السرد القصصي في القرآن الكريم
السرد القصصي في القرآن الكريم
اصناف
ولعل من أغبى المحاولات إن لم تكن أغباها، تلك المحاولة التي يقوم بها الشيوعيون من اكتشاف سر الخلية ومن عمل خلية، ظانين أنهم لو وصلوا إليها فقد وصلوا إلى السر المستغلق على البشرية، غافلين أننا نحن المؤمنين سوف نسألهم يوم يصلون من أين أتيتم بالمواد الأولية لهذه الخلية نفسها. ومن هنا فإنها محاولة غبية، ولن تؤدي إلى ما يرجون لها أن تؤدي من إنكار الله جل وعلا.
فلننظر الآن إلى قصة يونس وكيف قدمها القرآن الكريم:
وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين .
أرأيت قصة تكتمل في مثل هذه السطور القلائل. لو وفق إلى هذه القصة قصاص من البشر لراح يكتب عنها الصفحات الطوال. ولماذا هرب يونس إلى الفلك، وكيف غرق، وماذا فعل وهو يغرق وكيف كان يصارع الموج حتى غلبه الموج، وكيف طلع عليه الحوت، وماذا كان حجم الحوت، وكيف كان ضخما طوله شهر وعرضه دهر، إلى آخر هذه الصفات السخيفة التي كان يصطنعها القصصي الساذج. ثم ما أحسب قصاص البشر إلا منتقلا إلى حياة يونس في جوف الحوت، ويستطيع هذا الفصل أن يكون قصة كاملة بذاتها. ثم كيف لفظه الحوت، وكيف كان مشفيا على الموت، خائر القوى، منهار الأركان.
أما شجرة اليقطين التي نبتت فجأة، هذه التي ذكرها الله تعالى في بساطة لا تصدر إلا من رب العالمين؛ فما أيسر أن ينبت سبحانه شجرة! ولو تناول القصاص البشري هذا الحدث لراح يعيد فيه ويزيد .. وهكذا.
إلا أن القصص الحديث انتهى إلى رأي آخر في القصص الساذج الذي نشأت القصة في ظلاله. هناك قاعدة فنية معروفة اليوم في القصص الحديث تدعو إلى الاقتصاد الفني؛ أي أنه لا يجوز للقصاص أن يصف إلا ما يدعم الحوت الذي اختاره ليدير حوله قصته. وتكفي منك نظرة عاجلة إلى الآيات التي تصف قصة يونس لتجد الاقتصاد الفني في أروع صورة، فلماذا أبق يونس؟ لا تعنينا في شيء. وكيف التقمه الحوت. لا شأن لها بالقصة، وحجم الحوت موجود في القصة، فهو حوت استطاع أن يبتلع رجلا بأكمله، فبماذا يمكن أن تصف حجمه بأدق من هذا وأشمل؟ وهكذا.
إن السرد في هذه الآيات القليلة يحقق مبدأ الاقتصاد الفني بأجمل ما يمكن أن يتحقق. وقد يقول البعض: إن الواقعية حين بدأت كانت تحرص على التفاصيل. ولعل هؤلاء لا يدركون أن الواقعية نفسها قد تطورت، وأصبح القصاص اليوم يكتفي ببعض خطوط عريضة تحدد ملامح الصورة، وعلى الأحداث بعد ذلك أن تكمل الملامح إذا كان لا بد لها أن تكتمل.
ذلك لأن الواقعية حين بدأت وأعجب الناس بها كان القارئ غير قارئ اليوم. لقد كان القارئ يريد من الكاتب أن يخلق له الجو الذي يحيط بالقصة حتى يعيش فيه مع أشخاص القصة، فيصبح القارئ وكأنه بطل من أبطال الأحداث، وإن كان بطلا محايدا لا يجري الأحداث، وإنما يجري معها مشاهدا.
أما قارئ اليوم فقد أصبح من الصعب خداعه وأصبح الكاتب يترك لقارئه أن يخلق هو الجو الذي يظن أنه يجمل بالقصة أن تدور فيه. وهكذا أصبح القارئ اليوم يشترك مع المؤلف، وأصبحت متعة القراءة أكبر؛ لأن القارئ يحس الآن أنه عنصر من عناصر العمل الفني الذي يقرؤه، وهذا التغيير في شكل القصة وفي نوع القارئ لم يطرأ إلا في السنوات القريبة الماضية. حين أصبح القارئ أكثر تحضرا، وأكثر ألفة بالفن القصصي.
السمو الفني في قصة لوط
نامعلوم صفحہ