وأشفقت من أن يتأدى بنا الجدل إلى ما لا تحمد عقباه، فقلت برجاء: انسيها يا أماه تستريحي وتريحي!
فغلبها الانفعال وقالت: لو كنت لسان دفاع لي كما أنت لها لما احتقرتني وسبتني!
ولذت بالصمت لعلها تمسك، ولكنها استطردت تقول: إنها تتيه بلا موجب، فكيف لو كانت أما؟!
فقاطعتها صائحا كالوحش وقد هوى كلامها على رأسي كالمطرقة: اسكتي .. لا تنبسي بكلمة أخرى!
وحدجتني بارتياع دون أن تنبس، ثم أطرقت .. ولكني لم أرث لها ولم أرحمها؛ إذ أفقدني الغضب والألم وعيي.
وحدث عقب ذلك بأيام أن شعرت بتعب ألزمها الفراش، وقال لنا الطبيب الذي استدعيناه إنه القلب، ونصحها باتباع إرشاداته دواما لتتفادى من النوبات في المستقبل.
وطال رقادها بالرغم من أن الطبيب أكد لنا عدم خطورة الحال، ولكن بدا لي أنها تعين المرض على نفسها، وأن روحها توشك أن تنهار. ووقع في نفسي أني المسئول عن مرضها، فعانيت مرارة التأنيب والندم في حزن وصمت، وكأنما أردت أن أكفر عن ذنبي فسهرت بنفسي على رعايتها وتعاهدتها بالخدمة والدواء، ولم تأل رباب في القيام بواجبها. لقد آلمتني حقا ولكن عن حسن نية، أما أنا فقد آلمتها عامدا تحت تأثير غضب مخيف. ومرت بي أيام قاسية مظلمة، كنت أرنو إلى وجهها الذابل الشاحب بفؤاد كسير، وراحتها بين يدي، ولساني يلهج بالدعاء. وكانت متعبة خابية، ولكن قرأت في عينيها نظرة راضية سعيدة، كأنما نسيت بعطفي وحبي جميع آلامها.
46
وهل الخريف بجوه اللطيف وسحابه الرقيق، واستقبلت المدارس عاما جديدا، وكنت وزوجي نخرج معا في الصباح، ونستقل تراما واحدا. وكانت الذكريات تنثال على قلبي في وجد وحزن، حتى قلت مرة: في مثل هذه الأيام كنت أهرع إلى المحطة أكاد أموت شوقا إلى اجتلاء محياك!
فابتسمت رقيقة وقالت: وكنت أنتظر بمثل هذا الشوق!
نامعلوم صفحہ