغار على أختك كما تغار على زوجتك. سبحان الله!
خليل :
دع عنك هذا يا عم بشير، هذه أفكار الحزب القديم وقد مات منذ ثلاثين عاما والحمد لله، ها ها ها.
بشير :
ولكني حي يا سيدي.
خليل (بغضب) :
وماذا تجد في زيارتي هذه من العيب؟ هذا شيء غريب جدا.
بشير :
سبحان ربي! أجد على الأقل أنها شغلتك عن الالتفات إلى عملك، وأنت في مقتبل العمر. كما أنها أدت بابنتي زهيرة هانم إلى النفور من زوجها علي بك لأنك أفسدتها بلهوك ومرحك.
خليل :
لهوي ومرحي!
بشير :
لقد أصبحت مشغولة بك.
خليل :
مشغولة بي!
بشير :
وأنت مشغولا بها، وأخشى سوء العاقبة يا سيدي.
خليل :
حقا إني أحبها، ولكنه حب أخ لأخته كما تعلم.
بشير :
لقد كانت هذه حجة سيدي المرحوم الباشا يوم أحب زوجة ابن خاله فريد باشا، ثم اتضح أنه كان يعشقها، وكاد الأمر يؤدي بالرجلين إلى ضرب الرصاص.
خليل :
ولكنك يا عم بشير سيئ الحكم علي، أنت تعرف أن تربيتي وأخلاقي وعلاقاتي الخاصة بعلي بك ...
بشير (يقاطعه ويتكلم بصوت المقتنع الذي يرى أن رأيه لا يحتمل تعديلا) :
خليل بك ولدي، لا تؤاخذني. التربية والآداب اللطيفة والعلاقة الأهلية أو غير الأهلية لا أثر لها في تربية القلب وعلاقاته، إنها لا تغير الفطرة. كلا يا بني، إن الإنسان مسير في مسائل القلب بدافع فطري حلو شهي يسوقه إلى العشق من حيث لا يدري، ولذلك منعوا اختلاط الرجال بالنساء إلا إذا كانوا محارم، بل إن من الناس من يمنع اختلاط المحارم أيضا. ولعمري إنهم لعلى صواب، ولا سيما في هذا الزمان الفاسد.
خليل :
ها ها ها، ما رأيت قبل الآن أغا فيلسوفا.
بشير :
لست فيلسوفا يا سيدي، وإنما هذا كلام عادي يقوله كل إنسان، أكلما سمعتم مني كلمة صحيحة استكثرتموها علي؟ عجبي لكم! كلكم تستغربون أني أكلمكم هكذا، لماذا؟ ألأني خصي؟ سبحان الله! ما علاقة هذا بما أتكلم فيه؟ لو كنتم متعلمين حقيقة لعرفتم أن هذه البلاد قد حكمها وحكم أصقاعها ألف خصي وألف أسود فيما مضى، وكم كان قائد جيوشها من الخصيان السود أو البيض! ومن تكون أنت يا دكتور لو لم تتعلم الطب؟ (يبرز شفتيه قليلا)
أفندي عادي. ومن تكون لو لم تتعلم مطلقا؟ لا شيء، مثل الخادم حسن سواء بسواء، ولا مؤاخذة.
خليل :
صحيح والله صحيح.
بشير :
أنا تعلمت وقرأت، ولولا هذا لبقيت كأكثر الأغوات وغير الأغوات، أنت قرأت علما، وأنا قرأت أدبا ودينا. واليوم لي خمس وستون سنة أو تزيد قضيت منها خمسين سنة بين التعلم في الأزهر وتعليم كل جواري السراي وبناتها من عهد المرحوم الباشا الكبير، ومنهن زهيرة هانم وعطية هانم في آخر هذه الأيام السوداء. يا ألله، ما أشد عجبي منكم!
خليل :
معذرة يا عم بشير، أنا لا أقصد أن أنتقص قدرك أبدا.
بشير (بجد) :
والآن يا بني أريد منك وعدا تخلص فيه، هو أن تقطع صلتك الشديدة بزهيرة هانم.
خليل (متضايقا ثم مندفعا) :
قد كان هذا معقولا لو لم يكن لي مأرب شريف من وراء صلتي هذه بزهيرة هانم يا عم بشير، إن هواي غير موجه إليها.
بشير :
إلى من إذن؟
خليل :
إلى عطية هانم.
بشير :
إلى عطية هانم؟
خليل :
أجل وربي.
بشير :
ولكني أراك قد جاوزت المدى يا دكتور.
خليل :
الحقيقة أنني أصبحت أرى زهيرة هانم بمثابة أخت أو أم بعد ما صح عليه عزمي من زواجي من عطية هانم، وأنت تعرف أني لا أطيق أن تكون حياتي كلها ملاقاة
عم بشير (ينهض ويتمشى)
أما يجوز
(يتقدم وراء بشير أغا ويضع يده اليسرى على كتفه وبشير جالس)
وأقربائي وأهل التي أشتهي زواجها، ولا سيما إذا كان هذا الزواج معلقا على إرادتهم بشرط، الإخلال به محفوف بكل مكروه؟
بشير :
إذا كان حقا فإني أهنئك يا سيدي الدكتور بهذه الفكرة؛ لأنك إذا تزوجت حفظت نصف دينك، فإذا كانت الزوجة صالحة مثل عطية هانم حفظت هي عليك النصف الآخر.
خليل (بسماحة ولطف يمشي عنه إلى زاوية المائدة الواقعة بين الكرسي الأول الأوسط) :
هنا أخطأ الفيلسوف ولا مؤاخذة.
بشير (بدهشة) :
لماذا؟
خليل :
لأن الزواج لا يدوم اغتباط المرء به زمانا طويلا، وربما أدى إلى الشقاء وضياع الدين كله يا عم بشير، ها ها.
بشير (بتغيظ وتعجب) :
لماذا؟
خليل (ينظر في وجه بشير أغا ثم يرفع رأسه كأنه يتكلم كلام الواثق) :
لأنه في نظري أمر غير فطري.
بشير :
غير فطري! إذن فما هذه الزوجيات؟
خليل :
نظم مصطنعة وأوضاع مزورة أصبحت عادة مرعية.
بشير :
نظم مصطنعة وأوضاع مزورة؟! الناس على هذه الحال من عهد سيدنا آدم يا دكتور.
خليل (ضاحكا) :
وماذا في ذلك؟ الناس مكذوب عليهم من عهد سيدك آدم يا عم بشير.
بشير (باستياء) :
أستغفر الله! أستغفر الله! أأنت كذلك يا دكتور؟
خليل (بسرعة وهو يضحك) :
لا لا، لا والله يا عم بشير، هذا مزاح. إنني بالطبع رجل متدين، ولكني حسبتك من الفلاسفة حقيقة فأخت أهذي هذيانهم.
بشير :
آمنت بالله ورسوله.
خليل :
وماذا يهمك أنت يا عم بشير أغا (يضحك)
أن يكون الزواج فطريا أو غير فطري.
بشير (بجد) :
تهمني عطية هانم وزهيرة هانم على الأقل يا دكتور، أتريد أن يعيش الناس في سفاح؟!
خليل :
حاشا لله يا عم بشير، حاشا لله!
بشير :
أنت إذن لا تريد الزواج من عطية هانم وإنما أنت تخادع، إنك تعشق هذه الفاجرة زهيرة وهي تعشقك، وما قصة زواجك من عطية هانم إلا ستار للخيانة، ولكي ...
خليل :
أسأت إلي يا عم بشير، أسأت وتربة أبي! إني أحب عطية هانم حبا خالصا، وأتمنى أن أعقد عليها الساعة إذا استطعت، ولكني لا أملك المهر لسوء حظي؛ لأني لم أعد من إنجلترا إلا منذ أشهر قليلة، والعيادة حديثة العهد، وإيراد الوقف لم يجب بعد.
بشير :
ولماذا كلمتني اليوم خديجة هانم في شأن زواجك من عطية إذا لم تكن مستعدا؟
خليل :
إني أنا الذي كلفتها بهذا؛ فقد بلغني كما بلغها أن عطية هانم مطلوبة لخاطب من أقرباء السراي، فأردت أن أحول دون هذا، ولقد جئت اليوم في الحقيقة لألتمس من علي بك ومن زهيرة هانم على الأخص أن تعدني بها دون ذلك الخاطب حتى ييسرها الله في وقت قريب، ولكني أخشى مع ذلك أن ترفض زهيرة هانم رجائي لأنها سيئة الظن بكل طبيب، هذه قصة حالي والله على ما أقول شهيد.
بشير :
الحمد لله على ذلك، لقد اطمأن قلبي الآن. مبارك إن شاء الله، أنا أفاتح زهيرة هانم وعلي بك في الأمر سريعا، وأنا كفيل بموافقتهما (ينهض)
ما لزهيرة هانم لم تأت؟
خليل :
إنك لم تشأ أن تعلنها بحضوري.
بشير :
إنها في الحمام على ما أعلم (ينادي)
زهيرة هانم (سكوت ثم يصفق وإذ لا يرد عليه أحد ينادي)
زهيرة هانم.
زهيرة (من أعلى) :
أفندم.
بشير :
الدكتور خليل بك شرف.
زهيرة :
خليل بك؟ أهلا وسهلا، بونجور يا دكتور.
خليل :
بونجور يا زهيرة هانم.
زهيرة :
سأنزل على الفور، خمس دقائق (تنادي)
بشير أغا!
بشير :
أفندم (يسمع صوت أقدام على سطح المسرح) .
زهيرة (من أعلى) :
أخل الطريق واصحب الهانم إلى المترو أو المنيل إذا شئت (يكون كلامها من ابتداء علمها بوجود خليل لغاية انتهاء حديثها مع بشير مسموعا بشكل واضح لحضورها إلى الشرفة العليا بالدور الأعلى تنزل منها إلى البهو) .
خليل :
إذن فأنا أخلي الطريق، أين أذهب؟
بشير :
حيث شئت يا دكتور، ادخل غرفة المكتبة.
خليل :
أنا لا أطيق الحبس، سأختفي في الحديقة. أيرضيك هذا؟ (يضحك خارجا من الباب الأول.)
بشير (لا يضحك لانشغاله بأمر هذا الإخلاء) :
لا بأس، تفضلي يا عطية هانم (لنفسه وظهره متجه إلى السلم)
إنها تريد أن تخلي الجو لها، ترد أختها إلى مصر القديمة في الظهر ولا تستبقيها حتى تتغدى معها، لن أمكنها من ذلك. (تنزل عطية هانم على درج السلم ووجهها مكشوف وهي بادية الهم، فإذا وصلت إلى البسطة تتلفت في المكان بلطف كأنما تبحث عن خليل بك. وبشير أغا واقف ينظر إليها بعيني متفحص حزين، فإذا وصلت إلى آخر الدرج خاطبها.)
بشير :
سري عنك، سيفرج الله عنك عما قريب. ويحي! ويحي! تبكين يا عطية وأنا موجود.
عطية (وهي على آخر الدرج) :
إنك لن تراني في هذا المنزل بعد اليوم.
بشير :
لماذا؟ (يسير بها صوب المائدة من يسار.)
عطية (تصلح رأس ملاءتها وبرقعها) :
لأن أختي لا تريد لي ذلك.
بشير :
لماذا؟ ماذا حدث؟
عطية :
أنا عثرة في طريقها.
بشير :
أية طريق؟
عطية :
طريق زواجها من خليل بك.
بشير (دهشا) :
زواجها من خليل بك! أليست متزوجة؟!
عطية :
إنها تريد أن تحمل علي بك على طلاقها.
بشير :
أهي قالت لك ذلك؟ (عطية لا ترد)
خبريني، لماذا لا تتكلمين؟
عطية :
أجل هكذا قالت لي، هيا بنا (تميل نحو الباب الثالث) .
بشير :
انتظري قليلا، ليس هذا بالأمر اليسير. هذا شيء جديد لم يكن في الحسبان (يتكئ على ظهر الكرسي ثم يسكت ويفكر)
تالله لا أدري ماذا أصاب زهيرة في عقلها ودينها (بسرعة)
دعيها تمني نفسها ما تريد وتشتهي، ما كل مأمول يتحقق (يسكت ثم يميل على عطية ويسر إليها في أذنها)
إنه يريدك أنت لا هي، وقد أتى اليوم بمحض اختياره ليخطبك إلى أختك وعلي بك رسميا.
