فقال الدكتور مبتسما: العداوة لا تناقض الإعجاب.
فعاد جبر بك يسأله: ألم تزل كما كنت وفديا متطرفا؟ .. لقد سجنت يوما بسبب الوفد!
فقال الشاب وقد مط بوزه برما: أرى الآن المصريين جميعا يعيشون في سجن كبير، والحق يا سيدي أن الأخبار الوحيدة التي كانت تسوءنا ونحن في إنجلترا هي أخبار مصر!
وقالت نازلي هانم مبتسمة: إنك مغرم بتحميل نفسك الهموم على اختلافها كأنك المسئول عن الدنيا ومن عليها! ركز اهتمامك في عيادتك وحياتك ومسألة زواجك على وجه الخصوص، ألا ترى أنك في الثلاثين وهي سن فاصلة؟!
وهنا قالت إحدى خالتي رباب: اطمئني يا أختي فلعلك تسمعين أخبارا سارة قبل استدارة هذا العام. ودار الحديث حول كريمة أحد كبار الأطباء .. وقالت لي رباب همسا - وكانت تجلس إلى جانبي: إن هذه الفتاة التي يتحدثون عنها حسناء مفرطة في الحسن، والوريثة المنتظرة لثروة طائلة، وأنها زاملتها عهدا في الدراسة. والظاهر أن أحد أخوال رباب كان ممن تجذبهم أحاديث السياسة، فما كاد حديث الزواج ينتهي حتى قال مخاطبا الدكتور: لا داعي للتشاؤم فكل شيء مصيره إلى الصلاح وإن طال الزمن، وها نحن على أبواب انتخابات جديدة، ولعل الرياح أن تهب هونا ورخاء.
فاشتدت عينا الدكتور وقال بحدة: من الخير لهذا البلد أن تحكمه حكومة فاسدة؛ ذلك أن الحكومة الصالحة لا تستطيع أن تفعل شيئا ذا بال في حدود الأوضاع القائمة، فالخير أن تستبد الحكومة الفاسدة حتى تعجل بالنهاية .. النهاية المحتومة!
فضحك جبر بك وقال: ما زلت ساخطا متبرما، ألا تجد في مصر ما يستحق إعجابك وتقديرك؟
فأدار الدكتور عينيه البراقتين في الحاضرين وقال مبتسما: بلى .. أم كلثوم!
وضجوا جميعا بالضحك. وجعلت أصغي إليه باهتمام واستغراب، ولكني لم أكد أفقه معنى لما يقول. وعجبت لمن يشغلون أنفسهم بهذه الأمور وأمثالها، أليس في حياتهم هموم تشغلهم عنها؟ وتمثل لي في حديثه رجل علم ورأي وثورة، بادي الغرور والعجرفة. وكم كانت دهشتي كبيرة حين ذكر أم كلثوم كالشيء الوحيد الذي يستحق إعجابه في البلد، وتساءلت في حيرة: أيعشق الغناء حقا من كان ذا جد وصرامة وحدة كهذا الدكتور المجنون؟! ولما كنت أحب الغناء فقد ارتحت لهذه المشاركة الوجدانية، بعد أن أعياني أن أجد صلة شبه بيني وبينه! وكان الدكتور أول المنصرفين، فقام الحاضرون جميعا لمصافحته، وصافحته بدوري وأنا أتفحص عينيه بخوف واهتمام، فلم أجد فيما وراء نظراتهما المترفعة ما يريبني. ثم غادرنا نحن البيت في نحو الخامسة. عدنا مشيا على الأقدام، ولم تكف حبيبتي عن التعليق على المأدبة والمدعوين طوال الطريق، ولكني لم أستطع أن ألقي إليها انتباهي، واستسلمت لتيار أفكاري الزاخر المضطرب، كيف ألقى الحظ العاثر في طريقي بهذا الدكتور المجنون؟ وكيف قادني القدر إلى الاعتراف له بسري الذي أخاف عليه آذان الحيطان؟!
47
نامعلوم صفحہ