هل أكذب حبيبتي وأصدق سخفاء الموظفين؟! ألم يعبر قولها هذا عن رأي قديم اعتنقته قبل أن يحولني عنه مجون الزملاء بإدارة المخازن؟ .. وفضلا عن هذا وذاك فليس بوسعي وصالها بعد أن باحت، وبعد أن عاودني العجز ما عاودني؛ لذلك كله تظاهرت بالارتياح، واصطنعت ابتسامة. ثم قلت بتسليم: ليس لي وراء سعادتك مطلب يا رباب!
وسري عنها، ولاح في عينيها نظرة ارتياح، وتدانت مني حتى التصقت بي وقبلتني!
عدنا كما كنا. عدت زوجا عذريا ذا عادة ذميمة، ورحت أقول لنفسي: إنه لا ذنب لي فيما انتهينا إليه؛ إني رجل كامل ولولا طبعها هي ما انتابتني هذه النكسة! بل إني أتحمل هذه الحياة الغريبة إكراما لها! يا له من عزاء كنت في مسيس الحاجة إليه! ولكن هل حقا صدقت نفسي؟! ومهما يكن من أمر فإن ذكرى عهد السعادة لم تغب عن ذهني لحظة واحدة. كيف انقضى ذاك العهد بتلك السرعة التي لم أتوقعها؟ وكيف آذى حبيبتي حتى خرجت عن صمتها بهذه الشكوى السافرة؟ أليس معنى هذا أني شقي ولا حيلة لي في شقائي؟ آه .. لشد ما نازعتني النفس إلى الحرية والفرار! وعاودتني ذكريات تشردي في الطرق بحنان ولهفة!
هل عاد كل شيء إلى أصله؟!
وما زال الحب يجمعنا في عناق وعطف، وعادت حبيبتي إلى مرحها وحبورها وهي تقضي يومها ما بين مدرستها وبيوت الأهل والأقارب، وبحسبي أن أراها سعيدة مسرورة. ولعل طبعها اعتراه تغير طفيف يبدو في سهومها الحين بعد الحين كما يبدو في سرعة غضبها لأقل همسة تصدر من أمي.
هل كنت سعيدا؟
كانت حبيبتي سعيدة فيما يبدو لي، فكان طبيعيا أن أعد نفسي سعيدا. حقا لم تنقطع بي الوساوس، ولكني متى عرفت الحياة بلا وساوس؟ .. واطرد تيار الحياة تتقاذفني أمواجه، يسعدني سرور حبيبتي، ويشقيني حزن أمي، أقضي وقتا ثقيلا في الوزارة، وأنفق ساعات حالمة في الحانة على فترات متباعدة. وحتى ضميري الذي عانيت طويلا من شعوره بالخطيئة لم آل أن أغضي على أناته وتأوهاته بضحكات السرور والعربدة، وكنت كلما ألح علي وخزه أقول لنفسي بصوت مرتفع: إني سعيد، وكل شيء حسن!
ومضى الشتاء، فالربيع، ثم الصيف، وعدنا نستقبل الخريف والعام الدراسي الجديد بما يبتدرنا من عزيز الذكريات.
49
وعرض لي أمر بدا تافها؛ ولكنه كاد يقلب حياتي رأسا على عقب، ومن عجب أنه تكشف لي عقب مصادفة، فحق لي أن أتساءل: أكانت حياتي تستهدف وجهة أخرى لو لم تعرض لي تلك المصادفة؟ ولكل ما هي المصادفة؟ ألا تبدو الحياة أحيانا سلسلة متصلة من المصادفات؟ ماذا ألقى برباب في طريقي غير المصادفة؟ وهل كان يتاح لي الزواج منها لو تأخر موت أبي شهرا واحدا؟ بل ماذا كان يحدث لي لو أصر أبي على استردادي كما فعل براضية ومدحت؟ على هذا المنوال أتساءل: ألم يكن من الممكن أن تطرد حياتي على وتيرة واحدة حتى الموت لو لم يطل اللقاء بيني وبين أمي دقائق معدودات ذلك اليوم الذي لا ينسى؟!
نامعلوم صفحہ