عطية :
قد تكون خطبته كما قالت زهيرة دريئة وستارا (تنظر إليه متطلعة) .
بشير :
لا لا، لقد أقسم لي بقبر أبيه أنه يحبك حبا خالصا، وأنه يرجو أن نمهله حتى يستعد للعقد؛ إذ أبلغته أخته خديجة هانم ما كان من أمر ذلك البك الذي جاءنا منذ أسبوع يتكلم في شأنك لولده. ويتمنى خليل بك لشدة حرصه عليك أن يستطيع العقد عليك اليوم، هذه كلماته بنصها على ما أذكر. ولا شك عندي يا بنية في صدقها، إن للصدق نغمة وانسجاما لا تجدينهما في الكذب والاحتيال.
عطية (تغض من طرفها) :
ستمنعه أختي وترفض رجاءه، ألم أقل لك إنها تريد أن تتزوج منه، وما دام أمري في يدها ...
بشير :
هذا شأني، هذا شأني. أما وربي لأفضحن الأمر إذا هي رفضت، ولأنتقمن لك منها ومنه إن كان ما تقولين حقا.
عطية :
لا، لا يا أبي. لا يصبه من أجلي أذى (تنظر إليه)
إني أحبه يا أبي، أحبه.
بشير :
تحبينه؟
عطية :
أجل يا أبي، وهو يحبني، يحبني حقا. أنا أعرف ذلك حق المعرفة.
بشير :
تعرفين أنه يحبك؟
عطية :
أجل يا أبي.
بشير :
من أخته خديجة هانم؟
عطية :
بل منه بالذات يا أبي.
بشير :
متى كان ذلك؟
عطية :
منذ شهرين، منذ كنت مريضة بالحمى وهو يعالجني.
بشير :
ماذا قال لك؟
عطية :
أعفني يا أبي، أعفني، أنا أعلم أنه يحبني وكفى.
بشير :
ولكني أريد أن أعرف، قولي يا بنيتي العزيزة أتخشينني؟
عطية :
قال لي وقد أفقت من غيبوبة الحمى: أما آن أن تعرفي من ينظر إلى وجهك يا عطية ويراقب آيات الجمال تعود إليه؟ فقلت وأنا مغمضة العين أشرعهما بالجهد حياء وسعادة: أنت الدكتور خليل بك. فابتسم ورد قائلا: فأنت إذن لا تعرفين، أنت لا تزالين في غيبوبة الحمى. فعجبت لكلامه، وقلت: ألست الدكتور خليل بك؟ فأشرق وجهه وطرب، ونظر إلي بعينين أحسست أنهما تصبان في قلبي شؤبوبا متدفقا من السحر وغبطة النعيم. وقال: إن اسمي عذب من فمك، ولكنك بعد لا تعرفين من أنا.
بشير :
يا ألله!
عطية :
ولقد خيل إلي بعد ذلك أني في غيبوبة حقيقة لأني أحسست أني في عالم غير هذا العالم، أو أني في حلم طويل صاغته الملائكة من مجالي الفردوس، وكأني أقول له فمن أنت إذن؟ وكأنه يقول لي: أنا من أنت عروسه عما قريب.
بشير :
بإذن الله.
عطية :
أسرها ثم نهض واختفى، وبقيت في تلك الغيبوبة ساعة أو تزيد ذكرت فيها يتمي ووحدتي وانقطاعي عن الأهل في هذه الدنيا، وأني وجدت في وحشة حياتي أخا وحبيبا وزوجا. فبكيت يا أبي، أجل بكيت فرحا واغتباطا وشكرا لله (بشير يتأثر) .
ولكن خيب ظني اليوم ما رأيت، تهدمت آمالي وتبددت أماني وأحلام صورتها بيتا وبستانا وأولادا وزوجا محبا ومحبوبا، رأيت بيني وبينه حائلا لم تضعه يده ولا علم له به، بل وضعته يد أختي التي أعددتها للدهر!
بشير :
يا ألله!
عطية :
أبي بشير! اجمع بيننا بحق بنوتي عليك وحبك لابنتك المسكينة عطية (تبكي وهي متطلعة إليه ثم تسقط على ركبة بشير أغا وتجهش بالبكاء) .
بشير (يمسح دموعها ويربت على كتفها) :
انهضي يا بنيتي، انهضي، سأفعل كل ما فيه رضاك وإصلاح الحال (ينهضان ممسكا بيدها اليمنى ثم يسير بها صوب الباب الثالث)
يا ألله من نزق الشباب وغواية الشيطان! (يخرجان من الباب الثالث.) (يخلو المسرح ربع دقيقة يسمع في أثنائها وقع أقدام زهيرة على شرفة الدور الأعلى ثم على الفخذ العليا من السلم، ثم تلوح وهي نازلة على الدرج المنظور وهي لابسة فستانا أحمر زاهيا ومتحلية بالجواهر.)
عبد العزيز أفندي خليل (بشير أغا) مع الآنسة
زهيرة (تكون وسط السلم تنادي) :
خليل! (وإذ لا يرد عليها أحد تطل من فوق الدرابزين وتنادي مرة أخرى)
خليل! (تسرع في نزولها على الدرج وتذهب من فورها إلى الباب الثاني وتفتحه وتطل، ثم تقفله وتخرج إلى الشرفة وتنادي)
خليل! (تعود.)
خليل (من تحت الشرفة) :
هالو.
زهيرة :
تعال (تتمشى إلى منتصف المسرح ثم تلتفت صوب الباب فتراه في الشرفة وتقول)
أين أنت؟
خليل (يدخل من باب (1) وإذ يراها في جلوتها التي نزلت بها يقف بعد الباب بخطوة أو اثنتين وقفة إعجاب) :
ما هذا الجمال الرائع يا زهيرة؟! أنت فتنة للعين والقلب. (يدنو منها وتدنو منه ويمد ذراعيه للسلام بكلتا يديه، وإذ تدنو منه يهم أن يحتضنها ولكنها تمنع نفسها إغراء له، فيعود إلى حالته وقد أمسك كل منهما بيدي صاحبه)
إنني في انتظار هذا القوام الفاتن منذ ساعة.
زهيرة :
أين أنت منذ ثلاثة أيام؟ إنك أصبحت مشغول القلب عنا.
خليل :
كيف يشغل القلب عن مثل هذا الجمال يا زهيرة؟ أم أنك لا تعرفين ما لك على قلبي من سلطان مبين؟
زهيرة (تجلس على الكرسي الأول وتكلمه وهو واقف ويداها في يديه) :
ولماذا لم تأت أمس ولا أول من أمس؟
خليل :
بالرغم مني والله يا زهيرة، يعلم الله أني لا أشتاق مجلسا غير مجلسك، ولا أحب حديثا أكثر من حديثك، بل لعمري إني لأشتهي أن أقضي الليل والنهار معك.
زهيرة :
فما منعك عنا هذه الأيام ؟
خليل (يترك يديها) :
لم أعد أستطيع أن أتردد عليك كعهدي بالأمس؛ فقد علمت أن بشير أغا يكره هذا مني ومنك. واليوم أفهمني أنه يراني غريبا عنك وعن منزلك.
زهيرة (تنظر إليه مستفسرة) :
كيف؟ أهو حادثك اليوم في شيء؟
خليل :
لقد كشف عما في قلبه صراحة، وأفهمني أنه يرتاب في علاقتنا.
زهيرة :
صحيح؟
خليل :
ورجا مني أن أقطع صلتي بك (زهيرة تصمت)
أراك سكت!
زهيرة :
هذا ما قاله لي ذات يوم، ولكن لا يعنك أمره. إنه لا يستطيع أن يكشف لنا سرا، ومع ذلك فإني سأرده إلى السراي.
خليل (يصمت قليلا) :
إنك إن تفعلي ذلك أيقن أنك تبعدينه عمدا، ولن يصبر على ذلك، وقد يؤذينا من حيث يريد الإصلاح.
زهيرة (تنهض وهو ينتحي قليلا إلى يمين المسرح) :
إذن فماذا نفعل؟ (تذهب إلى الكرسي الأوسط وتقف وراءه ممسكة بظهره في مواجهة الجمهور.)
خليل (يهز أكتافه بلطف ويدنو من الكرسي الذي كانت جالسة عليه، ويجلس ثم يتكئ على المائدة ويسند رأسه) :
آه يا زهيرة، لا أعلم. إني أتمنى أن أراك في كل وقت ولكني لا أطيق أن أجيء إلى هذا المنزل بعد اليوم، بل لقد صممت على ذلك فعلا.
زهيرة :
إذن فليكن لقاؤنا في غير هذا المكان، لقد قال لي هذا بشير أغا نفسه. (يفتح الباب الثالث ويدخل بشير أغا مضطربا، ولكنه يظل ممسكا بالمصراع يهزه من الاضطراب والكدر، وإذ رأياه التفتت إليه زهيرة مذعورة ثم مغمضة لا تتحرك من موقفها إلا خطوتين نحو باب الدخول، أما خليل فينهض ويدور حول المائدة حتى يصل إلى جانبها الأيسر بالنسبة للمتفرج ماثلا صوب باب غرفة (4) وهو في حالة اضطراب وخجل.)
زهيرة (بغضب) :
ما بك يا عم بشير؟
بشير :
أنا لم أقل لك قابليه في هذا المكان ولا غيره، لماذا تحرفين الكلام يا ابنتي؟ حرام عليك، حرام والله! كيف أشير عليك أن تؤذيني في نفسي وشرفي! كيف أخون فيك أمانة سيدتي الكبيرة، أو أخادع ولدي علي بك! أوأحتمل (يدنو من المائدة ويتكئ عليها)
أن أرى كيف تتدهور ابنة لي ربيتها خمسة عشر عاما، وعلمتها أصول دينها وحقائق دنياها! أوأطيق أن يقال عني يوم ينكشف سرك، ويظهر هذا الغرام الفاسد للأقرباء والبعداء إنني كنت أغمض العين على ما أرى؟!
زهيرة :
لقد أصبحت سليط اللسان يا عم بشير أغا.
بشير :
أنت التي تدفعينني إلى القول صراحة، لقد طالما نهيتك عن رأيك هذا، وطالما نصحتك فلم تنتصحي ولم ترعوي. ولولا أني مسئول عنك أمام الله ونفسي وروح من قضوا ما رأيت مني بعض هذا.
زهيرة :
ولكنك أصبحت قليل الرعاية لي، ليس هذا من علائم المحبة الوالدية.
بشير :
لو كنت قليل الرعاية أو لو كنت رجلا أحمق لا يبتغي الإصلاح، أو لو كنت أريد بك سوءا لا خيرا لنبهت علي بك إلى ما أرى.
خليل :
إنك أبوها يا بشير أغا، محال أن تفعل هذا.
بشير :
رعايتي لك لا تكون كما تريدين، إني بار بك وبسادتي وسادتك، أما أنت فقد انتزع الله البر من قلبك لغاية لا نعلمها، خنت عهدي وعهد الست الكبيرة في نفسك وفي أختك، واليوم تخونين عهد زوجك وتخونين عهد هذا الفتى المسكين، دخل عليك أخا ونسيبا، فشئت إلا أن يكون عاشقا وخائنا لابن عمه وصديقه وأخيه.
خليل :
ما هذا الكلام يا عم بشير؟
بشير :
تالله لا أجد عليه لوما، إنما اللوم والذنب عليك. إنما هو عصفور تنظر إليه أفعى، فلا يدري كيف الخلاص إلا أن يسلم أمره إلى الهلاك، ولو أخليته الآن لانصرف عنك من فوره إلى سواك، أطلقيه يا بنيتي واتقي الله فيه، لا تفسديه على نفسه وعلى الدنيا. دعي هذا الفتى لأنثى سواك، ودع أنت هذه الأنثى لزوجها، والله إنها لكاذبة فيما تدعي من حبك، ووالله إنك أيضا لكاذب مخادع، ولكنها شهوة حاضرة وغلمة طافرة علقتها عليك.
زهيرة (بحدة) :
أنت رجل وقح قليل الحياء (تتركه داخلة في الغرفة الثانية) .
خليل (ينادي) :
زهيرة هانم، زهيرة (يمشي نحوها)
ما هذا؟ لا يليق أن تغضبي بشير أغا مهما آلمك بكلامه، إنه أبوك يا زهيرة، ووالله إنك لا تجدين أحن عليك منه. تعالي، تعالي (يدخل عليها في الغرفة الثانية ويتكلم وهو هناك)
هلم انهضي، لا، لا يليق هذا. زهيرة أوه!
بشير (يقف مكانه متألما مضطربا، ثم يندفع إلى الباب الثاني ويقف بجواره) :
إنه ليحزنك هذا الكلام، بل يقتلك لأنه يكشف له سريرتك التي لا يدركها، ويزيح الستار عن قصدك منه، وهو غير ما تريدين أن يظن. ويحزنك أن أريك أية هاوية تريدين أن تتردي فيها أنت وهذا الفتى، ولكني أعلن وأنذر أني عزمت أن أهدم حياتي بيدي قبل أن تهدميها أنت على رأسي، وسأكون وقحا حقا، وقليل الحياء حقا، ولي أسوة فيمن قال: «علي وعلى أعدائي يا رب» (يتراجع) .
خليل (يأتي من الغرفة مغضبا) :
إنك تتكلم كمن رأى علينا سوءا. كفى، كفى. لن آتي هنا بعد اليوم إكراما لخاطرك يا عم بشير (يخرج من الباب الأول مغضبا عاري الرأس) .
زهيرة (تأتي من الغرفة الثانية مهتاجة وتواجه بشير) :
إذا لم تعجبك هذه العيشة فارجع إلى السراي، وافعل ما تشاء، أنا لا أبالي بتهديدك ولا وعيدك. هيا اخرج على الفور والحق بالبلهاء، إنك والله لتنيلني منتهى القصد إذا هدمت هذا البيت على من فيه.
بشير (بعد صمت) :
تطردينني من بيتك! تقولين لي أخرج! لي أنا! أبوك! (يضطرب.)
زهيرة :
لا شأن لك معي، ولا حاجة لي بك، ارجع إلى السراي.
بشير (يقف مضطربا متهدج الصدر، يحاول الكلام فتسبقه العبرات) :
أرجع إلى السراي، أرجع إلى السراي، سأرجع إلى السراي. ليس في ذلك أذى لي، ولا أنا طالب منك إحسانا لبقائي هنا، إني غني عنك وعن السراي أيضا، ولكني سأرجع على الفور. فطيبي نفسا، وافعلي بنفسك ما تشائين (تخنقه العبرات)
ها أنا ذا خارج (بصوت أبح وينظر إلى أعلى)
أشهدك اللهم أني بلغت، أشهدك أني بلغت، سلام يا ابنتي (يتقدم نحو الباب الثالث)
الوداع الوداع (يخرج منديله ويمسح دموعه وهو يبكي ويخرج من الباب الثالث على مهل) . (ثم يسدل الستار على الفصل الأول بهدوء.)
الفصل الثاني
المنظر
عين منظر الفصل الأول (يرى باب الدخول مفتوحا عند إزاحة الستار، وزهيرة في الشرفة تطل في اتجاه سلمها، ثم تلفت متمشية إلى سياجها كأنها تبحث عن شيء، ثم إذ لا تجد بغيتها تعود إلى الشرفة داخلة المسرح ومتجهة إلى زر الجرس المدلى من ثريا المائدة، وتظل ممسكة به تدقه فيسمع له صوت بعيد مستمر فتتركه وتجلس على الكرسي (1) وقد وضعت ساقا على ساق، واتجهت عينها إلى الشرفة، وهي في حالة قلق نفساني.)
زهيرة :
لا أثر له في الحديقة، أين ذهب يا ترى! لا يمكن أن يكون قد عاد إلى القاهرة عاري الرأس، إن طربوشه لا يزال على المقعد (تقبض على زر الجرس وتدقه فيسمع له صوت بعيد مرة أخرى)
لماذا لا يجيء الخادم؟! آه! إنه ذهب يحمل أمتعة بشير أغا إلى المترو. لا بأس، لا بد أن يعود خليل حين يتبين أنه نسي طربوشه هنا (تنهض وتذهب إلى المقعد وتأخذ الطربوش عنه وتنظر فيه ثم تشمه)
آه (ثم تقبله قبلة طويلة وتسير به عائدة إلى باب الدخول، وتهم بالخروج فتسمع صوت أقدام صاعدة فتعود بسرعة إلى المائدة، وتجلس على الكرسي الأوسط وتضع الطربوش على المائدة) . (يرى خليل صاعدا في السلم وماشيا في الشرفة متجها إلى باب الدخول، ويدخل وهو صامت عليه شيء من الكدر والوجوم، ويتقدم نحو المائدة فإذا وصل إليها وقف ومد يده ليأخذ الطربوش، فتسبقه زهيرة وتأخذه في يدها وتطوح بذراعها وراء ظهرها.)
زهيرة :
لماذا؟
خليل :
هاتي الطربوش.
زهيرة (متطلعة إليه) :
اجلس.
خليل :
أريد أن أرجع إلى القاهرة.
زهيرة :
بحثت عنك في الحديقة، وفي كل مكان فلم أقف لك على أثر، فقلت لا بد أن تكون خرجت لتركب المترو عائدا.
خليل :
هو كذلك (لا يزال مادا يده) .
زهيرة :
عاري الرأس!
خليل :
لم أعرف أني كذلك حتى جلست في العربة ورأيت صورتي في مرآتها، أعطني الطربوش.
زهيرة (تناوله الطربوش) :
تفضل (يتناوله منها ويلبسه وهي تنظر إليه متفحصة)
اجلس.
خليل :
لا لا، لا بد لي من العودة إلى القاهرة على الفور.
زهيرة (بلا اعتداد) :
لماذا؟
خليل :
لا أدري، أشعر بضيق شديد.
زهيرة :
وأنا، ألا ترى أني على مثل حالك؟ (سكوت)
كيف تتركني على هذه الحال! إنك إذن لا تحبني.
خليل (وهو متجه إلى الجمهور ومستند بظهره إلى المائدة) :
كيف تقولين هذا يا زهيرة؟
زهيرة :
محال.
خليل :
أنت قاسية الحكم يا زهيرة.
زهيرة :
وأنت قاسي القلب يا خليل.
خليل :
كلا والله، ولكن بي ضيقا شديدا وأخشى أن أقر شيئا لا يكون فيه إلا الضرر. إذا كانت نفسي في حيرة من أمري قبل أن أرى وجه بشير أغا، فكيف بي الآن وقد رأيته وسمعت كلماته، وفيها كما رأيت تهديد صريح، إني لا أطيق أن تحف الشكوك من حولنا.
زهيرة :
لا تعبأ به، إنه لا يجرؤ أن يفشي لنا سرا. أما سمعت ما كان يقول؟ لقد تحديته أن يهدم هذا البيت على من فيه كما أوعد وأنذر، فانهد هو وتهدم وراح يبكي فقدان سلاحه الذي شهره في وجهي.
خليل :
ولكن رجوعه إلى السراي يستدعي السؤال، وقد تبدر من فمه كلمة يذهب أهل السراي في تأويلها كل مذهب، وأراك يا زهيرة لم تحسني صنعا.
زهيرة :
إني رأيته قد آذاك بكلماته، ورأيتك لم تطقه، وخفت ألا أراك بعد اليوم، فغضبت وكان ما كان.
خليل :
ولكني أرى أن أفارق هذه الدار، بل مصر بأجمعها، مدة من الزمن، سنة أو سنتين حتى أصرف عنك ظن السوء وعني. إني لا أطيق أن يتوجس ابن عمي أن بيني وبين امرأته ...
زهيرة (تقاطعه) :
إذن فأنت لا تحبني.
خليل :
لم؟
زهيرة :
لا والله!
خليل :
كيف تقولين هذا؟
زهيرة :
تريد أن تتركني في الشقاء عامين.
خليل :
والله ما أردت ذلك، وإنما أرى دواء الحالة ألا يرى أحدنا صاحبه، ولا يجتمع به حتى تهدأ ثائرة بشير أغا، بل لعمري لقد أصبحت أحس كأنما الناس كلهم عرفوا سر الهوى بيننا (يذهب إلى الكرسي الثالث ويجلس مفكرا) .
زهيرة (تنهض وتذهب إليه مارة وراء الكرسي الأوسط) :
هب أنك فعلت ذلك، غبت عامين أو أكثر أو أقل ثم عدت إلى مصر، أتهجرني يومئذ ويموت الحب في قلبك يا خليل؟
خليل :
كيف يموت حبي إياك يا زهيرة؟ (تنهض ويلتفت إليها وهي تميل عنه صوب الباب الرابع فيلتفت وراءها.)
زهيرة :
لعمري لا يطاوعك قلبك، بل لا بد أن تعود إلي لتراني أو لتزور قبري يا خليل.
خليل :
أنت تجرحين قلبي يا زهيرة بهذه الكلمات.
زهيرة :
أفلا يكون مجيئك إلي مريبا؟ وتكون إذ ذاك راغبا في دفع الريبة عنك وعني كما ترغب الآن؟ وربما رأيت دواء الحالة أن تفارقني عامين آخرين، وهكذا حتى ينقضي العمر بين الشوق والفراق؟
خليل (سكوت قليل) :
هذا صحيح.
زهيرة :
إذن فلماذا الفراق؟
خليل :
ألم أقل لك إن رأيي لا يعول عليه الآن، إن الضيق يخيل إلي ... (يجلس على الكرسي الذي كان عليه ويتكئ بمرفقه على المائدة ويسند صدغه على راحة يده اليسرى.)
زهيرة :
وكيف تتركني على هذه الحال وتمضي إلى القاهرة؟ أتهون عليك زهيرة يا خليل؟ (تذهب إليه وتحادثه كذلك وتميل عليه في آخر كلامها.)
خليل :
ما كان صوابا ما أردت (يرفع وجهه إليها وهو جالس) .
زهيرة :
إذن فقبلني (تميل نحوه وتقبله هي) .
خليل (يمد ذراعه إلى أعلى ويتناول رأسها ويقبلها قبلة طويلة) :
ما أسعدني!
زهيرة :
قل إنك تحبني.
خليل :
أحبك يا زهيرة، أنت كل مناي، أنت كل حياتي (يميل بوجهه عنها)
ولعمري إني لأتمنى الآن (ناظرا إليها)
لو أستطيع حملك بين ذراعي، ثم أسير بك إلى منأى من الأرض، ولو في الجبال، أقضي به بقية أيامي معك كالطير في الخلاء بعيدا عن قوانين هذا العالم وأحكامه.
زهيرة (تميل نحو المقعد وهي ناظرة إلى خليل) :
ولماذا لا تفعل؟ إن الحب لا يعرف القانون.
خليل (يعتدل في جلوسه ويتجه إليها ويتكلم بأسف) :
أجل، وكذلك القانون لا يعرف الحب، أليس للزوج على زوجته ألف حق؟
زهيرة (تذهب إلى المقعد وتجلس وتحاسبه) :
أكنت تشتهي لو أنني كنت لك يا خليل؟
خليل :
كيف تسألينني هذا السؤال يا زهيرة؟
زهيرة :
ماذا تعني؟
خليل :
إنك كمن يعرض الوردة العتيقة الجميلة في غلاف من الشوك.
زهيرة :
من يطلب الوردة لا يبالي بشوكها.
خليل :
أخشى أن يدمي الشوك أنامل اليد فلا تستطيع تناولها.
زهيرة :
وهل تنتظر حتى يزول الشوك من تلقاء نفسه أم يجب أن تلتمس الحيلة في اجتنابه؟
خليل :
هذا ما يجب أن نفكر فيه.
زهيرة :
نعم.
خليل :
ولكن هل ترين علي بك ينزل عنك بهذه السرعة؟
زهيرة :
ليس لك شأن في هذا، سأدبر الأمر بنفسي.
خليل (سكوت) :
ولكن إذا حدث فيجب ألا نشرع في شيء يومئذ حتى ينقضي عام أو شبه عام لكي لا تحف الشكوك من حولنا يا زهيرة. إني لأراه أمرا رهيبا.
زهيرة :
لك ذلك، نصبر عامين أو ثلاثة بل عشرة إذا شئت. تعال، تعال. (تذهب إليه)
قبلني (تمسك بوجهه وتقبله في فمه وتطيل القبلة ويقبلها هو أيضا ثم يرفع رأسه عنها)
والآن عدني ألا تفكر في غيري أو تشغل بالك بسواي.
خليل (ينظر إليها متمعنا) :
ما حاجتك بالوعد مني يا زهيرة، وأنا لا أملك نفسي؟ لقد انتزعت إرادتي مني يوم رأيتك وأصبحت كأنما أنا قطعة منك.
زهيرة :
ومع ذلك فقد حادثت أختك خديجة هانم في شأن أختي عطية!
خليل :
عطية! كيف؟ (يميل عليها ويتكلم بسرعة وهو ذاهب إلى الكرسي الأول)
إني أحبك أنت يا زهيرة، ولكنني رأيت أختي تلمح لي من طرف خفي باشتهار علاقتنا، فلم أجد لي بدا من أن أقول لها إني أريد عطية.
زهيرة :
أحسنت، كذلك قلت أنا لعطية اليوم.
خليل (بشيء من التأثر) :
يا ألله! أحادثتك في هذا الشأن؟ ماذا قالت لك؟
زهيرة :
كانت في الصباح عند أختك، ألم تعلم ذلك؟
خليل :
لا وربي.
زهيرة :
لقد أفهمتها خديجة هانم أنك تريد الاقتران بها.
خليل :
يا ألله!
زهيرة :
وقد جاءتني هذه الحمقاء تسر إلي هذه البشرى، فأفهمتها أني لا أوافق على هذا الاقتران، وقلت فيك ما لا يقال.
خليل (متأثرا غائب اللب) :
مسكينة هذه الفتاة (يتذكر)
لقد كانت راقدة في سريرها.
زهيرة :
ما هذا؟ شاقتك الذكرى؟
خليل (يلتفت إليها منكرا) :
أية ذكرى؟ إني إنما أتذكر سوء حالتها أيام المرض، أيسوءك أن أرثى لمصاب الناس؟ (ينهض عن كرسيه ويذهب متمشيا في المسرح ثم يعود إلى الكرسي الثالث ويمسك ظهره منحنيا ثم يتكئ بساعديه عليه.)
زهيرة (تذهب إلى الكرسي الأول) :
أجل، إني لا أطيق أن تذكرها أمامي أبدا.
خليل :
لماذا؟
زهيرة (تجلس على الكرسي الأول) :
إني شديدة الغيرة.
خليل :
ها ها (يترك الكرسي ويدور من وراء المائدة ذاهبا إليها، وهي على الكرسي الأول، ويضع يده اليسرى على ظهر كرسيها واليد اليمنى متكئة على المائدة)
حتى ولو عرض ذكرها في غير مقام الحب؟ (يميل بوجهه حتى يحاذي وجهها.)
زهيرة (تنظر إليه مبتسمة) :
حتى ولو عرض. إني أكره كل من تتعلق بك أوهامها (تبعد وجهها عنه وهي ناظرة إليه نظرة إغراء) .
خليل (مازحا ويتراجع ويمشي صوب عتبة السلم) :
لا يصح أن تكوني قاسية القلب حتى على أختك يا زهيرة.
زهيرة :
لا تقل أختي، إن الحب لا يعرف أختا ولا أما، أفهمت؟ (تنهض وتمشي صوب المرآة وتنظر فيها.)
خليل (متظاهرا أنه غير جاد في سؤاله) :
فما قولك لو أنني كنت أجد اليوم مع عمي بشير؟
زهيرة (وقد بلغت المرآة وظهرها إليه ملتفتة قليلا نحوه) :
متى كان ذلك؟
خليل (يمسك بظهر الكرسي الأول) :
قبل أن تنزلي.
زهيرة :
ماذا حدث؟
خليل (ناظرا إلى مقعد الكرسي أحيانا ومشرعا نظره أحيانا أخرى في الفضاء ومرة أخرى إليها، وهي مشغولة بإصلاح شعرها أمام المرآة) :
لما ضيق علي الخناق وصارحني بسوء الظن حتى لم أجد لي مخرجا تورطت، فقلت له إني إنما أتردد عليك طالبا أن تتجاوزي عما اشترطت المرحومة الست الكبيرة في زواج عطية هانم.
زهيرة (تعود خطوتين وهي غاضبة، ثم تقف تحادثه محذرة مشيرة بسبابتها) :
حذار، حذار أن يأتي ذكرها على لسانك بعد اليوم، إنك تؤلمني بهذا الحديث.
خليل :
إذا ساءك هذا فإني أعدك ... (هنا يدخل علي بك من الباب الأول وهو يصفر وفي يده محفظة أوراق صفراء الجلد وعصا، فإذا رأياه اضطربا.)
علي :
خليل بك؟ مرحبا، مرحبا، أنت هنا؟ ما شككت في ذلك (يتقدم من خليل ويسلم عليه ويعود إلى مناط العصي فيعلق عليه المحفظة والعصا).
خليل :
أهلا وسهلا.
علي (يعود عن مناط العصي) :
بونجور يا زهيرة هانم.
زهيرة :
بونجور (تذهب نحو المقعد) .
علي (يذهب إلى الكرسي الأوسط) :
ما بك يا خليل؟ أراك واجما!
خليل (مضطربا) :
أنا!
علي :
وأنت يا زهيرة هانم، لماذا أرى على وجهيكما أثر الاضطراب؟ ماذا حدث؟ إني سمعت صوت زهيرة هانم غاضبة. هذا الصوت أعرفه ولو كانت في برج بابل، وسمعتك تعدها متذللا على غير عادتك. من المسيء فيكما يا ترى؟ أنت أم هي؟
خليل :
زهيرة هانم لا تسيء إلى إنسان قط.
علي :
فما سر هذا كله إذن؟ (يجلس على الكرسي الأوسط وقد بدا على وجهه شيء من الكدر)
أتخفيان عني أمرا لا يصح أن أعرفه؟
زهيرة :
إنه لا يريد أن ينتصح (تجلس على المقعد) .
علي (لزهيرة) :
كيف ذلك؟ ألا تزالين تؤنبينه على ما يبلغك عنه؟ مسكين يا خليل، متهم من كل جانب، واليوم قالت لي خديجة هانم ...
خليل :
هل كنت عندها اليوم؟
علي :
أجل، خرجت من المحكمة اليوم مبكرا، ورأيت منزلكم قريبا مني فذهبت وشربت القهوة معها، وقد تدخلنا في شأنك على صورة تنكرونها أنتم يا تلاميذ إنجلترا.
خليل :
ماذا قالت لك عني؟
علي :
هي ترى أنه يجب عليك أن تتزوج وتترك عيشة العزوبة؛ لأنه يبلغها عنك شيء كثير.
خليل :
ليت شعري لماذا يتهمني بالسوء كل من يعرفني، حين أني والله رجل مستقيم؟
علي :
كل أعزب متهم، ولقد والله قلت لها كما أقول لزهيرة دائما: لا تصدقي أقوال الناس عن خليل. إنه دائم المرح ليس إلا، لا تجدينه جادا يوما من الأيام.
خليل (يضحك) :
هذا طعن في صورة دفاع.
علي :
شيء أخف من شيء، ولكن (لزهيرة)
ماذا يبلغك أنت اليوم عنه؟
زهيرة :
لا شيء.
علي :
لا شيء! إذن فأنتما تخفيان عني أمرا، لا يمكن أن يكون هذا الوجوم والغضب لغير سبب.
خليل :
إنه في الحقيقة لغير سبب وجيه.
علي :
ما هو؟
خليل :
سلها هي.
زهيرة :
كان يحادثني في شأن عطية هانم (تظهر على خليل علائم الارتياح).
علي :
هذا ما قدرت وربي.
زهيرة :
يريد أن يحملني كرها على الموافقة على زواجه منها.
خليل :
وهل كفرت في هذا الطلب بحياة أبيك حتى لا تترك في جعبتها كلمة ذم لم تقلها؟
علي :
وأنت لا تريدين ذلك؟
خليل :
إنها تراني أسوأ الرجال.
زهيرة :
محال أن أوافق على زواجها منه.
علي :
هذا غريب جدا، أتريدين أن نتركها عانسا؟
خليل :
اسمع يا أخي: إياك أن تجعل لسيدة وصاية على أخرى، إنها تسيء استعمال السلطة التي تكون في يدها؛ لأنها لم تتعود هذه السلطة.
علي (إلى زهيرة) :
إذن فإن هذه الصداقة العظيمة لخليل بك وهذه المراقبة الشديدة لأفعاله والانتقاد المر الذي ينهال على رأسه، وهذه الأصناف الشهية من الطعام التي تطهينها بيديك اللطيفتين يوم يتكرم ...
خليل :
العفو.
علي (مستمرا) :
بزيارتنا لم تكن أحبولة لاصطياده لأختك عطية هانم على غير عادة الأخوات والأمهات؟
زهيرة :
أنا أحب خليلا لمرحه وعبثه، ولكني لا أريد لأختي زوجا مثله، ولا مؤاخذة.
خليل :
تحبني لأني تياترو كميدي فودفيل، تشهده مرة بعد أخرى، وتدفع ثمن تذكرة الدخول راضية، ولكنها إذا عادت إلى منزلها أخذت تذمه وتذم الممثلين والمؤلف معا.
علي :
ها ها ها، مسكين يا خليل! هكذا حال الدنيا يا بني، أكاذيب في أكاذيب.
خليل :
انظر يا سيدي، انظر، هي تحب ما ترى أختها تكرهه، وأؤكد لك أن عطية هانم يمكن ... بل إنها تحبني أكثر من حب زهيرة هانم إياي، ها ها.
علي :
ليس لك حق يا زهيرة في رفض خليل، كلا لست معك. هل تجدين لأختك خيرا منه؟ واحد دكتور، متعلم في أوروبا وعنده إيراد لا بأس به، وأختك من هي؟ فتاة متعلمة كما تقولين، ولكن أي تعلم هذا! وعندها 25 جنيها إيراد وقف سنوي، نعم، ولكن هذا ليس بشيء كثير. والله إني أستكثر الرجل المتعلم على أية امرأة في الدنيا.
خليل :
ها ها ها (متشيعا)
معلوم!
علي :
الرجل يقضي 20 سنة أو أكثر يتعلم ويهذب نفسه ويعد مستقبله ويبلغ أقصى الدرجات، ثم تأتي امرأة تعرف القراءة والكتابة أو لا تعرف وبعض كلام فارغ يسمونه تعليما، تأخذه وتتنعم بعلمه وأدبه وخبرته واقتداره ومستقبله ومركزه لله في لله. إن الرجال مغبونون جدا، كلا، كلا، أنا لا أوافقك، ارميها عليه حسب هذا الأحمق أن يرضى بالزواج في هذه الأيام (خليل يضحك) .
زهيرة (بتغيظ) :
ومن أنت، ومن هو، ومن كل الرجال في الدنيا بالقياس إلى المرأة!
علي :
يا عيني!
زهيرة :
المرأة سيدة العالم لا الرجل، والرجل الذي يقضي 20 سنة في تعلم وتدرب، إنما يعد نفسه لخدمتها، وإلا فإنه لا ينالها.
خليل :
الله! الله!
زهيرة :
معلوم، هذا الذي جعلك تراني ...
علي (يقاطعها) :
في عرضك، دعينا من قصتي وقصتك، ودعينا في عطية هانم وخليل، إنها لا تأباه، بل تريده، ولا يصح أن تكوني عثرة في سبيلها.
زهيرة :
أهي قالت لك ذلك؟
علي :
ألا بد أن تقوله لي! لقد رأيت ذلك في عينيها غير مرة عرضا في الحديث، وقد علمت من خديجة هانم اليوم أنها فاتحتها في الموضوع فارتاحت تمام الارتياح.
خليل :
يعني أني رجل «فالصو»، هذه مطاعن ورب الكعبة، خذ مذكرة بذلك يا حضرة المحامي، سب علني وقذف يعاقب عليه القانون بموجب المادة 1920 ها ها (علي يضحك) .
زهيرة (تضحك) :
أنا لا أقول إلا الحق ولو على نفسي.
علي :
وعطية أتعرف أنك لا توافقين؟
زهيرة :
نعم، ولكنها فتاة بلهاء، ولا يصح استشارتها في أمر كهذا، إني أكبر منها سنا ولي حق الوصاية عليها حتى تبلغ العشرين.
علي :
لقد بلغتها من زمن بعيد.
زهيرة :
إنها لم تتمها بعد.
علي :
انتهت الوصاية عليها يا ستي من يوم أن حطت رجلها في العشرين، الحساب بالعربي لا بالأفرنجي يا هانم. هذا هو الشيء الفريد الذي بقي للعربي وأهل العربي في مصر.
زهيرة :
من يقول هذا؟
خليل :
المحامي.
زهيرة :
لا رأي لمحام كهذا عندي؟
علي :
ها ها ها، أأحضر لك ابن عابدين؟
خليل :
علينا به من فضلك، عجل.
زهيرة :
ولا ابن شاهين.
خليل :
ماذا نحضر لك إذن؟
علي :
عسكري. (الكل يضحكون.)
خليل :
نحن في زمن عجيب يا علي بك، كلنا يسعى لأن يكون للفتاة حق اختيار زوجها، وزهيرة هانم وهي متعلمة على كل لون حتى في مدارس الإفرنج هي وأختها تأبى عليها ذلك.
علي :
لأن عمك بشير ملأ دماغها بآرائه وأفكاره من سن السابعة إلى سن العشرين.
خليل :
وعطية هانم كذلك؟
علي :
وعطية هانم كذلك، بل وأكثر من ذلك. إنها خليفة بشير أغا، وأكبر تلاميذه وحوارييه (يضحك) .
خليل (يضحك) :
إذن فلنترك عوضنا على الله، إني أكره هذا الصنف من النساء.
زهيرة :
هذا الذي من أجله لا أريد مثلك زوجا لأختي، إنها فتاة مسكينة بلهاء، وأنت رجل شرير. وقد دللت على ذلك بلسانك الآن (خليل يضحك) .
علي :
ولكنك لم ترفضي الدكتور من قبل لهذا السبب، إنك رفضته لشيء آخر، فما هو هذا الشيء الآخر السابق؟
زهيرة :
مثل أختي لا تطيق معاشرة زوج يضطره عمله كطبيب أن يفارقها في الصباح، ثم لا يأتي إلا في الظهر أو بعده كهذه الساعة مثلا ليتغدى وينام مثلا.
علي (متشيعا) :
مثلا.
زهيرة :
ويعود بعد ذلك إلى عيادته ثم يبقى فيها إلى الساعة الثامنة، وقد يأتي منزله للعشاء فقط إن لم يكن على موعد مع واحد، أو واحدة، أو يخلق له مريضا يقول إنه اضطر لعيادته في الساعة التاسعة؛ فإن جاء بعد ذلك تعشى وقال إنه لا بد له من الرياضة، ولا تستطيع أن تقول كلمة لأن الرياضة واجبة في الطب! فإذا جاء منتصف الليل كانت نائمة، وهكذا ...
علي :
ها ها ها، كأنك تقولين إنك أيضا لا تطيقين عشرتي، لأن الذي ذكرت عن خليل هو ما أفعله أنا بالضبط في أكثر الأحيان.
زهيرة :
هو كذلك، ولكن هذا لم يعد يهمني.
علي :
هذه هي صرخة الولد يا زهيرة عنك وعنها، ها ها ها.
خليل :
ها ها ها، صرخة من؟
زهيرة :
أعدت إلى مزاحك الثقيل؟
علي :
ولكن من يدريك؟ لعل أختك أهدأ منك أعصابا يا زهيرة؟ ها ها ها.
زهيرة (بغضب) :
ما رأيت في الناس مثلك ...
علي :
لعمري إن أختك لا يمكن أن تعتب على خليل هذا العتاب، إنها من طينة أخرى.
زهيرة :
كل النساء من طينة واحدة، كيف تطيق المرأة في الدنيا أن تقضي يومها كله وحدها في انتظار زوجها!
خليل :
هذا درس لك يا عم علي.
علي :
ليتني لم أسأل ولم أبحث، إن الدرس الذي تلقيه زهيرة هانم علي كل يوم من أقسى الدروس.
خليل :
ها ها ها، برافو والله.
زهيرة (تتحرك في كرسيها متجهة إليهما) :
إن المرأة لا ترضى بزواجها من رجل ...
علي :
من هذه المادة يا خليل بك ... (إلى زهيرة)
نعم.
زهيرة :
اسمع، المرأة لا ترضى بزواجها من رجل إلا وفي مخيلتها أنها تتزوج رجلا أولا وآخرا.
خليل :
ارمي!
زهيرة :
ما لكم تهزءون بالكلام، والله إن المرأة لأقرب منكم إلى الفطرة في كل أحوالها. أنتم أيها الرجال، رجال هذه الأيام مكذوبون على النساء، وإنما أنتم تدافعون عن أنفسكم بالهجوم.
خليل :
والله إنك تقولين حقا يا زهيرة هانم.
علي :
زيدينا، بارك الله في جمعية تحرير المرأة! (لخليل)
ألا تدري أن زهيرة هانم من خطيباتها المفوهات؟
خليل :
أعرف ذلك لسوء حظي، ها ها ها.
زهيرة (تزور عنهما مزدرية) :
أنتم أيها الأذكياء عمي عن الحقيقة في هذه الدنيا، أو متعامون.
علي :
كيف ذلك؟
خليل :
نريد أن نفهم.
زهيرة (ملتفتة إليهما وتكلمهما باندفاع) :
إنكم تكلمونني اليوم بصراحة غريبة، وبلا أقل تحشم، بل أراكم آذيتموني بالحديث وجرحتم إحساسي احتماء وراء أدب السيدة وحيائها.
خليل :
لا نقصد ذلك مطلقا، من يجرؤ على هذا؟ معاذ الله!
علي :
انظر يا سيدي، هكذا رأيها معي تجعل المخالفة جنحة والجنحة جناية.
خليل :
والله إننا نمزح يا زهيرة هانم.
علي :
ومع ذلك، هبي أنه صراحة منا وقول نعبر به عما في نفوسنا بغير كلفة.
زهيرة :
إذن فلأصارحكم أنا أيضا وظنوا ما تشاءون.
علي :
تفضلي وعليك الأمان.
خليل :
أمرنا لله.
زهيرة :
اسمعوا نصيحتي، ثم ارموها في البحر.
علي :
ويلاه! ما هذه النصيحة؟
زهيرة :
عندي أنه يجب على الرجل في هذه الأيام التي تنكرت فيها الدنيا بأحوال المدنية أن يجعل للعنصر الفطري من نفسه أول مقام كما تجعل المرأة ، وإلا كان الشقاء حليفه طول الحياة.
علي :
كيف يكون ذلك؟
زهيرة :
أولا، تكرهه زوجته فتشقى حياته المنزلية وغير المنزلية. ثانيا، يكرهه المجتمع وربي، أجل يكرهه، فلا يكون له من طيبات الحياة فيه نصيب، اسمعوا وانظروا وابحثوا.
علي :
مرحى مرحى يا زهيرة، إنك تتكلمين كلام الفلاسفة.
زهيرة (بتهكم) :
صحيح!
علي :
والله إني أجد.
خليل :
مرحى! مرحى لبشير أغا والمدارس المصرية والأسكولات الأفرنجية.
زهيرة :
بل لكم أنتم، أنتم الذين تعلموننا هذا الكلام وتلجئوننا إليه.
علي :
لا يعلمك إياه أحد والله، إنما هي صرخة الولد، ها ها ها. لكنها اليوم صرخة حادة بالغة.
خليل :
ها ها ها، إنك فرجت همي.
زهيرة (تنهض) :
بالله خبروني يا أهل الفهم والمحاماة والطب والكلام الفارغ الذي تموهون به على الناس وأنتم أغبياء جهلاء، في أي شيء تقضي الزوجة يومها إذا لم تكن راضية عن زوجها، ولم يكن لها من الارتياح إلى أمسه ما يملأ قلبها حبا له واشتياقا إليه وانشغالا عن الحاضر بالغائب؟
علي :
تنام، ها ها ها.
زهيرة (الآنسة فردوس حسن) إلى علي بك في الوسط (حسين رياض): «أنتم الذين تعلموننا هذا الكلام.»
زهيرة :
تنام!
خليل :
لا تستطيع النئوم أن تظل في الفراش أكثر من عشر ساعات.
زهيرة :
أنت طبيب وتعرف ذلك بالدقة، لا مؤاخذة.
خليل :
ها ها ها، تقرأ الروايات والقصص.
زهيرة :
والله لو قرأتها لزاد صراخها بما تثير هذه الروايات من كوامن دائها.
علي :
هذه صرخة الولد بعينها، ها ها.
زهيرة (باحتداد وسرعة كأنما تغيظه) :
أجل صرخة الولد، ما معنى الزواج إذا لم يكن للولد، إن للمرأة مهمة في الحياة تحفزها من حيث لا تدري إلى تحقيقها، ولكنكم تتجاهلونها وتعاملون النساء على ضدها صراحة فتشقونهن وتشقون أنفسكم أيضا.
علي (وهو يضحك) :
زهيرة هانم تريد أن يعيش الرجل مع امرأته طول حياته كما كان أول شهر أو أول عام من زواجه، فهي لا تحبه إلا إذا كان كذلك، ومن يستطيع هذا يا حضرة الطبيب النطاسي البارع. (خليل يضحك.)
زهيرة :
هذا كلام صحيح، ولكنك مبالغ.
علي :
ما يقدر على القدرة إلا رب القدرة، ألا يصح أن يحسب للسأم حساب؟
زهيرة :
إذن، فهذا الزواج خطأ وكذب، وما كان يصح أن يكون هناك زواج إذا كان لا بد أن يسأمه الإنسان، أو يجد منه شقاء عظيما.
خليل :
فيلسوفة ورب الكعبة.
علي :
كذب! أفي ذلك شك؟ ولكنه ضروري أكثر من الصدق وأنفع. كم في هذه الدنيا من أكاذيب صريحة، ليس في الأرض من مفكر منطقي إلا وهو يرى أنها زور وتدليس، ومع ذلك فهي لازمة يعاقب المجتمع من لا يقول بصدقها ويؤمن بها ويعمل عليها. هذه الأكاذيب تتطلبها المصلحة العامة العاجلة؛ ولذلك تنفق عليها الأمم من الأموال ما لا تنفق على الصدق، بل إن أهلها، أهل هذه الأكاذيب ليكرمون في الدنيا أعظم تكريم، ممن يعلمون أنهم كاذبون مدلسون، وتعطى لهم ألقاب عريضة وأوسمة موشحة ومرتبات ضخمة هي في عين الرجل البصير أشبه شيء بالرشى، ثم تكون لهم يوم الوفاة مواكب رسمية ذات درجات في التكريم، وقد تكون لهم بعد ذلك مدافن تزار أو تماثيل تقام، ولا يكون بعض ذلك لرجل يقول كلمة الحق الكبرى.
خليل :
يا للعجب!
علي :
بل إنه ليحرم طيبات العيش في الدنيا ويرمى في الحياة بالجنون، يهينونه ويسجنونه أو ينفونه عن الديار، ويسدون عليه المسالك، وربما أحرقوه في الدنيا أو قطعوا لسانه إزراء به وإخناء عليه وتكذيبا لصدقه الناصع، كل هذا من أجل المصلحة العامة العاجلة التي يشق تحقيقها بدون هذه الأكاذيب. والزواج يا سيدتي من هذه الأكاذيب الضرورية، الأكاذيب النافعة المحترمة.
زهيرة :
أنا لا تهمني هذه المصلحة العامة، ولا تهمني الدنيا بأجمعها إذا كانت أكاذيبها النافعة تشقيني، أتريدني أن أشقى من أجل غيري! نفسي أولا وبعدي الطوفان (تنهض وتذهب إلى المقعد وتجلس عليه) .
علي :
أنت تشقين نفسك بهذه الآراء، إن المصلحة منه أكبر من الضرر الذي يشكوه كل متزوج.
خليل :
حاذر.
علي :
ما عداي بالطبع، ها ها ها.
زهيرة :
وهل أنت متزوج! أنت صاحب منزل فقط تأوي إليه فتجد فيه امرأة.
علي :
لا تخشي بأسا ، إني سأعلم خليل بك كيف يعيش مع زوجته.
زهيرة :
أنت تعلمه! علم نفسك.
علي :
المسألة بسيطة جدا، خليل بك طبيب، ويعرف مواد الأقرباذين كلها «صم»، فما عليه إلا أن يعطيها ليلة الدخلة دواء بسيطا يعرف أنه يضعف العصب، فإنها إذا أخذته أصبحت عاقلة رشيدة وسكنت في أحشائها خلية النحل.
زهيرة :
أنت رجل قليل الحياء مجنون (تنهض وتتمشى صوب السلم) .
علي :
ها ها ها.
خليل :
ها ها ها، تعالي يا زهيرة هانم (ينهض ويذهب إلى عتبة السلم) .
زهيرة (صاعدة السلم) :
أنا لا أطيق البقاء في مجلس رجل مجنون.
علي :
تعالي، تعالي (يجلس على الكرسي الذي كان جالسا عليه خليل)
احمدي ربك، ليس من السهل أن تجدي مجنونا يعفو عنك مثلي، من الناس من يدفع أجرة لرؤية فصل مثل هذا.
خليل (يلتفت لعلي) :
لقد تكدرت، لماذا قلت هذه الكلمة؟
علي (باشمئزاز) :
ماذا تريد مني هذه المرأة؟ هل خلق الرجل ليكون ملهى للزوجة ليس إلا؟! أليس للرجل حق في أن يسعى للعيش (ينهض ويتمشى وقد يقف يخاطب خليل)
من أين تأكل وآكل وأعيش، والدنيا كما تعلم صماء خرساء قاسية القلب، لا تعفو ولا ترحم؟
خليل :
أي والله.
علي :
يبدو لي يا أخي أننا أشقينا أنفسنا بهذه المدنية، زدنا الحياة فيها تكاليف ومطالب بتوشيجها، والمبالغة في التماس النعيم من كل عرض منها، فزدناها شقاوة وزدنا أنفسنا حرمانا، ولكنها المرأة سبب كل ذلك.
خليل :
كيف؟
علي :
هي التي دفعت الرجل إلى تهيئة أسباب الرفاهية لها فخلق لها هذه المدنية، وأنهك نفسه في مرضاتها، وحرم نفسه الراحة من أجلها، ومع ذلك فهي تطلب إليه أن يجد من وقته الضيق فرصة واسعة للهوها، ومن صحته وقلبه المنهك متعة لها، وإذا قصر في ذلك فالويل له منها.
خليل :
صحيح والله.
علي :
كان يجب على المصريين أن يخرجوا المرأة معهم تعمل في الدنيا كما كانت تعمل في بيتها، وكما يعمل الرجال، لتنشغل هي أيضا عن الرجال يوما ما. فلا تكون المرأة على مثل حال زهيرة من الصخب، لو كان لها عمل أو لو كانت ذات شغل ولو في الأعمال الخيرية وأعمال الإصلاح الضرورية لمدنيتنا، كما يفعل نساء طبقتنا في أوروبا التي نقلدها لوجدت مشغلة وملهى ولذة أيضا، ولكنا لا نفعل ذلك لأننا كذابون في مدنيتنا، كذابون في أقوالنا وأفعالنا، كذابون في كل شيء. لا انسجام ولا تواصل ولا ارتباط بين تفاصيل حياتنا الموحدة.
خليل :
حق، حق والله.
علي :
لست أجد في مصر أصدق ولا أسعد من الفلاح، إنه يشتغل، وامرأته تشتغل، وأمه تشتغل ولو في حراسة الفراخ والبيت. أما المرأة الحضرية فقد صرفناها عن العمل في البيت باسم المدنية والرقي، ثم لم نعط لها عملا فكانت عالة على الرجل، يا ليت أبي ما أرسلني إلى المدارس! يا ليته أخذني معه إلى عزبته أزرع الأرض وأجني ثمرها بيدي، إذن لوجدت لامرأتي عملا. ما هذا العلم الذي يضحك به منا؟ كذب هو أيضا وكلام فارغ، ماذا نعرف نحن من العلم؟ وماذا يعرف سوانا؟ قطرة من بحر. وإذا وجدت متعلما لم تجد اتصالا بين علمه ونفسه، لا أثر له في تكوين خلق له أو عادة أو فكرة، ولا هو زادنا صحة ولا منفعة.
خليل :
ما هذا الكلام؟
علي :
لم أجدني خيرا من أبي وأمي في شيء، صحته سليمة وعصبه قوي هادئ وسعادته موفورة، وسيعيشان من بعدي أؤكد لك، أما أنا فقد كادت أعصابي تتحلل من فرط العمل في المكتب والمحاكم. ثق يا خليل أن الإنسان لم يخلق إلا ليكون حيوانا، وأن الذي ركب فيه من العصب ليس إلا لخدمة جسمانه: لحمه وعظمه وجلده، أما أن تأخذ من عصبك للتفكير والدرس والاختراع والاجتهاد الذهني للمحافظة على مدنية المرأة فلا؛ ولذلك فإننا نموت عادة قبل غيرنا، والرجل قبل المرأة.
خليل :
هذا كله صحيح، ولكن أتدري أنها تقول حقا؟
علي :
نعم، لا شك في ذلك. هكذا قلت: ولكن الحق شيء وإحقاقه شيء آخر، إنها كمن يطلب دينا من معسر. هي التي أفسدت الدنيا على نفسها فلتتحمل وزر ما فعلت، سأظل على ما أنا عليه، ولا يهمني بعد ذلك ما يكون.
خليل :
خبرني، أأنت لا تحبها؟
علي :
أعفني من الجواب.
خليل :
أراك تعزها كثيرا.
علي :
المعزة غير الحب، لا تسرف في الألفاظ ولا تستهن بها وإلا أدت بك إلى خطأ النتيجة والعقيدة معا.
خليل :
صدقت، ألا تحترمها؟
علي :
ما هذا الاحترام؟ إني لأرعى إحساسها كزوجة، ولها عندي مودة اعتدتها ورحمة أيضا، هذا كل ما هنالك، وهو شيء عظيم جدا لا سيما في الزوجية، أما الحب فكيف يكون بين رجل وامرأة عاشا في الزوجية خمس سنين! هذا محال. إن المودة والأدب والذوق الذي تراه بين رجل وامرأة أهدأ منا عصبا يسميه الناس الحب خطأ، فإن لم يكن بد إلا أن أعبر على هذا الوصف فأنا أحبها جدا.
خليل :
ولكنك مهتم بأعمالك، مشغول عنها انشغالا تاما.
علي :
لا تصدق ذلك، إنها سئمتني أو أخذ السأم يتطرق إلى قلبها مثلي، وهذا طبيعي، وأقسم لو أنني استطعت أن أقيد نفسي فلا أبارح مجلسها في هذا العصر الذي لا يستطيع الإنسان فيه أن يجد ما يأكله إذا هو لم يتحرك ولم يعمل، لزاد سأمها مني. إنها لا تجدني ولن تجدني كما كنت في بدء الزواج ولا أنا، مع أنني لو تزوجت غيرها لم يكن بغيرها هذي في الأيام الأولى إلا ما كان بزهيرة أول عهدي بها من الهيام بي والتعلق بأهدابي، ثم تصبح كزهيرة سواء بسواء.
خليل :
كلامك يذعرني.
علي :
هذه نتيجة العنصر الكاذب في الزواج، وعندي أن كل شقاء تراه في الزواج ولا تعرف سببه ليس إلا نتيجة هذه النقطة الضعيفة في الزواج؛ لأن الفطرة تغلب كل شيء، فإذا غالبتها فإنها لا تلبث أن تثور دفينة، ثم تخرج من جهة أخرى لم تكن تحتسبها، مثل نار الشمس في جوف الأرض تخمدها جلدتها وجنادلها، ثم لا تلبث أن تسمع لها زلزالا، ثم تنظر فإذا جبل قد انفجر وتهدم وخرجت منه نار وحمم يخبران أن الفطرة أغلب.
خليل :
وي وي! إنك تذعرني، لقد أملت من الزواج خيرا وسعادة، ولذلك ...
علي :
من قال إن الزواج ضمين السعادة؟! (متكدرا)
من قال ذلك؟! أجاءكم وحي به؟! أم أن بينكم وبين ملائكة الأرض وعفاريت السماء عهدا بذلك ووعدا؟!
خليل (يضحك) :
كيف؟
علي :
إنكم لما رأيتم في الزواج شيئا لذيذا دونه كل لذة حسبتموه سعادة، وأخذتم تنشرون هذه الأكذوبة بين الناس، حتى أطمعتموهم في شيء غير موجود، فلما تزوجوا ولم يجدوه انقلبوا على أنفسهم، وقالوا إن الزواج الذي عقدناه كان خطأ في شيء من أساسه. وكلما زاد الإنسان تحدثا بهذا الخطأ وشكاية منه كما يفعلون هذه الأيام، زاد شقاؤه وجلب على المرأة المسكينة، أو جلبت المرأة على الرجل المسكين، كل المصائب.
خليل :
كفى كفى، تبت، هات يدك، لن أتزوج!
علي :
الزواج سعادة! هذه مغالطة وتكليف للزواج بما لا يطيق وما لا يعرف، اسمع يا سيدي: ليس الزواج إلا عقد تنافع، ليس إلا شركة كما تفتح دكانة أنت وآخر، لا يبقى عليه إلا دوام الرغبة في الانتفاع به، وداعيه كما تعلم داعي الرغبة في استبقاء الجنس، فإن الإنسان كما علمت يا حضرة البيولوجي المحترم مدفوع إلى ذلك من حيث لا يدري، أي بالفطرة، والناس يريدون معرفة الأنساب في هذه الدنيا لاعتبارات كثيرة.
خليل :
إذن فهو كما قلت لأختي خديجة: أذى لا بد منه.
علي :
أذى لا بد منه، أجل، دفعا لأذى أكبر منه. وإذا كانت الزوجة هادئة العصب رشيدة، وكانت تربيتها سليمة من المؤثرات الكشافة، وكان الزوج كما قالت زهيرة رجلا أولا وآخرا، ثم لم يكن ضعيفا عن حمايتها وتحصيل رزقها ورزقه، وكان له منها ولد أو أولاد، وكان قادرا على الإنفاق عليهم وتأهيلهم للعيش في الزمن الذي خلقوا له، وكانا يعرفان طرائق حسن العشرة، بصيرين بأحوال السلم في البيت، وكانت الزوجة امرأة أولا وآخرا، فكيف لا يكون الزواج هنيئا!
خليل :
صحيح.
علي :
لاحظ أني أقول هنيئا.
خليل :
مفهوم. مفهوم.
علي :
يعني لا أقول سعيدا، السعادة شيء آخر. ولذلك تراني شديد الرغبة في أن يكون لي ولد منها أو ولدان، مع أني أعلم أن ليس لي مصلحة من ذلك، ولكن حصول الولد مهدأة لها نوعا ما ومشغلة. أما تنبه عصبها وحياة العطالة الأبدية التي هي فيها بسبب هذه المدنية العصرية المفتعلة والتقليد السطحي فلا حيلة لي فيه، ولكني أرجو أن ينصلح أمرها بعد الولد. ولذلك أهنئك يا خليل بك بما عزمت عليه من الزواج بعطية هانم لأنها فتاة طيبة هادئة العصب، «خام» كما يقولون، تركية التربية والفكر، كراهة لأساليب مدنية الشوارع، ولكني أوصيك ألا تجري معها في بحابح اللامسئولية كما فعلت أنا؛ حتى لا تنبه أعصابها الراقدة، بل اجعل لها عملا تعمله في البيت وحتمه برفق تأمن ما أنا فيه الآن من الشقاء بزهيرة، لعمري إنه يجب أن يعملوا على تعليم الرجال والنساء في المدارس فن الزواج، كما يعلمون فن إدارة الشركات، ولا يتركون الأمر فوضى للجاهلين، ويجب أن يجعلوا شغل المرأة ركنا في دوام الزوجية، إهماله يوجب الطلاق مع البراءة من الحقوق.
خليل :
إني رجعت عن عزمي يا صديقي، لا أتزوج ولو شنقوني؛ إن هذا الزواج مسئولية كبرى، أنا لا أريد من الزواج إلا الاستئناس والسرور.
علي :
تحسن صنعا إذا استطعت، ولكنك لن تستطيع. لقد كان هذا قول كل من عرفت من أصحابي.
خليل :
إلا أنا؛ فقد تبين لي أنه شقاء لا أكثر ولا أقل.
علي :
ومع ذلك فإنك ستتزوج.
خليل :
كيف؟!
علي :
من حيث لا تدري، هذا أمر فطري. أنت مدفوع إليه؛ لأن الزواج غير الشرعي ليس إلا زواجا على كل حال، ومع ذلك فإنك ستأخذ تفكر في أمرك وينتهي بك الحال إلى زواج شرعي يحببه إليك كرامة المخطوبة ونسبها والمظنون من أدبها وتربيتها، وألف اعتبار آخر. ومع هذا كله فالزواج يانصيب.
خليل :
يانصيب حقيقة.
علي :
وعطية هذي ورقة رابحة مؤكدة في يد من لا يعرفها، فخذها واهنأ بها قبل ألا تجد مثلها. أنت تعرف هذه الفتاة حق المعرفة، وأنا أعرفها أيضا، كلانا يعرف حقيقة نفسها، فإن كنت تأبى إلا أن تهرب من فتاة لا ذنب لها إلا أنها كانت في مثار البحث، وتلجأ إلى من لا تعرف على يد الخطاب ...
خليل :
الخطاب!
علي :
دع الخطاب، هب أنك ترى غيرها بعينيك كأن تكون ممن يطرقن باب عيادتك، فإنها لا تظهر لك حقيقة أمرها، هذا شيء عادي. انظر إلى نفسك، إنك معي غيرك في بيتك. وأنت في بيتك غيرك في عيادتك، وهلم جرا.
خليل :
مفهوم.
علي :
يعني أن الإنسان تتغير مظاهر خلقه بتغير البيئة والمجتمع واختلاف الزمان والمكان والعاطفة، بل لعمري إنه لتتغير أخلاقه بتغير ألوان ملابسه وقطعها، والفتاة المرشحة للزواج تخفي نفسها عنك أكثر من سواك. تخفي كل عيب فيخفي حقيقة حتى عن نفسها ذاتها، وتظهر كل ما تظن أنه حسن، هذا أيضا أمر فطري، وليس للناظر إلا الظاهر.
خليل :
أنت تذعرني يا علي بك.
علي :
كيف! إني أبصرك، اسمع نصيحتي، لا تتردد، خذ عطية على الفور. ألا تحبها؟
خليل :
لا أنكر أني أعزها جدا كما تقول.
علي :
ستعزها بعد الزواج، أما الآن فإنك تحبها. ومع ذلك فقد أخبرتني خديجة هانم برأيك في عطية.
خليل :
أفكر، إنني الآن خالي الوطاب.
علي :
إذا كان الأمر موقوفا على المهر فإنك إذن راغب.
خليل :
أنا أتمنى ذلك، ولكن دع لي فرصة للتفكير.
علي (ينهض) :
الظاهر أنك خرمان، تعال نفكر على المائدة.
خليل (يظل في مجلسه) :
حقا ولكن ...
علي :
ماذا! ألم تجع بعد؟ لقد كادت تدق الثالثة.
خليل :
بلى، ولكن ألا تصالح زهيرة هانم؟ (ينهض.)
علي :
لماذا؟
خليل :
كيف نجلس على المائدة وهي مغضبة؟
علي :
إنها تكره مجالستي على المائدة.
خليل :
تكرهه!
علي :
تقول إنها سبقتني، أو إنها لا تستطيع.
خليل :
لا لا، لا يليق ذلك، اذهب وهاتها إكراما لخاطري، أنا لا أطيق أن أجلس على المائدة وهي مهملة هكذا.
علي :
لا بأس (يصعد السلم إليها) .
خليل (يتمشى في المكان) :
لعمري لقد قال حقا، لن أتزوج، سأظل هكذا: لي ألف زوجة وزوجة، أنا أتزوج! لا أريد، لا أريد. (هنا يفتح بشير أغا الباب ويدخل.)
بشير :
فماذا تريد إذن؟
خليل (يؤخذ) :
آه رجعت يا عم بشير؟ أحسنت، لا يليق بك أن تترك زهيرة هانم أبدا.
بشير :
لماذا لم تذهب إلى القاهرة؟
خليل :
نسيت طربوشي، وعدت لآخذه فاستبقتني زهيرة هانم بالرغم مني، وجاء علي بك.
بشير :
أما أنا فلم أنس طربوشي، وبقيت بالرغم منها حتى أقابل علي بك وأرى نهاية هذا الأمر.
خليل :
أخفت الصوت يا عم بشير، أتريد فضيحتي لدى ابن عمي؟
بشير :
ماذا تنفعني فضيحة أمرك؟ إني أريد أن تبقي على الرجل زوجته.
خليل :
لك ذلك يا عم بشير، هذا ما عولت عليه والله.
بشير :
وأن تتم ما جئت لأجله.
خليل :
وما هو؟
بشير :
زواجك من عطية هانم كما أخبرتني.
خليل :
زواجي!
بشير :
أجل.
خليل :
كيف يمكن هذا الآن يا عم بشير؟ لقد حادثت علي بك في الأمر واتفقنا على التأجيل، إني منتظر موعد تحصيل إيراد الوقف لأتم كل شيء.
بشير :
ألا يمنعك إلا المهر؟
خليل :
بلى ورب الكعبة يا عمي بشير.
بشير :
أنا أدفع المهر من جيبي، أنا عندي ألفان من الجنيهات مما اجتمع لي في حياتي ومن إيراد ملكي الضئيل الذي سأتركه لعطية هانم وحدها، أجل وحدها، ولا يحزنني أن أنزل عن المال لك ولعطية من اليوم حبا في إصلاح الحال إن كنت صادقا.
خليل (يسكت) :
أختها لم ترض بالزواج.
بشير :
سترضى الآن، وإلا فلن تموت عطية وحدها.
خليل :
يا إلهي!
بشير :
أتتردد بعد ذلك في قبول ما أعرضه عليك؟
خليل :
كيف أتردد يا عم بشير؟ ولكنك لم تدع لي فرصة لشكرك، دعني أستفيق قليلا ليكون جوابي ...
بشير (بشيء من الاستهانة والاستصغار لخليل) :
لماذا أنتظر الجواب من مثلك! والله لولا أنها أحبتك ما رضيت بك زوجا لها، أأنت ذو رأي! بل الرأي ما أمرت به وما أعد لك. ولقد أعددت كل شيء فلم يبق إلا إعلانه أو إعلان الفضيحة الكبرى (يفتتح الباب ويتكلم)
يا شيخ إسماعيل.
إسماعيل (من الخارج) :
نعم.
بشير :
اسمع: هل قبلت يا دكتور خليل بك أن تتزوج من عطية هانم بنت مصطفى أغا الجبجي على مهر المثل المعروف بسنة الله ورسوله.
خليل :
نعم نعم، وقد وكلتك عني في كل شيء.
بشير :
هل اطمأن بالك يا شيخ إسماعيل؟
إسماعيل :
نعم.
بشير :
إذن فأتنا بالأوراق على عجل، عندك كل البيانات في الورقة التي كتبتها لك.
خليل :
وعطية هانم، هل وافقت؟
بشير (يترك مصراع الباب الثالث فيعود إلى أصله، ويرجع إلى يساره صوب الكرسي الموضوع بين المائدة والباب الرابع) :
هذا تدبيري وشأني (يجلس) ، ومع ذلك فأنت تعلم أنها موافقة من ساعة أن أخبرتها أنت في السراي وهي مريضة، أنها عروسك.
خليل :
وا خجلي!
بشير :
وقد جاءت اليوم هنا تسر البشرى إلى أختها، فأبيتما أنت وهذه الطائشة إلا أن تكسرا فؤادها وترداها ذليلة النفس كاسفة البال، خجلة من نفسها.
خليل :
ما أشد جرمي يا عمي بشير أغا! والله أنا ما أردت هذا ولا كنت إلا صادق القول والضمير. بالله كيف أمحو من نفسها أثر ما فعلت وأستغفرها؟
بشير :
لقد قمت عنك بهذا.
خليل :
شكرا لك يا عم بشير، ما أكثر فضلك علي.
بشير :
أجل وربي استرضيتها واستغفرتها، لقد أصبحت على يقين أن أختها تفتري عليك وأنك مظلوم مثلها، وأن من حفاظ العهد والمروءة ألا تتركك وتمضي إلى القاهرة، وأن كل هذه التدبيرات التي أقوم بها إنما تجري بعلمك وإرشادك ورجائك حتى يحضر علي بك ويتم كل شيء على يديه برا بما تعاقدت القلوب عليه من قبل، فهي تضحي بنفسها وبعلاقتها بأختها وبكرامتها أيضا من أجلك أنت؛ ثقة منها أنها تجد أخا مكان الأخت، وهذا أول مظاهر الزوجية المناصرة، وإلا فما كانت تساق في هذا الظرف كما سقتها يا خليل.
خليل :
وا خجلي! ما أشد نبل نفسها وأصغر نفسي!
بشير :
لا يا بني، لا، لست صغير النفس، وإلا فما كنت سعيت في الجمع بينكما، إنك على جانب الإسراف في الحياء، وهو أقبح صفات الرجولة. الحياء في الحق ضعف ونقيصة من شأنه أن يوقع الإنسان فيما لا تقره نفسه الكريمة، ولكنه أمر يزول بالتحذير، وتنبيه صاحبه إلى وجه المضرة منه. وأنت يا بني شاب في مقتبل الشباب، عشت بعيدا عن الدنيا التي أنت منها، دنيا المسلمين والإسلام، وغذيت شيئا من لبأ الفوضى التي يسمونها حرية، ووجدت هنا ما أغراك على المضي في سبيلك ذلك، فكان منك ما كان، ولكنك يا بني لا تزال رخصا، وأرى نفسك الدفينة تنضح بخير هو معينها، ووجدت أن زواجك من عطية كفيل بردك إلى الصواب وإصلاح حالك، وفيه كما تعلم إصلاح لابنتي الأخرى صاحبة هذه الدار، ورد للسعادة والطمأنينة التي غمرتنا.
خليل :
شكرا لك يا عم بشير، شكرا، لو كان غيرك يعالج الأمر لما وجد إلا البتر دواء، ولا رأى إلا الحرمان جزاء، ولكنك كنت من الأبرار أهل الحكمة والرحمة معا (يتناول يد بشير أغا ويقبلها، وبشير يستغفر الله)
تالله لا أدري كيف أمحو هذه الذكرى من فؤادي حتى أملك أن أقابل عطية هانم طاهرا نقيا كما كنت.
بشير :
اجزها عليه ذكرا ورعاية، وكن لها زوجا صالحا وأبا، واعلم يا خليل أني أهدي إليك درة لم تلد الأصداف خيرا منها ولا أنقى.
خليل :
ما لي بشكرك يدان (يتناول يد بشير أغا مفاجأة ويقبلها مرتين) .
بشير :
أستغفر الله، أستغفر الله.
خليل :
إنك تعطيني السعادة كلها.
بشير (يقبله) :
أرجو لك حياة سعيدة، والآن ... (يصفق)
علي بك! (لا يرد أحد)
علي بك!
علي (تسمع خطواته ماشيا بالدور الأعلى يرد) :
نعم يا عم بشير أغا.
بشير :
تفضل يا علي بك.
علي :
ضروري الآن؟
بشير :
إني أريدك الآن أنت وزهيرة هانم لأمر مهم.
علي :
حاضر (ينزل على الدرج)
تعالي يا زهيرة هانم.
بشير (ينتظر قليلا حتى يصل علي بك إلى الدرجات الأخيرة) :
تفضل (يتنحى متجها إلى الكرسي الأول فيقف ونصف ظهره إلى علي بك والنصف الآخر في مواجهة الجمهور) .
علي :
ماذا حدث يا عم بشير؟ (تكون زهيرة هانم قد وصلت إلى البسطة وهي نازلة على مهل وتنظر إلى خليل نظرة اضطراب وجزع، وهو ينظر إليها مطمئنا بابتسامة.)
بشير :
اسمعوا، خليل بك أتى اليوم طالبا الاقتران بابنتي عطية هانم، وأنا موافق، وهي موافقة، وسعادتك موافق أيضا، وأخته خديجة هانم موافقة كذلك، إلا زهيرة هانم، لماذا؟
زهيرة (تتنفس تنفس الخشية) :
إني راعيت مصلحتها الحقيقية، لكن إذا كانت تريده وهو يريدها فما لي في الأمر شيء، نعم إنها لم تتم العشرين، ولكني ...
بشير :
ماذا؟
علي :
إذا سلخت من العشرين يوما واحدا عدت في العشرين.
زهيرة :
ولكنها دون العشرين فعلا.
علي :
بل في العشرين فعلا، وقد توسطتها، وقد قلت لك إن الحساب بالعربي، والمرحومة الست الكبيرة لم تشترط التمام. ومع ذلك فإنا لا ندري لماذا لا توافقين حتى ولو كانت في الثامنة عشرة ما دام أن رضاك ينفي شرط الواقفة!
بشير :
لا أدري السر في هذا!
زهيرة :
لقد قلت لكم إني لا أمانع إذا كانت توافق وخليل بك يريد.
بشير :
ألست تريد عطية هانم زوجة لك يا خليل بك؟
علي :
يريد ويشتهي ويتمنى ويقبل الأيدي والأرجل أيضا، أليس كذلك؟
خليل (يضحك) :
هو كذلك، ولكني كنت أريد أن أتمهل، ولكن عمي بشير أغا لم ير ضرورة لهذا التمهل.
زهيرة :
كيف؟ ليس الأمر في يده. أين المهر؟ أم الناس تتزوج من غير مهر مثل الإنجليز؟
علي :
والله لو عملوا مثل الإنجليز لتزوجت كل البنات في هذا العام، ولكن صحيح أين المهر يا خليل بك؟
خليل :
سلوا عمي بشير أغا.
بشير :
قبضته من خليل بك.
علي :
تحيا الصناديق الصندلية والأكياس الحريرية الملونة، وكم كان هذا المهر؟
زهيرة :
مهر أختي لا يكون إلا ...
بشير :
مثلك تماما مع مراعاة سعر القطع في هذه الأيام.
علي (يضحك) :
مرحى، ليحيى العدل (يضحك)
يعني كم؟
بشير :
300 جنيه مقدمة و150 مؤخرة و100 جنيه للنيشان.
علي :
ولماذا لم تدفع عني المهر لزهيرة هانم كما دفعت لعطية هانم عن خليل؟
خليل :
ناس لها بخت يا علي بك.
علي :
ها ها ها، لا بد من رفع قضية. هذا أمر يوجب الغيرة، وماذا تريد منا أن نفعل الآن؟
بشير :
فعلت كل شيء يا سيدي وانتهى الأمر، لم أر دواء لهذا الاضطراب وهذه التحكمات القاسية التي لا طعم لها إلا أن أعقد لهما، فهما الآن زوجان بسنة الله ورسوله .
علي (بدهشة ) :
عقدت لهما؟
زهيرة (تضطرب) :
عقدت لهما؟
بشير :
أجل.
علي :
متى كان ذلك؟
بشير :
وأنتم تتجادلون هل توافق زهيرة هانم أم لا توافق!
علي (علي وخليل يضحكان) :
والله لقد أنصفت. أكثر أمور الدنيا ومشاكلها لا تستحق كل ما يعطون لها من الأهمية والخطورة، ويكفي لحلها أن يقدم الإنسان على حلها من أقرب طريق وأبسطه.
بشير :
هذا ما فعلت، ولذلك لم يبق إلا أن توقع حضرتك (مشيرا إلى خليل بك)
على الوثيقة بصفة كونك الزوج السعيد وحضرتهما شاهدين.
زهيرة :
ولكن لا يصح أن يعمل شيء وهي غير موجودة، هل سمع أحد بزواج هكذا، أم أنها أعطتك توكيلا؟!
علي :
مرحى لزهيرة هانم، امرأة المحامي محامية، ها ها، يجب أن يبطل هذا الزواج أو نأخذ حصتنا في توزيع الصدقات، ها ها (وخليل يضحك) .
بشير :
لم تعطني توكيلا يا سيدتي لأنها ... موجودة.
علي :
موجودة!
بشير :
أجل (يلتفت إلى زهيرة هانم ويخاطبها وهي في حالة اضطراب شديد تحاول إخفاءه)
لم أشأ أن أصحبها إلى المترو، لأنها مخطوبة وأمرها لم يكن قد بت فيه بعد. ولم أشأ أن أرجع إلى السراي لأعلمهم بالخبر أو لأخفيه فيطول الشرح والتأويل، ولا سيما لأن علي بك لم يكن قد حضر، ورأيه في الأمر ذو وزن عظيم جدا، بل رأيه هو الكل في الكل، فلما تسمعت على عادتي للخير، للخير دائما لا للشر، ورأيت أنه موافق، وهذا ما لم يكن عندي فيه شك؛ لأنه رجل عاقل ...
علي (مقاطعا) :
شكرا على هذا الإطراء، ولكن عشرة جنيهات خير من هذا كله، ما علينا، ماذا فعلت؟
بشير :
أرسلت حسن الفراش في طلب جارنا الشيخ إسماعيل المأذون، وتم كل شيء بحضور الزوجين.
علي :
ها ها ها (وخليل يضحك وزهيرة تضحك ساخرة)
وهل هي الآن هنا؟ (مشيرا إلى الباب الثالث.)
بشير :
أجل أجل، في الغرفة المقابلة.
علي :
فلأذهب إليها لأبارك لها وأهنيها (يخرج من الباب الثالث) .
زهيرة :
هذه رواية من رواياتك يا خليل، أنت أمير الناس في الصياغة والتأليف.
خليل :
أنا أمير الناس في الصياغة والتأليف ، أم عمي بشير أغا؟
بشير :
الدنيا كلها روايات، كلها محزن ومؤلم. ولقد كان في استطاعتي أن أجعل خاتمتها الدمار والويل والنحيب، ولكن بالحق، كما أردت أن تجعلي خاتمتي بالباطل، ولكني ترفقت بأشخاص روايتي وبقرائها وشهودها فجعلتها مفرحة ما دمت أستطيع أن أبلغ غاية القصد بما فعلت.
علي (يعود) :
الأستاذ بشير أغا يخطب؟ سبحان الأول يا أستاذ!
بشير :
لقد بح صوتي يا سيدي (يخرج من الباب الثالث عجلا) .
علي :
مبارك يا خليل بك مبارك، ما رأيت عطية هانم في مثل ما رأيتها الآن من جمال، هنيئا لك وألف هنيئا (يسلم عليه) .
خليل :
شكرا لك، ها ...
علي :
ألا تباركين لأختك؟ ما هذا يا زهيرة! أنت صلبة الدماغ، ماذا فعلت البنت حتى تعامليها هذه المعاملة القاسية؟ أم كنت تريدين أن تكوني أنت العروس؟
زهيرة :
من يدري؟
علي :
محال، لا فراق إلا بالخناق، إلا إذا كنت عازمة على خنقي قبل الأوان، ها ها.
زهيرة :
هذا ما سأفعله حتما.
علي :
مؤكد إذا بلغت صرخة الطفل أوجها، ها ها. (وخليل يضحك)
ولكني سأعمل على تلافي هذا الأمر، إن حوادث الزواج تنعش النفس ها ها (يدخل بشير أغا ومعه دفتر كبير ويقدمه إلى خليل) .
بشير (يضع الدفتر على المائدة) :
تفضل يا خليل بك، أين قلمك الأمريكاني؟ ضع إمضاءك هنا (مشيرا إلى إحدى القسائم)
لقد كتبنا كل شيء ولم يبق إلا التوقيع.
خليل (يخرج قلمه من جيبه) :
ها هو ذا (ينزع غطاء القلم ويثبته في أسفله)
أين أوقع؟
بشير :
هنا (مشيرا إلى إحدى القسائم) .
علي :
ألا تعرف أين توقع؟ ما هذا! (ينهض إليه)
ألم يسبق لك أن تزوجت؟
خليل :
كثيرا، ولكن عمري ما وقعت على عقد أبدا (يضحك) .
علي (يضحك ويضحك خليل ثم ينظر علي بك في الدفتر فيرى إمضاء عليه) :
لقد سبقتك عطية هانم إلى التوقيع، أبشر بالخير يا خليل. سيكون لها السبق عليك في كل شيء!
بشير :
إن شاء الله، وهنا أيضا (مشيرا إلى القسيمة الثانية) .
خليل :
وهنا أيضا (يوقع) .
علي :
عروس بلا نفقة ! أين كان هذا الحظ مخبوءا؟
خليل :
في صناديق عمي بشير أغا، ها ها ها.
بشير :
وهنا أيضا (يشير إلى القسيمة الثالثة).
خليل :
وهنا أيضا (يوقع ويشتغل بشير أغا بالتجفيف) .
زهيرة :
يظهر أن الحظ في الدنيا لا يأتي إلا لأقلهم استحقاقا له.
خليل :
أدعو الله إذن أن يزيدني قلة استحقاق وعدم جدارة ليزيد حظي من الدنيا.
بشير (لعلي بك) :
خذ وقع.
علي :
هذا مؤكد، ولهذا فإني ... (يتناول القلم ولكنه منشغل بالكلام.)
خليل :
ماذا؟
علي :
في غاية المحظوظية (ينطق بآخر الحرف أي بالتاء المربوطة ثالثة الحروف تقليدا للأتراك) .
بشير :
تعالي يا زهيرة هانم وقعي.
زهيرة :
لا شأن لي في هذا.
بشير :
بل إن شهادتك لا تنفع، سأشهد أنا والأسطى خير الله.
علي :
مبارك يا زهيرة هانم، مبارك يا بشير أغا.
بشير :
الآن قد ارتاح قلبي (يذهب إلى الباب الثالث ويفتحه)
مبارك يا عطية هانم، أحضرها يا علي بك.
علي :
أنا؟ ليحضرها عروسها أو فلنحضرها جميعا. هلم.
خليل :
هذا حسن.
علي :
تعالي يا زهيرة هانم (زهيرة لا تتحرك) ، ما هذا؟
زهيرة :
إنها خالفت إرادتي.
علي :
هذا عناد متعمد، انهضي.
زهيرة :
لا أنهض.
بشير :
تعال يا علي بك، لندخل نحن جميعا.
علي :
لا بأس (يتدافعون لدى الباب الثالث ويخرجون) .
زهيرة :
آه لقد ضاع علي خليل، ضاع (تسكت) ، ولكنه في يدي. سيكون زوجي على أي حال. ماذا تهم هذه الورقات؟ إنها تعرف أني أحبه، وقد تزوجته بالرغم مني، فلا حق لها علي، إنه زوجي قبلها. ويحي! إنهم آتون! لا أطيق البقاء. لا أحتمل رؤيتها. ولكن ذهابي فضيحة.
علي (يدخل) :
تعالوا هنا، تعالوا هنا. دعونا نتمتع بكم، إن أمامكم أعواما طويلة، ما أسعد هذا اليوم!
زهيرة :
لأنك تريد شقاءها.
علي :
كلا، كلا لن تكون إلا سعيدة، إنها أهدأ منك عصبا، وأقل تطلعا إلى ما وراء جدران البيت، وستكون سعيدة لأنها كذلك.
زهيرة :
سنرى.
علي :
تعالوا (يدخلون ومعهم عطية هانم بجانب خليل ولكنها منقبة بالبيشة)
مبارك يا عطية هانم (عطية لا ترد)
إنها لا ترد، مبارك أنت يا خليل بك.
خليل :
الله يبارك فيكم.
بشير :
خذي يا عطية، خذي يا ابنتي. هذا مهرك 350 جنيها ذهبا لأجل السنة مع فرق الكمبيو ذهبا لأني أكره الورق، وهذا هديتي 350 جنيها أخرى، وقد رأيت أن تكون هي أيضا ذهبا.
عطية (تقبل يديه) :
شكرا لك يا أبي، شكرا.
بشير :
اجعليها لزينتك، أما جهازك فخذ يا خليل بك.
خليل :
ماذا؟
بشير :
ألف جنيه.
خليل :
ألف جنيه!
بشير :
ورقا.
خليل :
ورقا أو غير ورق، الله!
بشير :
جهز ما تشاء، هذا ما وعدتك.
خليل :
كتر خيرك يا عم بشير، كتر خيرك (يقبل يد بشير أغا ووجهه أيضا) .
علي :
معلوم معلوم، وجهك الآن مثل القمر. مثل عطية هانم، تمام تمام، وأحسن وأحسن (الجميع يضحكون) .
خليل :
والله، لا قدرة لي على شكرك.
علي :
وأنا يا عم بشير أغا، أليس لي نصيب في هذه المبرات؟
بشير :
هذا كله من أجلك أنت يا سيدي!
نامعلوم صفحہ